بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

والتعدد في باب الإخبار وفي باب الإنشاء.

وأمّا الإخبار والإنشاء مع المتعلّق ، فلم يتشكل منهما قضية شرطية حتى يكون الجزاء تابعا في فعليته لفعلية المتعلق الذي هو الشرط ، بل فعليّته فعليّة آنيّة ، كانت حين عقد القضية الحملية ، واستكمل فعليته ، ولا دليل على وجود فعليّات متعددة.

فالضابط في الإخبار والإنشاء واحد ، وهو أنّه متى ما أمكن بحسب الفهم العرفي في الخطاب ، تحصيل قضيّة شرطية يكون الموضوع شرطا لها ، ويكون الإخبار أو الإنشاء جزاء لها ، فحينئذ ، يتعدّد الجزاء بتعدد الشرط ، لأنّ كل قضية شرطية جزاؤها له فعلية تابعة لفعلية شرطه ، فإذا تعددت فعليّة الشرط تعددت فعلية الجزاء لا محالة.

وأمّا إذا لم يمكن تشكيل هذه القضية الشرطية كما هو الحال بالنسبة إلى المتعلق في الإخبار والإنشاء لا بلحاظ الموضوع ، حيث لا يمكن تشكيل قضية شرطية بلحاظ المتعلق ، فلا تتعدّد فعليّة الحكم بتعدد المتعلق ، لأنه لا يكون للإخبار أو للإنشاء بالنسبة إلى المتعلق فعليّة تابعة لفعليته حتى يتعدد بتعدد فعليته ، لأنّ هذا المطلب من لوازم الجزاء والشرط ، ولكن هنا له فعلية أنشئت بنفس القضية الحملية ، ولا دليل في هذه القضية الحملية على التعدد في فعليته.

وبهذا يتضح أن قاعدة التمييز بين الموضوعات والمتعلّقات ، كما تجري في الجمل الإنشائية ، تجري في الجمل الخبرية ، وكذلك ما ذكرناه في الفرق بين الأمر والنهي حال الامتثال ، يأتي حال الإخبار إثباتا والإخبار نفيا. فإنه حينما يخبر إثباتا ويقول ، «العالم موجود» ، فلا يدل على أكثر من وجود فرد من «العالم» ، وحينما يقول ، العالم غير موجود ، يدل على انتفاء تمام أفراد الطبيعة.

٣٦١

الأمر الخامس :

هو أنه إذا كان مقتضى القاعدة المنضبطة ، التعدد بالنسبة إلى الموضوع وعدم التعدد بالنسبة إلى المتعلق ، فإن هذا لا يجري في كل موضوع وفي كل متعلق كيفما اتفق ، بل ما يكون موضوعا للقضية فإن متعلق المتعلق قد لا يكون موضوعا للقضية.

فإذا قال ، أكرم العالم في المسجد ، فهنا متعلق ، وهو «الإكرام» ، وموضوع ، وهو «العالم» ، وشيء ثالث وهو المسجد ، ونسمّيه أيضا بمتعلق المتعلّق ، باعتبار أن «الإكرام» ، له نحو تعلق بالمسجد.

وما ذكرناه ، بأنّ مقتضى القاعدة ، هو التعدّد في طرف متعلّق المتعلق ، أي «الموضوع» ، نريد بالموضوع ما كان من قبيل «العالم» لا ما كان من قبيل «المسجد» من المتعلقات والملابسات ، ولهذا لو قال ، «اغسل بالماء» فإنه لا يستفاد من ذلك وجوب الغسل بكل ماء ، كما يستفاد الانحلال على كل «عالم» في قوله ، «أكرم العالم» فالماء والعالم وإن كان كل منهما متعلقا للمتعلق لكن رغم هذا ، الانحلال في العالم يتعدّد ، دون الماء وأفراده.

ونكتة الفرق بينهما ، تتضح ممّا تقدم من الفرق بين الموضوعات والمتعلقات ، إذ ذكرنا إنّ القضية بلحاظ الموضوع ، تنحل إلى قضية شرطية يؤخذ فيها الموضوع شرطا ومقدّر الوجود ومفروغا عنه ، ولهذا لا يستفاد من خطاب «أكرم العالم» ، أنه لو لم يوجد عالم ، فيجب خلقه وإيجاده وبالتالي إكرامه ، لأن هذا الخطاب ، مفاده عرفا قضية شرطية ، أخذ فيها «العالم» مفروغا عنه ، وهذا هو الذي أوجب تعدّد الحكم بتعدد «العالم» ، لأنّ الجزاء في فعليته تابع لفعلية الشرط ، فإذا وجد للشرط فعليّات متعددة في الخارج ، فلا محالة يكون الجزاء تابعا له ومتكثرا أيضا.

وهذه النكتة إنما تأتي في الموضوع الحقيقي للقضية الحملية ، من قبيل «العالم» في «أكرم العالم» ، لا من قبيل الماء في «اغسل بالماء» لأنه لا يفهم

٣٦٢

منها أن الماء أخذ مفروغا عنه لذلك فلا تنحل إلى قضية شرطية ، شرطها الماء ، وهي «إذا وجد الماء فاغسل به» ، ولذلك لو فرض انعدام الماء مع إمكان توليده ، فلا يقتضي أن نولّد الماء حتى نغسل به.

وبعبارة أخرى ، أنّ الماء مقدمة وجود لا مقدمة وجوب ، إذن فلا ينحل هذا الخطاب إلى قضية شرطية بلحاظ الماء.

