بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

فسّرنا قوله ، و «يجعلها الفريضة» أي تلك الفريضة التي فرغ منها ، وإلّا فعندئذ ، يصحّ أن يقول الإمام (ع) يصلّي معهم ، فإن شاء جعلها بدلا عن تلك الفريضة ، وإن شاء جعلها قضاء عمّا في ذمته ، لأنها فريضة على كل حال.

فكلمة «إن شاء» ، بعد استظهار كونها راجعة إلى الجملة الثانية فقط ، تكون قرينة على إبطال احتمال كون المقصود من قوله ، ويجعلها الفريضة ، يعني يجعلها فريضة ، ويتعين أن يكون المقصود من قوله «ويجعلها الفريضة إن شاء» ، يعني ويجعلها تلك الفريضة التي فرغ عنها ، في مقابل إن شاء جعلها فريضة أخرى.

فالوجه الأول من الجواب خلاف ظاهر الرواية.

الوجه الثاني : هو أن يكون المقصود من قوله ، ويجعلها الفريضة ، هو أخذ عنوان الفريضة بنحو المعرفيّة ، لا بنحو الموضوعية ، بمعنى أن تكون الفريضة إشارة إلى صلاة الظهر التي فرغ منها ، لا إلى صلاة الظهر بقيد أن لا تزال فريضة ، فإنّ صلاة الظهر حتى لو اكتسبت الاستحباب بالإعادة ، لكنها هي فرض بنفسها ، كما لو اكتسبت صلاة الليل الوجوب ، لكنها لا تخرج عن كونها تطوعا في نفسها ، ولم يؤخذ في المقام عنوان الفريضة ، بقيد أن لا تزال فريضة ، حتى يلزم أن يكون الفرض والوجوب باقيا فيمتثل ثانيا بعد امتثاله أولا.

وبعد حمل الفريضة على المعرفيّة ، وسلخها عن الموضوعية ، يصبح قوله (ع) و «يجعلها الفريضة» بمعنى يصلي صلاة الظهر مرة أخرى ، فيرجع مفاد قوله هذا ، إلى مفاد الطائفة الأولى ، وهو الأمر بإعادة صلاة الظهر ، ولا يكون فيه دلالة على جواز تبديل الامتثال بالامتثال. وهذا الوجه أيضا غير تام لأمرين.

الأمر الأول : هو أن حمل عنوان الفريضة في المقام على المعرفيّة المحضة في مقابل الموضوعية ، وإن كان جائزا ، ولكنّه يحتاج إلى قرينة ، وإلّا

٣٨١

فظاهر العنوان في نفسه هو الموضوعية ، وسلخ عنصر الوجوب عنه يحتاج إلى قرينة.

الأمر الثاني : هو أنّه لو سلّم وفرض أن العبارة جاءت صريحة في هذا الوجه ، فقال (ع) «يصلي معهم ويجعلها صلاة الظهر» ، بدلا من كلمة «الفريضة» ، ولكن مع هذا يوجد فرق كبير بين لسان و «يجعلها صلاة الظهر» ، وبين لسان ، «أعد معهم صلاة الظهر» ، الذي هو لسان الطائفة الأولى ، فإنّ هذا اللسان غاية ما يستفاد منه ، أنه يحصّل صلاتا ظهر ، ولا بأس ، إذ لعلّ الأولى واجبة والثانية مستحبة ، فلا تبديل للامتثال بالامتثال.

وأما في المقام ، فلم يقل و «يجعلها ظهرا» ، بل قال فرضا ، و «يجعلها الظهر» ، يعني ويجعلها ذلك الفرد من صلاة الظهر ، لا يجعلها فردا آخر من صلاة الظهر ، وذلك الفرد من صلاة الظهر هو واجب على كل حال ، فلو قال فليجعلها ذلك الفرد من صلاة الظهر ، يعني فليجعلها واجبة لا محالة ، فيعود الإشكال أيضا ، لأنه عليه يكون أمر بتبديل الواجب من ذاك الفرد إلى هذا الفرد ، إذن فهذا الوجه أيضا غير صحيح.

الوجه الثالث : هو أن يقال ، بأنّ هذه الرواية لم ترد بلحاظ ما بعد الصلاة ، بل بلحاظ أثناء الصلاة ، بمعنى أن المكلّف إذا كان قد فرغ من صلاة الظهر ، ثم أقيمت الجماعة ، وقيل له اجعلها الفريضة ، فمثل هذا يصح أن يكون من باب تبديل الامتثال بالامتثال ، ولكن غير معلوم أنّ السائل فرض نفسه أنه قد أكمل صلاة الفرادى ، بل هو في أثناء صلاة الفرادى وأقيمت صلاة الجماعة ، فقيل له ، «فليصلّ معهم وليجعلها الفريضة إن شاء» بقرينة أن الفعل في المقام فعل المضارع لا الماضي ، فلم يقل في السؤال ، «في الرجل صلّى الصلاة وحده» ، بل قال «في الرجل يصلي الصلاة وحده» ، والمضارع معناه أن السؤال ناظر إلى حال تلبسه بالصلاة لا إلى حال فراغه من الصلاة ، وحينئذ ، يكون المقام من باب أن رجلا حالة كونه يصلي أقيمت صلاة الجماعة ، وقد ورد النص في مثله ، أنه يمكن أن يحوّل صلاته إلى نافلة ثم بعدها يصلي معهم

٣٨٢

جماعة ، ويمكن أن يكمل صلاته هذه ثم يصلي معهم قضاء مثلا ، فكأن الإمام (ع) ، يريد أن يقول يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء ، بمعنى إن شاء حوّل الفرادى إلى نافلة وبعدها صلى معهم وجعلها صلاة الظهر ، وإن شاء أكمل صلاته التي بيده فريضة ثم بعدها إن شاء صلّى معهم غير الفريضة.

