بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

الشك في القدرة فتجري البراءة ، وبهذا يتضح عدم صحة اعتراض المحقق العراقي على صاحب الكفاية القائل بإجراء البراءة في المقام.

الاعتراض الثاني ، على إجراء البراءة هو ، أن البراءة هنا ممنوعة للاستصحاب ومحكومة له ، وذلك بإجراء استصحاب بصيغة تعليقية ، بناء على ما هو مختار صاحب الكفاية وجملة من المحققين ، من إمكان إجراء الاستصحاب التعليقي ، وذلك بأن يقال ، بأن المكلّف المريض في أول الوقت والذي صلّى من جلوس ثم ارتفع مرضه بعد أن انتهى من الصلاة ، هذا المريض لو ارتفع عذره قبل أن يأتي بالصلاة الجلوسية بساعة لوجب عليه صلاة قيامية بلا إشكال ، وهذه القضية الشرطية كان يعلم بها المكلف وقد كانت صادقة إذن فيستصحبها وتثبت هذه القضية الشرطية بالاستصحاب إذ أنه كان سابقا بحيث لو ارتفع مرضه لوجبت عليه صلاة قيامية والآن كما كان بالاستصحاب وقد ارتفع مرضه بالوجدان فيتحقق شرط هذه القضية الشرطية فيجب عليه الصلاة قياميا ، وهذا الاستصحاب إذا جرى يكون حاكما على البراءة. باعتبار تقدم دليل الاستصحاب على دليل البراءة وعليه فلا تجري البراءة.

وللتخلص من هذا الاعتراض يقال ، إننا ننكر العلم بهذه القضية الشرطية من أول الأمر.

وتوضيح ذلك هو ، أن هذا المكلف لو ارتفع مرضه قبل الصلاة الجلوسية لتوجه إليه خطاب بالصلاة القيامية بناء على الصورة الرابعة ، أي صورة عدم الإجزاء ، ولكن بناء على الصورة الأولى ـ أي صورة الإجزاء ـ فالخطاب الذي يكون متوجها إليه قبل مرضه وبعد مرضه واحد ـ وهو الأمر بالجامع بين الصلاة الاختيارية حين الاختيار ، والصلاة الاضطرارية حين ـ الاضطرار ، وهذا الخطاب هو الثابت من أول الأمر ، قبل ارتفاع المرض ، ويستمر حتى بعد ارتفاع المرض.

غاية الأمر أنه كان بإمكان المكلف تطبيق هذا الأمر قبل ارتفاع المرض

٤٤١

على الصلاة الجلوسية وكان يمكنه أن ينتظر ويطبقه بعد ارتفاع المرض على الصلاة القيامية ، لكن بعد ارتفاع المرض وقد صار المكلف مختارا فقد انحصر هذا الجامع بالصلاة القيامية ولا يمكنه أن يطبقه على الاضطرارية لأنه صار قادرا على القيام.

وهذا أمر يختلف عن تعلّق التكليف الشرعي بالقيامية ، إذن فبابه باب انحصار الجامع في بعض الأفراد ولا يضر هذا الانحصار بكون الأمر على الجامع قبل طرو الاختيار وبعده لا أن الأمر يتوجه نحو القيامية.

وبناء على هذا ما ذا نستصحب؟. فهل نستصحب حدوث أمر شرعي بالصلاة القياميّة على تقدير ارتفاع الاضطرار ، أم أننا نستصحب انحصار تطبيق الجامع على الفرد الاختياري على تقدير ارتفاع العذر؟.

فإن أريد الأول فلا يقين سابق به بالخصوص إذ على فرض الإجزاء خصوصا بملاك الاستيفاء يكون الواجب من أول الأمر هو الجامع بين الفردين المقيدين بحالتين مختلفتين وإلّا فنحن إلى الآن نشك في الإجزاء وعدمه.

فإن كان المراد من الاستصحاب التعليقي استصحاب هذا الفرد الاختياري تعليقا فلا علم بوجوب تعليقي من هذا القبيل بل الأمر واقف على الجامع من أول الأمر.

وإن أردتم استصحاب الانحصار على تقدير ارتفاع الاضطرار وذلك بتطبيق الجامع على الفعل الاختياري ، فمن الواضح أن هذا الانحصار ليس حكما شرعيا وأثرا مولويا ليجري الاستصحاب بلحاظه ، بل هو أمر ولازم عقلي من باب تعذر أحد فردي الجامع ، فلا محالة من انحصاره بالفرد الآخر وعليه فلا معنى لإجراء الاستصحاب.

وبهذا يتحقق صحة جريان البراءة فيما إذا لم يقم دليل اجتهادي وانتهينا إلى الأصول العملية كما تبيّن بهذا أيضا عدم وجوب الإعادة في الأمر الاضطراري فيما إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت.

٤٤٢

المسألة الثانية :

وهي فيما إذا استمر العذر تمام الوقت ثم ارتفع بعد خروجه ، فيقع الكلام حينئذ في وجوب القضاء وعدمه ، والكلام في هذه المسألة يقع في ثلاث مقامات.

المقام الأول :

هو أنه هل هناك اقتضاء في الدليل الاجتهادي ـ الدال على وجوب القضاء ـ يقتضي إثبات وجوب القضاء أو أنه لا يوجد من قبله اقتضاء لذلك؟.

المقام الثاني :

هو أنه على فرض كون دليل وجوب القضاء له مثل هذا الاقتضاء في نفسه يقع الكلام في أنه هل يوجد في دليل الأمر الاضطراري اقتضاء للإجزاء على خلاف ذلك بحيث يكون مقيدا لدليل وجوب القضاء أو لا؟.

المقام الثالث :

هو أنه إذا لم يوجد اقتضاء في الدليل الاجتهادي العائد إلى وجوب القضاء ـ ولا في العائد إلى الأمر الاضطراري ، فما هو مقتضى الأصول العملية في المقام؟.