وصفوة القول ، أنّ الانحلال والتعدد في طرف الموضوع ، إنّما هو من شئون القضية الشرطية ، ومن شئون كون الحكم نسبته إلى الموضوع نسبة الجزاء إلى الشرط ، وهذا إنما يكون مع الموضوع الرئيسي في القضية الحملية ، لا مع كل متعلّق المتعلق ، من قبيل «الماء» في خطاب «اغسل بالماء» ، ولهذا كان العرف مطابقا مع النكتة ، لأنّ العرف لا يفهم الانحلال في «الماء» في مثل هذا الخطاب كما يفهمه في «العالم» في «أكرم العالم».

الأمر السادس :

هو أنه رغم أننا ذكرنا أن الأمر والنهي غير متعدّدين بلحاظ متعلقيهما بمقتضى القاعدة إلا إذ وجدت قرينة على خلاف القاعدة ، كما ذكرنا أنه رغم هذا ، يوجد فرق آخر في حدود اقتضائهما في عالم الامتثال فالأمر يكفي في امتثاله فرد واحد ، والثاني لا يمتثل إلّا بإعدام تمام أفراده. وقد تقدم أن هذا مطلب آخر غير مسألة وحدة الحكم ، فإن الحكم واحد فيهما وإنما الفرق بلحاظ سنخ الامتثال ، فالأمر ايجاد للطبيعة والنهي إعدام لها وقد اعتقد جماعة من المتأخرين أن هذا المطلب مبني على مسألة فلسفية غير صحيحة ، إذن فهو غير صحيح ، فإنه لا يتعقل أن وجود الطبيعة يكفي فيه فرد ، فلو قال «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» ففي الأمر ، بلحاظ المتعلّق يوجد وجوب واحد وبلحاظ الموضوع يوجد وجوبات متعددة بتعدد العلماء وفي النهي بلحاظ المتعلق وهو الإكرام ، فإن مقتضى طبع القضية لو لم يكن هناك نكتة أخرى ، هو أن يوجد تحريم واحد لا تحريمات متعددة ، وبلحاظ الموضوع ، وهو الفاسق يوجد تحريمات متعددة ، فكل فاسق له حرمة خاصة به ، لكن ليس لكل

٣٦٣

فاسق تحريمات متعددة ، بل حرمة واحدة ، فلو عصى وأكرمه مرة ، تسقط هذه الحرمة ، ولا تبقى حرمة أخرى متعلقه به ، إذن فالأمر والنهي متفقان في المتعلّقات والموضوعات.

وأمّا جهة الاختلاف ، فهي في مقام الامتثال ، فبعد وجود وجوب واحد وتحريم واحد ، فإن الوجوب في مقام امتثاله ، يكتفى بالإتيان بفرد واحد ، لأنّ الطبيعة توجد بوجود أحد أفرادها ، وأمّا التحريم الواحد ، فلا يكتفى في مقام امتثاله ، إلّا بترك جميع أفراد الطبيعة ، لأنّ الطبيعة لا تعدم إلّا بانعدام جميع أفرادها ، وهذا الفرق غير مربوط بباب دلالة اللفظ ، ولا بباب مقدمات الحكمة ، وإنّما هو مربوط بحقيقة أن الوجوب إيجاد والتحريم إعدام ، وأن الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ، ولا تنعدم إلّا بانعدام تمام الأفراد.

الأمر السابع :

قلنا ، أن مقتضى القاعدة ، سواء في باب الأمر أو النهي ، هو التعدّد بلحاظ الموضوع ، وعدمه بلحاظ المتعلق ، ما لم تقم قرينة على خلافها ، فإذا كان في الخطاب قرينة على التعدّد بلحاظ المتعلّق ، أو عدمه بلحاظ الموضوع ، أخذ بها ، وكانت حاكمة على القاعدة ، ولتوضيح هذه القرينة الحاكمة ، نذكر نموذجين لها :

النموذج الأول : إن كان مقتضى القاعدة ، التعدد بلحاظ الموضوع ، فتوجد قرينة تمنع من التعدد بلحاظ الموضوع ، وتقتضي الوحدة بلحاظه.

النموذج الثاني : إن كان مقتضى القاعدة ، الوحدة بلحاظ المتعلّق ، فتوجد قرينة تقتضي التعدد بلحاظ المتعلق.

ففي النموذج الأول ، لو قال المولى ، «أكرم عالما» ، فإنّ مقتضى القاعدة هو تعدّد الحكم بلحاظ الموضوع ، لكن بدخول التنوين على الموضوع ، استفيد منه قيد الوحدة ، وبعد أخذ هذا القيد في طبيعة «العالم» ، يستحيل أن يتكثّر تطبيقه في الخارج ، وبتبعه يستحيل تعدد الحكم.

٣٦٤

وفي النموذج الثاني ، مقتضى القاعدة عدم التعدد ، كما هو الحال في النواهي بالنسبة إلى متعلقاتها ، فإنّ النهي كالأمر لا يقتضي التعدد بلحاظ المتعلق ، فلو قال ، «لا تكذب» فإنّ هذا النهي لا يتكفل إلّا زجرا واحدا وتحريما واحدا ، ولكن امتثال هذا التحريم الواحد يكون باجتناب تمام أفراده حتى تنعدم طبيعته ، فلو أتى بفرد واحد ، يسقط هذا التحريم بالعصيان ، ولا موجب لافتراض تحريمات متعددة بعدد الأفراد خارجا ، ولكن هناك قرينة عرفيّة ، مفادها أن المولى لاحظ التعدد في جانب المتعلّق ، فيصبح النهي انحلاليا متعددا بلحاظ متعلّقه أيضا ، وهذه القرينة ، واحد ، وانعدامها لا يكفي فيه إلّا انعدام تمام الأفراد ، إذ أنّ هذا المطلب خلف التقابل بين الوجود والعدم. ولنبدأ أولا بتوضيح الاعتراض ثم يليه توضيح الجواب.

