بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

إسراعية الصلاة في أول الوقت ، بل مصداقية الثاني في فرض تعذر الأول ، من قبيل «التيمم والغسل» ، فإنهما مصداقان للطهور ، ومصداقيّة التيمم فرع تعذر الغسل أو الوضوء ، فلو لم يكن الغسل متعذرا لما كان التيمم مصداقا للطهور ، وحينئذ نقول أنّه كلّما تعلّق أمر بالجامع ، بين مصاديق متعددة ، فإن كانت تلك المصاديق عرضية في مصداقيتها للجامع ، جاز للمكلف أن يأتي بأي واحد منها ويتم الامتثال ، وأمّا إذا كانت طوليّة ، بحيث كانت مصداقية الفرد الثاني في طول تعذر الفرد الأول ، ففي مثل ذلك يفهم العرف من دليل الأمر بالجامع بين هذين الفردين الطوليين ، أن إرادة المولى على طبع هذه الطولية ، بحيث أن المولى أراد الامتثال بالفرد الأسبق رتبة ، فإن تعذّر فبالآخر ، فكما أن الفردين فردان في الطولية فهما فردان في الإرادة.

وعلى هذا نقول أن الأمر تعلّق بجامع الإسراع ، وجامع الإسراع له أفراد طولية ، وكل فرد ، فرديته مترتبة على عدم السابق.

إذن فلا يجوز الانتقال من السابق إلى اللاحق بدون مبرّر شرعي ، فلو أخّر ثم أخّر ، يكون قد ارتكب عصيانات متعدّدة ، وهذا معناه ، اقتضاء الأمر له فورا ففورا.

٤٠١

الإجزاء

في الإجزاء بحثان ، كبروي وصغروي. والبحث الكبروي يمكن طرحه في صيغتين.

الصيغة الأولى : هي أن الإتيان بما يكون وافيا بالغرض الباعث على الأمر ، هل يخرج عن العهدة أو لا؟.

الصيغة الثانية : هي أن الإتيان بمتعلق الأمر ، هل يجزي ويخرج عن العهدة أو لا؟.

والفرق بين الصيغتين ، أنّ الأولى ، مصبّها الفعل المحصّل للغرض ، والثانية ، الفعل الذي يكون مصداقا لمتعلق الأمر ، والبحث في كل من هاتين الصيغتين عقلي.

والصحيح ، الحكم بالإجزاء ، والخروج عن العهدة ، في كلتا الصيغتين ، أمّا الأولى ، فيحكم فيها بالإجزاء ، لأن حق المولى على العبد ليس إلّا استيفاء غرضه ، وبعد الاستيفاء ، لا يستقل العقل بحق على العبد ، إذ لا حق على العبد ، لأنه نشأ من إدراك العقل لحق المولوية وقد استوفي الحق بهذا المقدار ، إذن فلا عهدة بعد الإتيان بالفعل الوافي بالغرض ، وأمّا الثانية ، فإنما يحكم فيها بالإجزاء ، لما برهن عليه من أن الإتيان بمتعلّق الأمر ، يساوق سقوط ذلك الأمر ، وبعده ، يستحيل بقاء الأمر ، سواء بقي الغرض أو لا ،

٤٠٢

وعليه فالإتيان بمتعلق الأمر يوجب سقوط الأمر ، ومعه فلا عهدة ، وهذا هو الإجزاء وهو ممّا لا إشكال فيه.

وإنما الكلام في البحث الصغروي ، الذي عقدت هذه المسألة لأجله ، وهذا البحث هو ، هل الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري ، يشكّل مصداقا لإحدى الصيغتين المذكورتين ، بلحاظ الأمر الواقعي ، أو لا؟.

فإذا قيل بإنه مصداق للفعل الوافي بغرض الواقع ، أو يكون مصداقا لمتعلّق الأمر الواقعي ، فيدخل تحت إحدى الصيغتين الكبرويتين ، ويحكم به بالإجزاء ، وإذا قيل أنه ليس مصداقا لإحدى الصيغتين فلا يحكم به بالإجزاء.

وهذه المصداقية لإحدى الصيغتين ، تارة يفرض استظهارها من شخص دليل خاص ، كمن يستفيد من رواية أنّ الصلاة الجلوسية مصداق لإحدى الصيغتين ، وهذه الاستفادة فقهية من عمل الفقيه ، لأنها تقع في طريق استفادة حكم خاص ، وليس نظر الأصولي إلى مثل هذه الاستفادة ، بل إلى الألسنة الكلية للأحكام الاضطرارية والظاهرية وأدلتها ، فيقال ، أنه هل يمكن أن يستكشف من هذه الألسنة مصداقية هذا الواجب الاضطراري أو الظاهري لإحدى الصيغتين الكبرويتين أو لا؟.

إذن فالكلام يقع في مقامين.

المقام الأول ، في الإجزاء في الأوامر الاضطرارية.

المقام الثاني ، في الإجزاء في الأوامر الظاهرية.

المرحلة الأولى في مقام الثبوت :

بمعنى ما هي الصور التي يقع عليها الواجب الاضطراري ، وما هي فوارق هذه الصور وآثارها.

٤٠٣

والمرحلة الثانية ، في مقام الإثبات :

بمعنى أن أدلة الأحكام الاضطرارية ، في أي صورة ظاهرة من تلك الصور.

أمّا الكلام في المرحلة الأولى ، مقام الثبوت ، فالصور الواقعة ثبوتا أربعة.

أولا : أن تكون الوظيفة الاضطرارية ، كالصلاة من جلوس ، وافية بتمام ملاك الصلاة القيامية بلا نقص.