أمّا المقام الأول :

فإنه بعد أن فرضنا فيه استمرار العذر فدليل الأمر الواقعي الوقتي ساقط من أول الأمر ويبقى تعاملنا مع دليل وجوب القضاء ، دليل «اقض» لا دليل «صلّ» لنرى أن دليل «اقض» هل يشمل محل الكلام ، أو لا يشمل.

ولمّا كانت وظيفة الأصولي هي أن يبين الصيغ الكلية ، وأمّا استظهاراتها بحسب الموارد المختلفة فهي تقع على عاتق الفقيه بالفعل ، ومن هنا كان دليل

٤٤٣

وجوب القضاء يختلف اقتضاؤه وعدم اقتضائه بتشخيص واستظهار ما هو الموضوع له في لسان دليله.

فإن كان الموضوع في دليل وجوب القضاء هو فوت الفريضة الفعلية والواجب الفعلي ، فمن الواضح أن دليل وجوب القضاء لم يفته واجب فعلي ، ذلك لأن الواجب الفعلي في حق هذا المكلف المعذور في تمام الوقت هي الصلاة الجلوسية دون القيامية ، وعليه فلا اقتضاء في دليل وجوب القضاء.

وإن كان موضوع دليل وجوب القضاء هو فوت الواجب الشأني ، أي مطلق فوت الواجب الشأني الاقتضائي في نفسه بمقتضى الطبع لو لا العوارض ، إذن لا إشكال في إطلاق دليل القضاء حينئذ ، لأن المكلف فاتته القيامية وهي واجب شأني لو لا الطوارئ ، إذن قد تحقق موضوع دليل وجوب القضاء.

وإن كان موضوع دليل وجوب القضاء هو ، خسارة وفوت الملاك ، لا فوت ذات الواجب الفعلي ولا ذات الواجب الشأني ، بل فوت الملاك القائم بالواجب ، حينئذ يكون المقام شبهة مصداقية ـ لدليل وجوب القضاء ، حيث أن المفروض أننا نشك في الإجزاء وعدمه ، إذ على تقدير الإجزاء لم يفت الملاك ، لأن معنى الإجزاء هو استيفاء الملاك ولا أقل أنه معنى الإجزاء في الصورة الأولى ، وعلى تقدير عدم الإجزاء إذن فقد فات الملاك وعليه ففوت الملاك أمر مشكوك فيه فيكون شبهة مصداقية لدليل وجوب القضاء ، ومن الواضح عدم جواز التمسك بدليل عام في الشبهة المصداقية له فلو قال «أكرم العالم» فلا يجوز إكرام زيد ونحن نجهل كونه عالما أو جاهلا.

وعليه فلا يجوز التمسك بدليل وجوب القضاء ، نعم قد يمكن إحراز موضوع دليل وجوب القضاء بالأصل الموضوعي كالاستصحاب وفيه يكون التمسك تمسكا بالاستصحاب لا بإطلاق الدليل ، وذلك لأن فوت الملاك ، تارة ، يراد به مجرد الأمر العدمي وهو عدم تحصيل الملاك ، وأخرى يراد به عنوان الخسارة المنتزعة من الأمر العدمي.

٤٤٤

فإن كان فوت الملاك بمعنى الأمر العدمي وهو عدم تحصيل الملاك ، إذن يمكن إجراء الاستصحاب فيقال ، هذا المكلف قبل أن يصلي الجلوسية لم يكن قد حصّل الملاك وهو المعراجية فيستصحب عدم تحصيل المعراجية إلى آخر الوقت ، ويتنقح بهذا الاستصحاب موضوع دليل وجوب القضاء ، وحينئذ نثبت الأمر القضائي بالاستصحاب.

وأمّا إذا كان فوت الملاك بمعنى الخسارة المنتزعة من عدم الإتيان لا مجرد عدم الإتيان ، والخسارة لازم ثبوتي لعدم الإتيان ، فباستصحاب عدم الإتيان لا نثبت هذه الخسارة ، لأنها لازم عقلي ، ويكون الاستصحاب أصلا مثبتا.

إذن فلا يمكن حينئذ ، إثبات موضوع دليل وجوب القضاء والتمسك بدليل وجوب القضاء لا ابتداء وجدانا ولا تعبدا بلحاظ دليل الاستصحاب.

المقام الثاني :

هو أنه بعد فرض وجود إطلاق في دليل وجوب القضاء لو خلّي ونفسه وعن الطوارئ لاقتضى وجوب القضاء ، حينئذ يقع الكلام في أنه هل يوجد في دليل الأمر الاضطراري ما يكون حاكما أو مقيدا لذلك الإطلاق بحيث يحكم بعدم وجوب القضاء وبالإجزاء تطبيقا للدليل الثاني وتقديما له على الدليل الأول؟.

ومن الواضح أن دليل الأمر الاضطراري إذا فرضنا أن له لسانا يقتضي جواز البدار في أول الوقت ، وإذ فرضنا كما في المسألة السابقة أن استفدنا الإجزاء من دليل الأمر الاضطراري بلسان جواز البدار وبادر المعذور فصلّى جلوسا ثم ارتفع عذره في أثناء الوقت وحينئذ لا تجب عليه الإعادة. إذا بنينا على ذلك فمن الواضح حينئذ عدم وجوب القضاء وذلك لأنه إذا لم تجب الإعادة إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت فعدم وجوب القضاء يكون أوضح ، وبناء على هذا لا نحتاج إلى استئناف كلام.

٤٤٥

لكن إذا فرضنا أن دليل الأمر الاضطراري لم يكن بلسان ـ يقتضي جواز البدار ليترتب عليه ما تقدم ، وإنما كان بلسان من تعذّر عليه القيام في تمام الوقت أو مأمور بالصلاة من جلوس فلا معنى للبدار ، حينئذ في مثل ذلك ، لا يمكن أن يستفاد عدم وجوب القضاء بلحاظ عدم وجوب الإعادة ، إذ متى استفيد من الدليل عدم وجوب الإعادة فلا بدّ من صرف عنان الكلام إليه فيقال ، هل أن هذا الدليل يستفاد منه عدم وجوب القضاء أو لا يستفاد منه ذلك ، وفي هذا المقام نرجع إلى الوجوه الخمسة التي استعرضناها والتي استدل بها على اقتضاء الأمر الاضطراري لعدم وجوب الإعادة لنرى هل يمكن أن تجري هذه الوجوه بلحاظ عدم وجوب القضاء أو لا يمكن ، بل حتى لو تمّت هذه الوجوه لنفي وجوب الإعادة فهل تتم لنفي وجوب القضاء؟.