وتوضيح هذا الاعتراض ، يكفيه إجمالا أن نشير إلى البحث الفلسفي الذي ادّعوا أن هذا المطلب مبني عليه.

وشرح هذا البحث الفلسفي ، هو أنه قد وقع الكلام في وجود الكلي الطبيعي في الخارج ، وعدم وجوده ، وقد عقدوا في هذا البحث مسألتين :

المسألة الأولى : هي أنه وقع الكلام ، في أنّ الكلي الطبيعي ، هل هو موجود في الخارج ، أو هو أمر ذهني غير موجود في الخارج؟

وقد ذهب مشهور الحكماء المتقدمين إلى وجود الكلي الطبيعي في الخارج ، واستدلوا على ذلك.

بأن الأفراد ، كزيد وعمرو ، موجودة في الخارج يقينا ، والإنسان مثلا ، الذي هو الكلي الطبيعي ، هو عين هذه الأفراد ، ولهذا يصح أن يحمل عليها بالحمل الشائع الذي ملاكه الهوهويّة والعينيّة ، فيقال ، زيد إنسان ، إذن فالكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود هذا الفرد في الخارج ، لأنّ الكلي الطبيعي هو عين الفرد ، وما عينه موجودة في الخارج ، موجود في الخارج.

وبتعبير آخر ، أنّ الفرد مشتمل على الكلي الطبيعي مع خصوصية

٣٦٥

الفردية ، والفرد موجود في الخارج ، فالمشتمل عليه موجود في الخارج إذن فالكلي الطبيعي موجود في الخارج.

المسألة الثانية : هي أنه بعد التسليم بوجود الكلي الطبيعي في الخارج ، وقع النزاع في تشخيصه في أنه ما هو ، كيف وجوده ونحو وجوده في الخارج.

وهذا النزاع حكاه الشيخ الرئيس (١) ، بينه وبين زميله الهمداني ، فالهمداني يرى أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود واحد عددي ، بحيث أن وجوده يتميّز عن الوجودات الشخصية ، بالسعة والشمول ونحوه ، وهو وجود واحد عددي.

وابن سينا وبقية الحكماء ، يروا أنّ الكلي الطبيعي له آلاف الوجودات في ضمن آلاف الأفراد فليس هناك وجود واحد عددي يشار إليه بأبي الإنسانية ، والمتسع لكلّي الإنسانية ، بل كلّي الإنسانية ، موجود بوجودات كثيرة ضمن أفراد كثيرة.

ولهذا قالوا أولا ، بأن نسبة الكلي الهمداني إلى أفراده ، نسبة الأب إلى أبنائه ، وقالوا ثانيا ، بأنّ نسبة الكلي الطبيعي عند ابن سينا ، إلى أفراده ، نسبة الآباء إلى لأبناء ، فكل فرد بلحاظ كونه فردا هو بمثابة الابن وبلحاظ اشتماله على حصة من الطبيعي كأنه الأب.

وعلى هذا ، إن قيل بأن الطبيعة تنوجد بفرد واحد ، ولا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، فهذا القول يتناسب مع قول الهمداني في المسألة الثانية من البحث ، لأنّ الكلي الطبيعي له وجود واحد عددي ، ونسبته إلى الأفراد نسبة الأب إلى أبنائه ، فعلى هذا يصح أن يقال بأن وجود الطبيعة يكفي فيه أيّ فرد من أفرادها لوضوح أن الكلي الطبيعي عين الفرد ، فوجود الفرد وجود له ، ولكن لا ينعدم إلّا إذا انعدمت سائر الأفراد ، إذ ما دام يوجد فرد لهذا الكلي

__________________

(١) النجاة : ابن سينا ص ٢١.

٣٦٦

الطبيعي فهو موجود ولا يموت إلّا إذا مات تمام أبنائه.

وأمّا بناء على قول ابن سينا وغيره من الحكماء ، وهو أنّ الكلي الطبيعي له آلاف الوجودات في ضمن آلاف الأفراد إذن فالكلي الطبيعي له وجودات متعددة ، ويقابل كل وجود عدم ، فله إعدامات متعددة ، فكما أن الفرد الواحد يحقق وجودا للطبيعة ، كذلك كل عدم يحقق عدما للطبيعة ، إذن فلا يتصور أن جانب الوجود يكفي فيه فرد واحد وجانب العدم لا يكفي فيه ذلك.

وما قلناه ، من أنّ جانب الوجود يكفيه فرد واحد ، وجانب العدم لا يكفيه ذلك ، مبني على مقالة الهمداني ، وهي باطلة ، فما قلناه باطل ، لأن ما بني على الباطل ، باطل.

والجواب ، هو أنّ هذا الاعتراض ، نشأ من الخلط بين عالم الوجود الخارجي ، وعالم المفاهيم ، وبتعبير آخر ، نشأ من الخلط بين التناقض الفلسفي في عالم الوجود الخارجي ، وبين التناقض المنطقي في عالم المفاهيم.