وهذا الاحتمال ساقط ، ولا يكفي الفعل المضارع شفيعا في الرواية ، إذ جاء بعده كلمة «ثم» التي هي ظاهرة في الفراغ من الصلاة ،

وما يدل على ضعف هذا الوجه ، هو أنه يلزم منه أنّ الإمام (ع) لم يبيّن الحكم بالمطابقة ، في أنه ما حكم هذه الصلاة التي بيده الآن ، بل انتقل إلى لازم المطلب ، إذ قال «يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء» حيث يدل بالالتزام على أن هذه الفريضة يمكن أن ينقلها من الفرض إلى التطوع مثلا ، أو يكون إذن له في قطعها ، وعدم بيان الحكم بالمطابقة ينافي كون الإمام (ع) في مقام البيان للحكم العملي لهذا السائل.

فهذا السائل إن فرضناه أنه قد فرغ من صلاته ، إذن فحكمه العملي هو الإعادة ، وقد بيّن له الإعادة بقوله (ع) «يصلي معهم» وأمّا إذا لم يكن بعد قد فرغ من صلاته ، فلا بدّ من تبيان حكم هذه الصلاة التي لم يفرغ منها ، مع أنه لم يبين ذلك ، وعدم بيان ذلك بنفسه قرينة على أن المفروض فراغه عن هذه الصلاة التي بيده.

فهذا الوجه أيضا لا يرجع إلى محصل.

والصحيح في المقام ، أن هذه الرواية غاية ما تدل عليه بعد نفي هذه الوجوه هو : أن المكلّف يمكن أن يطبق عنوان الواجب على الفرد الثاني ، بقوله (ع) و «يجعلها الفريضة إن شاء» بسحب عنوان الواجب عن الفرد الأول ، وهذا المطلب له أحد وجهين :

الوجه الأول : أن يكون الوجه هو تبديل الامتثال بالامتثال.

الوجه الثاني : أن يكون الواجب من أول الأمر مشروطا بنحو الشرط

٣٨٣

المتأخر ، على أن لا يأتي فرد أفضل منه يطبق المكلف عليه الواجب ، فمثلا لو فرض أن خطاب «صلّ» كان مقيدا بأن لا يأتي المكلّف بفرد أفضل من الفرد الأول فيطبّق عليه المكلف عنوان الواجب ، وحينئذ ، لو أتى المكلف بالفرد الأفضل مطبقا عنوان الصلاة عليه ، فهذا لا يكون من باب تبديل الامتثال بالامتثال ، بل من باب إخراج الفرد الأول من أول الأمر ، عن كونه امتثالا ، لأنّ الفرد الأول بنفسه خرج عن كونه مصداقا للواجب من أول الأمر.

وقد تقدّم أنّ هذا ليس محل النزاع ، بل هذا من باب إسقاط الفرد الأول عن الواجب ، فيكون إخراجه تخصصا لا تخصيصا ، وهذا أمر معقول.

والرواية هنا لا تعيّن أحد الوجهين ، بل هي تثبت النتيجة ، وهي أنه يمكن أن يطبّق العنوان على الفرد الثاني ، لكن ليس معنى هذا أن يكون من باب تبديل الامتثال بالامتثال كما عرفت أو من باب أخذ هذا القيد بنحو الشرط المتأخر حتى يسقط الفرد الأول عن الوجوب تخصصا ، فإن مثل هذا لا تعيّنه الرواية.

وعليه لا تكون الرواية دليلا على جواز تبديل الامتثال بالامتثال.

الطائفة الثالثة :

وهذه الطائفة ، لسانها ، «ويختار الله أحبهما إليه (١)» ، فإنّ هذه الطائفة فضلا عن سقوطها سندا.

يرد على الاستدلال بها نفس ما تقدم في مقام دفع الاستدلال بالطائفة الثانية ، فلسان هذه الطائفة الثالثة كما يتناسب مع تبديل الامتثال بالامتثال في مقام تطبيق الواجب على المأمور به ، كذلك يتناسب مع تبدّل الامتثال ، بحيث أن الامتثال من أول الأمر مقيّد بنحو الشرط المتأخر على أن لا يؤتى بفرد أفضل منه ، ومع الإتيان بفرد كذلك ، يخرج الأول من حينه عن كونه مصداقا

__________________

(١) الوسائل : باب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة حديث ١٠.

٣٨٤

للواجب ، ولا يكون من باب تبديل الامتثال بالامتثال ، بل من باب إخراج الفرد الأول عن مصداقيته للواجب ، ومعه لا حاجة إلى التمحل في الجواب على الاستدلال لهذه الطائفة ، وذلك بأن يدّعى في الجواب ، بأنّ المقصود من اختيار «أحبهما إليه» هو اختيار أحبهما إليه في مقام الأجر والثواب ، وليس من باب اختيار تشخيص الوظيفة وتعيين الامتثال ، فلا يكون إذن تبديلا ، وهذا التمحل في الجواب على خلاف ظاهر الرواية وذلك :

أولا : أنّ الملحوظ في الرواية وفي السؤال هو الجانب الوظيفي العملي ، لا الجانب الثوابي ، لفقد القرينة على لحاظه ، فصرف الاختيار إلى الجانب الثوابي دون الجانب العملي خلاف ظاهر الرواية.

ثانيا : إنّ الرواية ظاهرة في مقام ، لا يتحمل شمول كلا الجانبين معا في وقت واحد ، ولهذا سوف يحتاج إلى اختيار هذا أو ذاك الفرد ،

ومن الواضح أنّه ، إذا كان الاختيار ناظرا إلى مقام الوظيفة والامتثال كما هو مدّعى المستدل ، فالأمر كذلك ، فإنّ مقام الوظيفة لا يتحمل شمولهما (١) معا في عرض واحد ، لأنّ الامتثال يكون بفرد واحد ، فإمّا ذاك الفرد يكون هو الوظيفة ، أو هذا الفرد يكون هو الوظيفة ، وفي مثل ذلك ينحصر ظهور قوله «يختار أحبهما إليه».

