بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

دفع بيان دفع الوجه الرابع

وهذا البيان لوجه الفرق ، أيضا بين مسألة الأقل والأكثر ، وبين محل الكلام ، بحيث لو بني على البراءة هناك ، يبنى على الاشتغال هنا غير تام ، وذلك لوضوح ، أن المولى وإن كان لا يتمكن من الأمر بقصد القربة ، لكن يتمكن من التصدي لتحصيله ، ولو بالإخبار عن غرضه ، وبهذا يكون أيضا الغرض داخلا في العهدة بمقدار التصدّي لا أكثر من ذلك ، ولا يقاس هذا على ما إذا كان المولى لا يتمكن من الكلام أصلا ، إذ لا بأس حينئذ بافتراض دخول الغرض بما هو غرض في العهدة ، وأمّا في المقام ، فالتصدّي للتحصيل المولوي ، أيضا ممكن ، لكن لا بالأمر وبالجملة الإنشائية ، وإنّما بالجملة الخبرية ، فالكلام فيه هو الكلام في الأقل والأكثر.

وهكذا يتضح ، أن الصحيح ، هو أنه لو بني على البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين ، ينبغي أن يبنى على البراءة العقلية في المقام.

٣٢١

الجهة الثانية

في جريان البراءة الشرعية وعدم جريانها

وأما الكلام في البراءة الشرعية ، فهو أنه ، لو قلنا بجريانها في الأقل والأكثر الارتباطيين ، فقد يقال في المقام ، في التعبدي والتوصلي ، بعدم جريانها ، وذلك ، لأن أدلة البراءة الشرعية ناظرة إلى التكاليف ، ومن الواضح أن في مقام التعبدي والتوصلي ، المفروض أنه ، لا يحتمل التكليف بقصد القربة ، وإنما المحتمل ، دخله في الغرض الواقعي لا في التكليف ، وحيث أنه لا يحتمل التكليف به ، وإنما يحتمل دخله في الغرض الواقعي لا في التكليف ، وحيث أنه لا يحتمل التكليف به ، وإنما يحتمل دخله في الغرض الواقعي ، فلا معنى لجريان البراءة الشرعية في المقام ، لأنّ جريانها ، إنّما يأتي ، فيما إذا شك في الوجوب ، أو الحرمة ، كما هو الحال في موارد الأقل والأكثر.

وأمّا هنا فلا شك في الوجوب والحرمة ، إذ لا يعقل تعلق الأمر بقصد القربة ، وإنما الشك في أمر واقعي ، وهو دخل قصد القربة في الغرض ، إذن فلا تجري البراءة الشرعية من هذه الناحية ، ولا يكون دليل البراءة الشرعية شاملا له.

وهذا الكلام والبيان للفرق ، في غير محله ، وذلك ، لإمكان دعوى أن دليل البراءة الشرعية ، لا يختص بخصوص ما كان حكما إنشائيا ، بل كما يشمل الأحكام الإنشائية ، يشمل أيضا كل جهة مولوية قابلة عقلا للتحميل من جهة المولى على العبد ، سواء كانت هذه الجهة حكما إنشائيا أو غرضا

٣٢٢

نفسانيا ، أضف إلى ذلك ، أن عناوين الإلزام والتكليف ، تنتزع حتى من الجملة الخبرية ، فإن المولى إذا بيّن دخل قصد القربة في الغرض ، ولو بنحو الجملة الخبرية ، ينتزع من ذلك عرفا عنوان التكليف والإلزام ، وهذا أيضا ، يكفي في شمول دليل البراءة الشرعية له.

إذن فالصحيح ، هو جريان البراءة عقلا ، لو قيل بالبراءة العقلية ، وشرعا أيضا.

هذا تمام الكلام في بحث التعبدي والتوصلي ، ومن الكلام في قصد القربة ، ظهر الكلام في مثل قصد الوجه ، والتمييز ، بلا حاجة إلى تخصيص كلام لهذه التوابع.

٣٢٣

الفصل الثاني

في تقسيمات الواجب

الواجب ، كما ينقسم إلى تعبدي وتوصلي ، ينقسم أيضا إلى نفسي وغيري ، وتعيني وتخييري ، وعيني وكفائي.

ولهذا عقد فصل آخر ، لتحقيق مقتضى إطلاق الصيغة ، فهل أن إطلاق الصيغة ، يقتضي كون الواجب نفسيا تعيينيا عينيا ، في مقابل الغيري والتخييري والكفائي؟.

ومن هنا يقع الكلام في ثلاث جهات.

الجهة الأولى

الكلام في هذه الجهة ، يدور حول تحقيق مقتضى إطلاق الصيغة ، من حيث النفسية والغيرية ، فيما إذا قال المولى ، «توضّأ ، وأنصب السلّم» ، ودار أمر الوضوء ونصب السلّم ، بين أن يكون واجبا نفسيا ، أو واجبا غيريا ، فما هو مقتضى إطلاق الصيغة؟.

المعروف أن إطلاق الصيغة ، يقتضي النفسية ، في مقابل الغيرية ، وهذا المطلب يمكن أن يبيّن بثلاث تقريبات.