وتوضيح ذلك هو أنّ هذا النزاع فيما بينهم ، كان ناظرا إلى عالم الوجود الخارجي ، لأنهم كانوا قد اتفقوا على وجود أصل الكلي الطبيعي ، ثم تنازعوا في كيفية وجوده وبنحو وجوده وتشخيصه في الخارج ، وهذا أجنبي عن مطلبنا ، لأنّ المولى عند ما يأمر وينهى ، لا يلقي الأمر والنهي على الخارج مباشرة وبدون توسيط المرايا الكاشفة ، وإلّا لما وجدت الطبيعة التي لا تنعدم إلّا بانعدام تمام أفرادها ، والتي تنوجد بفرد واحد ، لأنّها لا توجد هذه الطبيعة في الخارج ، بل الموجود في الخارج ، هو زيد وبكر ، وزيد في مقابله عدم مخصوص وهو عدم نفسه ، إلّا إذا صدق ظنّ الهمداني الكلي الطبيعي في الخارج ، فيعلّق المولى عليه أمره ونهيه.

ولكن من الواضح ، أنّ المولى لا يلقي الأمر والنهي على الطبيعة لاستحالة وقوعهما على الوجود الخارجي لأن الأمر والنهي من شئون عالم

٣٦٧

النفس ، عالم نفس المكلّف فهما يتعلقان بمفهوم حاضر في أفق نفس المولى بما هو حاك عن الخارج ومرآة للخارج لا بما هو هو ، فالأمر والنهي يقعان على مفاهيم الوجود والعدم «إكرام ولا إكرام» ، مفاهيم الوجود والعدم بما هي مفاهيم مرآتية وحاكية عن الخارج.

فإذا اتضح أن أوامر المولى ونواهيه إنما تنصبّ على المفاهيم العنوانية على الصلاة العنوانية والإكرام العنواني يتضح أن الكلي الطبيعي كلي طبيعي همداني في عالم عقد القضايا والمرايا ، فكلامه صحيح ، لو كان ناظرا إلى عالم أفق نفس المولى وعالم المفاهيم المرآتية ، وحيث أن هذه المفاهيم حاكية عن الوجود الخارجي ، فإذا وجد بإزائها شيء «ما» في الخارج ، إذن فهذا المفهوم موجود وإذا لم يوجد شيء «ما» في الخارج ، فهو معدوم لا محالة. ولا ربط لمطلبنا بهذا النزاع أصلا ، فإنهم تكلموا كحكماء فلاسفة ناظرين إلى عالم الخارج ، يريدون تحديد شخصية الكلي الطبيعي ، أهو عددي ، أو ليس بعددي ، ولم يكن نظرهم إلى الوجود العنواني المرآتي في أفق نفس المولى الحاكي عن عالم عقد القضايا ، وجعل الأمر والنهي في أفق نفس المولى. فالصحيح أن هذا المطلب الذي قلنا به لا محيص عنه.

٣٦٨

الأمر الثامن

تعدد الامتثال أو تبديله

هو أنّه اتضح بمقتضى القاعدة المنضبطة ، عدم تعدد الأمر بلحاظ المتعلّق ، ففي قوله ، «صلّ» ، يوجد أمر واحد متعلّق بالطبيعة ، وحيث أنها توجد بفرد من أفرادها ، فيحصل امتثالها بفرد واحد ، إلّا أنه كما يحصل امتثال الطبيعة المأمور بها بفرد واحد من أفرادها ، يحصل بمجموع الفردين العرضيّين ، فلو قال «تصدّق» ، وتصدّق بصدقتين في وقت واحد ، فالامتثال هنا حصل بمجموع الفردين العرضيّين.

وذلك لأنّ الطبيعة ، لم يؤخذ فيها قيد الوحدة ، ولذلك فهي كما تنطبق على الوجود الواحد ، تنطبق على الوجود المتعدّد ، إذن فيحصل الامتثال بالفردين معا في عرض واحد.

وأمّا الأفراد الطولية «الصدقة تلوى الصدقة» فهل هي كالأفراد العرضية مخيّر فيها ، بين الامتثال بالفرد الواحد ، والفردين ، لانطباق الطبيعة كذلك ، على الفردين الطوليين كانطباقها على الفردين العرضيّين ، ولعدم تقييد الطبيعة بالفرد في مقابل الأفراد ، كذلك لم تقيّد بالدفعة في مقابل الدفعات ، وذلك تمسكا بإطلاقها.

إذن فتنطبق الطبيعة على الأفراد الطولية التي هي الدفعة والدفعات ، كما تنطبق على الفرد والأفراد التي هي أفراد عرضية؟.

٣٦٩

الصحيح استحالة ذلك ، بمعنى أنّه ليس كما أن الفردين العرضيّين يكونان طرفا للتخيير ، يكون الفردان الطوليان طرفا للتخيير ، ومعنى عدم كونهما طرفا للتخيير ، هو أنّ الواجب لا ينطبق على مجموع الفردين الطوليين ، وإن انطبق على مجموع الفردين العرضيّين ، وذلك لأنّ التخيير بين الفردين الطوليين ، غير متصوّر.

وتوضيح ذلك ، أنّ التخيير إمّا عقلي ، وإمّا شرعي.

والتخيير العقلي مرجعه إلى تعلّق الوجوب بالجامع ، بحيث يكون الوجوب متعلّقا بذات الطبيعة ، فيحكم العقل بأنّ المكلف مخيّر في تطبيق الطبيعة ، والتخيير العقلي ، معقول بالنسبة إلى الفردين العرضيّين ، لأنّ مطلوب المولى هو الطبيعة التي لم يؤخذ فيها قيد الوحدة ولا الاثنينية ، فالواجب إذن ينطبق عليهما معا وعلى أحدهما فقط ، لأن الواجب أخذ لا بشرط من حيث الوحدة والتعدد ، فكما ينطبق على الواحد ينطبق على الاثنين ، ولكن بلحاظ الفردين الطوليين ، العقل لا يحكم بذلك ، فلا يحكم بإمكان الامتثال مثلا بدفعة واحدة وبدفعتين متتاليتين ، وذلك لأنّه بالدفعة الأولى ، حصل الامتثال وسقط الأمر ، ومعه لا تكون الدفعة الثانية دخيلة في الامتثال.