وأما إذا كان الملحوظ هو مقام الأجر والثواب ، فلا تعارض بين المقامين فإن مقام الأجر والثواب يشمل كلا الفردين معا ، فذاك الفرد يكون له أجر على حدة ، والآخر له أجر على حدة ، كما يحكم بذلك العقل وتشير إليه الرواية ، فإن كلا منهما محبوب في نفسه ، غاية الأمر أن أحدهما أحب من الآخر ، فمقام الأجر والثواب ليس مقامه دائرا بين أن يشمل هذا أو يشمل هذا فقط ، اللهم إلّا أن يراد بالأجر والثواب ، الأجر المخصوص على الوظيفة الواجبة ، فكأنه يوجد أجر مخصوص على الوظيفة الواجبة وكل من أوقعها في

__________________

(١) أي شمول الجانبين ، الجانب الوظيفي وجانب الثواب.

٣٨٥

رداء أتم من الخشوع والخضوع يعطى ثوابا أكثر ، وهذا الشخص أتى بالواجبة ضمن الصلاة الأولى ، والصلاة الثانية ليست واجبة ، لكن يعطى ثواب الواجبة كما لو كان قد صلّى الثانية بحسب الغرض ، كما يعطى من يصلّي فريضته جماعة أو جماعته فريضة ، ولكن مثل هذا عناية في عناية إذ فرضت الرواية ناظرة إلى مقام الثواب وبعدها إلى ثواب مخصوص ، ولكن مثل هذا لا حاجة إليه.

وإلى هنا انتهى بحث المرة والتكرار ، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن النهي كما تقدم ، بمقتضى القاعدة المنضبطة نهي واحد لكن في مرحلة امتثاله يقتضي الاجتناب عن جميع أفراد الطبيعة ، بحيث لو أتى بفرد واحد لسقط النهي بالعصيان ، لكن يستثنى من هذا ما لو قامت القرينة على التعدّد ، فيتعدّد النهي بحيث يكون لكل فرد من أفراد الطبيعة نهي مخصوص وامتثال مخصوص ، ولا يفرّق في هذا الكلام بين الأفراد الطولية أو العرضية سواء بمقتضى القاعدة المنضبطة أو بمقتضى القرينة ، فعلى كلا التقديرين ، الأفراد الطولية والعرضية في حكم واحد ، فلو قال «لا تكذب» وكان للكذب أفراد طولية وعرضية فالقاعدة تقتضي نهيا واحدا وامتثاله لا يكون إلّا باجتناب جميع أفراد الكذب الطولية والعرضية معا ، لكن بمقتضى القرينة يكون عدة نواهي وكل فرد من أفراد الطبيعة عرضيا كان أو طوليا له نهي خاص به ، فلا فرق إذن بين الأفراد الطولية والعرضية من هذه الناحية بلحاظ النهي.

٣٨٦

الفور والتراخي

لا إشكال ثبوتا أنه يمكن أن يكون متعلق الأمر ، هو الطبيعة المقيّدة ، بالفور تارة ، وبالتراخي أخرى ، كما يمكن ثبوتا ، أن يكون متعلق الأمر ، هو ذات الطبيعة بدون القيد.

والقسم الأول يتصور على نحوين.

تارة ، بنحو وحدة المطلوب ، كأن يكون هناك أمر واحد متعلق بالحصة الخاصة الفورية ، بحيث لو عصى ولم يأت بالطبيعة فورا لسقط الأمر الواحد ولا شيء عليه.

وتارة أخرى ، يتصور بنحو تعدد المطلوب ، كأن يكون هناك أوامر متعددة ، بعضها متعلق بالفورية ، وبعضها متعلق بالطبيعة ، وإذا سقط بعضها ، فلا موجب لسقوط البعض الآخر ، وهذا النحو الثاني له شقان.

فتارة يكون تعدد المطلوب بنحو بحيث لو عصى الفورية يجب عليه أن يأتي بالطبيعة فورا أيضا وهكذا ، فإذا عصى يجب أن يأتي بها فورا ففورا ، وتصوير هذا الشق ، هو أن يكون الأمر متعلقا بنحو التكثر والانحلال ، بتمام الأفراد الطولية ، غايته أن الأمر بكل فرد طولي ، مشروط بما قبله ، فإذا أوقع ما قبله ، سقطت الأوامر عن عهدته.

وتارة يكون تعدد المطلوب ، بنحو بحيث لو لم يأت به فورا ، لسقطت

٣٨٧

الفورية ، وبقي الأمر بذات الطبيعة على حاله.

وتصوير هذا الشق هو أن يكون هناك أمران ، أمر بذات الطبيعة ، وأمر بإيقاعها فورا في الزمان الأول ، فلو لم يوقعها فورا ، سقطت الفورية (١) ، وبقي الأمر بذات الطبيعة (٢).

وحيث أن هذه الشقوق كلها معقولة ثبوتا ، سوف يقع الكلام في عدة جهات إثباتا.

الجهة الأولى :

ممّا لا إشكال فيه ، أن التراخي ، لا معنى لدعوى دلالة الخطاب «صلّ» عليه ، وإنّما الكلام أنه هل يمكن إثبات الفورية ، بدلالة نفس الخطاب ، كخطاب صلّ واغتسل؟.

الصحيح ، أنّ مثل هذه الدلالة في الخطاب غير موجودة لا مادة ولا هيئة ، أمّا الأول ، فلأن المادة إنما تدل على ذات الطبيعة ، أو على المقسم الطبيعي ، بين الوجود السريع والوجود البطيء ، وأمّا الثاني ، فلأن الهيئة ، إنّما تدل على الطلب بنحو المعنى الحرفي ، إذن ليس في المقام ما يقتضي أخذ الفورية فيهما.

ولذا يصح التقييد بعدم الفورية بلا عناية ، إذ لو كانت الفورية مأخوذة في الهيئة أو في المادة ، لكان ذلك موجبا للتجوّز والعناية.