التقريب الأول :

هو دعوى التمسك بالإطلاق الأحوالي للوجوب ، في دليل «توضّأ» ، إذ

٣٢٤

يقال ، أن مقتضى الإطلاق الأحوالي للوجوب ، في هذا الدليل ، أنّ وجوب الوضوء ثابت في كل الأحوال ، سواء ، وجبت الصلاة ، أو لم تجب ، وسواء ، زالت الشمس ، أو لم تزل ، وهذا يستلزم كونه واجبا نفسيا ، إذ لو كان غيريا ، لاستحال إطلاقه الأحوالي ، لفرض عدم وجود الأمر بذي المقدمة ، وعدم فعليتها ، لأنّ الوجوب الغيري ، ملازم للوجوب النفسي لذي المقدمة. وإذا ثبت بالإطلاق الأحوالي لدليل «توضّأ» ، أنّ وجوب الوضوء ثابت على كل حال ، إذن تثبت النفسية ، والنفسية هذه ، تكون مدلولا التزاميا للإطلاق ، لا مدلولا مطابقيا ، لأنّ المدلول المطابقي ، إنّما هو الإطلاق الأحوالي ، وشئون الوجوب لتمام الأحوال ، وهذا بما هو هو ، ليس معناه الوجوب النفسي ، ولكن هذا الإطلاق في المقام يستلزم نفي الغيرية ، وبالتالي تتعيّن النفسية.

واستفادة النفسية من الإطلاق بهذا التقريب ، يتوقف على تصوير الإطلاق الأحوالي ، وعلى أن لا يكون هذا الواجب المشكوك في كونه نفسيا أو غيريا ، ملازما مع ذاك الوجوب النفسي على كل تقدير.

وتوضيح ذلك : أنّ المولى ، تارة يقول ، «توضّأ» ، من دون أن يقيّد وجوب الوضوء بالزوال ، ولا ندري ، أنّ وجوب الوضوء منوط بوجوب صلاة الظهر ، أو من ناحية كونه واجبا نفسيا؟. ففي مثل ذلك ، يمكن إثبات النفسية بالإطلاق الأحوالي بالبيان السابق.

وتارة أخرى ، يقول المولى ، «توضأ إذا زالت الشمس» ، بحيث كان وجوب الوضوء مقيّدا بقيد ، ففرض أنّ ذاك القيد ملازم دائما مع وجوب الصلاة.

إذن الإطلاق هذا ، بهذا التقريب ، لا يكون تاما ، لأن النفسية ، إنما أثبتت بالدلالة الالتزامية للإطلاق الأحوالي ، وهنا لا يوجد إطلاق أحوالي في الوجوب بحسب الفرض ، لكي يثبت بهذا الإطلاق ، أن الوجوب ثابت على كل حال ، سواء زالت الشمس أو لم تزل ، كي يستنتج من ذلك ، أنّ الوجوب نفسي لا غيري.

٣٢٥

إذن هذا التقريب قاصر في الجملة ، بمعنى أنه يفيد ، لإثبات النفسية فيما إذا فرض إطلاق أحوالي في دليل وجوب الوضوء ، بحيث يشمل صورة فقدان وجوب الصلاة ، وأمّا إذا لم يكن فيه مثل هذا الإطلاق الأحوالي ، فليس بالإمكان ، إثبات كون الوضوء واجبا نفسيا.

وقد يقال ، وإن كان هذا الإطلاق قاصرا عن إثبات النفسية في هذا الفرض ، لكن لا أثر لذلك ، فإنه ، إذا قال المولى «توضأ» ، فهنا ، أثّر في إثبات النفسية ، وهو فعليّة الوجوب على جميع الأحوال ، حتى قبل الزوال ، ولكن إذا قال المولى «إذ زالت الشمس فتوضّأ» ، فهنا لا بدّ من الإتيان بالوضوء بحكم العقل على كل حال ، إمّا لأنه نفسي ، أو لأنه ممّا توقف عليه الواجب النفسي الذي هو الصلاة ولا أثر لإثبات النفسية والغيرية ، لأنه إذا لاحظنا حالة ما قبل الزوال فلا يجب الوضوء سواء كان نفسيا أو غيريا ويجوز تركه لأنه مقيّد بالزوال ، إذن ، فقبل الزوال ، هو حالة عدم زوال ويجوز تركه ، وإذا لاحظنا حالة ما بعد الزوال ، فعلى كل حال لا بدّ من الوضوء ، سواء كان نفسيا أو غيريا ، فأيّ أثر يبقى للإطلاق الذي يثبت النفسية ، إذن فلا أثر للنفسية حينئذ.