إذن فيستحيل عدليّة الدفعتين للدفعة في الأفراد الطولية ، وليس منشأ هذه الاستحالة ضيق دائرة الواجب ، بل منشؤها ضيق دائرة الوجوب ، وذلك لأنّ الواجب هو الطبيعة ، ولم يؤخذ فيها أيّ قيد لا الدفعة ولا الدفعتين ولا الفرد ولا الفردين ، والوجوب استحال بقاؤه بعد الدفعة الأولى ، إذ سقط الأمر والوجوب بالإتيان بالدفعة الأولى ، هذه هي استحالة التخيير العقلي في الأفراد الطولية.

وأما البدلية في التخيير الشرعي كما تصوره صاحب الكفاية في التخيير بين الأقل والأكثر ، فهو أمر معقول ، إذ مرجع ذلك إلى أن المولى يخيّر العبد بين الدفعة الأولى بشرط لا من حيث الثانية ، وبين الدفعتين معا ، بحيث يكون

٣٧٠

كل من الخصوصيتين داخلا في الخطاب ، فيقول مثلا ، إمّا أن تأتي بدفعة أولى بشرط لا ، وإمّا تأتي بدفعتين كما قد يقال في التسبيحات ، أن التخيير بين التسبيحة الواحدة بشرط لا من حيث الثانية ، أو بتسبيحة واحدة ولكن بشرط شيء من حيث ضم تسبيحتين أخريتين إليها.

ولكن مع هذا فإن نفس إطلاق خطاب «سبّح» وخطاب «تصدّق» لا يفي بما عقلناه ، بل يحتاج إلى لسان مخصوص يفي به ، لأنّ خطاب «تصدّق» لا يفهم منه أخذ التصدق الواحد بشرط لا ، وأخذه مرة أخرى بشرط شيء.

إذن فما هو معقول من التخيير بين الأقل والأكثر الطوليين يحتاج إلى دليل ولسان خاص يفي به لأنه لا يفي به الخطاب ، ولكن ما يفي به الخطاب وهو التخيير العقلي ، فقد عرفت بأنه يتصوّر بين الفردين العرضيين دون الطوليين ، إذن فالواجب لا ينبسط على الفردين الطوليين كما انبسط على الفردين العرضيين ، ومن هنا يأتي سؤال وهو أنه هل يمكن تبديل الامتثال في الأفراد الطولية أو لا يمكن؟.

٣٧١

تبديل الامتثال بالامتثال

هل يمكن تبديل الامتثال في الأفراد الطولية أو لا يمكن؟. بمعنى أنه هل يمكن أن يمتثل عوضا عن الفرد الأول بالفرد الثاني أو لا يمكن ذلك؟.

وقبل الدخول في تحقيق المطلب ، نشير إلى فرض خارج عن محل النزاع ، وهو ما إذا كان الواجب مشروطا على نحو الشرط المتأخر ، وأخلّ المكلف بذلك الشرط ، فإنه في مثل ذلك ، لا إشكال في صحة تبديل الامتثال ، لأنه لا يكون من باب تبديل الامتثال ، بل من باب هدم الامتثال الأول وإخراجه عن كونه امتثالا ، كما لو قال المولى لعبده ، «جئني بماء وضعه في الغرفة حتى آتي» والمكلّف جاء بالماء ، ولكن لم يبقه في الغرفة ، بل أراقه.

فهنا ليس غرض المولى مجرد حضور الماء ، بل حضوره مع شرط بقائه حتى يجيء ، والمفروض أن العبد أخلّ بهذا الشرط فأراقه ، وجعل ماء آخر مكانه ، ومثل هذا ليس داخلا في محل النزاع ، بل هو إلغاء للفرد الأول ، وكاشف عن أن الأول لم يكن امتثالا ، لأنّ امتثالية الأول مشروطة بالإبقاء ، والمفروض أن العبد هدم هذا الإبقاء ، بالإراقة ، فلا يكون الأول امتثالا ، بل الثاني هو الامتثال.

٣٧٢

وقد فصّل صاحب الكفاية (١) (قده) في جواز تبديل الامتثال بعد الامتثال بما حاصله ، أنه تارة ، تكون نسبة الغرض من الأمر إلى متعلق الأمر ، نسبة المعلول إلى العلة ، إذن فبمجرد الإتيان بمتعلق الأمر يحصل الغرض لا محالة ، ومع حصوله يسقط الأمر ومع سقوطه لا معنى لتبديل الامتثال إذ لم يبقى أمر حتى يمتثل ، وأخرى تكون نسبة الغرض إلى متعلق الأمر ، نسبة المتقضى إلى المقتضي أو المعد إلى المقدمة الإعدادية ، كمن يأمر عبده بإحضار الماء ليطفئ عطشه ، فبعد إحضار الماء ، وهو متعلق الأمر ، لا يحصل الغرض ، بل قد يكون متوقفا على ضمائم أخرى كإمساك المولى للقدح بيده ، وهذا شيء يخص المولى ، فالغرض لا يزال باقيا ، والأمر لا يسقط وعلى هذا فيمكن تبديل الامتثال من جديد.