وكيف كان ، فقد قرّبت دلالة الخطاب على الفورية ، من ناحية الهيئة ، وذلك بأنّ مدلول الهيئة الوضعي «صيغة افعل» وهو التحريك والإرسال ، يوازي بحسب الارتكاز العقلائي التحريك الخارجي باليد ، إذ أنّ التحريك نحو الشيء ، تارة يكون باليد ، وأخرى بالصيغة ، والدفع بالصيغة ، منزّل منزلة الدفع

__________________

(١) أي الأمر الثاني.

(٢) أي الأمر الأول الذي لا فورية فيه.

٣٨٨

التكويني ، فينعكس على الصيغة تمام خواص الدفع الخارجي.

ومن الواضح ، أنّ من خواص هذا الدفع إذا كان مؤثرا أثره ، أن يسرع باندفاعه نحو الشيء ولا يقبل هذا الدفع تراخيا ، وعليه فلا بدّ من الفورية في الاندفاع ، من قبل المكلّف ، ويكون هذا جزءا من المدلول الوضعي للصيغة «افعل» ، وهذا معناه ، أنّ الخطاب دال على الفورية ما لم تقم قرينة على الخلاف.

وهذا التقريب غير تام ، ونكتة الفرق بين الدفعين ، أنّ الدفع الخارجي إنما اقتضى الفورية لأنه تحريك نحو أمر آني جزئي خارجي ، فلا محالة يتجه وجهة معيّنة ، باعتبار خارجية التحريك ، وجزئيته ، ويتشخّص موضوعه المحرّك نحوه في فرد مساوق ومزامن للتحريك ، ولذا كان هذا التحريك يقتضي الفورية.

وأمّا التحريك التشريعي للصيغة «افعل» إنما هو تحريك تصوري متعلق بالجامع وبالطبيعة ، فلا يقتضي إلّا وجودها ، وهي كما توجد في الفرد الأول ، توجد في الفرد الثاني.

وبعبارة أخرى ، إنّ الفورية في التحرّك ، ليست من اللوازم المباشرة لنفس التحريك ، بل من لوازم شخصيّة المحرّك نحوه وكونه جزئيا آنيا خارجيا مزامنا للتحريك ، وهذا من شئون خارجية التحريك ، وأمّا التحريك التشريعي للصيغة ، لمّا كان لا يستدعي جزئية المحرّك نحوه ولا المحرّك ، فلا محالة يبقى المحرّك نحوه على جامعيته.

وفاعلية هذا التحريك ، تكون بوجود الجامع ، وهو كما يوجد بالفرد الأول ، يوجد بالثاني.

إذن فقياس أحد التحريكين على الآخر غير صحيح ، وعليه فالخطاب لا يدل مطلقا لا بمادته ولا بهيئته ، على الفور ، ولا على التراخي.

٣٨٩

الجهة الثانية :

تقدّم أنه لا دلالة لنفس الخطاب (صلّ) على الفور ولكن لا بدّ من البحث عن دلالة عامة في الشرع تدل على الفور إلّا ما خرج بدليل وقد استدل بالآيتين الكريمتين (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

بدعوى الأمر بالمسارعة والاستباق ، ومن الواضح ، أن الإتيان بالمأمور به في أول وقته ، هو مصداق للمسارعة والاستباق ، فيكون ذلك واجبا. وقد يناقش الاستدلال بالآيتين على وجوب الفور بوجوه.

الوجه الأول : هو إن الأمر في الآيتين ، لو كان مولويا ، لكان مقتضى القاعدة هو الوجوب ، لكنه إرشادي كبقية الأوامر الإرشادية الواردة بأصل الطاعة ، (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ، فكما أنّ هذه الأوامر إرشادية ، كذلك الأمر فيهما إرشادي ، باعتبار أن مورد هذا الأمر مما يستقل العقل بحسنه ، إذ يحكم بحسن المسارعة والاستباق لتحقيق رغبات المولى ، وعليه يكون هذا الأمر صادرا للتنبيه على ما استقل العقل به وحكم بحسنه الذاتي ، ومعه لا يكون الأمر مثبتا لحكم شرعي إلزامي.

وهذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه لعدة أمور.

أولا : لإمكان منع استقلال العقل بحسن ذلك ، في فرض تكون نسبة الأفراد الطولية جميعا إلى غرض المولى على حد واحد ، بحيث لا يكون الفرد الأول محصلا لمرتبة من الغرض أكبر من المرتبة التي يحصلها الفرد الطولي المتأخر ، ففي مثل ذلك ، لا يحكم العقل بحسن الفورية والإسراع بما هو إسراع.

نعم قد ينطبق عليه عنوان ثانوي يكون به حسنا ، من قبيل الاحتياط ، كأن يحتمل المكلّف العجز إذا لم يأت بالفرد الواجب ، أو يبتلي بالمزاحمات ، فيسرع لتنفيذ رغبات المولى قبل الابتلاء ، وأمّا بقطع النظر عن هذه العناوين الثانوية ، لو لوحظ الإسراع بما هو هو ، مع أنّ نسبة الأمرين إلى المولى على

٣٩٠

حد واحد ، فنمنع وجود حسن ذاتي في الإسراع ، يستقل به العقل.

ثانيا : لو سلم حكّم العقل بحسن الإسراع بما هو إسراع ، فلا إشكال في أنّ هذا الحسن ليس بمرتبة لزومية ليحكم العقل بقبح تركه ، إذن فهناك مجال ليعمل المولى مولويته ويحكم بالإلزام في المقام ، لأنّ العقل لا يحكم بالحسن بدرجة الإلزام كما هو الحال في أوامر الإطاعة ، فإنّ العقل فيها يحكم بالحسن بدرجة الإلزام ، فلا مجال ليعمل المولى مولويته ، ولكن في تلك الأوامر ، لا مانع من إعمال الإلزام من قبل المولى ، كما هو ظاهر الخطاب بحسب الغرض.