الوجه الأول ، من الوجوه الخمسة كما صوّره الميرزا (١) كان مفاده ، دعوى الملازمة العقلية بين جعل الأمر الاضطراري بلسان جواز البدار وبين الإجزاء ، وعليه فلا معنى لوجوب الإعادة ، وحينئذ هل يمكن دعوى هذه الملازمة بلحاظ مقام عدم وجوب القضاء؟. بحيث يقال بأن جعل الأمر الاضطراري بلسان جواز البدار بالنسبة لمن تعذّر عليه القيام في تمام الوقت يستلزم عقلا عدم وجوب القضاء وذلك ببرهان أن القيام لو كان داخلا في ملاك الصلاة الأدائية على الإطلاق ، للزم منه عدم الأمر بالاضطراري أي بالصلاة الجلوسية ، والمفروض أن المولى أمره بالصلاة الجلوسية ـ أي بالأمر الاضطراري إذ مفروض الكلام بعد فرض أمر اضطراري ، إذن فإحتمال كون القيام دخيلا في ملاك الصلاة الأدائية على الإطلاق ساقط للتناقض بين الأمر الاضطراري وعدم الإجزاء ولا يبقى إلّا احتمال كون القيام دخيلا في ملاك الصلاة الأدائية لا مطلقا ، بل في حالة التمكن من القيام خاصة ، وهذا يتناسب مع الأمر الاضطراري ، ولهذا يأمره المولى اضطرارا بالجلوسية. وبهذا الأمر

__________________

(١) أجود التقريرات : الخوئي ج ١ ص ١٩٥ ـ ١٩٦.

٤٤٦

الاضطراري يستوفي ملاك الصلاة الأدائية ، وإذا استوفى بها الملاك فلما ذا وجوب القضاء ما دام أن وجوبه فرع تفويت الملاك ، والمفروض أنه لم يفته شيء منه حتى يقضي.

وبناء عليه ، فالأمر الاضطراري والإجزاء متلازمان كما أن الأمر الاضطراري ووجوب القضاء أو عدم الإجزاء متنافران فإذا ثبت الأمر الاضطراري ثبت الإجزاء كما يثبت أيضا عدم وجوب القضاء.

ويجاب عن هذا

بأن هناك احتمال ثالث وهو أن يكون القيام دخيلا في بعض مراتب الصلاة الأدائية على الإطلاق ، في حق المريض والصحيح ، وإن لم يكن دخيلا في بعض مراتبها الأخرى كما في المريض فيأمر المولى بالصلاة الأدائية من جلوس حفاظا على ملاك الصلاة الأدائية بلحاظ تلك المرتبة التي لا يكون القيام دخيلا في ملاكها ولكن يأمر أيضا بالقضاء استدراكا لملاك المرتبة الأخرى التي يكون القيام دخيلا في ملاكها وقد فات بفوت القيام في الصلاة الجلوسية.

وعليه فالجمع بين الأمر الاضطراري بالصلاة الجلوسية في الوقت والأمر بالقضاء بالصلاة القيامية خارج الوقت معقول في احتمال ثالث.

وعليه فالملازمة بين الأمر الاضطراري والإجزاء وبين عدم وجوب القضاء إنما تصح على نحو الموجبة الجزئية ولا تصح على نحو الموجبة الجزئية كما تبيّن في الاحتمال الثالث خلافا للميرزا.

الوجه الثاني ، هو أن يتمسك بالإطلاق المقامي لدليل الأمر بالفعل الاضطراري بحجة أن مقتضى الإطلاق المقامي لدليل الأمر الاضطراري أنه في مقام بيان تمام الوظيفة وحينئذ فلا تجب الإعادة ، فعدم وجوب القضاء بطريق أولى.

٤٤٧

ويجاب عليه

بأن هذا لو تمّ هناك ، فإنه لا يتم هنا ، لأن كون هذا تمام الوظيفة على كل حال ثابت ، فإن الملحوظ في الوظيفة إنما هو الوظيفة الأولية بلحاظ الوقت وهذا تمام الوظيفة بلحاظ الوقت ، لأن المفروض أننا نتكلّم عن أمر اضطراري مبني على استيعاب العذر لتمام الوقت. إذن فهذا تمام الوظيفة بلحاظ الوقت ، وهذا لا يستدعي وجوب القضاء إلا أن نستفيد عناية زائدة من الدليل ، وهي كون المولى بصدد بيان تمام الوظيفة حتى بلحاظ تبعات المطلب ومنها وجوب القضاء ، حينئذ يتجه هذا الإطلاق المقامي وإلا فلا.

الوجه الثالث ، من الوجوه الخمسة ، هو أن يكون لسان الأمر الاضطراري لسان بدلية وتنزيل وذلك بأن يجعل المولى الأمر الاضطراري مصداقا تنزيليا للوظيفة الواقعية حيث تكون الصلاة من جلوس صلاة من قيام من قبيل التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين ، حينئذ ، يمكن التمسك بإطلاقه لإثبات كون هذا الفرد الاضطراري بمنزلة الواجب الواقعي بلحاظ تمام مراتب ملاكه وكذلك يكون حاكما على دليل وجوب القضاء ، لأن دليل وجوب القضاء يقول بأن من لم يأت بالواجب الواقعي يجب عليه القضاء ، وهذا قد أتى بالواجب الواقعي حسب لسانه التنزيلي ، إذن فيرفع به موضوع وجوب القضاء باعتبار أنه نزّل منزلته وصار وافيا بتمام مراتب الواقع. فهذا الوجه إن تمّ جرى في المقام أيضا.

