بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

نعم غاية ما يكون لهذه الموردية من أثر ، أنها توجب احتمال أن يكون المولى في قوله : «اصطادوا» ، أنه قد أبرز الإباحة لا الوجوب ، ولكن الاحتمال بمجرده لا يوجب الإجمال ، ولا يوجب سقوط ظهور الدليل.

٣٤١

تحقيق المطلب

وتحقيق المطلب ، أن يقال ، بأنّ صيغة الأمر لها مدلولان ، مدلول تصوري ، ومدلول تصديقي ، والمدلول التصوري ، كما تقدم ، عبارة عن النسبة الإرسالية والدفعية ، والمدلول التصديقي ، عبارة عن الطلب وإرادة المولى للمادة بهذا الطلب.

والأمر في مورد توهّم الحظر ، لا يتغير مدلوله التصوري ، غاية الأمر ، أنّ النسبة الإرسالية في هذا المورد ، تناسب أحد مدلولين تصديقيين ، وكلاهما يتناسب مع النسبة الإرسالية ، فإنّ المولى حينما يستعمل صيغة «افعل» في النسبة الإرسالية ، ويخطر معنى الإرسال والإلقاء على المادة في ذهن السامع ، فهذا يصلح ، لأن يكون بداعي إرادة الشيء ، حيث أن إرادة الشيء ، تستلزم إلقاء الشخص على الشيء ، وكذلك يصلح ويناسب لأن يكون بداعي كسر تحرّج الشخص وتردده ، فإن الشخص العرفي الذي يتوهم الحظر والحرمة ويقف متحيرا مترددا فمثل هذا الشخص يناسبه أن يكسر تحرّجه وتردّده بإلقائه على المادة.

ومثل هذا الإلقاء على المادة ، الذي هو الصورة الذهنية التصورية لصيغة «افعل» ، يناسب كلا المدلولين التصديقيين ، فيناسب إبراز إرادة المولى ، كما يناسب إبراز كسر المولى لتحرّج العبد وتردّده ، فإن أفضل أسلوب لكسر تحرج العبد ، هو أن يلقى على المادة ، كما يلقى المتردد في السباحة خوفا من الماء في الماء.

٣٤٢

فإنّ كون المادة في مقام الحظر ، لا يشكّل قرينة على مستوى المدلول التصوري للكلام ، ليقال مثلا ، ما هو ملاك هذه القرينيّة ، فإنّ غاية ما يوجب هذا ، هو احتمال خلاف الظاهر ، واحتمال خلاف الظاهر ، لا يكفي قرينة.

نعم فإنه يشكل إمكانية مدلول تصديقي آخر ، بدلا عن المدلول التصديقي المتعارف ، فحينما يقول ، «صلّ صلاة الليل» فهنا المدلول التصوري ، هو الإلقاء على المادة ، والمدلول التصديقي ، ينحصر في إبراز إرادة المولى ، لأنها تناسب مع الإلقاء ، أمّا كسر تحرّج العبد هنا ، فإنه لا معنى له ، لأنّ العبد لم يكن عنده تحرّج من صلاة الليل ، حتى يكسر تحرّجه بإلقائه على المادة ، فهنا المدلول التصديقي المناسب ، منحصر بالطلب والإرادة.

وأمّا حينما يقول للصائم «اشرب الماء عند غروب الشمس» فهنا لا يمكن القول ، بأنّ المدلول التصديقي جزما هو عبارة عن إرادة الأكل والشرب ، إذ لعلّه هو إرادة كسر التحرّج عند العبد ، بإلقائه على المادة ، باعتبار كونه في مورد توهم الحظر.

فالموردية لتوهّم الحظر ، ليست قرينة بدرجة المدلول التصوري للفظ ، بل هي قرينة ، توجب الإجمال في مرتبة المدلول التصديقي للفظ.

وبناء على هذا ، يتّضح أيضا ، إنّ الخلاف في صيغة «افعل» في هذه الحالة ، في أنّه هل يكون لها ظهور في الإباحة ، أو لا يكون ، فهذا بلا موجب ، فإنّ مدلولها التصوري وهو النسبة الإرسالية ، لم يختلق ، وبقي على حاله ، وهذه النسبة كما تناسب كسر التحرّج ، الذي هو ملازم مع عدم الحرمة ، كذلك تناسب مع إبراز الإرادة والطلب.

فالصحيح ، أنّ الأمر في مورد توهم الحظر أو عقيبه ، لا يكون له ظهور في الوجوب ، لكن لا بمعنى انسلاخ مدلوله التصوري ، بل بمعنى إجمال مدلوله التصديقي ، دون أن يكسب ظهورا في حكم آخر غير الوجوب.

٣٤٣

تذنيب

هناك قرينة عامة ، نعملها في كثير من الموارد ، كقرينة الاقتران بتوهم الحظر أو عقيبه ، في مقام إجمال الصيغة ، ولهذه القرينة النوعية العامة موارد كثيرة في الأبحاث الفقهية ، وقد طبّقناها كثيرا في بحثنا الفقهي ، ونذكر هاهنا بوجه كلي ، وتتوقف هذه القرينة على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى

هي ، أنّ احتمال القرينة المتصلة ، يوجب الإجمال ، وتوضيح ذلك :

أنه إذا صدر من الإنسان كلام ، فتارة نحتمل قرينية المتصل ، كما لو قال المتكلم «رأيت أسدا» ثم نطق بكلمة أخرى لم نسمعها ولم نعرف ما هي ، بحيث لا ندري أنه قال ، «رأيت أسدا يرمي» أو قال ، «رأيت أسدا يزأر» ، إذن فهنا يوجد كلمة يقينا ، ويحتمل قرينيّتها ، ويقال لمثل هذا ، احتمال قرينيّة المتصل وتارة أخرى يفرض احتمال القرينة المتصلة لا احتمال قرينية المتصل كما لو قال رأيت أسدا ولم ندر هل أنّه سكت أو أضاف كلمة يرمي فهنا لا نعلم وجود كلمة متصلة ولكن نحتمل وجود هذه القرينة المتصلة ابتداء دون أن نعلم بوجودها ونحتمل قرينيتها ويقال لمثل هذا احتمال وجود القرينة المتصلة.