ثالثا : إن الحكم العقلي بحسن الإسراع لا بنحو الإلزام ، لا يمنع من إعمال المولوية بالإسراع ولو استحبابا ، لأنّ غاية ما يتوهم كونه مانعا من ذلك ، كونه تحصيلا للحاصل ، لأن المولى يأمر بالفعل ليجعله أرجح من الترك وليحدث الداعي في نفس المكلف ، فحينئذ ، قد يتوهم أن الإسراع إلى الطاعة لمّا كان له رجحان ذاتي بحكم العقل ، إذن فلا داعي للحكم باستحبابه توصلا إلى هذا الرجحان.

نعم لو أراد المولى الإلزام ، فلا بأس ، لأنّ الإلزام يوجد مرتبة أعلى من الرجحان ، غير المرتبة الثابتة ذاتا له ، وأما الأمر الاستحبابي فهو لا يوجد مرتبة من الإلزام إلّا نفس المرتبة الثابتة ذاتا له لو لا الأمر بالاستحباب ، فيكون الأمر المولوي الاستحبابي لغوا وتحصيلا للحاصل.

وهذا التوهم مدفوع ، لأنّ الأمر الاستحبابي بالإسراع يكشف عن محبوبية نفسية من قبل المولى للإسراع ، وبهذا يتأكد رجحانه الذاتي ، إذ يصبح فيه اهتمام بالمولى بلحاظين ، فأولا بما هو إسراع في إطاعة أمره الأول ، وثانيا بما هو تنفيذ لمحبوبه الثاني ، فيتأكد بذلك رجحانه الذاتي ، ولا يكون الأمر الاستحبابي لغوا.

إذن فأولا ننكر الحكم العقلي بالرجحان ، وثانيا نقول بأنه لا يمنع هذا

٣٩١

الحكم عن الإلزام وثالثا ، لا يمنع هذا الحكم عن الأمر الاستحبابي فضلا عن الإلزام.

الوجه الثاني : إن الأمر في الآيتين ، وإن كان مولويا ، لكن يحمل على الاستحباب ، بلحاظ القرينة ، وهي ، أنّ الحمل على الوجوب ، يلزم منه تخصيص (١) الأكثر ، وهو مستهجن عند العرف ، إذ ثبت بالدليل الخاص ، أنه لا يجب الفور في الواجبات ، وكذلك المستحبّات ، بخلاف الحمل على الاستحباب ، فلا بأس به في جميع الموارد ، وقد بنى على هذا الوجه السيد الخوئي (٢).

وهذا الوجه ، لا يتم على مبنى السيد الخوئي والميرزا ، ويتم على المشهور الذي بنينا عليه ، فإنه إن قلنا بأن دلالة صيغة افعل على الوجوب بحكم العقل وليس باللفظ ، فلا يلزم تخصيص الأكثر ، إذ يقال أنّ هذا الأمر وجوب بحكم العقل ما لم يرد ترخيص بخلافه ، وقد ورد ترخيص في أكثر موارده ، إذن ما ورد فيه الترخيص يبنى فيه على عدم الوجوب ، وما لم يرد فيه ترخيص يبنى فيه على الوجوب. وليس هذا تخصيصا للأكثر ، لأنّ الوجوب ليس مدلولا لفظيا للخطاب حتى يلزم إخراج عدم الوجوب منه ، وإنّما الوجوب حكم عقلي معلّق على عدم مجيء الترخيص فلا يتم هذا البيان على هذا المسلك.

نعم بناء على أن الوجوب مدلول لفظي ، يقال بأنّ الصيغة لو كانت مستعملة في معناها الوضعي ، للزم تخصيص الأكثر ، إذ لا وجوب في أكثر الموارد.

وهذا المقام ، من ثمرات مسلك السيد الخوئي والميرزا ، ومسلك المشهور ، وقد تقدم ذلك في بحث صيغة افعل.

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٢٣.

(٢) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٢١٥.

٣٩٢

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق العراقي (١) (قده) وهو أن الأمر بالاستباق لو كان إلزاميا ، ويوجب الإتيان فورا ، للزم محذور ، بحسب مقام ظاهر الدليل وتوضيحه.

إن ظاهر قوله تعالى ، (سارِعُوا) و (فَاسْتَبِقُوا) إنما يفيد ، أنّ الخير والمغفرة ، كما يمكن أن يتحقق بالسرعة والاستباق يمكن أن يتحقق بدونهما ، كمن يأمر بالسرعة إلى شرب الماء ، فإنه كما يتحقق الشرب الآن ، يمكن أن يتحقق بعد ساعة ولكن المولى يلزم الآن بالشرب ، إذن فمادة الخطاب المأخوذ فيها الإسراع والاستباق ، سنخ مادة لها نحوان من الوجود ، فيمكن أن توجد بسرعة ، ويمكن أن توجد بدونها ، ولكن المولى يأمر بإيجادها بسرعة ، مع أنه لو فرضنا أن الأمر كان إلزاميا ، فمعناه ، أن الشارع وظّفنا بالعمل الفوري ، وهذا بخلاف ظاهر الدليل ، إذ ظاهره انحفاظ هذا الخير حتّى مع عدم الإتيان به فورا ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن الأمر بالمسارعة استحبابي أو إرشادي ، لأنّ الخير والمغفرة سوف يحصل على كل حال ، إمّا بالسرعة وإمّا بالتباطؤ.

والجواب هو : أنّ مفاد دليل الأمر بالمسارعة والاستباق ، لو كان هو الوجوب الشرطي ، بحيث أن الاستباق والمسارعة أخذ شرطا وقيدا في الواجبات الأولية ، من قبيل قيدية الوضوء والاستقبال للصلاة ، فمعنى هذا ، أن الصلاة باطلة أصلا لو أتى بها متأخرا ، وهذا إذن ، ليس بابه باب المسارعة ، بل معناه ، أنّ الخير منحصر في أول الوقت ، بحيث لو أخرّ لم يحصل خير أصلا.

إذن لو كان مفاد الأمر في الدليل ، هو الوجوب الشرطي بهذا النحو ، لتمّ ما إدّعاه العراقي ، ولكن مفاده الوجوب النفسي ، بحيث يكون هذا واجبا آخر وراء تلك الواجبات ، ويبقى الواجب الأول ، هو الصلاة على إطلاقه ، بحيث

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٥٢.