وهذا الكلام غير صحيح ، فإنه يبقى مع هذا أثر للنفسية فإن إطلاق الصيغة في قوله ، «توضأ إذا زالت الشمس» ، إن كان يوجب النفسية ، إذن يتسجّل على المكلّف واجبان نفسيان ، أحدهما الوضوء ، والآخر الصلاة ، بحيث لو تركهما معا ، لعوقب بعقابين ، لأنه ترك واجبين نفسيين ، بخلاف ما إذا كان إطلاق الصيغة لا يقتضي النفسية هنا فإنه لا يثبت حينئذ واجبان نفسيان من ناحية الدليل الاجتهادي ولا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصول العملية ، وتحقيق ما تقتضيه حسبما يأتي إن شاء الله في بحث الواجب النفسي والغيري من أبحاث مقدمة الواجب النفسي والغيري من أبحاث مقدمة الواجب.

إذن فهنا يوجد أثر على كل حال ، لإثبات النفسية بإطلاق الصيغة ، وبهذا يتحصل أن هذا التقريب الأول لإثبات النفسية بالدلالة الالتزامية للإطلاق الأحوالي يتم في بعض الصور دون بعضها الآخر.

٣٢٦

التقريب الثاني

لإثبات النفسية ، هو ، أن نلحظ دليل «صلّ» ، لا دليل «توضّأ» ، ونتمسك بإطلاق المادة في الدليل الملحوظ ، لنفي قيدية الوضوء للصلاة وبعد نفي كون الوضوء قيدا للصلاة بإطلاق المادة في دليل «صلّ» ، يثبت أن الوضوء ليس واجبا وجوبا غيريا قيديا ، بل هو واجب وجوبا نفسيا ، فتكون النفسية مدلولا التزاميا لإطلاق المادة في دليل «صلّ».

وهذا التقريب يتوقف على افتراض عدة أمور :

الأمر الأول :

أن يكون هناك دليل ، على وجوب ذاك الواجب النفسي الذي يحتمل كون الوضوء مقدمة له ، لا ان يكون وجوبه أمرا محتملا بنفس دليل «توضأ» ، من دون أن يكون له دليل خاص يدل على وجوبه ، فمثلا يرد في رواية «إذا زرت «مسلما فتوضأ» ، ونفرض أنه لا يوجد دليل على وجوب ركعتي الزيارة حتى نتمسك بإطلاق المادة في ذلك الدليل ، وإنّما وجوب ركعتي صلاة الزيارة أمر محتمل بلحاظ دليل «توضأ» فقط ، إذن في مثل ذلك ، لا معنى للرجوع إلى إطلاق المادة ، في دليل وجوب ركعتي صلاة الزيارة ، إذن ، فأولا ، يتوقف التقريب الثاني على أن يكون الواجب النفسي ، ذا دليل معتبر مفروغ عنه ، حتى يتمسك بإطلاق المادة فيه ، لا أن يكون وجوبه أمرا محتملا بنفس دليل ما يحتمل كونه مقدمة له.

الأمر الثاني :

أن يكون الوجوب الغيري المحتمل في المقام ، وجوبا غيريا بملاك التقييد الشرعي ، لا وجوبا غيريا بملاك التوقف التكويني والواقعي ، فإنّ المقدمات على ما يأتي في بحث مقدمة الواجب على نحوين.

٣٢٧

أ ـ أحدهما ، مقدمة يتوقف عليها الواجب عقلا وتكوينا وخارجا ، من قبيل نصب السلّم للكون على السطح.

ب ـ والآخر ، مقدمة ، إنما صارت مقدمة ، لأخذها قيدا في الواجب ، من قبيل مقدميّة الوضوء للصلاة ، باعتبار أخذ الوضوء قيدا في الصلاة.

وحينئذ ، هذا المطلب الذي أمر به المولى ، وتردد أمره بين أن يكون واجبا نفسيا أو غيريا ، إن كان وجوبه الغيري المحتمل ، بملاك التقييد الشرعي في الواجب الآخر ، فحينئذ ، يمكن نفي هذا التقييد بإطلاق المادة في دليل الواجب الآخر ، وأمّا إن كان وجوبه الغيري المحتمل بملاك التقييد التكويني ، فحينئذ ، لا يمكن نفي هذه المقدّمية بإطلاق المادة في دليل الواجب الآخر كما هو واضح ، لأنّ دليل الواجب الآخر ، إنما ينفي أخذ القيد من قبل الشارع ، ولا ينفي توقفه على قيد تكويني خارجي ، فمثلا لو قال المولى ، «أنصب السلّم» ، وشك في أنّ نصب السلم ، هل هو واجب نفسي مضافا إلى الكون على السطح ، بحيث يوجد واجبان نفسيان ، أو أنه أمر مقدّمي ، من أجل الكون على السطح؟. فهنا لا يمكن الرجوع إلى دليل «كن على السطح» لنفي تقييده بنصب السلم ، لأن نصبه مقدمة تكوينية وليس قيدا شرعيا.

إذن فالتقريب الثاني ، لإثبات النفسية ، يتوقف ثانيا على أن يكون الواجب الغيري المحتمل ، محتملا بلحاظ المقدميّة الشرعية والقيدية الشرعية ، لا بلحاظ المقدميّة التكوينية.