ففي مثل المقام الأول ، لا إشكال عند المشهور ، في إجمال الخطاب ،

٣٤٤

وفي مثل المقام الثاني ، فإنّ المشهور ، أو على الأقل صاحب الكفاية ومن بعده ، ذهبوا إلى عدم إجمال الخطاب ، ولكننا قد حقّقنا في بحث الظواهر أن احتمال القرينة المتصلة كاحتمال قرينية المتصل كلاهما يوجب الإجمال وعدم انعقاد ظهور للكلام.

وهذا التحقيق نأخذه أصلا موضوعيا ، وحاصل هذه المقدمة ، إن احتمال القرينة المتصلة ، كاحتمال قرينيّة المتصل ، يوجب الإجمال.

المقدمة الثانية

هي ، أنّ القرائن المتصلة التي يحتمل وجودها على قسمين ، فتارة تكون هذه القرائن لفظية ، وأخرى تكون لبية ارتكازية.

فالقرينة اللفظية ، من قبيل كلمة «يرمي» فلو قال المتكلم ، «رأيت أسدا» ولم نعلم أنه هل قال كلمة أخرى وهي «يرمي» مثلا ، أو لم يقل ، فمثل هذا يكون من باب احتمال القرينة المتصلة اللفظية.

وأخرى يفرض أن القرينة المتصلة المحتملة ، ليست لفظية ، بل لبية ارتكازية ، باعتبار إن الارتكازات المتشرعية أو العرفية ، تكون في كثير من الأحيان ، من القرائن التي تحف الكلام ، باعتبار حضورها وانتقاشها في ذهن المتكلم والسامع معا ، ولهذا تعتبر قرينة متصلة ، وحينئذ ، فإذا احتملنا وجود قرينة لبية ارتكازية ، فهذا أيضا ، يوجب الإجمال كما أوجبه احتمال القرينة المتصلة اللفظية.

فإذا اتضح هذا ، نقول : بأنه إذا وردت صيغة «افعل» في رواية من الروايات ، واحتملنا أن هذه الصيغة كانت مكتنفة بقرينة متصلة لفظية توجب صرفها عن الوجوب وحملها على الاستحباب ، فحينئذ هذا الاحتمال ، إذا لم يكن له ناف فإنه يوجب إجمال الكلام وسقوط الظهور في الوجوب ، كما بيّناه في المقدمة الأولى ، فمثلا ، لو وردت صيغة «افعل» في رواية زرارة عن الإمام «ع» ، واحتملنا أن هذه الصيغة كانت محفوفة بكلمة أخرى تدل على

٣٤٥

عدم إرادة الوجوب ، فمثل هذا الاحتمال ، إذا لم يكن له ناف فإنه يوجب إجمال الصيغة ، إلّا أن هذا الاحتمال له ناف ، والنافي هو شهادة زرارة نفسه ، بأنه ينقل تمام الواقعة بكل خصائصها الدخيلة في فهم المطلب من اللفظ ، إذ لو كان يوجد كلمة أخرى كان قد قالها الإمام ، لكان قد نقلها زرارة.

فزرارة له شهادتان ، الشهادة الأولى ، وهي أنّ هذا الذي نقلته ، قد صدر من الإمام «ع» ، والشهادة الثانية ، وهي أنّ ما سكت عنه لم يقله الإمام «ع».

إذن بمقتضى هذه الشهادة ، ننفي احتمال القرينة المتصلة اللفظية ، وبهذا ، لا تصل النوبة إلى مرحلة الإجمال.

لكن إذا احتملنا القرينة المتصلة اللبّية ، فحينئذ ، لا نافي لهذا الاحتمال ، لأنّ الراوي ، إنما ينقل الكلام ، وكل ما له دخل في فهم المطلب من اللفظ ، ولا ينقل الملابسات النوعية والارتكازات الكلّية الموجودة في أذهان العقلاء والمتشرعة ، فسكوته عن هذا الارتكاز ، لا يكون شهادة على عدم هذا الارتكاز.

إذن فإحتمال وجود قرينة لبّية ، يبقى بلا دافع له ، وحينئذ ، نصل بصيغة «افعل» إلى الإجمال من جديد بمقتضى المقدمة الأولى والثانية.

إذن نكون قد حصلنا على مطلب كلي ، وهو أنه متى ما ورد أمر من قبل الإمام «ع» ، واحتملنا أن يكون هذا الأمر مقترنا في ذلك العصر بارتكاز نوعي على عدم الوجوب ، بحيث يكون ذلك الارتكاز كالقرينة المتصلة على عدم الوجوب ، حينئذ ، لا يمكن التمسك بظهور الصيغة في الوجوب ، تماما كما لو قال الفقيه لمقلديه ، صلّوا صلاة الليل فإنه لا ينعقد لصيغة «افعل» ظهور في الوجوب ، للارتكاز المتشرعي ، بأنّ صلاة الليل غير واجبة ، كذلك في المقام ، لو احتملنا بأن كلام الإمام «ع» ، كان مكتنفا بملابسات وظروف نوعية ، بحيث تكون هذه الملابسات والارتكازات ، كالقرينة المتصلة على عدم الوجوب ، فلا ينعقد لكلامه ظهور في الواجب.

٣٤٦

إذن فهذا الاحتمال يوجب الإجمال ، وسقوط صيغة «افعل» من الظهور في الوجوب.