٣٩٣

لو لم يصلّ فورا ، فصلاته أيضا صحيحة وتقع خيرا ، ولكن يفوته واجب آخر ، وهو واجب الفورية ، وهذا ليس منافيا لظاهر الخطاب.

اللهم إلّا أن يقال ، إنّ نظر العراقي إلى أن ظاهر الخطاب ، هو مجموع ما أمر به ، الشارع وهذا يعني أنّ مجموع ما أمر به بالإمكان أن يسارع فيه وأن يتراخى فيه ، فلو فرض أنّ نفس الإسراع ممّا أمر به الشارع ، إذن فيختل هذا الميزان لأنه يصبح ما أمر به مما لا يمكن المسارعة فيه ، ولكنّ هذا التكلّف غير صحيح ، إذ لا بدّ من فرض عدم نظر الآية إلى نفس الخير المجعول فيها ، فإنها ناظرة إلى الخيرات المجعولة من غير قبل نفسها وإلّا لوقع الإشكال على كل حال ، سواء كان هذا الخير وجوبيا ، أو استحبابيا ، إذن فهذا الوجه لا يرجع إلى محصّل.

الوجه الرابع : إنّ آية الاستباق ، ليست ظاهرة بالإلزام بالفورية ، لنكتة مادة الاستباق فإن الاستباق ليس بمعنى الإسراع ، بل بمعنى التسابق بين الأشخاص أنفسهم ، من قبيل ، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون ، بمعنى أنّ القرآن الكريم يجعل تنافسا بين المؤمنين ليتسابقوا في إحراز أكبر قدر ممكن من الخيرات كما وكيفا وزمانا.

ومن الواضح أن هذه المسابقة العامة ، ليست إلّا مجرد ترغيب في الإكثار من فعل الطاعات ، والتقليل من الشرور ، وإلّا ليس هناك وجوب شرعي متعلق بعنوان المسابقة ، بحيث أنّ هذا يسبق ذاك ، وإلّا لا يكون ذلك قابلا للاستباق فيما لو صلّى الجميع في أول الوقت لأنه لم يسبق أحد أحدا.

فمادة الاستباق بنفسها قرينة عرفية على أنّ الأمر أمر تشريعي ، وليس إلزاما شرعيا ، وإن توهم بأنّ الاستباق بمعنى الإسراع ، وإلّا فمعنى الاستباق المسابقة بين الأفراد أنفسهم. فهذه الآية لا تفيد المدّعى.

وأمّا آية المسارعة ، فهي إذا لم يستظهر من سياقها الإسراع التشريعي ، فلا بأس إذن من الالتزام بالوجوب ، وذلك بأن يقال ، بأنّ وجوب الإسراع إلى

٣٩٤

المغفرة معناه ، أن كل من عليه ذنب ، يجب عليه في أسرع وقت ، أن يحصل على مغفرة الله تعالى ، باعتبارها هي المحصّل الحقّاني المضمون ومن هنا قلنا بأن وجوب التوبة فوري وإن كان هناك محصلات أخرى للمغفرة ، لكن التوبة هي المحصّل العام للمغفرة فإذا أمكن أن يرجع عن ذنوبه ويعتمد ألّا يعود فقد حصلت المغفرة ، وإذا لم تتح له الفرصة وقام الدليل على شيء آخر يوجب المغفرة ، فيجب عليه الإتيان به.

فمحصل هذه الآية هو الوجوب الفوري للمغفرة ، أمّا بالتوبة أو ببدلها ، وهذا خارج عن محل الكلام ، فالآيتان لا تدلان على وجوب الفورية.

الجهة الثالثة :

وهي أنه لو قيل بدلالة الأمر على الفورية بأحد الوجوه المتقدمة ، يثبت لزوم الإتيان بالمادة فورا ، فإذا أتى المكلف بالمادة فورا فقد حصل الامتثال ، وأمّا إذا لم يأت بها فورا ، فهل يسقط الأمر رأسا بحيث لا يجب عليه بعد ذلك شيء أو أنه يبقى أصل الأمر بلا فورية ، أو يبقى الأمر مع الفورية ، بحيث كلّما تأخر في الامتثال بقي الخطاب يستدعيه فورا ففورا؟. احتمالات ثلاث ممكنة ثبوتا. ودليل الفورية ، هل يقتضي أحد هذه الاحتمالات أو أنه مجمل فيرجع إلى الأصول العملية؟.

والتحقيق ، أنه إذا كان مدرك الفورية هو دعوى أخذها قيدا في مدلول المادة ، بحيث أن قوله صلّ يرجع إلى قوله صلّ فورا فلا إشكال أن المتعين هو الاحتمال الأول والوجه في ذلك هو أن مفاد الهيئة طلب واحد أخذت الفورية قيدا في متعلقه ، بحيث أن نسبة الطلب إلى الفعل والفورية نسبة الوجوب إلى أجزاء متعلقه لا نسبة الوجوب إلى أفراد متعلقه ، إذن فيوجد واجب واحد مركب من الفعل والفورية ، والمفروض عدم الإتيان به خارجا ، وليس في الهيئة ما يقتضي إنشاء طلب آخر على طبيعي الفعل ، فيسقط الأمر رأسا.

وأما إذا كان مدرك الفورية ، هو البيان المتقدم في الجهة الأولى ، وهو

٣٩٥

أنّ الصيغة باعتبارها تحريكا تشريعيا يوازي التحريك التكويني ، فخواصه تنعكس على الصيغة ، ومن جملتها الفورية ، إذن فالمتعيّن ، الاحتمال الثالث ، وهو أنه إذا لم يأت فورا ، يبقى الأمر يستدعيه فورا ففورا ، لأن هذا هو مقتضى الموازنة بين الدفعين فإن التحريك التكويني إذا لم يؤثر أثره واستمر التحريك ، فلا محالة يستدعي بقاء الفورية فورا ففورا ، ولكن التحريك التكويني قد يتوقف برفع اليد عن المحرّك.