ثانيا : أن تكون الوظيفة الاضطرارية ، وافية بجل ملاك الواقع ، بحيث لا يبقى من ملاك الواقع إلّا بقية استحبابية يرضى المولى بتفويتها.

ثالثا : أن تكون الوظيفة الاضطرارية ، وافية بجزء من ملاك الواقع ، ويبقى جزء آخر مهم لزومي يتعذّر استيفاؤه ، ولو صلّى بعد ذلك من قيام.

رابعا : أن تكون الوظيفة الاضطرارية ، وافية بجزء من ملاك الواقع ، ويبقى جزء آخر مهم ولزومي وقابل للاستيفاء ، بحيث يمكن تحصيله بعد ذلك.

وهذه الصور تدرس بلحاظ أربعة أحكام.

الحكم الأول :

هو الإجزاء وعدمه ، ومن الواضح أنّ الحكم في الصور الثلاثة الأولى ، هو الإجزاء.

أمّا الصورة الأولى ، فلأنّ العقل قد استوفى تمام الملاك ، فيدخل تحت الصيغة الأولى في البحث الكبروي.

وأمّا الصورة الثانية ، فكذلك هو الإجزاء ، إذ لم يبق من الملاك إلّا بقية استحبابية.

٤٠٤

وأمّا الصورة الثالثة فكذلك ، لأن الملاك ، وإن لم يستوف ، ولكن لا يمكن تدارك الباقي ، فالإجزاء قهري.

نعم في الرابعة ، يحكم بعدم الإجزاء.

الحكم الثاني :

هو جواز البدار وضعا ، بمعنى أنه في الصور الثلاثة الأولى المحكوم فيها بالإجزاء ، لو بادر إلى الصلاة هل تقع صحيحة؟.

والصحيح ، أنّه إن كان وفاء الصلاة الجلوسية بالملاك بحسب الصور الثلاثة مشروطا بعدم البدار ، وأن تقع الصلاة في آخر الوقت ، فالبدار غير جائز ، وضعا في هذه الصور ، وإن كان وفاؤها بهذه المقادير في الصور غير مشروط بعدم البدار ، بل كان مطلقا ، فيجوز البدار وضعا فلو بادر لأجزأه ذلك ، من دون فرق بين الصور الثلاث ، لأنّ ملاك الإجزاء فيها ثابتا.

الحكم الثالث :

جواز البدار تكليفا ، بمعنى أن العقل أو الشرع ، هل يرخص بالمسارعة في المقام ، بالإتيان بالصلاة الجلوسية ، في أول الوقت أو لا يرخص؟.

ومن الواضح ، أنه في الصورة الأولى ، والثانية ، يجوز البدار تكليفا ، لأن الصلاة الجلوسية في أول الوقت ، إن كانت وافية بتمام غرض الواقع أو بجلّه ، فيجوز البدار ، وإن كانت غير وافية ، وكان وجودها كعدمها ، فالبدار يكون لغوا ولكنه ليس بحرام.

وأما في الصورة الثالثة ، فإن كان تعذّر بعض الملاك حاصلا حتى في آخر الوقت ، إذن ، وإن كانت الصلاة الجلوسية لا تجزي ، لكن البدار إليها في أول الوقت جائز ، وإن كان تعذّر بعض الملاك حاصلا في أول الوقت ، مع احتمال التمكن منه بعد ذلك ، فهذا ممّا يؤدي إلى تفويت غرض المولى ، فلا يجوز البدار.

٤٠٥

وبهذا يظهر ، أنّ جواز البدار الوضعي في الصورة الثالثة ، يعاكس جواز البدار التكليفي في نفس الصورة ، بمعنى أنه ، إن ثبت في هذه الصورة ، أن الصلاة الجلوسية مفوّتة لبعض الملاك مطلقا حتى لو أتي بها في أول الوقت ، إذن فيجوز البدار وضعا ولا يجوز تكليفا.

وإن كانت مفوّتة لبعض الملاك ، على تقدير عدم الإتيان بها في أول الوقت إذن لا يجوز البدار وضعا في أول الوقت لكن يجوز تكليفا إذ لا تكون حينئذ مفوتة.

لكن قد يقال ، إن عدم الجواز التكليفي يستلزم عدم الجواز الوضعي ، فإذا كانت الصلاة الجلوسية وافية ببعض الملاك ومفوتة للبعض الآخر مطلقا حتى في أول الوقت ، فلا يجوز البدار وضعا ولا تكليفا ، لأن النهي عن العبادة يستدعي فسادها ، فحينما يثبت عدم الجواز التكليفي يستدعي البطلان أيضا.

وتحقيق الكلام في ذلك هو : أنه إن كان تفويت الجزء المهم من غرض المولى بملاك المضادة بينه وبين الفعل الجلوسي ، بحيث كانا ضدين ، فلا موجب لتعلق النهي بهذا الفعل ، لأن الأمر بأحد الضدين الوجوديين لا يقتضي النهي عن ضده الآخر حتى يقتضي البطلان ، غايته ، أن العقل يرشد إلى أنه ، متى ما اشتغلت بهذا الضد لفاتك الضد الواجب الذي هو غرض المولى ، فيكون المنع عقليا لا شرعيا ، فلا يقتضي البطلان.