والآن نريد أن نحقق الصغرى ، وهو أن نعرف ، متى يوجد احتمال أن يكون صدور الصيغة قد اقترن بجو ارتكازي في الأذهان المتشرعية ، بحيث يمنع من انعقاد ظهور للصيغة في الوجوب؟.

هذا الاحتمال بأدنى مراتبه ، قد يكون موجودا في جملة من الموارد ، بشرط أن يكون احتمالا عقلائيا معتدا به ، بحيث إذا طرح على العقلاء ، يصوّبونه تصويبا عقلائيا ، فمثل هذا الاحتمال يوجب إجمال الكلام ، فإذن أي متى يحصل هذا الاحتمال عند الفقيه؟.

هناك ميزان كلي ، لحصول هذا الاحتمال ، لكن هذا الميزان ، لا على سبيل الحصر ، بل من باب أنه أبرز أفراده ، وهو ، أنّه ، إذا وردت صيغة «افعل» تأمر بفعل ، وكان هذا الفعل متطابقا على عدم وجوبه «فتوى» ، عند علماء الإمامية وفي مختلف العصور ، وإن كان هناك قول شاذ بالوجوب ، فإنّه لا يضر بهذا الإتجاه العام عند الإمامية ، وحينئذ ، هذا الجو العام والإتجاه العام ، يكون كاشفا عن عدم الوجوب ، ولا نريد في مثل هذا ، أن نجعل من هذا الإتجاه العام ، إجماعا ، بل نتكلم على أساس هذا الجو العام فقط ، دون نظر إلى إجماع وغيره ، فمثل هذا الإتجاه العام ، يكون منشأ لمثل هذا الاحتمال العقلائي المعتد به ، بعدم الوجوب من أول الأمر ، وإذا تشكّل هذا الاحتمال ، أوجب الإجمال ، لأنّه يصير من باب القرينة المتصلة ، فيكون مثل هذا التطابق الفتوائي منشأ ، لاحتمال أن يكون هذا الظهور واضحا من أول الأمر ومن أول صدور الرواية.

وبمثل هذا الاحتمال ، نسقط ظهور الرواية في الوجوب ، لا أنه بالإجماع ، وبناء على هذه النكتة الكليّة ، نستطيع أن نتخلص من كثير من الأوامر التي وردت في موارد كثيرة ، من دون قرينة على عدم الوجوب فيها ،

٣٤٧

كما حصل في مورد غسل الجمعة ، فقد وردت روايات كثيرة في غسل الجمعة ، ولم تقم قرينة لفظية على عدم وجوبه في هذه الروايات ، نعم يوجد شهرة فتوائية على عدم الوجوب حيث لم يقل بوجوب غسل الجمعة إلّا قليل شاذ فيكون غسل الجمعة كأنه متفق على عدم وجوبه.

وهنا في مثل هذا المطلب ، من يرى حجية الشهرة والإجماع المنقول ، يستطيع رفع اليد عن ظهور صيغة «افعل» في الوجوب في رواية «اغتسل للجمعة» ، ولكن من لا يرى حجية الشهرة الفتوائية ولا الإجماع المنقول وغيره ، فحينئذ ، ما هو العمل مع الروايات الظاهرة في وجوب غسل الجمة؟.

والعمل والعلاج ، يمكن أن يتأتى بتطبيق هذه النكتة ، وهي أنه ، لو قلنا أنّ الشهرة والإجماع المنقول مثلا ليس حجة تعبدية ، إلّا أن هذه الشهرة ، تشكّل منشأ لاحتمال أن يكون عدم الوجوب من الأمور المركوزة في أذهان المتشرعة من أول الأمر في عصر الأئمة «ع» ، وهذا الاحتمال غير موهوم ، لوجود منشئه العقلائي ، فيدخل تحت كبرى احتمال القرينة المتصلة اللبية ، وقد تقدّم أنّ احتمال القرينة المتصلة اللبّية يوجب الإجمال ، إذن ، فيسقط ظهور صيغة ، «افعل» في الوجوب في رواية اغتسل للجمعة أو اغتسل للإحرام.

وهكذا يمكن تطبيق هذه النكتة على موارد كثيرة في الفقه ، وخصوصا العبادات.

٣٤٨

المرة والتكرار

الكلام في دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، يقع في مقامين.

المقام الأول

في تشخيص دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، بلحاظ المدلول الوضعي لصيغة الأمر.

المقام الثاني

بعد فرض أن المدلول الوضعي لصيغة الأمر ، هو ذات الطبيعة ، من دون أخذ قيد المرة ، أو التكرار فيه ، يقع الكلام ، في تشخيص اقتضاء الأمر ، للمرة أو التكرار ، بلحاظ المدلول الإطلاقي المكتسب بمقدمات الحكمة.

المقام الأول

الظاهر عدم اقتضاء كلمة الأمر بمدلولها الوضعي ، للمرة ولا للتكرار ، وذلك لأنّ المتفاهم عرفا بلحاظ مدلولها الوضعي لا يناسب مع المرة والتكرار ، فإنّ هيئة «افعل» تدل على النسبة الإرسالية ، ومادة «افعل» تدل على ذات الطبيعة ، من دون أخذ قيد المرة أو التكرار فيها ، إذن فتسقط دعوى دلالتها على المرة أو التكرار ، تارة بالهيئة ، وأخرى بالمادة ، ولهذا المطلب مؤيدان.

٣٤٩

المؤيد الأول : لو كان التكرار مثلا مأخوذا في الهيئة أو في المادة ، للزم أن يكون استعمال صيغة «افعل» ، استعمالا عنائيا مجازيا فيما إذا اقترنت بما يدل على المرة ، فلو قال «صلّ مرة واحدة» ، يكون هذا استعمالا مجازيا ، وبالتالي يكون هذا الاستعمال مبنيا على تجريد المدلول الوضعي للهيئة أو للمادة عن التكرار ، مع أن الوجدان العرفي قاض ، بأنّه لا مجاز في قولنا «صلّ مرة واحدة» ، وهذا مؤيد لما يدّعى بأنّه لم تؤخذ المرة ولا التكرار في المدلول الوضعي للهيئة ، ولا في المدلول الوضعي للمادة.