الوجه الرابع ، من الوجوه الخمسة هو ما ذكره المحقق (١) العراقي «قده» من إثبات الإجزاء من ظهور الأمر في التعيين حيث ادّعى أن ظهور الأمر لا يناسب إلّا مع الإجزاء بملاك التفويت.

ويجاب عليه ، بأن هذا لو تمّ هناك فانه لا يتم هنا في محل الكلام ، لأن

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٤٤٨

الأمر بالجلوسية هنا تعييني على كل حال ، لأن المفروض أن العذر مستوعب لتمام الوقت والمكلف غير متمكن من الصلاة القيامية فيتعين كون الأمر بالجلوسية تعيينيا دون أن يضر بذلك وجوب القضاء وعدم وجوبه ، وهذا بخلافه هناك. فهناك لو قيل بوجوب الإعادة ، أو قيل بالإجزاء بملاك استيفاء تمام الملاك ، يكون الأمر بالجلوسية تخييريا ويكون أحد عدلي الواجب ، وتكون القياميّة هي العدل الآخر ، أمّا في المقام بلحاظ استيعاب العذر لتمام الوقت ، فالأمر بالجلوسية لا عدل له على كل حال ، فلا بأس بالالتزام بتعينيّته ، وإن كانت تعينيّته لا تمنع وجوب القضاء في المقام وإن منعت من وجوب الإعادة هناك في موارد جواز البدار.

الوجه الخامس ، وهو المتحصّل من كلمات المحقق الأصفهاني (١) وحاصله ، أنه على تقدير الالتزام بوجوب الإعادة وعدم الإجزاء إنما يكون لو كان دليل الأمر الاختياري أمرا بتحصيل الخصوصية ، خصوصية القيام في الصلاة القيامية ، لا ذو الخصوصية ، والمفروض أنه لا أمر بالخصوصية ، إذ أن الدليل إنما دلّ على وجوب ذي الخصوصية ، إذن فما هو مدلول الدليل غير محتمل ، وما هو محتمل ليس مدلولا للدليل.

ويجاب عليه ، بأن هذا لو تمّ هناك فإنه لا يتم هنا ، إذ هنا نفترض وجود دليل «كاقض ما فات كما فات» وعليه يلتزم بأن الواجب هو الإتيان بما فات حتى لو كان الفائت هو الخصوصية إذ هذا اللسان لا ينحصر مفاده بالأمر بذي الخصوصية سيّما إذا استمر العذر إلى آخر الوقت فإن الفوت هنا يصدق على الخصوصية فيشملها لسان «اقض ما فات كما فات» ، وهذا بخلاف تلك المسألة إذ هناك كنا نريد أن نثبت وجوب الإعادة بلسان «أقيموا الصلاة» حيث أوجب هذا اللسان ذي الخصوصية دون الخصوصية وحدها ، أمّا هنا فإننا نريد أن نثبت وجوب القضاء بدليل «اقض ما فات كما فات» وحينئذ ، نطبّق هذا

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ٢٣١.

٤٤٩

العموم ، سواء انطبق على الخصوصية أو على ذي الخصوصية ، وبهذا يتضح أن هذه الوجوه الخمسة لإثبات الإجزاء إذا تم جواز البدار غير تامة في محل الكلام حتى لو تمّت هناك ، سوى الوجه الثالث المتمسّك بإطلاق البدلية والتنزيل.

المقام الثالث :

في الأصول العملية الجارية في المقام إذا لم نستفد دلالة اجتهادية على وجوب القضاء ، من دليل وجوب القضاء ، ولم نستفد دلالة اجتهادية على عدم وجوب القضاء ، من دليل الأمر الاضطراري.

وقد ذكر المحقق الخراساني (١) بأنه تجري البراءة عن وجوب القضاء.

وتحقيق الكلام هو ، أن الأمر بالقضاء تارة يؤمر به بالأمر الأول ، بأن يفترض أنه أمر بالجامع دون تقييد بالوقت ، وأخرى بنحو تعدد المطلوب ، وذلك بإيقاع الجامع في الوقت فإن لم يوقعه في الوقت سقط الأمر الثاني بالعصيان. وأمّا الأمر بالجامع دون التقييد بالوقت فيبقى على حاله.

وأخرى يقال بأمر جديد للقضاء معلق على عنوان الفوت بحيث أنه قبل خروج الوقت لم يجب إلّا الأداء ، وبعده يحدث وجوب جديد.

أمّا بناء على التقدير الأول فتجري البراءة عن وجوب القضاء فيكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأن الأمر الأول بالصلاة إن كانت هي الصلاة الجلوسية في الوقت وافية بملاك الواقع فتكون فردا من ذلك الجامع المأمور به بالأمر الأول ، فيكون الأمر الأول متعلق بالجامع مطلقا ، غاية الأمر أن المكلف الصحيح له أمر آخر بإيقاع الجامع في الوقت ، والمكلف المريض أيضا له أمر آخر بإيقاع الجامع في الوقت ولو في ضمن الجلوسية ، فلو فرض الإجزاء أو

__________________

(١) كفاية الأصول : المشكيني ج ١ ص ١٣٠.

٤٥٠

عدم الإجزاء مقتضاه أن الأمر الأول متعلق بخصوص الصلاة القيامية لا بالجامع.

وبناء على هذا لا موجب لافتراض أمر بالجامع.