وإن كان التفويت بملاك المانعيّة ، باعتبار أن الفعل الجلوسي مانع عن حصول الجزء الأهم من الغرض ، ومن الواضح أن عدم المانع من المقدمات ، فحينئذ ، يصبح عدم الفعل الجلوسي من المقدمات ، فإن بنينا على إنكار المبغوضيّة والمحبوبية المقدميّة ، فأيضا لا إشكال من هذه الناحية ، وإن سلّمنا بالمبغوضيّة والمحبوبية المقدميّة ، ولكن قلنا أن المبغوضيّة المقدميّة الغيرية لا تصلح للنهي الغيري ، فلا بطلان فكذلك لا إشكال ، وإنما ينحصر الإشكال ، فيما إذا كان تفويت الفعل الجلوسي للجزء المهم من الغرض بملاك المانعيّة ،

٤٠٦

وقلنا أن مقدمة الواجب واجبة ، وقلنا أن المبغوضيّة الغيرية تستدعي البطلان ، فحينئذ ، يكون عدم هذا الفعل مقدمة للواجب ، فيكون محبوبا غيريا ، ويكون نقيضه ، وهو الفعل الجلوسي ، مبغوضا غيريا ، وقد فرضنا أن البغض الغيري يستدعي البطلان كالبعض النفسي ، فحينئذ يأتي الإشكال ، ولكن قد يجاب عنه بأحد بيانين.

البيان الأول :

هو أن النهي الغيري ، وإن اقتضى البطلان ، لكن لا يقتضيه في المقام ، ونقرب عدم اقتضائه بأحد بيانين.

البيان الأول : هو أن المبغوضيّة الغيرية هنا ، يستحيل أن توجب البطلان وإلّا يلزم من وجودها عدمها وذلك ، لأن هذه المبغوضيّة ، هي في طول صحة العمل ، لأن العمل في الصورة الثالثة لو لم يكن صحيحا وضعا ووافيا بنكتة الإجزاء لما جاز البدار تكليفا ، وإنما لم يجز البدار باعتباره مفوتا للغرض ، أي بلحاظه صحيحا ومجزيا ، بحيث لا مجال للتدارك والإعادة.

والمبغوضيّة الغيرية تختلف عن غيرها في غير المقام ، فمثلا مبغوضية الصلاة الغصبية يعقل أن تقتضي البطلان لأنها ليست في طول صحة الصلاة ، لأن الصلاة في الدار المغصوبة غصب على أي حال سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة ، فمبغوضية الصلاة الغصبية ليست في طول صحة تلك الصلاة ليستحيل أن تكون هذه المبغوضية مزيلة للصحة ، ولكن في المقام ، المبغوضية في طول الصحة والإجزاء ، لأن الصلاة الجلوسية لو لم تكن مجزية في أول الوقت لما حكم بحرمة البدار إليها ، فحرمة البدار في طول صحتها ، فلا يعقل أن يكون سببا في عدم صحتها.

والخلاصة ، أنه لو اقتضت هذه المبغوضية عدم الصحة ، للزم من وجودها عدم وجودها ، لأنها فرع الصحة.

ويجاب على هذا البيان بأن المبغوضية المتعلقة بالعمل الصحيح ، لو

٤٠٧

اقتضت عدم الصحة لا يلزم من ذلك هدمها لنفسها ، بل غاية ما يلزم ، تعذّر وجود المبغوض في الخارج.

وتوضيحه : إن وجه اقتضاء هذه المبغوضية المتعلقة بالعمل الصحيح للبطلان هو ، أن المكلف يجب أن يأتي بالعمل بقصد القربة حتى يقع صحيحا ، وحيث أنه مبغوض ، فلا تتأتى القربة ، ومعه فلا يقع صحيحا.

إذن فمبغوضية العمل الصحيح يوجب تعذّر وقوعه في الخارج ، لا أنه يوجب انقلابه فاسدا وتعذّر وقوعه خارجا لا محذور فيه ، إذ لا يلزم منه ، أن الشيء يفني نفسه ، وإنما المحذور هو ، أن تكون مبغوضية عنوان ، توجب انسلاخ ذاك العنوان في نفسه.

وبتعبير آخر ، إن هذه المبغوضية إن لوحظت بالإضافة إلى متعلقها في أفق الباغض ، فهي متعلقة بالعمل الصحيح إلى الأبد ، بمعنى أنّ المولى يبغض العمل الصحيح لأنه يفوّت الجزء المهم من غرضه ، إذن فتعلق المبغوضية بعنوان العمل الصحيح في أفق المولى لا يلزم منه عدم تعلقها به ، بل تبقى متعلقة بهذا العنوان إلى الأبد ، ففي أفق المولى لا يلزم محذور أن الشيء يعدم نفسه.

نعم تعلقها بهذا العنوان في أفق المولى مع وصولها إلى المكلف خارجا ، يعجز المكلف أن يأتي بمصداق لهذا العنوان ، وهذا لا يوجب قلب المبغوضية وإفنائها ، بل غايته أنها مبغوضية عنوان لا يعقل إيجاده في الخارج ، ولا بأس بذلك ، إذ ما أحسن أن تكون مبغوضية عنوان ، توجب استحالة وقوعه في الخارج ، فإنه بهذا يتخلّص كل إنسان من كل ما يبغضه خارجا.

البيان الثاني :

هو أنه لو سلّم أن هذه المبغوضية الغيرية لا يلزم من وجودها عدمها ، ولكن يستحيل تعلق النهي الغيري بهذا العنوان ، لأنه تكليف بغير المقدور بناء على أنها توجب تعجيز المكلف عن إيقاعه في الخارج ، ولذا لا يعقل مثل هذا

٤٠٨

التكليف ، إذ كما أن الأمر بغير المقدور غير معقول فكذلك النهي عنه ، إذن فالمكلف غير قادر على العمل الصحيح ، فكيف ينهى عنه؟.