المؤيد الثاني : لو كان التكرار مأخوذا في كلمة «صلّ» ، مثلا ، فلا يخلو الأمر ، من أن يكون مأخوذا إمّا في المدلول الوضعي للهيئة ، وإمّا في المدلول الوضعي للمادة ، حيث أنّه لا يوجد وضع ثالث للمجموع المركب من الهيئة والمادة ، بل هناك وضعان فقط ، وضع للمادة ، ووضع للهيئة.

فإذا كان التكرار مأخوذا في مدلول الهيئة ، فمعنى هذا ، أنّ الهيئة تدل على طلب المتكرّر ، وهذا غير الطلب المتكرر ، بمعنى أنّ المتكرر هو متعلّق الطلب ، فليس أخذ التكرار في مدلول الهيئة ، معناه كون الهيئة موضوعة للطلب المتكرر ، بل معناه كون الهيئة موضوعة لطلب المتكرّر ، فالتكرار مأخوذا في متعلق الطلب لا في نفس الطلب ، حيث يكون المراد طلب لفردين من مادة واحدة. لا طلبين على مادة واحدة ، فبهذا النحو يكون التكرار مأخوذا في مدلول الهيئة ، وهو طلب المتكرر ، لا الطلب المتكرر.

فإذا كان كذلك ، فهذا له لازم غريب ، وهو أن يكون طرف النسبة مأخوذا في مدلول الحرف أيضا ، لأنّ هيئة «صلّ» تدل على النسبة الإرسالية ، أمّا طرف هذه النسبة ، وهو ما أرسل نحوه ، فالمفروض بحسب قواعد اللغة ، أن يستفاد من دال آخر على نحو تعدد الدال والمدلول ، لا أنّ الحرف يكون دالا بنفسه على النسبة ، وعلى طرفها ، بينما لو قلنا بأنّ هيئة «افعل» تكون دالة على طلب المتكرر ، بحيث تدل على مطلبين بحسب التحليل ، أحدهما الطلب بما هو معنى حرفي وبما هو نسبة إرسالية ، والآخر هو طرف هذا الطلب ، وهو

٣٥٠

الأفراد المتكررة من مدلول المادة ، إذن فيكون طرف النسبة الاسمي مدلولا عليه أيضا بالهيئة ، وهذا لازم غريب في نفسه.

وإذا كان التكرار مأخوذا في مدلول المادة ، بمعنى أنّ الهيئة تدل على ذات النسبة الإرسالية ، والمادة تدل على تكرّر الأفراد المتعددة لهذه الطبيعة ، وهذا أيضا له لازم غريب ، بناء على أنّ المادة في «صلّ» مثلا ، مع كل مشتقاتها بما فيها المصدر ، موضوعة بوضع نوعي واحد ، لا أنّ كل مادة في كل هيئة من هيئات مشتقات «صلّ» موضوعة بوضع شخصي على حدة ، فعلى هذا لو كان التكرار مأخوذا في المدلول الوضعي لمادة «افعل» يلزم أن يكون مأخوذا في مدلول المادة للمصدر وبقية المشتقات ، مع أنه ممّا لا إشكال فيه أن المصدر عندهم لا يدل لا على المرة ولا على التكرار ، وإنّما يدل على ذات الطبيعة.

وعليه فخصوصية المرة أو التكرار غير مأخوذة وضعا ، لا في مدلول المادة ، ولا في مدلول الهيئة ، وإنّما تدل صيغة «افعل» على طلب الطبيعة دون الدلالة على هذه الخصوصيات.

المقام الثاني

وهو أنه بعد خروج خصوصيّة المرة والتكرار عن المدلول الوضعي للمادة والهيئة ، فإنّه يسأل ، بأنه ما هو مقتضى المدلول الإطلاقي لصيغة «أكرم العالم» ، فهل هو المرة أو التكرار ، أو أنّه ليس هناك قاعدة منضبطة ، فإنه أحيانا يدل على المرة وأخرى على التكرار؟.

والصحيح في المقام ، هو وجود القاعدة المنضبطة ، ولا ترفع اليد عنها إلّا إذا وجدت نكتة أو قاعدة أخرى حاكمة عليها.

وحاصل القاعدة المنضبطة هو ، أنّ مقتضى الأمر بلحاظ المتعلّق ، هو عدم التكرار والتعدّد ، ومقتضى الأمر بلحاظ الموضوع الذي هو متعلّق المتعلّق هو التكرار وتعدد الحكم ، فلو قال «أكرم العالم» ، فهنا طلب له متعلّق ، وهو

٣٥١

الإكرام ، وله موضوع ، وهو متعلّق المتعلّق ، أي متعلق الإكرام ، وهو العالم.

وهذا الطلب ، إذا لوحظ بالنسبة إلى الموضوع الذي هو العالم ، فهو يقتضي التكرار وتكثّر الحكم بتكثر العلماء ، فلا يكفي في مقام امتثال هذا الأمر إكرام عالم واحد ، وأمّا إذا لوحظ الطلب بالنسبة إلى المتعلّق الذي هو الإكرام ، فهل يقتضي تعدّد إكرام زيد العالم ، من تقبيل يده ، وزيارته ، وإلقاء السلام عليه ، أو يكفي إكرام واحد من هذه الإكرامات؟.

في هذه الناحية ، الطلب لا يقتضي التكرار ، بل يكتفى بإكرام واحد ، وهذا على طبق الفهم العرفي.