الأمر الثالث :

أن لا يكون هذا البيان المجمل المردد بين النفسي والغيري ، متصلا بخطاب ذي المقدمة ، «بخطاب صلّ» ، بل يكون منفصلا عنه ، إذ لو كان هذا الخطاب المردّد بين النفسية والغيرية وهو خطاب «توضأ» ، متصلا بخطاب «صلّ» حينئذ ، سوف يسري إجماله إلى نفس خطاب «صلّ» ، فيتعذّر التمسك بإطلاق المادة في خطاب «صلّ».

٣٢٨

فإذا تمّت هذه الأمور الثلاثة ، يصح هذا التقريب الثاني لإثبات النفسية ، وإذا لم تتم فلا يصح هذا التقريب.

التقريب الثالث :

لإثبات النفسية ، هو إجراء الإطلاق في نفس دليل «توضأ» ، بنحو يثبت النفسية ابتداء بالدلالة المطابقية ، لا بالدلالة الالتزامية كما هو الحال في التقريبين السابقين ، وذلك بأن يقال ، أن النفسية والغيرية خصوصيتان في الوجوب ، وإحداهما وجودية ، وهي خصوصية الغيرية ، والأخرى عدمية ، وهي خصوصية النفسية ، لأن الوجوب النفسي هو الوجوب الذي لم ينشأ من وجوب آخر ، إذن فخصوصيته عدميّة ، والوجوب الغيري هو الوجوب الذي ينشأ من وجوب آخر ، إذن فخصوصيته وجودية.

وكلما دار أمر مراد المتكلم العرفي ، في أن يكون متخصصا بخصوصية وجودية ، أو خصوصية عدمية ، وكان اللفظ على حد واحد بالنسبة إلى كل من هاتين الخصوصيتين ، يتعين حمل المراد على الخصوصية العدمية ، ويكون عدم بيان الخصوصية الوجودية بنفسه بيانا للخصوصية العدمية ، لأنّ الخصوصية العدمية أخف مئونة في مقام البيان من الخصوصية الوجودية ، كما هو الحال في الإطلاق والتقييد ، فلو قال «أحلّ الله البيع» فإن اسم الجنس موضوع لذات الطبيعة ، فإذا تردّد أمر البيع ، بين أن يكون مطلقا أو مقيدا ، يثبت الإطلاق ، ببيان أن الإطلاق أمر عدمي ، والتقييد أمر وجودي ، والعرف يرى أن الخصوصية الوجودية كلفة زائدة ، فيكون عدم بيان الخصوصية الوجودية ، وهو الإطلاق ، بيانا للخصوصية العدميّة ، وهي التقييد.

وفي المقام ، الوجوب ، أمره دائر أيضا ، بين أن يكون متخصصا بخصوصية وجودية ، وهي القيدية ، أو بخصوصية عدمية ، وهي النفسية ، وحينئذ يقال ، بأن الخصوصية الوجودية أشدّ مئونة عند العرف من الخصوصية

٣٢٩

العدمية ، فعدم بيان الخصوصية الوجودية وهي القيدية ، يكون بيانا للخصوصية العدمية وهي النفسية.

وهذا التقريب ينحل إلى كبرى وصغرى :

الكبرى : هي أنه كلّما دار الأمر بين خصوصيتين ، إحداهما عدمية ، والأخرى وجودية ، يقال أن عدم بيان الوجودية بيان للعدمية.

والصغرى : هي أنه في محل الكلام ، النفسيّة خصوصية عدمية ، والغيرية خصوصية وجودية ، والنتيجة هي أن الإطلاق يثبت النفسية.

وهذا التقريب محل للإشكال ، كبرى وصغرى :

أمّا صغرى ، فلانّ النفسية والغيرية كلا منهما أمر وجودي ، فإنّ الوجوب النفسي الذي يقع موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، ليس قوامه بمجرد أن لا يكون ناشئا من ملاك في الغير ، بل هو متقوّم بحدّ وجودي ، وهو أن يكون ناشئا من ملاك في نفسه ، فالوجوب إن كان ناشئا من ملاك في غيره ، فهذا لا يحكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفته مستقلا ، وإن كان ناشئا من ملاك في نفسه فهذا الذي يحكم العقل باستحقاق العقاب عليه مستقلا.

إذن فكلتا الخصوصيتين خصوصية وجودية.

وأمّا كبرى ، فقد تقدّم في مطاوي كلماتنا ، أنه ليس كلما دار الأمر بين خصوصيتين ، إحداهما وجودية والأخرى عدمية ، يقال بأن عدم بيان الخصوصية الوجودية ، يكون بيانا للخصوصية العدمية ، ولا يتوهم أن هذا هو نكتة إثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة في أسماء الأجناس ، فلو قال المولى «أكرم العالم» ، وعلمنا أن العالم مقيّد بخصوصية ، وهذه الخصوصية هي ، إمّا العدالة ، وإمّا عدم الفسق ، وهما خصوصيتان متلازمتان بحسب الخارج فرضا ، ولكن لا ندري ، أن المأخوذ في موضوع الحكم الشرعي ، هل هو العدالة ، حيث أنه لا يمكن إحرازه بالاستصحاب ، أو عدم الفسق ، بنحو يمكن إحرازه بالاستصحاب ، ولنفرض بالاستصحاب العدمي الثابت قبل البلوغ ،

٣٣٠

بينما هنا لا يمكن بالإطلاق ، تعيين أن المأخوذ هو خصوصية عدم الفسق ، لا خصوصية العدالة ، لأن كلّا من الخصوصيتين في المقام خصوصية زائدة تحتاج إلى بيان ، والإطلاق ينفي كلا من الخصوصيتين والمفروض العلم بأخذ إحداهما في موضوع الحكم الشرعي ، ولا يوجد هناك نكتة لاستظهار أنّ المأخوذ هو الأمر العدمي لا الأمر الوجودي.