واعترض عليه المحقق الأصفهاني (٢) والسيد الخوئي (٣) وغيرهما ، بأنّ هذا التفصيل غير معقول في باب الغرض.

وبيان ذلك ، أنّ الغرض في مثل الأمر بإحضار الماء ، لا بدّ وأن يستوفى بالإتيان بمتعلق الأمر ، وهو إحضار الماء ، بحيث تكون نسبة الغرض إلى الإحضار ، نسبة المعلول إلى العلة ، وإلّا ، إذا لم يستوف الغرض بحصول متعلق الأمر ، فلا يكون هذا المتعلق هو الغرض الداعي إلى الأمر.

وأمّا ما يرى في المثال ، من عدم سقوط الغرض بمجرد إحضار الماء ، لأنه يحتاج إلى ضمائم أخرى نفسيّة تختص بالمولى ، فإنّ مثل هذا ، حصل من الخلط بين الغرض الأدنى والغرض الأقصى ، فإنّ الغرض الأقصى هو رفع العطش ، والغرض الأدنى هو التمكّن من دفع العطش بلا زحمة والأمر نشأ من الغرض الأدنى وهذا التمكن من رفع العطش بلا مئونة ، ومن الواضح ، أنّه

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ١ ص ٢٢٠.

(٣) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٣٧٣

بمجرد إحضار الماء يسقط الغرض ، إذ يتمكّن المولى من دفع عطشه بلا مئونة ، وهذا التمكّن معلول لإحضار الماء ، وعليه فلا تنخرم القاعدة القائلة ، بأنّ الغرض الذي من أجله أنشئ الأمر ، لا يستوفى إلّا بحصول متعلّق الأمر ، ومتعلّق الأمر هنا حصل ، وهو «التمكن» ، لأنّ الغرض الحقيقي من الأمر إنما هو الغرض الأدنى وهو التمكن من دفع العطش ، وأمّا الغرض الأقصى فهو مربوط بالمولى لا بالعبد ، وعليه فلا يمكن تبديل الامتثال بالامتثال.

وما ذكره صاحب الكفاية مع المعارضة ، لا يمكن المساعدة عليه.

فالصحيح أنّه لا يمكن تبديل الامتثال بالامتثال وفاقا للمعارضة وخلافا لصاحب الكفاية ، وأنّه ليس دائما ، يجب أن تكون نسبة الغرض إلى متعلق الأمر ، نسبة المعلول إلى العلة ، بل قد لا تكون كذلك ، وفاقا لصاحب الكفاية ، وخلافا للمعارضة ، إذن فلنا كلام مع صاحب الكفاية ، وكلام مع المعارضة.

أمّا الكلام مع صاحب الكفاية ، فهو أنّنا ، نوافق على أنّه ، تارة يكون نسبة الغرض إلى متعلق الأمر ، نسبة المعلول إلى العلة ، وأخرى نسبة المقتضى إلى المقتضي ، لكن في كلتا الحالتين ، إذا فرض أن المكلّف أتى بتمام ما تعلّق به الأمر ، فيستحيل تبديل الامتثال بالامتثال.

وما ذكره صاحب الكفاية ، من إمكان تبديل الامتثال بالامتثال ، عند ما تكون نسبة الغرض إلى المتعلق نسبة المقتضى إلى المقتضي ، مبني على الاعتقاد ، بأنّ الأمر يبقى ببقاء غرضه.

وقد سبق في بحث التعبدي والتوصلي ، أن ذكر كذلك ، من أنّ الأمر المتعلق بذات الصلاة لا يسقط بالإتيان بذات الصلاة ، لأنّ الغرض منه غرض تعبّدي ، فلا يسقط إلّا إذا أتى بها بقصد القربة.

ومبناه هذا ، وهو أنّ الأمر تابع في سقوطه لسقوط غرضه ، قد أشكلنا

٣٧٤

عليه هناك ، بأنّ الأمر ليس تابعا في سقوطه لاستيفاء غرضه ، بل هو تابع لإمكان تحريكه وفاعليته.

ومن المعلوم أن الأمر إذا كان متعلقا بصرف وجود الطبيعة ، وانطبق صرف الوجود على الوجود الأول ، فبقاء الغرض وعدم سقوطه هنا خلق تعلّق الأمر بصرف وجود الطبيعة ، إذ بعد حصوله ، فطلبه ثانيا يكون تحصيلا للحاصل.

لأنّ الأمر ، إذا كان متعلقا بصرف الوجود وانطبق على ما أتي به أولا بحيث تحدّد متعلّقه ، إذن فقد حصل الغرض بحصول المتعلق.

وإذا كان الأمر قد أخذ في متعلّقه فرد آخر ، كأن يقول ، آتني بفرد آخر ، فلا بدّ من سقوط الأمر الأول ، لأنّه تابع لجعله ، ثم بعده يأتي أمر آخر ، وما دام الأمر الأول تابعا لجعله ، وقد جعل على صرف الوجود ، إذن فلا تتغير أطرافه ، إذن فالأمر لا يعقل بقاؤه حتى لو فرض عدم استيفاء غرضه.

وإذا لم يكن امتثاله معقولا ، إذن فتبديل الامتثال بالامتثال غير جائز.

وأمّا الكلام مع المعارضة فهو أنّه صحيح ، أنّ الغرض في المقام هو التمكّن من رفع العطش ، كما قالت المعارضة ، لكن هذا الغرض غرض مقدّمي وليس غرضا نفسيا ، بمعنى أنّ المولى ليس له غرض نفسي في التمكّن ، وإنّما وقع التمكن غرضا له ، باعتباره مقدّمة لرفع العطش ، فهو مطلوب ومحبوب غيري ، وليس محبوبا نفسيا.