وليس الوجه في تخريج هذا الفهم ، دعوى أنّ الإطلاق ومقدمات الحكمة تجري في المتعلّقات ، بنحو يثبت الإطلاق البدلي ، وتجري في الموضوعات بنحو يثبت الإطلاق الشمولي ، حيث أن مقدمات الحكمة في باب المتعلقات ، تنتج إطلاقا بدليا في قوة قولنا (أكرمه إكراما ، «ما») وفي باب الموضوعات ، تنتج إطلاقا شموليا في قوة قولنا («أكرم كل عالم») ، ليس هذا هو الوجه في التخريج حتى يقال ، أنه كيف اختلفت نتيجة مقدمات الحكمة ، فأعطت «شمولا» بمعنى تعدّد الحكم بلحاظ الموضوع ، «وبدلا» بمعنى عدم تعدده بلحاظ المتعلق.

هذان المطلبان كلاهما أجنبي عن مقدمات الحكمة ، فلا التعدّد بلحاظ الموضوع ، مستفاد من مقدمات الحكمة بل مقدمات الحكمة لها وظيفة واحدة في كلا المطلبين تؤديها على وتيرة واحدة ، وحاصل هذه الوظيفة هي ، أنّ الطبيعة ، قد لوحظت في عالم الجعل بذاتها وبلا قيد آخر ، ومقدمات الحكمة تثبت خلوّ الطبيعة من أيّ قيد في عالم الجعل والتشريع ، وهذا ثابت بالنسبة إلى طبيعة «الإكرام» باعتباره متعلقا ، وبالنسبة إلى طبيعة «عالم» باعتباره موضوعا ، وهذه الوظيفة ثابتة لمقدمات الحكمة لا تتجاوزها ، إذ لو كان هنا قيد لبيّن ، وحيث لم يبيّن ، لم يؤخذ ، بمقتضى أصالة التطابق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات.

٣٥٢

إذن يثبت بمقدمات الحكمة ، أن الوجوب ثابت على طبيعة «الإكرام» متعلّقا ، وعلى طبيعة «العالم» موضوعا ، وأمّا الانحلال والتعدد في جانب الموضوع ، وعدمه في جانب المتعلق ، يستفاد ببيان ، وحاصله.

أن الوجوب المجعول في المقام ، له معروض بالذات مقوّم له في أفق نفس الجعل ، ومعروضه هذا ، هو «الإكرام» متعلّقا «والعالم» موضوعا ، بمعنى أن «الإكرام» و «العالم» صورتان ذهنيتان مقوّمتان للوجوب في عالم الجعل ، وعند ما نلاحظ عالم الجعل وصوره الذهنية ، لا نجد فيه تعددا أصلا ، إذ ليس هناك إلّا جعل واحد ، إذن ليس هناك إلّا وجوب واحد بلحاظ المتعلق ، أو بلحاظ الموضوع.

ومن الواضح ، أنّ الصور الذهنية المقوّمة للجعل في أفق الجعل ، إنّما أخذت من قبل المولى ، بما هي فانية ومرآة للوجود الخارجي ، وحينئذ ، ننتقل إلى ما يتم فيه الفناء ، أي إلى ما هو معروض بالعرض ، فنأخذ الموضوع وهو «العالم» فنرى أنّ صورة «العالم» لم تؤخذ بما هي صورة ذهنية ، بل بما هي مرآة للوجود الخارجي ، ومن هنا يصح تطبيقها على الوجود الخارجي ، وعند تطبيقها لا بدّ وأن يطبّق بتبعها محمولها وهو الوجوب ، لأنّه تابع لها ، وعالم التطبيق هذا ، نسميه بعالم فعليّة المجعول ، ومن الواضح أن «العالم» له وجود متعدّد في المرحلة السابقة على طلب «الإكرام» ، وكلّما طبقنا صورة «العالم» على «زيد» تارة ، وبكر أخرى ، وخالد ثالثة ، يتبعها حكمها ، لأنّ الحكم ثبت لطبيعة «العالم» فيسري إلى الأفراد ، لأنّ الطبيعة فانية ومرآة للخارج.

ومن هنا ينشأ أحكام متعددة ، وهذه الأحكام انحلالية بحسب الحقيقة ، بمعنى أنه في عالم الجعل ، لم يكن إلّا جعل وحكم واحد ، لكن عند إضافة هذا الحكم بتبع موضوعه الواحد إلى الوجود الخارجي يتكثّر الحكم إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الطبيعة للموضوع.

وأمّا إذا أخذنا المتعلق ، فإنّ الإكرام ، وإن كان قد وقع متعلّقا للوجوب

٣٥٣

بما هو مرآة للخارج ، لكن في المرتبة السابقة على الوجوب ، لا يوجد هناك أفراد «للإكرام» خارجا حتى يطبّق الوجوب على هذه الأفراد ، فيتحصل من ذلك أحكام متعددة ، لأن وجود «الإكرام» في طول الوجوب ، لا في مرتبة سابقة على الوجوب ، ففي المرتبة السابقة على الوجوب لا مجال لتكثير طبيعة «الإكرام» حتى يتكثر بالتبع الوجوب نفسه ، وإنما تكثر هذه الطبيعة يكون في طول الوجوب ، فلا يعقل أن يكون هذا منشأ لتكثر الوجوب نفسه ، بعد أن كان في طول الوجوب.