ويمكن أن يجاب على هذا البيان بأكثر من وجه بأن يقال : لو سلّم هذا المحذور ، فهو يسلم في النهي لا في المبغوضية ، لأنها على أي حال لا يشترط فيها أن تكون متعلقة بالمقدور ، إذن فالمبغوضية على أي حال فعلية ، فيلزم منها البطلان.

وعليه فالبيانان للرد على الإشكال غير صحيحين ، والصحيح هو منع الأصول الموضوعية للإشكال بإن يقال ، بأن المانعيّة والمبغوضية الغيرية واقتضاء النهي الغيري للبطلان غير مسلّم فيها ، إذ لا أقل من إنكار اقتضاء النهي الغيري للبطلان.

الحكم الرابع : جواز تعجيز الإنسان نفسه ، كمن يعجّز نفسه عن القيام بعد دخول الوقت حتى يصلي من جلوس.

أمّا في الصورة الثالثة ، فينبغي القول بأن الاضطرار بالاختيار ، هل يحصل نفس نكتة الاضطرار لا بالاختيار ، وهي أن يكون العمل وافيا ببعض الملاك ، ومفوّتا للبعض الآخر؟.

ومن الواضح أنه على كلا التقديرين ، سواء كان الاضطرار بالاختيار أو لا ، إذا كانت نفس النكتة موجودة ، إذن فهذا يفوّت على المولى جزء الغرض ، وإذا لم تكن موجودة ، فهو يفوّت على المولى كل الغرض ، إذن فلا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار على كلا الحالين.

وأما في الصورة الأولى والثانية ، فإن كانت نفس النكتة موجودة أيضا في حال الاضطرار بالاختيار ، فيجوز إيقاع نفسه في التعجيز إذ لا يفوت شيء ، لأنه يستوفي كل الغرض أو جلّه ، وإن فرض أن النكتة غير موجودة وأن الوفاء

٤٠٩

بالكل أو بالجل فرع أن يكون الاضطرار لا بالاختيار ، إذن لا يجوز إيقاع نفسه بالاضطرار.

وأمّا الكلام في المرحلة الثانية ، مقام الإثبات فإنه يقع في مسألتين.

الأولى : وهي فيما إذا ارتفع الاضطرار في أثناء الوقت وقد أتى المكلف بالوظيفة العذرية ، فهل يجب عليه الإعادة في الوقت أم لا؟.

الثانية : وهي لو كان الاضطرار مستمرا في تمام الوقت وأتى المكلف بالوظيفة العذرية وقد تبدّل العجز بالقدرة بعد خروج الوقت فهل يجب عليه القضاء أو لا؟.

أمّا الكلام في المسألة الأولى :

وهي فيما إذا ارتفع الاضطرار في أثناء الوقت ، فإن فرض أن دليل الأمر الاضطراري قد أخذ في موضوعه استمرار العذر إلى آخر الوقت ، إذن فما أوتي به لا يكون مجزيا ، لعدم استيعاب العذر لتمام الوقت ، فالصلاة الاضطرارية ليست مصداقا للأمر الاضطراري ليقع الكلام في إجزائها وعدمه.

نعم هذه الصلاة إن كانت مصداقا لشيء ، فهي مصداق لأمر ظاهري ، حيث أن المكلف عند ما أتى بها كان معتقدا وجدانا وبانيا استصحابا على بقاء العذر إلى آخر الوقت ، إذن فالأمر في حقه أمر ظاهري يدخل في باب إجزاء الأوامر الظاهرية ، إذن ففي هذا الغرض لا إشكال في عدم الإجزاء لعدم وجود أمر اضطراري في الأصل.

وإن فرض أن دليل الأمر الاضطراري موضوعه ثبوت العذر حين الأداء ، سواء ارتفع بعد ذلك أو لم يرتفع ، حيث كان الأمر الاضطراري ، مقتضيا لجواز البدار.

ومن هنا يقع الكلام بأن الإتيان بهذا المصداق للواجب الاضطراري ، هل يغني عن الإعادة أو أنه تجب الإعادة؟.

٤١٠

وفي مثل ذلك يقال ، بأن دليل الأمر الواقعي بالصلاة الاختيارية ، هل له بنفسه إطلاق يشمل مثل هذا المكلف المعذور في أول الوقت والذي ارتفع عذره فيما بعد ، فهو قادر على الصلاة القيامية ، فيكون مشمولا لهذا الإطلاق؟.

أو أن دليل الأمر الواقعي ليس له إطلاق يشمل مثل هذا المكلف ، ولو لأن الدليل لبّي كالإجماع الذي ليس له إطلاق يتمسك به؟. فإن مضمون الغرض الأول ، وهو أن دليل الأمر الواقعي له إطلاق شامل لهذا المكلّف فهو يقتضي وجوب الإعادة وعدم الإجزاء ، فلا بد لرفع اليد عن هذا الاقتضاء لوجوب الإعادة من دعوى كون دليل الأمر الاضطراري مقيّدا لدليل الأمر الواقعي ، وتقييد الأمر الاضطراري للأمر الواقعي يمكن أن يبيّن بوجوه.