فليست هذه الكبرى هي الأساس لإثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة في اسم الجنس ، وذلك لما حقّقناه في بحث المطلق والمقيّد ، من أن مقدمات الحكمة ، ليست وظيفتها إثبات الإطلاق اللحاظي ، في مقابل التقييد اللحاظي ، بل وظيفتها ، إثبات الحكم على الجامع ، بين المطلق والمقيّد ، المسمّى بالمطلق الذاتي وباللابشرط المقسمي ، إذ لم نجعل هناك ، عدم التقييد اللحاظي ، بيانا للإطلاق اللحاظي ، بل جعلنا عدم بيان التقييد اللحاظي ، بيانا ، لكون الحكم قد ثبت على الجامع ، بين المطلق اللحاظي والمقيّد اللحاظي ، دون أن يسري لا إلى مئونة التقييد اللحاظي ، ولا إلى مئونة الإطلاق اللحاظي ، فليس الأمر هناك دائرا بين خصوصية وجودية وخصوصية عدميّة ، بل بين الخصوصية واللاخصوصيّة أصلا.

وعليه فلا يمكن جعل هذه الكبرى قانونا لمقدمات الحكمة في بحث المطلق والمقيد ، فمقدّمات الحكمة في اسم الجنس ، لا تثبت الخصوصية العدمية ، ولا الخصوصية الوجودية ، بل تثبت الحكم على الجامع ، بين المطلق والمقيد المسمّى باللابشرط المقسمي على تفصيل في بحث المطلق والمقيد.

نعم هذه الكبرى صحيحة بمقدار «ما» ، سوف نشير إليه بعد إكمال الحديث ، وهو أننا بمقدار ما نسلّم هذه الكبرى ، لكن لا بهذا العنوان ، بل بعنوان آخر.

٣٣١

التقريب الرابع

لإثبات النفسية بالإطلاق في دليل «توضأ» ، هو ، تبديل الكبرى المذكورة إلى كبرى أخرى ، بأن يقال ، أنه كلّما دار أمر مقام الثبوت ، بين خصوصيتين ، وكان أمر مقام الإثبات تابعا لكل من تلكما الخصوصيتين ، بمعنى أنّ كلا من الخصوصيتين الثبوتيتين كان يناسبها بحسب الارتكاز العرفي ، خصوصية في مقام الإثبات ، فيوجد خصوصيتان في مقام الثبوت ، يوازيهما خصوصيتان في مقام الإثبات ، وحينئذ ، إن كان مقام الإثبات والبيان واجدا لإحدى الخصوصيتين الإثباتيتين الارتكازيتين العرفيتين ، نستكشف بأصالة المطابقة بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، أنّ مقام الثبوت واجد لما يناسب تلك الخصوصيّة.

ولنطبّق هذه الكبرى على المطلق والمقيد ، فإذا فرضنا أن مراد المتكلم كان دائرا بين المقيّد اللحاظي ، والمطلق اللحاظي ، دون البناء على المطلق الذاتي ، وكان مقام الثبوت دائرا بين أخذ القيد ورفض القيد ، فهنا أخذ القيد ثبوتا ، يناسبه إثباتا ذكر القيد ، ورفض القيد ثبوتا ، يناسبه إثباتا السكوت عن القيد ، فإنّ رفض الشيء في عالم الإثبات والبيان ، ليس معناه إلّا عدم التكلّم به والسكوت عنه ، وحينئذ إذا دار أمر مقام الثبوت ، بين أن يكون المجعول الثبوتي ، قد أخذ فيه القيد ، أو لم يؤخذ فيه القيد لحاظا ، حينئذ يلتفت إلى مقام الإثبات ويقال ، أن المولى في مقام الإثبات لم يأخذ القيد كلاما ، إذن هو لم يأخذه لحاظا في مقام الثبوت ، وبذلك يثبت الإطلاق اللحاظي.

فالنكتة في إثبات الإطلاق ، هي أصالة التطابق ، بين مقام الثبوت ومقام الإثبات ، وهذه نكتة عرفية عقلائية يعملها العرف والعقلاء في كل خصوصيتين ثبوتيتين يدور الأمر بينهما ثبوتا ويكون لكل منهما خصوصية موازية ومتشابهة في مقام الإثبات ، وحينئذ يستكشف الشبيه من شبيهه ، فينظر في مقام الإثبات ، أنه ما هي خصوصيته ، وتجرى أصالة المطابقة بين مقام الإثبات والثبوت.