فتمام الفرق بين جانب الموضوعات وجانب المتعلّقات ، هو أنّ الموضوع في مقام تطبيقه على الخارج ، قابل للتكثر في المرتبة السابقة على الوجوب ، وبتبع تكثره تطبيقا ، يتكثر الوجوب أيضا ، لأنّ الحكم يتبع موضوعه ، وأمّا المتعلّق ، فهو حيث أنه غير قابل للتكثر في مقام التطبيق في المرتبة السابقة على الوجوب ، إذ قبل الوجوب ، لا إكرام في الخارج حتى يتكثر ، إذن فلا موجب لافتراض تكثر نفس الوجوب من هذه الناحية ، فلا يبقى إذن ، إلّا الوجوب الواقف على الطبيعة ، وهو حكم واحد ، ولا يبقى موجب لافتراض تعدد هذا الحكم ، لا بحسب عالم الجعل ، ولا بحسب عالم التطبيق ، أمّا بحسب عالم الجعل ، فلأنّ الجعل واحد ، وأمّا بحسب عالم التطبيق ، فلأنه لا يعقل تطبيق المتعلّق في المرتبة السابقة على الوجوب حتى يتعدّد ، ويتعدد بتبعه الوجوب.

وهذه القاعدة العامة المنضبطة في الموضوعات وفي المتعلقات ، كما تجري في باب الأوامر ، كذلك تجري في باب النواهي ، فإنّ التكثّر وتعدّد الحكم زجرا وتحريما في باب النواهي ، كتعدّد الأمر والطلب تحريكا في باب الأوامر ، فبلحاظ الموضوع يوجد تحريمات متعددة ، وبلحاظ المتعلّق لا يوجد تحريمات متعددة ، لعين النكتة السابقة.

نعم تختلف الأوامر عن النواهي في شيء آخر رغم تماثلهما في وحدة الحكم ، وهذا الاختلاف ، هو طريقة امتثال هذا الحكم ، على ما أشار إليه

٣٥٤

صاحب الكفاية (١) (قده) من أنّ الإيجاب الواحد للطبيعة ، يكتفى في مقام امتثاله ، بفرد واحد ، وأمّا التحريم الواحد للطبيعة ، فلا يكتفى في مقام امتثاله ، إلّا بترك تمام أفراده ، لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ، ولا تنعدم إلّا بانعدام تمام أفرادها ، وهذا الانعدام لتمام الأفراد للطبيعة ، هو غير تعدد الحكم ، لأنّ هذا ليس معناه ، إنّه يوجد تحريمان ، بل تحريم واحد ، لكن هذا التحريم هو يقتضي إعدام الطبيعة ، والطبيعة لا تنعدم إلّا بانعدام تمام أفرادها.

ومن هنا ينقدح ممّا تقدم ، في بيان ضابطة الحكم وانحلاله ، عدة أمور.

الأمر الأول :

لقد أشرنا إلى سؤال ، وهو أنه كيف أن الحكم بلحاظ موضوعه ، يكون شموليا وانحلاليا فيتعدد بتعدد أفراد الموضوع ، وبلحاظ المتعلق لا يكون كذلك ، فلا يتعدد الحكم بتعدد أنحاء الإكرام في قولنا «أكرم العالم» ، مع أنّ الملاك فيهما معا هو مقدمات الحكمة والإطلاق الحكمي ، ومثل هذا السؤال ظهر جوابه ممّا تقدم ، فقد تبيّن أن تعدّد الحكم في طرف الموضوع وعدم تعدده في طرف المتعلق ليس من شئون الإطلاق ومقدمات الحكمة بل وظيفتها ، تشخيص حدود الطبيعة التي لاحظها المولى موضوعا ومتعلقا ، فإذا شكّ في أنه لاحظ الطبيعة بلا قيد ، أو مع قيد آخر «كالعدالة» في «العالم» ، فإنّ مقتضى مقدمات الحكمة ، أن اللحاظ المولوي تعلّق بالطبيعة بلا قيد ، وهو معنى الإطلاق ، وعلى هذا ، فإنّ مقدمات الحكمة دخيلة في تشخيص مدلول الخطاب عرفا ، ومن الواضح أن مدلول الخطاب عرفا ، إنّما هو جعل الحكم ، وفي مرحلة الجعل ، لا تعدّد للحكم أصلا ، بل جعل واحد ، وإنّما التعدد وعدمه من شئون عالم فعليّة المجعول ، وعالم تطبيق الموضوع على الخارج ، وتطبيق المتعلق على الخارج.

وفي هذه المرحلة ، يوجد التعدد بلحاظ الموضوع ، ولا يوجد بلحاظ

__________________

(١) المشكيني : ج ١ ص ١١٧.

٣٥٥

المتعلّق ، لأنّ في المرتبة السابقة على مرحلة التطبيق يتعدد الموضوع خارجا فيكون هناك تطبيقات عديدة للعنوان الفاني ، وهو عنوان «العالم» على المفنيّ فيه ، وهو الخارج ، وبتبعه يتعدد الحكم ، وهذا بخلاف المتعلّق ، فهو لا يتعدّد وجودا بحسب الخارج في المرحلة السابقة على فعليّة الحكم والتطبيق ، لأنّ وجوده من تبعات الحكم ، وليس بثابت قبل فعليّة الحكم.

إذن ، فلا مجال لتطبيقات متعددة للفاني ، وهو عنوان الإكرام على وجوده الخارجي.

إذن ، فالتعدّد في طرف الموضوع ، وعدمه في المتعلّق ، إنما هو بلحاظ عالم التطبيق ، وعالم فعليّة المجعول ، وكلام المولى ناظر إلى الجعل ، لا إلى الفعليّة ، إذ قد يجعل ، ولا يكون هناك فعليّة ، فيقول «ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا» ولا يوجد مستطيع أصلا ، ومقدّمات الحكمة إنّما تشخّص كلام المولى في عالم الجعل ، فلا علاقة لمقدمات الحكمة بالتعدد وعدمه ، لأنّ التعدد يوجد في غير الحقل الذي تعمل فيه مقدمات الحكمة وهو عالم فعليّة المجعول والتطبيق ، وفي مثل هذا العالم ، تمّ الامتياز بين الموضوعات والمتعلّقات في التعدّد وعدمه.