نعم هناك أمر تعييني للمريض بالصلاة الجلوسية ، إذن فبحسب الحقيقة عندنا وجوب تعييني أو نتيجة الوجوب التعييني للصلاة الجلوسية وهذا معلوم سواء قيل بالإجزاء أو بعدمه ، وزائدا عليه هناك وجوب آخر وهو الأمر الأول وهو متعلق بخصوص الصلاة القيامية لو قيل بالإجزاء ، أو بالجامع بينهما لو قيل بالإجزاء ، فيكون المورد من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وحينئذ من يبني على البراءة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير يجري البراءة في المقام ، وبهذا يظهر أن إجراء البراءة هنا أخفى من إجرائها في المسألة السابقة على بعض مباني المسألة السابقة ، لأنه في المسألة السابقة ، أي في مسألة وجوب الإعادة ، كان يقال إن المسألة ليست من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأن الأمر بالجامع هناك بين الجلوسية والقيامية كان محرزا ومعلوما وإنما الشك في أمر آخر يتعلق بالصلاة القيامية.

ولهذا كنّا نقول أنه بحسب الحقيقة فإن الأمر دائر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين لأن الأمر بالجامع محرز والأمر بالحصة الاختيارية مشكوك وليس دائرا بين التعيين والتخيير.

وأمّا في المقام فالأمر دائر بين التعيين والتخيير ، لأن وجوب الصلاة الجلوسية في الوقت معلوم على كل حال ، وزائدا على هذا الوجوب يوجد عندنا وجوب آخر أمره دائر بين التعيين والتخيير ، فلو قلنا بعدم الإجزاء ، فهذا الوجوب الواحد الذي نسميه بالأمر الأول متعلق بالصلاة القيامية فقط وإن قلنا بالإجزاء فحينئذ يتعلق بالجامع بين القيامية مطلقا بلا قيد الوقت والجلوسية بقيد الوقت ، إذن فالأمر دائر بين التعيين والتخيير لا بين الأقل والأكثر (١).

__________________

(١) في كون دوران الأمر بين التعيين والتخيير فيما لو قلنا بالإجزاء في النفس منه شيء ، إذ قيد الوقت خصوصية زائدة على عدمها وليس معنى الأكثر إلّا هذا فلا محالة من كون الدوران بين الأقل والأكثر. المقرر.

٤٥١

وبها تظهر نحو أولوية عكسية في المسألة.

هذا كله لو بني على المبنى الأول ، أي على أن القضاء بالأمر الأول.

وأمّا إذا بنينا على أن القضاء بالأمر الثاني ، بمعنى أنه بعد انتهاء الوقت يحصل عنوان الفوت ، وهذا العنوان يكون موضوعا لحدوث وجوب جديد ، وهو وجوب القضاء.

لو بنينا على هذا لجرت البراءة أيضا لكن لا يكون المقام من الدوران بين التعيين والتخيير ، بل يكون شكا بدويا في أصل التفويت لأنه يشك في أصل وجوب القضاء وعدم وجوبه فتجري البراءة حتى عند من لا يرى البراءة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وعلى هذا التقدير يمكن أن تظهر حيثيتان لأولوية البراءة هنا على البراءة في المسألة السابقة.

الحيثية الأولى : هي أن الشك في المقام يكون شكا في أصل التكليف وبنحو الشبهة البدوية على كل حال ، بينما في المسألة السابقة يكون على بعض المباني من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وعلى بعض المباني يكون من باب الأقل والأكثر الارتباطيين ، بينما هنا على كل حال هو شبهة بدوية محضة فيكون جريان البراءة فيه أوضح من جريان البراءة هناك.

الحيثية الثانية للأولوية ، هي أنه هناك كنّا نتعرض لإشكال على جريان البراءة على أساس حاكمية الاستصحاب التعليقي على البراءة حيث كان يقال ، بأن المكلف لو تمكن من القيام قبل أن يصلي من جلوس لوجبت عليه الصلاة القيامية فنستصحب هذه القضية الشرطية ، وهذا الاستصحاب كان قد يرد هناك بقطع النظر عن جوابنا عليه هناك ، إلا أنه هنا لا يرد ، وذلك لأننا نقول أنه لو كان قد انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس لوجب عليه القضاء ، هذا الاستصحاب في المقام غير صحيح حتى لو صحّ ذاك الاستصحاب التعليقي وذلك لأن وجوب القضاء موضوعه عنوان الفوت لا

٤٥٢

عنوان انتهاء الوقت إذن فيرجع هذا الاستصحاب التعليقي إلى قولنا أنه لو كان قد انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس ، إذن لكان قد فاته الواقع فنستصحب أنه الآن قد فاته الواقع أيضا ، فيكون المستصحب قضية شرطية ، شرطها ، أنه لو انتهى الوقت قبل الصلاة الجلوسية وجزاؤها هو تحقق الفوت وهذا يكون من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ، وهو لا يجري حتى لو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام.

ففي المسألة السابقة كانت القضية التعليقية التي كنا نجري استصحابها ، جزاؤها حكم شرعي حيث كنا نقول ، لو كان قد تمكن من القيام قبل الصلاة الجلوسية لوجب عليه القيام ، فالجزاء وهو وجوب القيام هو حكم شرعي بنفسه وهذا يسمى بالاستصحاب التعليقي في الأحكام ، أمّا هنا الجزاء في القضية الشرطية أمر موضوع للحكم الشرعي لا نفس الحكم الشرعي حيث نقول لو انتهى الوقت قبل أن يصلي من جلوس لفاته الوقت ولو فاته لوجب القضاء ، فالجزاء هنا هو عنوان الفوت فيكون الاستصحاب استصحابا تعليقيا في الموضوعات وقد توضّح في بحث الاستصحاب التعليقي ، أنه لو قيل به ، إنما يقال به فيما لو كان جزاء القضية الشرطية المستصحبة حكما شرعيا لا موضوعا لحكم شرعي ، إذن فحاكمية الاستصحاب هنا أضعف من حاكمية الاستصحاب هناك على البراءة ، والقول بالبراءة هنا أولى من البراءة هناك.

وبهذا يتم الكلام في المقام الثالث كما تم الكلام في أحد التطبيقين الرئيسيين وهو إجزاء الأوامر الاضطرارية عن الواقع.

المقام الثاني : والآن نتكلم عن التطبيق الثاني وهو في إجزاء الأوامر الظاهرية عن الواقع بمعنى أنه هل يكون امتثال الأمر الظاهري مجزيا عن الواقع أو لا يكون مجزيا بعد انكشاف الخلاف؟.