٣٣٢

فهذه الكبرى غير الكبرى السابقة ، القائلة بتقديم كل خصوصية وجودية على الخصوصية العدمية.

وبهذا لا تجري هذه النكتة وهذه الكبرى في المثال الذي نقضنا فيه الكبرى السابقة. وهو فيما إذا علمنا بأن العالم قد قيّد ثبوتا ، إمّا بخصوصية العدالة ، أو بخصوصية عدم الفسق ، فهنا لا يمكن أن نثبت بأنه قد قيّد بخصوصية عدم الفسق ، لأن مقام الإثبات لا يشبه كلا الأمرين ، فإنّ أخذ خصوصية العدالة ثبوتا يناسبه أخذ كلمة العدالة إثباتا ، وأخذ خصوصية عدم الفسق ثبوتا ، يناسبه أخذ كلمة عدم الفسق إثباتا ، والمفروض أنّ المولى لم يأخذ إثباتا ، لا هذا ولا ذاك ، إذن ففي هذا المثال ، أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت لا تنفع شيئا في تعيين الخصوصية الوجودية في مقابل الخصوصية العدمية.

وهذا هو فرق هذه الكبرى عن تلك الكبرى ، وهذا هو شاهد صحة وعرفيّة هذه الكبرى ، بخلاف تلك الكبرى ، إذ في مثل هذا المثال ، لا إشكال في أن العرف لا يعيّن أحد التقييدين في مقابل التقييد الآخر ، وهذا يكشف عن أن النكتة الكبروية في نظره ليس مجرد كون إحدى الخصوصيتين وجودية والأخرى عدمية ، بل مسألة التطابق والتسانخ بين مقام الإثبات ومقام الثبوت.

فكل الخصوصيات التي تعتبر من الحالات المشخصة لمقام الإثبات ، إذا كان يوجد خصوصيات وجودية تسانخها وتشابهها بحسب المناسبات والقرائح اللغوية السوقية ، حينئذ يستكشف بأصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، أن مقام الثبوت واجد لتلك الخصوصيات.

ومبنيا على هذا ، حينئذ ، يدّعى تطبيق هذه الكبرى في محل الكلام ، فيما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري ، وذلك بأن يقال :

أن الوجوب النفسي والغيري مختلفان ثبوتا ، فإن الواجب النفسي ملحوظ بنحو المعنى الاسمي بما هو هو ، والواجب الغيري ملحوظ استطراقا

٣٣٣

وبنحو المعنى الحرفي وتبعا لغيره ، فالواجب النفسي ملحوظ بالأصالة ، والواجب الغيري ملحوظ بالتبعية والحرفية بحسب عالم الثبوت.

وحينئذ يناسب الأصالة في عالم اللحاظ ، الأصالة في عالم البيان ، ويناسب التبعية والحرفية في عالم اللحاظ ، التبعية والحرفية في عالم الإفادة والبيان.

وهذا معناه ، أن المولى فيما إذا قال ابتداء ، «توضأ» ولم يجعل ذلك في سياق الصلاة ، بحيث لم يقل «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» ففي مثل ذلك يقال ، بأنّ لحاظ المولى الإثباتي الإفادتي لوجوب الوضوء ، هو لحاظ استقلالي للوضوء ، ومقتضى أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، أن يكون الوضوء في مقام الثبوت أيضا ملحوظا استقلالا ، سنخ ملاحظته الاستقلالية في اللحاظ الإثباتي الإفادتي ، وهذا نحو من التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت المشمول لتلك الكبرى الكلية ، بحسب الارتكاز العرفي.

ومن هنا لا ينبغي الاستشكال ، بأنّ متى ما صدر من المولى بيان لوجوب شيء ، فظاهره ، كونه واجبا نفسيا ، ولو لم يكن له إطلاق أحوالي أصلا ، وأيضا حتى ولو لم يكن للدليل الآخر ، «صلّ» إطلاق أحوالي أصلا ، فبقطع النظر عن الإطلاقات الأحوالية ، إذا قال المولى «إذا زالت الشمس فتوضأ» ، ظاهره الوجوب النفسي ، ما لم يكتنف هذا البيان خصوصية توجب كونه تبعيا ، أو توجب إجماله من هذه الناحية ، كما إذا قال ، «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» هذا هو التقريب الرابع للإطلاق ، لإثبات النفسية في المقام ، وهذا هو الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية

والكلام في هذه الجهة ، يدور حول تحقيق مقتضى الصيغة ، من حيث التعينية والتخيرية. فلو شك في كون الواجب تعيينيا أو تخييريا ، كما لو قال ،

٣٣٤

«أطعم ستين مسكينا» ، فمقتضى إطلاق الصيغة ، كونه واجبا تعيينيا ، وتحقيق ذلك وتخريج هذا الإطلاق ، يختلف باختلاف المباني في حقيقة الوجوب التخييري والتعييني ، وفي المقام ثلاثة مباني.