الأمر الثاني :

هو أنه قلنا ، في «أكرم العالم» الوجوب بلحاظ «العالم» شمولي ومتعدد ، وبلحاظ «الإكرام» بدلي ووجوب واحد ، والبدلية بلحاظ المتعلّق ، والشمولية بلحاظ الموضوع ، تختلف وتفترق عن البدلية والشمولية المستفادة من العموم الوضعي في باب العمومات ، وتوضيحه :

أنّ في باب العموم يوجد عموم بدلي ، وعموم شمولي ، فالمولى تارة يقول «أكرم بكل إكرام» وأخرى «أكرم بأي إكرام» أو يقول «أكرم كلّ عالم» وأخرى «أكرم أيّ عالم» ، فالأول عموم شمولي ، والثاني عموم بدلي ، وهذه الشمولية تستدعي تعدّد الحكم فهي متكثرة بتكثر أفراد «العالم» أو بتكثر أفراد

٣٥٦

«الإكرام» ، وهذه البدلية تستدعي ثبوت حكم واحد لا أكثر ، فمن هذه الناحية ، الشمولية والبدلية ، تشبه الشمولية والبدلية في محل الكلام ، ولكنّ الفرق بينهما ، هو أن الشمولية والبدلية في موارد العموم ثابتة بالدلالة اللفظية ، باعتبار دخولها تحت لحاظ المولى ، لأنه في عالم الجعل في باب العموم ، لا يلحظ الطبيعة فقط ، بل يلحظ الأفراد ، ويجعل الوجوب عليها.

وحينئذ ، فتارة يجعل الوجوب على جميعها ، وأخرى يجعله عليها على البدل ، وقد وضع في اللغة أداة لإفادة الأول وأداة لإفادة الثاني ، فالشمولية والبدلية في باب العموم الوضعي ، داخلة في مدلول اللفظ ، ومربوطة بلحاظ المولى في عالم الجعل ، بينما الشمولية والبدلية في محل الكلام ، هي من شئون عالم التطبيق ، إذ أنّ لحاظ المولى لطبيعة «الإكرام» ولطبيعة «العالم» في «أكرم العالم» على حد واحد ، ومن هنا صحّ أن يقال ، أنّ الشمولية والبدلية على نحوين :

النحو الأول : هو أن تكون الشمولية والبدلية ، أجنبية عن تشخيص لحاظ المولى ، بحيث أن سنخ لحاظ المولى ، سنخ واحد فيهما ، وإنّما الشمولية والبدلية من شئون تطبيق العنوان الفاني على المفني فيه ، وهذه هي الشمولية والبدلية بلحاظ الموضوعات والمتعلقات.

النحو الثاني : هو أن تكون الشمولية والبدلية منتزعتين من نكتتين داخلتين تحت مدلول الخطاب عرفا ، فإنّ سنخ لحاظ المولى في أحدهما ، غير سنخ لحاظ الآخر ، وهذه هي الشمولية والبدلية في العمومات.

الأمر الثالث :

هو أنّ بين الأمر والنهي ، جهة اتفاق ، وجهة اختلاف.

فالنهي كالأمر في قاعدة ، أنّ الحكم بلحاظ المتعلّق بدلي وواحد ، وبلحاظ الموضوع متعدّد ما لم تقم قرينة على الخلاف ، هي غلبة الانحلال والتعدد في المبادئ في جانب النهي ، وذلك لأنّ منشأ النهي على نحوين.

فإمّا أن يكون منشؤه عبارة عن المفسدة في الفعل.

٣٥٧

وإمّا أن يكون منشؤه عبارة عن المصلحة في الترك ، فقول المولى ، «لا تكذب» ينشأ إمّا عن مفسدة في الكذب ، أو عن مصلحة في تركه ، وفي كلتا الحالتين ، الغالب في المفاسد المتعلقة بالفعل ، والمصالح المتعلقة بالترك ، هو الانحلال والتعدد ، بحيث يكون كل فعل ، أو كل ترك ، بحسب عالم الملاك ، موضوعا للمفسدة ، أو موضوعا للمصلحة.

وهذه الغلبة غير موجودة في جانب الأوامر ، فإنّ الأمر بشيء ، ينشأ إما من مصلحة في الفعل ، أو من مفسدة في الترك ، وليس الغالب في المصلحة المتعلقة بالفعل ، أو المفسدة المتعلقة بالترك ، هو التعدد.

وحيث أنّ هذه الغلبة موجودة في طرف النهي ، دونها في الأمر ، فتصبح هذه الغلبة قرينة عرفية ارتكازية في طرف النهي ، على أنّ النهي متعدّد بلحاظ متعلقه أيضا ، باعتبار أنّ هذه الغلبة ظاهرة في أن النهي نشأ من ملاك انحلالي وتعددي ، وهذا بعكس الأمر ، فإن هذه الغلبة غير موجودة في جانبه ، فيبقى على مقتضى القاعدة ، ومقتضاها هو عدم التعدد في جانب المتعلق في الأوامر.

الأمر الرابع :

كل ما أسّسناه في باب الأوامر والنواهي من التعدد في طرف الموضوع ، وعدمه في طرف المتعلق ، أيضا ، يسري في باب الإخبار ، ولا يختص بباب الإنشاء ، فكما أن للإنشاء متعلّقا وموضوعا في «أكرم العالم» ، كذلك للجملة الخبرية «العالم نافع» ، متعلّق ، وهو النفع ، وموضوع ، وهو «العالم» ، وبالتحليل تكون نسبة «العالم» إلى الإخبار ، هي كنسبة «العالم» إلى الإنشاء ، فكما أن «العالم» في الإنشاء في «أكرم العالم» أخذ مفروغا عن وجوده ، كذلك «العالم» في الإخبار في «العالم نافع» أخذ مفروغا عن وجوده في المرتبة السابقة على الإخبار ، بمعنى أنّ الذي يقول «العالم نافع» لا يريد الإخبار عن وجود «العالم» بل إذا وجد «العالم» وفرغ من وجوده فهو نافع ، فيكون مراده

٣٥٨

من الأخبار ، هو نفع «العالم» ، لا أصل وجود «العالم» ، فما هو بصدد كشفه بإخباره ، إنما هو النفع ، وهذا تماما في باب الإنشاء ، فإنّ الطالب يكون بصدد إيجاد الإكرام ، فنسبة النفع إلى الأخبار ، كنسبة الإكرام إلى الطلب ، ونسبة «العالم» إلى الإخبار كنسبة «العالم» إلى الإنشاء.