وهنا يقال ، بأن انكشاف الخلاف تارة يكون بالقطع واليقين وأخرى يكون بتبدل الحكم الظاهري إلى حكم ظاهري آخر فالكلام يقع في مقامين.

٤٥٣

المقام الأول :

فيما إذا انكشف الخلاف بالقطع واليقين.

المقام الثاني :

فيما إذا انكشف الخلاف بتبدل الحكم الظاهري إلى ظاهري آخر.

أمّا المقام الأول ، فإنه بمقتضى طبعه وبقطع النظر عن ورود أي دليل خاص ، فهو يقتضي عدم الإجزاء في المقام وذلك لأن أدلة الأوامر الظاهرية باعتبار اختلاف مرتبتها عن مرتبة الأحكام الواقعية ، وعدم كونها موجبة لحدوث تغيّر في الواقع حينئذ تبقى أدلة الأحكام الواقعية على حالها دون أن يحدث فيها تغيير من ناحية الأحكام الظاهرية ، وغاية ما توجده الأحكام الظاهرية هو التنجيز والتعذير في مقام العمل دون أن تحدث تغييرا في مدلولات الأحكام الواقعية وحينئذ يكون دليل الحكم الواقعي حجة على وجوب الإعادة ، فلو أن المكلف صلّى في ثوب محكوم بالطهارة ظاهرا إمّا بأصل أو امارة بلحاظ شبهة موضوعية أو حكمية وبعد ذلك انكشف له نجاسة هذا الثوب ، في مثل ذلك مقتضى القاعدة لو لم يرد دليل خاص في شخص هذه المسألة ـ مقتضاها التمسك بدليل «لا صلاة إلّا بطهور» ، لبطلان هذه الصلاة ووجوب إعادتها ، وحينئذ في مقابل هذا قد يقرّب الإجزاء في المقام ببعض التقريبات وأهمها تقريبان.

التقريب الأول :

للمحقق الخراساني في الكفاية ، حيث اختار في هذا التقريب الإجزاء (١) في موارد الأحكام الظاهرية التي يكون المجعول فيها الحكم الظاهري لا بلسان إحراز الواقع ، من قبيل الأصول العملية غير التنزيلية كأصالة الحل وأصالة الطهارة عنده ـ بناء على أنهما من الأصول العملية غير التنزيلية ، وخلاصة ما

__________________

(١) كفاية الأصول : المشكيني ج ١ ص ١٣٣ ـ ١٣٤.

٤٥٤

ذكره في وجه الإجزاء هو أن دليل الحكم الظاهري تارة يكون لسانه لسان جعل الطهارة أو الحليّة ابتداء كما هو الحال في «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، «وكل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام» ، وتارة أخرى لا يكون لسانه لسان جعل الحلية والطهارة بل لسان إحراز الطهارة والحلية الواقعية ، وإن كان لبا وحقيقة يوجد هناك حكم ظاهري وراء الحكم الواقعي مجعول في هذا الدليل ، لكن ليس لسانه لسان جعل حكم مستقل ، بل لسانه لسان التعبّد في إحراز الطهارة الواقعية والحلية الواقعية ، ومثال ذلك أدلة حجية الإمارات ، فإن لسان دليل حجية البيّنة القائمة على طهارة الثوب ليس هو لسان جعل طهارة مستقلة لهذا الثوب وإن كان قد يكون هناك طهارة مجعولة مستقلة بحسب عالم اللب بناء على أن المجعول هو الحكم المماثل في باب الإمارات ولكن لسان الدليل ليس ذلك بل لسان الدليل لسان «صدّق العادل» والعادل ليس في مقام جعل طهارة أخرى في مقابل الطهارة الواقعية ، بل العادل تمام همّه الكشف عن نفس الطهارة الواقعية لا إيجاد طهارة أخرى في مقابلها ، فيكون مفاد دليل الحجية هو التعبّد بتلك الطهارة لكي يكون لسان دليل الحجية موازيا مع لسان الإمارة نفسها التي ثبتت حجيّتها بدليل الحجية إذن هناك لسانان في أدلة الحجية.

أ ـ اللسان الأول : هو لسان جعل شيء في مقابل الواقع من طهارة وحليّة بقطع النظر عن الواقع.

ب ـ اللسان الثاني : هو لسان التعبّد بأن هذا هو الواقع وأن الواقع موجود في المقام لا التعبد بشيء آخر زائدا عن الواقع.

وحينئذ يقال أنه بالنسبة إلى أدلة الأحكام الظاهرية التي يكون لسانها هو اللسان الأول أي لسان جعل الطهارة والحلية زائدا عن الطهارة الواقعية والحلية الواقعية ، هنا لو كانت الطهارة قد وقعت موضوعا لحكم شرعي وكان الكلام في الإجزاء وعدمه بلحاظ ذلك الحكم الشرعي كالحكم بصحة الصلاة ، حينئذ مقتضى القاعدة هو الإجزاء لأن دليل قاعدة الطهارة أوجد فردا آخر من الطهارة

٤٥٥

في مقابل الطهارة الواقعية وبذلك وسّع دائرة دليل «لا صلاة إلّا بطهور» ، فيكون هناك طهوران ، طهور واقعي وطهور ظاهري إذن فلا صلاة إلّا بطهور تشمل هذه الصلاة بعقد المستثنى منها لا المستثنى منه يعني أن صلاة مع طهور تكون صحيحة بمقتضى حاكمية دليل قاعدة الطهارة على دليل الشرطية ، دليل لا صلاة إلّا بطهور.

وأمّا إذا كان اللسان هو اللسان الثاني ، لسان أن الشرط موجود ، لأن الطهارة الواقعية موجودة ، لا لسان إنشاء طهارة في مقابل الطهارة الواقعية ، إذن فهذه الصلاة تكون باطلة في المقام ، لأنها غير واجدة للشرط ، والشرط هو الطهارة ، وهنا لا طهارة.