الوجه الأول لتقييد الأمر الواقعي بالأمر الاضطراري

هو أن دليل الأمر الاضطراري يدل بالدلالة الالتزامية العقلية على الإجزاء ، والإجزاء يقتضي عدم وجوب الإعادة وهدم إطلاق دليل الأمر الواقعي ، وبيان هذه الدلالة ، هو أن دليل الأمر الاضطراري بالصلاة الجلوسية يكشف حتميا عن أنها واجدة لملاك الواقع بإحدى الصور الأربعة المتقدمة في مقام الثبوت ، وقد عرفت أن ثلاثة منها تقتضي الإجزاء ، وأن الصورة الرابعة يحكم فيها بعدمه ، وفي هذه الصورة قد يدّعى بأن الأمر الاضطراري لا يجتمع عقلا مع هذه الصورة ، وبعد نفي هذه الصورة ينحصر المطلب في صور الإجزاء الثلاثة ، وإذا ثبت الإجزاء تقيّد إطلاق دليل الأمر الواقعي.

وتوضيح نفي الصورة الرابعة هو ، أنه لو كان الفعل الاضطراري وافيا بتمام ملاك الواقع أو بجلّه ، إذن فيعقل في المقام جعل أمر تخييري بحق المكلّف الذي سوف يرتفع عذره في الوقت بين الصلاة الجلوسية في أول الوقت والصلاة القيامية في آخره ، فيكون المكلف مخاطبا بإحدى الصلاتين ، وهذا هو معنى الأمر الاضطراري ، وهو معقول.

٤١١

وأمّا في الصورة الرابعة ، فإن فرض أن المولى أمر بالصلاة القيامية تعينيا فقط فهذا هو المطلوب ، ولكن هذا معناه أنه لا يوجد أمر اضطراري بل أمر اختياري ، وإن أمر بالصلاة الجلوسية تعينيا فقط ، فهو غير معقول ، إذ لا يجب على هذا المكلف الصلاة الجلوسية تعينيا ، حيث بإمكانه الانتظار إلى آخر الوقت ويصلي من قيام ، ولكن هل يؤمر تخييريا بين المتباينين ، أي بين الصلاة الجلوسية في أول الوقت والصلاة القيامية في آخره؟. وهذا خلف ، لأن الصلاة الجلوسية بحسب الفرض لا تفي بتمام غرض الواقع ، إذ يبقى منه بقية مهمة قابلة للاستيفاء ، وأيضا هل يأمر المولى تخييريا بين الأقل والأكثر؟. وهو غير معقول ، لأن مرجع التخيير بين الأقل والأكثر إلى الإلزام بالأقل ، والترخيص بالزائد ، فلا أمر تخييري على كل حال.

وبهذا البرهان ، يظهر أن الصورة الرابعة لا تناسب الأمر الاضطراري بل ما يناسبه ، صور الإجزاء الثلاثة ، وبذلك يثبت عدم وجوب الإعادة ، ويقيّد إطلاق دليل الأمر الواقعي.

هذا حاصل ما أفادته مدرسة المحقق النائيني في الإجزاء (١) ، ولهذا بنى الميرزا والسيد الخوئي (٢) على أن دليل الأمر الاضطراري يقتضي الإجزاء عن الواقع بهذا البيان. ولنا على هذا تعليقان :

أ ـ التعليق الأول : نعلق به على الشق الأخير ، وهو الأمر التخييري بين الأقل والأكثر ، وذلك بأن يكون أحد عدليه ، الصلاة القيامية ، والآخر الصلاة القيامية مع الصلاة الجلوسية ، وهذا مستحيل ، لأنه يرجع إلى الإلزام بالأقل مع إباحة الزائد ، بينما نلاحظ أن السيد الخوئي في بحث المطلق والمقيّد بنى على إمكان مثل هذا التخيير بين الأقل والأكثر ، فمثلا لو ورد خطاب «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» قالوا ، بأن خطاب أعتق رقبة يتصور فيه ثبوتا احتمالان.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ٢ ص ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٢) محاضرات فياض ج ٢ ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٤١٢

الاحتمال الأول ، هو أن يكون خطاب أعتق رقبة مرجعه إلى أمر تعييني بعتق الرقبة المؤمنة ، بحيث يكون عين خطاب أعتق رقبة مؤمنة ، غايته إن إطلاقه كان صوريا ولم يكن مقصودا حقيقة ، وهذا معنى حمل المطلق على المقيد.

الاحتمال الثاني ، هو أن يكون خطاب «أعتق رقبة» مفاده أمرا تخييريا بين الأقل والأكثر ، بحيث يوجد وجوب مجعول ، يقول ، إمّا أن تعتق رقبة مؤمنة ولا شيء عليك ، وإمّا أن تعتق رقبة غير مؤمنة أولا ثم رقبة مؤمنة ثانيا ، وهذا هو التخيير بين الأقل والأكثر.

وقد قيل في بحث المطلق والمقيد ، بأنه ممكن ثبوتا جعل وجوب تخييري ، أحد عدليه أمر تخييري فقط ، والآخر عتق رقبة مؤمنة ، قبلها رقبة غير مؤمنة ، ولكنه خلاف الظاهر إثباتا ، وهذا مثل محل الكلام تماما في صلاة قيامية فقط في آخر الوقت ، أو صلاة قيامية في آخر الوقت قبلها صلاة جلوسية.

فإن كان هذا الكلام معقولا ، فليكن معقولا في بحث المطلق والمقيد وفي بحث الإجزاء ، وإن لم يكن معقولا فليكن فيهما معا.

وأما في بحث الواجب التخييري ، فقد قالت مدرسة النائيني (١) أن التخيير بين الأقل والأكثر مستحيل ، إلّا أن يرجع إلى المتباينين بأخذ الأقل بشرط «لا» من حيث الزيادة فيكون الأقل بشرط «لا» مع الأقل بشرط شيء متباينين ، فيكون التخيير بينهما تخييرا بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر ، وأمّا إذا لم يرجع التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير بين المتباينين فهذا التخيير غير معقول ، وحينئذ في مقام تصحيح التخيير بين الأقل والأكثر في بحث الإجزاء وفي بحث المطلق والمقيد ، يؤخذ الأقل بشرط «لا» ، فيقال في

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ١٣١.