المبنى الأول

هو ما توهم ، أنّ الوجوب التخييري ، مرجعه إلى وجوبين مشروطين ، يعني وجوب يتعلق بإطعام ستين مسكينا ، لكنه مشروط بعدم عتق الرقبة ، ووجوب يتعلق بعتق الرقبة ، لكنه مشروط بعدم الإطعام ، فمرجع الوجوب التخييري إلى الوجوب المشروط :

وعلى هذا المبنى ، فمن الواضح ، أن مقتضى الإطلاق ، هو التعيينية ، ونفي التخييرية ، ومرجع ذلك ، إلى التمسك بالإطلاق الأحوالي في مفاد الهيئة ، لأنّ قوله ، «أطعم ستين مسكينا» إن كان تخييريا ، فلا بدّ أن يكون مقيّدا بعدم عتق الرقبة ، وإن كان تعيينيا ، فهو مطلق من هذه الناحية.

فالشك في التعيينية والتخييرية ، معناه الشك في أن وجوب الإطعام المجعول في خطاب «أطعم ستين مسكينا». هل هو وجوب مقيّد بترك الآخرة ، أو وجوب مطلق.

ومن الواضح أن مقتضى الإطلاق الأحوالي ، هو وجوب الإطعام ، سواء أعتق أو لم يعتق ، وهذا الإطلاق الأحوالي ، يثبت التعيينية في مقابل التخييرية.

المبنى الثاني

في تصوير الواجب التخييري ، هو أن يقال ، بأنّ الوجوب التخييري ، مرجعه إلى وجوب واحد متعلق بالجامع ، بين العتق والإطعام ، لا إلى وجوبين مشروطين ، وعلى هذا المبنى ، يمكن تقريب التمسك بالإطلاق ، لإفادة التعيينية ، بأحد تعبيرين :

٣٣٥

التعبير الأول : أن يقال ، بأن ظاهر قوله ، أطعم أو أعتق ، هو أنّ الوجوب متعلق بالإطعام بعنوانه ، لا بعنوان آخر منطبق عليه ، وحينئذ ، لو كان وجوب الإطعام وجوبا تعيينيا ، فهذا الظهور محفوظ في المقام ، وأمّا إذا كان وجوبا تخييريا ، فهو غير متعلق بهذا العنوان ، بل بالجامع بين العنوانين ، فيكون الوجوب متعلقا بعنوان الإحسان مثلا ، الذي هو جامع بين العتق والإطعام ، كما في «أحسن إلى الغير».

وهذا خلاف ظاهر ارتباط مدلول الهيئة بمدلول المادة ، فإنّ ظاهر ارتباط مدلول الهيئة بمدلول المادة ، أنّ الوجوب متعلّق بنفس عنوان المادة ، لا بعنوان آخر منطبق عليه.

التعبير الثاني : هو نفس التمسك بالإطلاق الأحوالي ، الذي ذكرناه على المبنى الأول ، بناء على أنّ كل وجوب مقيّد بعدم الإتيان بمتعلقه ، فإنه حينئذ يقال ، بأنّ ظاهر قوله ، «أطعم ستين مسكينا» ، هو الإطلاق الأحوالي ، سواء أعتق أو لم يعتق ، وهذا الإطلاق الأحوالي ، لا يناسب مع الوجوب التخييري ، إذ لو كان وجوب الإطعام ، وجوبا تخييريا متعلقا بعنوان الإحسان الجامع بين الفردين ، لا يعقل شموله لفرض ما إذا وقع العتق خارجا ، بناء على أنّ الوجوب مقيد بعدم الإتيان بمتعلقه ، فإطلاقه الأحوالي لفرض وقوع العتق خارجا ، ممّا يدل على أنه وجوب تعييني ، لا وجوب تخييري ، إذ لو كان وجوبا تخييريا ، لاستحال أن يكون محفوظا وشاملا لصورة الإتيان بالعدل ، لأنّ هذا الوجوب التخييري ، مرجعه إلى إيجاب الجامع ، ولا معنى لكون إيجاب الجامع ، محفوظا حتى مع الإتيان بالجامع في ضمن الفرد الآخر.

المبنى الثالث

هو أن الوجوب التخييري ، سنخ طلب مشوب بجواز الترك إلى بدل ، فيكون مرتبة متوسطة بين الوجوب التعييني والاستحباب ، وتوضيح ذلك هو ، أنّ المولى في جميع موارد الوجوب التعييني والتخييري والاستحباب ، لديه

٣٣٦

طلب مطلق ، والطلب هذا ، من حيث إطلاقه ، لا يختلف حاله بين موارد وجوب صلاة الصبح تعيينا ، أو موارد وجوب صلاة الجمعة تخييرا ، أو استحباب صلاة الليل نافلة ، ففي كل هذه الموارد الثلاثة ، يوجد طلب مولوي مطلق ، لكن الطلب المطلق المتعلق بصلاة الليل ، هو طلب مشوب بجواز الترك المطلق ، أي أنّ المولى يرخص بمخالفة هذا الطلب ، وأمّا الطلب التعييني الوجوبي لصلاة الصبح ، فإنّ المولى لا يرخص بمخالفته مطلقا ، وأمّا الطلب التخييري الوجوبي لصلاة الجمعة ، «بناء على الوجوب التخييري لصلاة الجمعة» ، فهو مرتبة وسطى ، بين هاتين المرتبتين ، فإنّ المولى يرخص في تركه ، لكن لا كل أنحاء تركه ، بل في بعض أنحاء تركه ، وهو الترك إلى بدل ، إذن فطلب الوجوب التخييري ، عبارة عن طلب مطلق ، مقترن بحصة خاصة من حصص الترك ، في مقابل الاستحباب الذي هو طلب مطلق ، مقترن بتجويز مطلق حصص الترك ، وفي مقابل الوجوب التعييني ، الذي هو طلب مطلق ، مقترن بعدم تجويز أي حصة من حصص الترك.