أمّا الطهارة الواقعية فهي يقينا غير موجودة وأمّا الطهارة غير الواقعية فنقول ، أن دليل الحجية لا ينهض لإثباتها لأن دليل الحجية تعبّدنا بوجود الطهارة الواقعية لا أنه أضاف إلى الطهارة الواقعية طهارة أخرى في المقام ، إذن فلا يحكم بصحة الصلاة لفقدانها لشرطها ، وهذا التقريب واجه عدة اعتراضات من مدرسة المحقق النائيني وأهمها ثلاثة.

الاعتراض الأول : وهو ممّا اتفق عليه الميرزا مع (١) الخوئي وحاصله ، أن حكومة أدلة الأحكام الظاهرية على الواقع حكومة ظاهرية وليست واقعية لأن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي ومتأخر عنه رتبة فلا يعقل توسعته للحكم الواقعي إلّا ظاهرا وفي مقام الوظيفة العملية والتي ترتفع بانكشاف الخلاف ، فدليل أصالة الطهارة كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر وإن كان حاكما على دليل لا صلاة إلّا بطهور ، بمعنى أنه يوجد فردا من الطهارة وهي الطهارة الظاهرية ، ولكن هذه الحكومة ظاهرية وليست واقعية وحيث أنها كذلك فيستحيل أن تكون مؤثرة في مفاد الدليل المحكوم سعة وضيقا.

وتوضيحه ، أن الدليل الحاكم مع المحكوم على قسمين.

__________________

(١) أجود التقريرات : ج ١ ص ١٩٩ محاضرات فياض ج ٢ ص ٢٥٧.

٤٥٦

أ ـ القسم الأول : هو أن يكون الدليل الحاكم مع الدليل المحكوم في عرض واحد ليس بينهما طولية ولا ترتّب ، كما هو الحال في دليل لا صلاة إلّا بطهور مع دليل «الطواف بالبيت صلاة» ، فإن دليل الطواف بالبيت صلاة يكون حاكما على دليل «لا صلاة إلّا بطهور» لأنه أوجد فردا جديدا من الصلاة وهي الطواف ، وهذه الحاكمية هنا تكون قائمة بين دليلين عرضيين ، لأن أحد الدليلين لم يؤخذ في موضوعه الشك في مفاد الدليل الآخر ، إذن فلا موجب لافتراض التأخر الرتبي لأحد الدليلين عن الآخر ، وفي مثل ذلك تكون الحاكمية حاكمية واقعية ، بمعنى أن دليل «الطواف بالبيت صلاة» يكون موسّعا حقيقة لدليل لا صلاة إلّا بطهور فينتج أنه كما يشترط الطهور في الصلاة فإنه يشترط الطهور في الطواف لأنه فرد من الصلاة.

ب ـ القسم الثاني : من الحاكميّة هو أن يكون الدليل الحاكم في طول الدليل المحكوم ، وذلك بأن يكون الدليل الحاكم مفاده حكما ظاهريا ، والحكم الظاهري أخذ في موضوعه الشك في الأحكام الواقعية فلا محالة يكون في طول دليل الحكم الواقعي ، فإذا كان في طوله باعتبار أنه أخذ الشك في الواقع في موضوعه فيكون متأخرا عن الشك في الواقع وبالتالي يكون متأخرا عن الواقع وتكون بينهما طولية ، إذا كان الأمر هكذا حينئذ مثل هذه الحاكمية ، يستحيل أن تكون حاكميّة حقيقية بحيث يتسلط دليل الحاكم على مفاد الدليل المحكوم فيوسعه أو يضيقه ، لأنه متأخر عنه رتبة ، وما يكون متأخرا رتبته عن شيء يستحيل أن يكون مؤثرا في إيجاده أو في توسعته وتضييقه ، إذن فليست هنا حكومة وحاكمية بل هنا صورة لحاكمية ، فمفاد الدليل المحكوم يبقى على حدوده الأولية والواقعية دون أن يكتسب سعة أو ضيقا من مفاد الدليل الحاكم وهو دليل الحكم الظاهري وإنما يتمحض دور هذا الحاكم في الحاكمية في مقام العمل وفي مقام الجري خارجا فما دام الشك موجودا يجرى على طبق هذا الحكم الظاهري وإذا ارتفع الشك يرجع

٤٥٧

إلى الواقع لا محالة ، وهذا هو معنى كون الحكومة ظاهرية في مقابل الحكومة الواقعية.

وحينئذ يقال بأن محل الكلام من القسم الثاني ، لأن دليل أصالة الطهارة مفاده حكم ظاهر فهو إذن في طول أدلة الأحكام الواقعية لأنه أخذ في موضوعه الشك في الواقع فيكون في طول الواقع ، وحينئذ يستحيل أن يكون مؤثرا في مفاد دليل الحكم الواقعي سعة وتضييقا ، بل تكون الحاكمية حاكمية ظاهرية مرجعها إلى مقام الجري والعمل.

وهذا الاعتراض لا يرد على صاحب الكفاية بعد أن نميّز في أدلة الأحكام الواقعية بين دليل ودليل.

وتوضيح ذلك ، أنه في مقابل دليل أصالة الطهارة ، «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر» ، يوجد عندنا دليلان واقعيان مفادهما الحكم الواقعي.

أ ـ الدليل الأول : هو دليل أن الثوب إذا أصابه البول يتنجس ، ومفاد هذا الدليل الذي هو الحكم بالنجاسة ينطبق على هذا الثوب المشكوك الذي أجرينا فيه أصالة الطهارة لأنه في علم الله قد أصيب هذا الثوب فهو مشمول لإطلاق الدليل القائل بأنه كلما أصاب البول الثوب تنجّس.

ب ـ الدليل الثاني : وهو دليل آخر على حكم واقعي آخر نسبته إلى الحكم الواقعي الأول نسبة الحكم إلى الموضوع كما في دليل صلّ في الطاهر وهو دليل وجوب الصلاة في الطاهر.