٤١٣

المسألة بوجود التخيير بين صلاة قيامية مشروطة بأن لا يكون قبلها صلاة جلوسية ، وبين صلاة قيامية بشرط شيء مع الصلاة الجلوسية ، وهذان متباينان ، ويقال في بحث المطلق والمقيد بوجود التخيير بين عتق رقبة مؤمنة بشرط «لا» ، أي بشرط أن لا يكون قبلها عتق رقبة كافرة ، وبين عتق رقبة مؤمنة بشرط شيء ، أي بشرط أن يكون معها عتق رقبة كافرة ، فليكن التخيير معقولا في كلا البحثين معا.

وأما حل هذه التشويشات وما ينبغي أن يقال هو : أن التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول كما أفاده النائيني ، ما لم يرجع إلى المتباينين ، بأخذ الأقل بشرط «لا» من حيث الزيادة ، ولكن هنا نكتة ، وهي أن أخذ الأقل بشرط لا ليس دائما يصحّح التخيير بين الأقل والأكثر ، بل يصحّحه في بعض الأحوال دون بعض ، ومحل الكلام في كلام البحثين هو من تلك الحالات التي لا يصحّحه فيها الأخذ بشرط «لا» ، وتوضيحه.

إن الأقل إذا أخذ بشرط «لا» ، فلا إشكال في مباينته مع الأكثر ، فيكونان من قبيل الضدين المتباينين ، وحينئذ نقول ، أن هذين الضدين المتباينين تارة يتصور لهما ثالث وأخرى لا يتصور لهما ثالث مع انحفاظ الأقل.

فتارة يتصور بأن يكون ذات الأقل محفوظا ، ومع هذا لا يوجد لا الأقل بشرط «لا» ولا الأكثر.

وأخرى لا يتصور انحفاظ الأقل مع زوال البشرطلائية والبشرطشيئية معا.

ومثال الأول كما لو فرض في باب التسبيحات في الركعة الثالثة والرابعة أن المصلي مخيّر بين تسبيحة واحدة بشرط لا من حيث الزيادة ، وبين تسبيحة واحدة بشرط ضم تسبيحتين إليها ، فهنا يمكن انحفاظ ذات التسبيحة الواحدة مع زوال البشرطلائية والبشرطشيئية معا ، وذلك بأن يأتي بتسبيحة واحدة ثم يضيف إليها تسبيحة ثانية فقط ، وهنا لم تتحقق البشرطلائية ، لأن التسبيحة

٤١٤

الواحدة أخذت بشرط «لا» من حيث ضم الثانية وقد ضم الثانية ، ولم تتحقق البشرطشيئية لأن التسبيحة أخذت بشرط شيء من حيث ضم كلتا التسبيحتين الثانية والثالثة إليها ، وهذا لم يتحقق أيضا ، فلو أتى بتسبيحتين فقط لكان قد عدل عن كلا فردي الواجب التخييري ولم يأت بهما.

ومثال الثاني كما لو فرض أن التسبيحة الواحدة أخذت بشرط «لا» من حيث ضم الثالثة إليها وأخذت بشرط شيء من حيث ضم الثالثة إليها فهنا لا يتصور مع الإنسان بالتسبيحة الواحدة إلّا تحقق أحد القيدين ، لأنه إن أتى بالتسبيحة ثم أتى بالثانية ثم بالثالثة ، إذن فقد تحقق البشرطشيئية وإن لم يأت بالثالثة ، فقد تحقق البشرطلائية ، أتى بالثانية أو لم يأت بها ، فهنا لا يتصور زوال كلا القيدين.

وعلى هذا فالصحيح أنه متى ما كان بالإمكان الإتيان بذات الأقل مع انتفاء كلا القيدين ، فحينئذ يعقل أن يلزم بالأقل ويلزم بأحد القيدين كما هو الحال في الفرض الأول ، وإن لم يمكن مع الإتيان بالأقل انتفاء كلا القيدين بل كان وقوع أحدهما مع الأقل قهريا فلا يعقل الإلزام بأحد القيدين زائدا على الإلزام بالأقل ، لأن الجامع بين القيدين قهري الحصول مع الإتيان بالأقل ، فيستحيل التكليف حينئذ بالجامع بين القيدين.

وهذا ضابط كلي في تعقل التخيير بين الأقل والأكثر ، وإذا ما أردنا تطبيقه على محل الكلام ، نرى أن التخيير بين الأقل والأكثر مع أخذ الأقل بشرط لا ، معناه الأمر بالصلاة القيامية بشرط لا من حيث الصلاة الجلوسية أو الأمر بالصلاة القيامية بشرط شيء من حيث الصلاة الجلوسية وهذا الأمر التخييري ينحل حقيقة إلى أمرين ، أمر بذات الصلاة القيامية على كل حال ، وأمر بالجامع بين البشرطلائية والبشرطشيئية ، ومن الواضح أن هذا الجامع قهري الحصول على فرض وقوع الصلاة القيامية ، فإنها متى ما وقعت فإمّا قبلها صلاة جلوسية أو ليس قبلها صلاة جلوسية ، لإن ارتفاع النقيضين محال ، إذن فالجامع بين

٤١٥

القيدين قهري الحصول مع فرض الإتيان بذات الأقل ، ومعه لا ينفع أخذ الأقل بشرط «لا» في تصحيح التخيير بين الأقل والأكثر.