ومعنى هذا أنه إذا لم نستفد بالقرائن المكتنفة للخطاب بقاء الطلب أصلا واحتملنا سقوطه فالمتعين الاحتمال الأول.

نعم يمكن أن نثبت بقاء التحريك التشريعي بمقتضى إطلاق المادة ، حيث لا موجب لتقييدها ، فإذا أثبتنا التحريك التشريعي ، تبعه لوازمه من السرعة في التحريك فيتعين الاحتمال الثالث.

وأمّا إذا كان مدرك الفورية هو آية المسارعة والاستباق ، فلا إشكال في سقوط الاحتمال الأول ، وذلك لأن الفورية هنا لم تؤخذ قيدا في الأمر الأول ، وإنما أمر بها بأمر آخر ، وهذا الدليل الآخر ليس لسانه لسان الشرطية ، بل لسان جعل مستقل ، فيتحصل من خطاب («صلّ») مع خطاب «سارعوا واستبقوا» وجوبان أولهما وجوب الصلاة ، وثانيهما وجوب الفورية ، فإذا لم يأت بالصلاة فورا ، سقط الوجوب الثاني دون أصل وجوب الصلاة ، وإذا سقط الاحتمال الأول ، يدور الأمر بين الاحتمال الثاني والثالث ، وحينئذ يرجع إلى دليل الفورية المفترض وهو الآيتان وتوضيحه :

إنّ الإسراع إلى الخير ، هل ينحصر مصداقه بخصوص المبادرة المطلقة التي تتحقق بإيجاد الصلاة في أول وقتها؟.

أو أنّ الإسراع إلى الخير يتحقق بالمبادرة ، بمعنى الإتيان بفرد كان بالإمكان أن يستبدل بما بعده ، فكل من أتى بفرد وكان يمكن أن يتأخر مقدارا «ما» ، فقد سارع ، بحيث لو أتى بالفعل قبل انتهاء الوقت بساعة ، فيصدق عليه

٣٩٦

أنه سارع ، لأنه بإمكانه الانتظار والإتيان به قبل انتهاء الوقت مثلا بربع ساعة؟.

أو أن الإسراع يختلف مصداقه باختلاف الأحوال ، بحيث أنه في أول الوقت يكون مصداقه منحصرا بالفرد الأول ، فلو لم يأت يكون بعد هذا مصداقه منحصرا بالفرد الثاني ، فإن لم يأت فبالفرد الثالث فالإسراع له أفراد طولية متعددة ، بحيث أن فردية الثاني تتحقق في طول عدم الفرد الأول ، وهكذا فالإسراع في أول الوقت ليس له مصاديق متعددة ، بل الإسراع في كل زمان ينحصر بالإتيان بالفرد في ذلك الزمان؟.

هذه ثلاث احتمالات لمفهوم الإسراع يدور الكلام عليها.

فإن قلنا بالاحتمال الأول للإسراع إذن يتعين سقوط الفورية ، لأنه لو لم يأت بالصلاة في أول الوقت ، فأصل وجوب الصلاة باق بدليل «أقيموا الصلاة» ولا دليل على وجوب الإسراع ، لأنّ دليله هو «سارعوا» المفروض أن مفاده منحصر في الفرد الأول في أول الوقت ، وقد فات ، والفرد الثاني والثالث كلاهما ليس مسارعة ، فيبقى وجوب الصلاة بلا فورية ،

وإن قلنا بالاحتمال الثاني للإسراع ، فكلا الخطابين باق في حقه ، خطاب أقيموا الصلاة ، وخطاب سارعوا ، إذ بإمكانه أن يسارع ، لأن المفروض أن الإسراع لا ينحصر بالفرد الأول ، بل كل ما عدا الفرد الأخير يكون إسراعا.

وقد ذكر المحقق العراقي (١) «قده» ، أن كون الأمر باقيا فورا ففورا ساقط ، وذلك لأن مفهوم الإسراع ، إما أن يلتزم بأنّ مصداقه منحصر في الفرد الأول ، وإمّا أنّ له مصاديق عديدة بما قبل الأخير ، فإذا فرض مجموع المصاديق عشرة ، يكون للإسراع تسعة مصاديق ، فإذا قلنا بأن مصداقه منحصر في الفرد الأول من العشرة ، إذن فبعد عدم الإتيان بالفرد الأول يسقط خطاب

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٥٣.

٣٩٧

«سارعوا» ، وبعد سقوطه فأي موجب لأن يؤتى به فورا ففورا ، فيكون حال الفرد الثاني حال الفرد الثالث.

وإذا قلنا بأن للإسراع مصاديق عديدة بما قبل الأخير ، وهي هنا تسعة ، إذن فهذا يقتضي من أول الأمر عدم وجوب الفور أصلا ، بمعنى إمكان تأجيله إلى الثاني والثالث حتى التاسع ، مع أنه خلف المفروض ، فإن الكلام بناء على وجوب الفور.

إذن فلا يمكن أن نستفيد من الدليل احتمال بقاء الأمر بأصل الصلاة فورا ففورا ، بل يتعين احتمال بقاء الأمر بأصل الصلاة من دون فوريّة.

وإن قلنا بالاحتمال الثالث لمفهوم الإسراع ، وهو أن تكون مصداقية الفرد الثاني ، مترتبة على عدم وقوع الفرد الأول ، إذن فمقتضى القاعدة فيه ، الإتيان به فورا ففورا.

وما ذكره المحقق العراقي «قده» من بقاء أصل الأمر بالصلاة ، من دون فورية ، لنا عليه تعليقات.

التعليق الأول :

أنه بالإمكان تخريج الاحتمال الثالث ، وهو احتمال بقاء الأمر بأصل الصلاة فورا ففورا ببيان وحاصله.