ومفاد هذا الدليل غير مفاد الدليل الأول ، لأن مفاد الدليل الأول نفي الطهارة وإثبات النجاسة ، بينما مفاد هذا الدليل هو عبارة عن الحكم بوجوب إيقاع الصلاة مع الطهارة ، إذن فنسبة مفاد الدليل الثاني إلى الأول نسبة الحكم إلى الموضوع. وحينئذ فلو فحصنا نسبة دليل اصالة الطهارة إلى هذين الدليلين نجد أن مفاد دليل اصالة الطهارة متأخر رتبة عن مفاد الدليل الأول من هذين الدليلين ، لأنه أخذ في موضوع أصالة الطهارة عدم العلم بالقذارة ، كل شيء

٤٥٨

نظيف حتى تعلم أنه قذر ، إذن فموضوع أصالة الطهارة هو الشك في القذارة يعني الشك في مفاد الدليل الأول وعليه إذن يكون مفاد دليل أصالة الطهارة في طول دليل الحكم الواقعي الأول.

وأمّا بلحاظ الدليل الثاني الذي دلّ على وجوب إيقاع الصلاة مع الثوب الطاهر فلم يؤخذ في موضوع دليل اصالة الطهارة الشك في أن الطهارة شرطا أو ليست بشرط وإنما الذي أخذ في موضوع أصالة الطهارة هو الشك في النجاسة الواقعية إذن فلا موجب لافتراض أن يكون دليل أصالة الطهارة مفادا في طول مفاد الدليل الثاني ، وإنما هو في طول مفاد الدليل الواقعي الأول.

وصاحب الكفاية لا يريد أن يقول أن دليل اصالة الطهارة حاكم على الدليل الأول ومحدث للنجاسة الواقعية حقيقة وموسع لدائرة الطهارة الواقعية حقيقة وإلا لورد عليه الإشكال ، إذ كيف يوسعه وهو في طوله ، وإنما مدّعى صاحب الكفاية أن دليل أصالة الطهارة حاكما وموسعا لموضوع الدليل الواقعي الثاني وهو دليل «لا صلاة إلّا بطهور».

ومن الواضح أنه لا طولية بينهما إذ لم يؤخذ الشك في مفاد الدليل الثاني في موضوع أصالة الطهارة ، وعليه فهذا الاعتراض غير وارد لأن ما يدّعى كونه محكوما لدليل أصالة الطهارة ليس الشك فيه مأخوذا في موضع اصالة الطهارة ، وما أخذ الشك فيه في موضوع أصالة الطهارة لا يدّعى فيه الحاكمية.

الاعتراض الثاني : وهو أيضا ممّا اتفق فيه المحقق النائيني مع السيد (١) الخوئي وحاصله ، النقض بسائر أحكام الطهارة كاشتراط طهارة ماء الوضوء وطهارة الملاقي ونحو ذلك حيث لا يظن بصاحب الكفاية ولا بأي فقيه أن يلتزم بطهارة الملاقي أو بصحة الصلاة أو بأي لازم من لوازم هذه الحاكمية الظاهرية ، وتفصيل هذا النقض مضغوطا هو أنه كما يوجد عندنا دليل «لا صلاة

__________________

(١) أجود التقريرات : مع هامش الخوئي ج ١ ص ١٩٩ ـ ٢٠٠ ومحاضرات فياض : ج ٢ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

٤٥٩

إلّا بطهور» ودليل «لا وضوء إلّا بماء طاهر» ودليل «ملاقي الطاهر طاهر» وهكذا عدة أدلة أخذ في موضوعها الواقعي عنوان «الطاهر» فلو فرض أن دليل اصالة الطهارة لسان «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» كان حاكما على موضوع لا صلاة إلّا بطهور وينتج فردا جديدا من الشرط ، إذن فليكن حاكما أيضا على موضوع دليل لا وضوء إلّا بالماء الطاهر لينتج أيضا فردا جديدا من الماء الطاهر ومن المعلوم أن لازم هذا ، أنه لو توضأ بماء نجس جهلا أو أجرى أصالة الطهارة في الماء المشكوك نجاسته وتوضأ به ثم انكشف له أن هذا الماء نجس قبل أن يصلي حينئذ يلزم على صاحب الكفاية أن يقول بصحة وضوئه حتى بعد انكشاف نجاسة الماء وقبل الصلاة كما يلزم على صاحب الكفاية أن يجيز صلاته بوضوئه بالماء النجس حتى قبل أن يصلي به ، وذلك لأن دليل لا وضوء إلا بالماء الطاهر أصبح محكوما لدليل كل شيء لك طاهر وهكذا غيره.

فإذا كانت هذه الحاكمية حاكمية واقعية ، فيلزم صحة الوضوء في المقام.

ومثل هذا فيما لو لاقت اليد ماء نجسا أجرينا فيه أصالة الطهارة ثم انكشفت نجاسته ، فإن اليد لا تتنجس بمقتضى إجراء أصالة الطهارة لأن دليل أن ملاقي الطاهر طاهر قد وسّع موضوعه وكذلك دليل اصالة الطهارة ، جعل من الماء النجس الذي لاقته اليد طاهرا فصارت اليد ملاقية للطاهر كل ذلك ببركة دليل أصالة الطهارة وببركة دليل ملاقي الطاهر طاهر.

وحينئذ إذا كانت حاكميّة دليل أصالة الطهارة وحاكمية دليل ملاقي الطاهر طاهر حاكمية واقعية ، إذا كانت هكذا ، إذن فيجب إسراء هذه الحاكمية الواقعية إلى سائر الأدلة ، ولا يظن بصاحب الكفاية أو أي فقيه أن يلتزم بمثل هذه اللوازم.

وإن كانت حاكميّة ظاهرية إذن فلا موجب للإجزاء في محل الكلام في دليل لا صلاة إلّا بطهور.

وهذه النقوض يمكن لصاحب الكفاية أن يجيب عليها بفرضية أصولية

٤٦٠