وعليه ، فما ادّعي من أن تصوير الأمر الاضطراري بنحو التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول فهو صحيح ولا يمكن إصلاحه بأخذ الأقل بشرط لا ، وما ادّعي في بحث المطلق والمقيّد من تعقله فهذا ليس بصحيح لأنه من قبيل محل الكلام.

التعليق الثاني هو أنه لو سلّم أن كلا من الأمر التعييني بالصلاة الاضطرارية والأمر التخييري بين المتباينين والأمر التخييري بين الأقل والأكثر غير معقول ، لكن يوجد شق رابع ، والبرهان لا يتم إلّا بإبطاله ، وإن كان لا برهان على إبطاله ، وتوضيحه.

إن الشقوق المفترضة والتي أبطلت بالبرهان ، كان قوامها وحدة الأمر ، وهذا الأمر ، إن كان تعيينيا في الصلاة الجلوسية فهو بلا موجب ، لأن الصلاة القيامية تفي بالغرض بنحو أتم ، وإن كان تخييريا ، فكذلك ، لأنه في الصورة الرابعة لا يرضى بترك الصلاة القياميّة في آخر الوقت ، وإن كان تخييريا بين الأقل والأكثر فهو غير معقول.

ولكن يمكن تصور أمرين ، أحدهما متعلق بالجامع بين الصلاة الاضطرارية والصلاة القيامية ، وهذا هو الأمر الاضطراري إذ ببركته تتصف الصلاة الجلوسية بمصداقيتها للواجب ، وثانيهما متعلّق بخصوص الصلاة القيامية ، إذن فالمكلف المريض في أول الوقت والصحيح في آخره ، إن أتى بالصلاة الجلوسية في أوله فقد أسقط الأمر المتعلق بالجامع وبقي عليه الأمر الثاني المتعلق بالصلاة القيامية فلا بدّ عند البرء من الإتيان بهذه الصلاة ، وبهذا اجتمع الأمر الاضطراري مع عدم الإجزاء في الصورة الرابعة ، وإن فرض أن هذا المريض لم يصلّ من جلوس في أول الوقت إلى أن برىء من مرضه في الوقت ، فإن كلا الأمرين باق في حقه وكلاهما يسقط بالصلاة القيامية ، لأنها مصداق لهما معا ، وهذا شق معقول يتصور معه الأمر الاضطراري.

٤١٦

إشكال ، ودفع

ويمكن أن يوجه إلى هذا الشق شبهة ، وهي لغوية الجعلين في المقام ، إذ بعد لا بدّية الأمر بالصلاة الاختيارية فأيّة حاجة للأمر بالجامع حيث لا يكتفي بالأمر به لغرض أن الفعل الاضطراري لا يجزي عن الصلاة الاختيارية بينما الصلاة الاختيارية تغني عن الجامع.

والجواب : أنّ المكلف على ثلاثة أقسام ، القسم الأول ، المكلف المختار في تمام الوقت. والقسم الثاني ، المكلف المريض في تمام الوقت ، والقسم الثالث ، المكلف المبعّض المريض في أول الوقت والسليم في آخره.

وبعد فرض عدم الإجزاء في الصورة الرابعة ، فلا بدّ من الأمر بالصلاة الاختيارية في حق القسم الأول والثالث دون الثاني ، ولا بدّ من جعل ثان يشخّص وظيفة القسم الثاني المريض في تمام الوقت.

ولا بدّية هذا الجعل لها صيغتان ، إحداهما أن يجعل أمرا بالصلاة الاضطرارية على المريض في تمام الوقت ، والثانية التي تكفي عن الأولى ، أن يجعل أمرا بالجامع بين الصلاتين على طبيعي المكلف ، وهذا المريض ينطبق عليه هذا الجعل لقدرته على الجامع بالقدرة على أحد فرديه العذري.

إذن يتبيّن أن الشارع في مقام تحديد موقفه من طبيعي المكلف لا بد له من جعلين ، وبهذا يثبت أن الصورة الرابعة تناسب مع جعلين ، ومعناه أن الأمر

٤١٧

الاضطراري لا يبرهن على نفي الصورة الرابعة بل يجتمع معها ومع الإجزاء.

ثم لا يتم برهان الميرزا لو فرض أن دليل الاضطرار كان واردا في خصوص من كان مريضا ثم برىء في الأثناء.

وأمّا لو فرض أن دليل الاضطرار مطلق وشامل لحالة استيعاب العذر لتمام الوقت ولحالة ارتفاعه في أثناء الوقت ، ومن المعلوم أن دليل الاضطرار في الحالة الأولى لا يعارض دليل الواقع لعدم شمول الواقع لهذه الحالة ، وأمّا في الحالة الثانية فإن دليل الاضطرار يعارض مع دليل الواقع ، لأن الاضطرار في هذه الحالة يثبت الإجزاء ببرهان الميرزا وعدم وجوب الإعادة ، ودليل الواقع بإطلاقه يشمل هذه الحالة ويثبت وجوب الإعادة فيتعارضان ، والنتيجة وإن كانت هي النتيجة ، لأنه بعد التساقط فالأصل على ما يأتي هو عدم وجوب الإعادة ، لكن قد يتفق وجود مرجح لدليل الواقع فيعمل بالراجح.

نعم يتم برهان الميرزا فيما فرضناه ، وهو ما إذا كان دليل الاضطرار واردا في صورة ما إذا كان مريضا في أول الوقت وعوفي في أثنائه ، فيكون هذا مخصصا لدليل الواقع ، لكن قد عرفت أن برهان الميرزا غير تام.