إذن فبعد تطابق النسبتين ، لا بدّ وأن تكون النتيجة واحدة ، فعند ما نقول «العالم نافع» ، نرى أن هذا الإخبار بلحاظ «العلماء» انحلالي ، بمعنى أنّ هذا «العالم» نافع وذاك العالم نافع وهكذا ، لا أنّ عالما واحدا نافع ، وأمّا بلحاظ متعلّق الإخبار ، وهو النفع ، فلا يكون انحلاليا بمعنى أن «العالم» له منفعة واحدة ولا يثبت له عدة منافع تماما كما في أكرم العالم فكما كان الحكم بلحاظ الموضوع متعددا ، وبلحاظ المتعلّق متحدا ، بمعنى أنه لا يقتضي إكرامات متعددة ، فكذلك في «العالم نافع» ، فكل عالم يصيبه إخبار من هذه الإخبارات المتعددة ، وأمّا النفع ، وهو متعلق الإخبار ، لا يكون متعددا ، بمعنى أنه ليس كل نفع ، نفع ثابت «للعالم» ، بل غاية ما يثبت وجود منفعة «ما».

وسر ذلك في الإخبار والإنشاء ، ما تقدم ، من أن الموضوع مأخوذ مفروغا عنه في مرتبة سابقة على الإخبار والإنشاء ، وهذا بخلاف المتعلّق ، فإنه لم يؤخذ مفروغا عنه في المرتبة السابقة.

وبتعبير آخر ، هو أنّ كلا من هاتين القضيتين ، «أكرم العالم» و «العالم نافع» تحتوي على نسبتين ولحاظين ، فمن حيث نسبة الإخبار إلى الموضوع ، ونسبة الإنشاء إلى الموضوع ، تكون قضية شرطية ، ففي «أكرم العالم» نسبة الوجوب إلى «العالم» ، هي نسبة الجزاء إلى الشرط ، فكأنه قال ، إذا وجد العالم فأكرمه ، كما في «العالم نافع» ، يكون نسبة الإخبار إلى العالم ، أيضا نسبة الجزاء إلى الشرط ، فكأنه قال ، إذا كان هناك عالم ، فهو نافع ، ولهذا ، المخبر هو غير متصد للإخبار بأنه يوجد عالم أو لا يوجد عالم ، بل مقصوده ، أنه إذا كان هنالك عالم فهو نافع ، وهكذا المنشئ ، هو غير متصد إلى طلب

٣٥٩

إيجاد «العالم» ، بل مقصوده ، أنه إن كان هناك «عالم» فأكرمه.

إذن فنسبة الموضوع إلى الإخبار أو الإنشاء واحدة ، وهي نسبة الشرط إلى القضية الشرطية.

وأما في طرف المتعلق فليس نسبة المتعلق إلى الإخبار أو الإنشاء نسبة الجزاء إلى الشرط ، إذ لا يعقل أن يقول ، إن وجد الإكرام خارجا فيجب ، إذ لا معنى لإيجابه بعد فرض وجوده ، فالإنشاء بالنسبة إلى المتعلّق ، يستحيل أن يكون قضية شرطية ، وهكذا في مجال الإخبار بالنسبة إلى المتعلّق ، فلا يمكن أن تنحل قضية «العالم نافع» إلى قضية «إن وجد نفع للعالم فأنا أخبر به» لأن هذا الإخبار يكون لغوا صرفا ، إذ أنّ هذه قضية ضرورية بشرط المحمول ، وذلك مثل ، «إن كان الشيء موجودا فهو موجود» وإذا كان هناك نفع فهناك نفع بالضرورة ، وهذا ليس بإخبار.

إذن فليس نسبة الإخبار إلى المتعلّق نسبة القضية الشرطية.

والحاصل أن الإخبار والإنشاء يشكّل فيهما قضية شرطية بلحاظ الموضوع ، وأما بلحاظ المتعلّق يستحيل تشكّل هذه القضية الشرطية ، وهذا هو ميزان الفرق بين الموضوع والمتعلّق ، من حيث أن الإنشاء والإخبار حين ينسب إلى الموضوع يتعدد بتعدد الموضوع خارجا ، وحين ينسب إلى المتعلّق لا يتعدد بتعدد المتعلق خارجا ، لأنّ الموضوع سواء كان في جملة خبرية أو إنشائية فهو قد أخذ شرطا في القضية الشرطية المنحلة من الإخبار والإنشاء ، ومعنى أخذه شرطا ، أنّ المتكلم غير متصد لتحقيق حال هذا الشرط ، وإنما أوكل أمره إلى المكلف لكي يطبقه على مصاديقه الخارجية ، وحينئذ ، في مقام التطبيق ، يجد المكلف ، أن هذا الشرط له مصاديق متعددة ، فكلّما طبّقه على مصداق اقتنص له جزاء ، إما جزاء إنشائيا ، أو جزاء إخباريا ، لأنّ الخطاب قضية شرطية والشرط فيها مفروغ عنه ، فلا بدّ أن يكون الجزاء تابعا في فعليته لفعلية الشرط ، فإذا كان للشرط فعليات متعددة خارجا ، فلا بدّ أن يكون للجزاء فعليّات متعددة خارجا تبعا لفعلية الشرط ، وهذا هو معنى الانحلال

٣٦٠