وبناء على المختار في بحث مقدمة الواجب ، ومبنى السيد الخوئي (١) نفسه ، من أن الحب الغيري يتعلق بالحصة الموصلة لا بمطلق المقدمة ، فإنّ الغرض المقدّمي ليس متعلقا بالتمكن على الإطلاق ، بل بحصة خاصة من التمكن ، وهو التمكن الذي يقع بعده رفع العطش بالفعل ، فينحل الغرض ، إلى

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٤١٥ ـ ٤١٦.

٣٧٥

تمكّن ، وخصوصية أخرى ، هي خصوصية الإيصال إلى رفع العطش.

وبهذا يكون الغرض المقدّمي مركبا من جزءين ، الأول هو التمكّن ، والآخر هو حيثية الإيصال إلى ذي المقدمة ، فيكون ذات التمكّن غرضا مقدّميا ضمنيا ، لا غرضا استقلاليا مقدّميا ، وحيث أنّه غرض مقدّمي ضمني ، فيستحيل استيفاؤه في المقام ، لأنّ الغرض الضمني لا يستوفى إلّا في ضمن الغرض الاستقلالي ، بمعنى أنّ الغرض المقدّمي ، هو المجموع المركّب من التمكن وحيثية الإيصال ، فالتمكن وحده ليس متعلقا للغرض ، وهذا الغرض لا يستوفى بمجرد الإتيان بالماء.

ولا يقال بأنه بحصول التمكن يحصل نصف الغرض ، فإنه يقال أنّ هذا محال ، لأنّ الغرض الضمني لا يستوفى إلّا في ضمن الغرض الاستقلالي.

ولا يقال بأنّ تمام الغرض المقدّمي يحصل بلحاظ تمام متعلقه فإنه يقال ، بأنّ هذا خلاف الواقع ، لأنه بمجرد الإتيان بالماء لا يحصل إلّا التمكن ، وأمّا الإيصال فلم يحصل ، ونفس هذه الفكرة ، يمكن فرضها في الأغراض النفسية للمولى ، بحيث أنّ للمولى غرضا نفسيا متعلقا بمجموع خصوصيتين ، إحداهما الصلاة مثلا ، والثانية أيّ خصوصية أخرى ، بحيث أن الغرض النفسي هو المجموع المركب منهما ، لكن تلك الخصوصية الأخرى ليست تحت اختيار العبد ، بل الذي تحت اختياره هو الصلاة فقط فيأمر بالصلاة برجاء أن توجد تلك الخصوصية احتمالا ، ففي هذه الحالة يكون الأمر بالصلاة برجاء أن توجد تلك الخصوصية احتمالا ، ففي هذه الحالة يكون الأمر بالصلاة قد نشأ من غرض نفسي واحد ، وهذا الغرض متعلق بالمجموع المركب ، من الصلاة وخصوصية أخرى خارجة عن اختيار المكلف ، فلو أتى المكلّف بالصلاة فقط ، فلا يكون الغرض مستوفى ، وقد لا تنضم هذه الخصوصية الأخرى أبدا إلى الصلاة ، وما لم تنضم تلك الخصوصية فلا يستوفى الغرض ، مع أنّ متعلق الأمر قد أتي به.

ولا يقال ، أنه كيف لم يصبح متعلق الأمر غير مطابق مع متعلق الغرض ، مع أنه يجب أن يكون مطابقا مع متعلق الغرض.

٣٧٦

فيقال ، بأنّ هذا التطابق ، بجب أن يكون فيما إذا أمكن للمولى أن يأمر بتمام متعلق الغرض ، وأمّا إذا فرض أن جزءا من متعلق الغرض غير اختياري ، فحينئذ ، لا يمكن أن يجعل أمره متعلقا بتمام متعلق الغرض ، بل يعلّق أمره ببعض متعلّق الغرض ، فيكون الإتيان بتمام متعلق الأمر غير واف وفاء حتميا ، بل يبقى الغرض غير مستوفى.

ففرضية أنّ الغرض يبقى بلا استيفاء ، حتى مع الإتيان بتمام متعلق الأمر ، فرضيّة معقولة ، سواء كان الغرض غرضا مقدّميا بناء على المقدمة الموصلة ، أو غرضا نفسيا متعلقا بالمجموع المركب من متعلق الأمر ومن خصوصية أخرى غير اختيارية.

فيبقى الغرض حينئذ غير مستوفى.

٣٧٧

تطبيقات فقهية

بعد أن اتّضح عدم إمكان تبديل الامتثال بالامتثال يقع الكلام في تطبيق فقهي أشار إليه صاحب الكفاية استدلالا على فكرة إمكان تبديل الامتثال بالامتثال وهذا التطبيق موضوعه ثلاث طوائف من الروايات ممّا ادّعي فيها جواز إعادة الصلاة جماعة لمن صلّاها فرادى.

الطائفة الأولى :

ما كان بلسان الأمر بالإعادة فقط من دون عناية إضافية ، ومضمون هذه الروايات أنه صلّيت ثم رأيت جماعة فقال (ع) أعد صلاتك معهم (١).

ومن الواضح أن هذه الطائفة ليس فيها ظهور يدل على إمكان تبديل الامتثال بالامتثال ، بل غاية ما تدل عليه هو الترخيص بأن يصلي صلاة جماعة بعنوان صلاة الظهر مثلا ، أمّا أنّ هذه الصلاة المعادة ، هل هي سوف تكون امتثالا للأمر اللزومي المستفاد من قوله ، إذا زالت الشمس فصلّ؟. فهذا ممّا لا يستفاد من هذه الطائفة بوجه.