الوجه الثاني ، لتقييد الأمر الواقعي بالأمر الاضطراري

هو دعوى الإطلاق المقامي في دليل الاضطرار ، وهنا لا يقال بالملازمة الثبوتية بين الأمر الاضطراري والإجزاء ، بل يقال بالإطلاق الإثباتي.

وحاصله أنه لو ثبت في دليل الاضطرار أن المولى في مقام بيان تمام الوظيفة وبيّن أن الصلاة الجلوسية مطلوبة وسكت عن كون الصلاة القيامية مطلوبة بعد ارتفاع العذر فسكوته مع ذلك يدل على عدم وجوب الإعادة وإلّا لكان عليه البيان :

ولكن هذا الإطلاق المقامي يكون معارضا مع دليل الواقع ، لأن الإطلاق المقامي في دليل الاضطرار يعيّن الوظيفة أنها من جلوس ، ومقتضاه أن الصلاة القيامية ليست وظيفة ، ودليل الواقع يثبت وظيفية الصلاة القيامية

٤١٨

حتى لو كان قد صلى قبل ارتفاع عذره ، إذن فيتعارضان ، فإن فرض أن أحدهما أظهر من الآخر كما هو الغالب في الإطلاق المقامي ولو بنكتة تضييق دائرته ، جمع بينهما بتقييد الإطلاق الأضعف بالإطلاق الأظهر ، وإلّا فيتساقطان ، ويرجع إلى الأصول العملية ، والنتيجة تقتضي الإجزاء وعدم الإعادة.

الوجه الثالث لتقييد الأمر الواقعي بالأمر الاضطراري :

وحاصله ، أن لسان دليل الاضطرار لسان جعل البدل والوجود التنزيلي للواقع ، وقد يكون هذا اللسان لفظيا ، من قبيل «التراب أحد الطهورين» ، كما قد يكون مقاميا مقتنصا ، مثل الأمر بالصلاة العذرية ، فيقتنص منه الوجود التنزيلي والجعل البدلي للوظيفة الواقعية.

وفي كل مورد استفيد هذا اللسان من دليل الاضطرار ، يقال أن هذا الوجود البدلي للوظيفة الاختيارية ، هل هو وجود بدلي لتمام الوظيفة الفعلية ولتمام الغرض ، أو هو وجود بدلي لبعض مراتب غرض المولى؟. وعند الشك في ذلك فإن مقتضى إطلاق البدلية والتنزيل أنه تنزيل لتمام مراتب المبدل ، وإذا ثبت هذا يثبت الإجزاء.

وفارق هذا البيان عن البيان الأول ، هو أنه لا يرد هنا إشكال التعارض بين إطلاق دليل الواقع وإطلاق دليل الاضطرار كما ورد على البيان الأول ، ففيه أن كلا من الإطلاقين ليس ناظرا إلى الآخر ، إذ كان أحدهما ناظرا إلى تشخيص الوظيفة الفعلية وكان دليل الأخر ناظرا إلى تشخيص الوظيفة الفعلية بالقيامية ، فيتساقطان إن لم يوجد مرجّح من مرجحات التعارض ، أمّا في البيان الثاني للإطلاق وإن اقتضى دليل الواقع ثبوت الصلاة الاختيارية وأنها ذات مصلحة غير مستوفاة ، لكن يقدّم دليل الاضطرار لأن لسانه لسان جعل البدلية والتنزيل للوظيفة الاختيارية ، وحينئذ يكون ناظرا وحاكما على دليل الواقع فيقدم عليه بالحاكمية ولا يصلح دليل الواقع للمعارضة مع الاضطرار.

٤١٩

ثم إن المحقق العراقي (١) بعد أن قرّب الإطلاق في المقام بما يقرب من البيان الثاني ، عقّبه بإشكالين :

الإشكال الأول ، دعوى التعارض بين إطلاق دليل الاضطرار القاضي بكون البدل الخالي من القيام بدلا لتمام مراتب المبدل الواجد للقيام ، وبين إطلاق دليل الواقع الظاهر بكون قيد القيام دخيلا في المصلحة بلحاظ بعض مراتبها ، فبعد فرض أن الصلاة الجلوسية وافية بتمام مراتب المصلحة وأن القيام ليس دخيلا فيها ، وبعد ظهور قيد القيام أنه دخيل ولو بلحاظ بعض مراتب المصلحة ، فيكون ذلك طرفا للمعارضة مع ظهور دليل الاضطرار في أن الصلاة العذرية وافية بتمام مراتب المبدل ، لأنها وجود تنزيلي له.

وهذا الإشكال ظهر حاله مما تقدم ، إذ بعد فرض كون لسان دليل الاضطرار لسان جعل الوجود البدلي التنزيلي للوظيفة الاختيارية ، فيقدم دليله على دليل الوظيفة الاختيارية ، ويكون دليل الاضطرار ناظرا وحاكما على دليل الواقع ، فلا تقع المعارضة بين الإطلاقين.

الإشكال الثاني : هو أنه حتى لو قيل بظهور دليل الاضطرار على دليل الواقع ، يقدم دليل الواقع على دليل الاضطرار ، وقد بيّن وجه هذا التقديم ببيانين.

البيان الأول : إن استفادة الإجزاء من دليل الاضطرار إنما هي بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، بينما دخل القيام في بعض مراتب المصلحة إنما كان بالوضع وبالظهور الوضعي للقيد والمقيد في الهيئة التركيبية كما في «صل قائما» ، ومتى ما تعارض ظهور وضعي مع ظهور إطلاقي ، قدّم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي (٢).

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) مقالات الأصول : العراقي ج ١ ص ٩٠.

٤٢٠