إننا نختار الشق الثاني في كلامه ، وهو أنّ للإسراع أفراد عديدة بما قبل الأخير ، سواء كانت طولية أو عرضية ، ونقول بأنّ دليل وجوب المسارعة إلى الخير ، يتكفّل جعل هذا الوجوب بنحو القضية الحقيقية الانحلالية ، إذن فهناك خير مجعول في المرتبة الأولى ، وهو الصلاة بين الزوال والغروب ، وهذا الخير موضوع لوجوب المسارعة ، ووجوب المسارعة معناه أن يؤتى بما قبل الأخير.

ولنفرض أنّ هناك عشرة أفراد طولية ، فوجوب المسارعة يتحقق

٣٩٨

موضوعه ، وهو الخير ، فيحكم بوجوب الإتيان بما قبل العاشر ، أي بأحد التسعة ، لأنه خير ، والمسارعة المتحقق وجوبها خير أيضا ، إذن فتحقق موضوعا لوجوب آخر مجعول في نفس قضية المسارعة ، وهو أن هناك خيرا والمسارعة إليه تكون بالإتيان بما قبل التاسع ، أي بأحد الثمانية وبهذا يتولد خير ثالث ، وهنا الخير الثالث يقع موضوعا لوجوب المسارعة أيضا ، ووجوب المسارعة بالنسبة إليه معناه الإتيان بما قبل الثامن ، وهكذا حتى يصل إلى ما قبل الثاني ، فتنشأ عشرة وجوبات ، والوجوب الأول وجوب الصلاة المنشأ بأقيموا الصلاة ، وتسع وجوبات مجعولة في «سارعوا» ، وكل واحد حقق موضوعا لما يليه ، على ما هو الحال في حجية الخبر الواحد مع الوسائط ، وعلى هذا يتم استفادة كون الأمر باقيا ومقتضيا للإتيان بمتعلقه فورا ففورا حيث لو لم يأت بواحد إلى آخر العشرة ، يعصي عشرا وهذا معنى فورا ففورا.

التعليق الثاني :

أنه لو قطعنا النظر عن القضية الحقيقة المجعولة في دليل وجوب المسارعة ، وفرضناها غير ناظرة إلى نفسها ، بل إلى الخيرات الأخرى الثابتة من غيرها ، فلا يتم التعليق الأول ، ولكن نعلّق ثانيا وحاصله.

إن الخير ، عبارة عن كل فعل ، يكون إيجاده شرعا خيرا من تركه ، وإذا لاحظنا دليل أقيموا الصلاة ، وقطعنا النظر عن آية المسارعة ، وفرضنا أن المسارعة لها عشرة أفراد مترتبة من الزوال إلى الغروب ، ففي أول الزوال الخير عبارة عن الجامع بين العشرة ، لأن إيجاده أفضل من تركه ، بدليل أقيموا الصلاة ، إذن فيصدق على الجامع بأنه خير ، ولكن في أول الزوال ، لو لاحظنا التسعة الأخرى غير الفرد الأول ، فلا يكون إتيانها خيرا من عدمها ، إذ قد يكون عدمها توأما مع عدم الفرد الأول ، وإنّما ما يكون إتيانه خيرا من عدمه هو الجامع بين العشرة وأمّا الجامع بين التسعة من الثاني إلى العاشر فليس إتيانه خيرا من عدمه فلعلّ عدمه يكون بالإتيان بالفرد الأول ، فلا يكون هذا العدم مرجوحا ، إذن فما هو مصداق للخير في أدلة الشريعة ، إنما هو الجامع

٣٩٩

بين العشرة ، فيشمله «استبقوا الخيرات» وهنا يتحقق الإسراع إلى الخير.

ولو اخترنا الشق الأول ، من كلام العراقي ، وهو أنّ الإسراع له فرد واحد ينطبق عليه الخير ، إذن سوف يكون الفرد الأول ، الذي هو الجامع بين العشرة ، واجبا ، لغرض أن المكلف لو لم يأت بالفرد الأول لعصى ، لكن بعد أن خرج وقت الفرد الأول ، ينطبق على الجامع بين التسعة الباقية أنها خير ، بدليل أقيموا الصلاة ، لا بدليل المسارعة ، ودليل المسارعة يقول سارع إلى هذا الخير ، وقد فرض أن الإسراع إليه ينطبق على الفرد الأول من التسعة ، فلو عصى المكلف أيضا ففي طول تعذّر هذا الفرد ، يصبح الجامع بين الثمانية خيرا ، بدليل أقيموا الصلاة ، فيأتي خطاب المسارعة ويأمر بهذا الجامع ، وهكذا يجري الكلام إلى التاسع ، ويأتي الأمر بالإتيان به فورا ففورا.

إذن لو فرضنا أن آية المسارعة ناظرة إلى الخيرات المجعولة في بقية الأدلة ، فإننا نتصور بخطاب «أقيموا الصلاة» خيرات متعددة ، بحيث أن كل خير تتولد خيريّته من تعذر الخير السابق ، فلو قلنا إن للإسراع فردا واحدا فقط يتم التعليق الثاني.

التعليق الثالث :

لو اخترنا الشق الثاني من كلام المحقق العراقي وأنّ الإسراع له أفراد متعددة بما قبل الأخير ، نجيب بلا حاجة إلى ما قلناه في التعليق الأول ، من كون القضية حقيقية ، بل حتى لو قلنا أن خطاب «سارعوا» لا يشمل نفسه ، فإننا نقول :

إن الأفراد المتعددة للإسراع ، إن كانت مصداقيتها عرضية ومتكافئة لتمّ إشكال العراقي ، ولكن يمكن دعوى أن هذه الأفراد مصداقيتها ليست متكافئة ومتواطئة ، بل مشكّكة بمعنى أنّ مصداقية الفرد الثاني في طول تعذر الفرد الأول ، فإن الإتيان بالصلاة بعد ثلاث ساعات من الزوال ، إنما يكون إسراعا في طول تعذر الأفراد السابقة ، لا أنه من أول الأمر يكون إسراعا في عرض

٤٠٠