وعليه فلا يستفاد من هذه الطائفة إلّا الاستحباب النفسي للإعادة فلا تصلح دليلا على جواز تبديل الامتثال بالامتثال.

__________________

(١) الوسائل : باب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة حديث ٨.

٣٧٨

الطائفة الثانية :

هي ما دلّ على جواز الإعادة ، بلسان ، «ويجعلها الفريضة» ، وهذه الطائفة تشتمل على روايتين ، إحداهما صحيحة السند ، وهي رواية هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله (ع) ، أنه قال ، «في الرجل يصلي الصلاة وحده ، ثم يجد جماعة» ، فقال (ع) يصلّي معهم ، ويجعلها الفريضة (١) إن شاء.

وقد يستدل بهذه الرواية ، بأنّ ظاهرها دال على جواز تبديل (٢) الامتثال ، لأنه (ع) لم يقتصر على الترخيص في إعادة الصلاة ، بل قال ، «ويجعلها الفريضة» ، ومعنى ذلك هو أن يسحب عنوان الفريضة عن الفرد الأول الذي أتى به أولا ، ويطبّقه على الفرد الثاني المعاد ، وليس معنى هذا إلّا تبديل الامتثال بالامتثال. وأجيب على هذا الاستدلال بعدة وجوه.

الوجه الأول : هو أن المقصود من قوله (ع) ، ويجعلها الفريضة ، أنّه لا بأس بأن يصلي مع الجماعة بقصد فريضة من الفرائض ، في قبال من يتوّهم أنّه يصلّي معهم تطوعا ، حيث المفروض ، أن هذا الشخص قد فرغ من فريضة الوقت ، وبعدها قامت الجماعة ، فقال (ع) ، يصلي معهم ، وقوله (ع) هذا ، لا يستبطن أنه ، أيّ صلاة يصلي معهم ، غاية ما يدل ، على أنه يجوز أن يصلي معهم ، إذ لعلّه يتبادر إلى الذهن ، أنه يمكن أن يصلي معهم تطوعا ، وإنّما أريد دفع هذا التوهم بقوله ، «ويجعلها الفريضة» ، بمعنى أن هذه الصلاة ليست تطوعا ، إذ لا جماعة في التطوع ، وإنّما الجماعة تشرع في الفريضة ، وبناء على هذا ، لا يكون في العبادة ظهور ، في جواز تبديل الامتثال بالامتثال.

ولكن هذا الاحتمال في غير محلّه ، وخلافا لظاهر الرواية لأمرين :

الأمر الأول : هو قوله (ع). «ويجعلها الفريضة» ولم يقل ويجعلها

__________________

(١) الوسائل : باب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة حديث ١.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٢٢.

٣٧٩

فريضة ، وظاهر مجيء كلمة «الفريضة» ، معرّفة ، هو الإشارة إلى صلاة الوقت التي فرض الفراغ عنها ، بقوله ، الرجل يصلي ثم يجد جماعة فقال (ع) ، يصلّي معهم ويجعلها الفريضة ، وليس المفروض أنه يجعلها فرضا في قبال النفل ، وإلّا كان الأنسب أن يأتي بكلمة «فريضة» نكرة.

الأمر الثاني : هو كلمة «إن شاء» فهذه الكلمة إمّا أن نجعلها مربوطة بكلا الجملتين ، وهما «يصلي معهم» و «يجعلها الفريضة» ، يعني يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء ، وفي مقابل ذلك ، أن لا يشاء ولا يصلي معهم ، فيخرج من المسجد ، وإمّا أن نجعل كلمة «إن شاء» ، قيدا للجملة الثانية فقط ، فيصلّي معهم ، ولكن يجعلها الفريضة إن شاء ، وفي مقابل ذلك أن لا يجعلها الفريضة.

أما الاحتمال الأول في هذا الأمر ، فهو خلاف الظاهر في الرواية ، وذلك لأنّ ظاهر السؤال وتصدّي الراوي للسؤال ، أنّه بحسب طبعه ، شاء أن يصلي مرة أخرى ، وإلّا لو لم يكن قد شاء أن يصلي مرة أخرى ، فلا موجب إذن لهذا السؤال.

وبتعبير آخر ، لم يكن يحتمل وجوب الإعادة ، وإنّما يسأل عن مشروعية الإعادة وعدم مشروعيتها ، إذن فإشاءته لأصل الصلاة مع فرض مشروعية الإعادة ، مفروغ عنه في ظاهر السؤال ، وإنّما سؤاله عن مشروعية الإعادة ، رغبة منه في تحصيل ثواب الجماعة.

ومن هنا لا يناسب إرجاع قيد الإشاءة ، إلى الجملة الأولى ، وهي «يصلي معهم» ، لأنّ إشاءته للصلاة ، هي سبب تصدّيه للسؤال ، فيتعين الاحتمال الثاني ، وهو أن يكون قيد الإشاءة راجعا إلى «ويجعلها الفريضة» ، فتصبح الجملة هكذا ، يصلي معهم ، وإن شاء يجعلها الفريضة ، وفي مقابلها ، يصلّي معهم ، وإن شاء فلا يجعلها الفريضة ، وهذا ، لا يتلاءم مع ما قصد من قوله (ع) ، ويجعلها الفريضة ، يعني يجعلها فريضة في قبال التطوع ، لوضوح أنه لا يمكن أن يصلي ولا يجعلها فريضة ، لأنّه ليس بالخيار ، بخلاف ما إذا

٣٨٠