فلو بنينا على هذا المبنى ، فحينئذ ، تكون نسبة الوجوب التخييري إلى الوجوب التعييني ، نسبة الاستحباب إلى الوجوب.

وعليه فنفس البيانات السابقة في توضيح اقتضاء الصيغة للوجوب أو للاستحباب ، ترد في المقام ، لتعيين اقتضاء الصيغة للوجوب التعييني ، في مقابل الوجوب التخييري.

فقد قلنا سابقا ، أنّه لو لم نلتزم بأن صيغة «افعل» ، موضوعة للوجوب ، ولكن مع هذا ، فهي تدل على الوجوب بالإطلاق ، لما بيّناه ، من أن مفاد صيغة «افعل» ، هو النسبة الإرسالية والإلقائية ، وهذه النسبة ، لا تترك مجالا لعدم الانفعال بهذا الإلقاء ، وهذا معنى سدّ جميع أبواب العدم ، بملاك المساوقة بين الإلقاء التشريعي والإلقاء التكويني ، فكما أنّ الإلقاء التكويني يسد جميع أبواب العدم ، فكذلك الإلقاء التشريعي لا يترك مجالا للترك ، وقد تقدّم توضيح هذا الإطلاق سابقا ، وبنفس هذا التقريب ، أثبتنا الوجوب في مقابل الاستحباب.

٣٣٧

وبهذا التقريب ، نثبت الوجوب التعييني في مقابل الوجوب التخييري ، وحيث أن الإلقاء التكويني لا يترك مجالا لفتح أي باب من أبواب عدمه ، فمقتضى الموازنة بين الإلقاءين ، أن يكون الإلقاء التشريعي كذلك ، لا يترك مجالا لفتح أي باب من أبواب عدمه ، فهو يسد جميع أبواب عدمه بمقتضى هذا الإطلاق ، بمعنى أنّه لا يسمح بأي حصة من حصص العدم ، وليس معنى هذا إلّا كون الوجوب تعيينيا.

الجهة الثالثة

وهي فيما إذا دار الأمر بين العينية والكفائية.

وتمام ما قلناه في الجهة الثانية ، يأتي في الجهة الثالثة ، فإنه كذلك يتصوّر في الواجب الكفائي ، المباني الثلاثة المتقدمة ، وفي كل من هذه المباني ، يمكن تخريج الإطلاق بالنحو المتقدم.

٣٣٨

الفصل الثالث

وهو فيما إذا ورد الأمر في مورد توهّم الحرمة والحظر ، أو عقيب الحرمة والحظر ، فلا يكون لهذا الأمر ظهور في الوجوب (١) ، والذي يظهر من كلماتهم ، أنها متفقة على أن الأمر لا يبقى له ظهور في الوجوب.

ولكن وقع الخلاف بينهم ، في أن هذا الأمر ، هل يكون له ظهور في الإباحة ، أو له ظهور في الحكم السابق على الحرمة والحظر ، أو لا يكون له ظهور في مثل ذلك؟.

وقد ذكر السيد الخوئي (٢) ، إن انسلاخ الأمر عن الظهور في الوجوب في حالة توهم الحظر ثابت على كل حال ، سواء قلنا بأن دلالة صيغة «افعل» على الوجوب بحكم العقل ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع ، فحتّى لو قلنا بالوضع ، فإنه لا يبقى للصيغة ظهور فعليّ في الوجوب ، وذلك لدخول الأمر حينئذ ، تحت نكتة الظهور المتصل بما يحتمل أن يكون قرينة على عدم الظهور الفعلي في الوجوب (٣) ، إذ أن هذه الصيغة متصلة بوضع ، هو كون

__________________

(١) كما ذهب إليه بعض العامة ـ الاحكام في أصول الأحكام ـ الآمدي ج ٢ ص ١٦٥.

(٢) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٢٠٥.

(٣) محاضرات فياض : ج ٢ ص ٢٠٥.

٣٣٩

المورد من موارد الحظر ، فهذه الموردية بنفسها تكون صالحة لإجمال ظهور الصيغة لاحتمال كون هذه الموردية قرينة ، واتصال الكلام بما يحتمل قرينيّته ، يوجب الإجمال لا محالة ، من دون فرق ، بين أن يكون الظهور ظهورا وضعيا ، أو غير وضعي ، فمثلا ظهور لفظة الأسد في الحيوان المفترس ، ظهور وضعي ، فإذا أطلق هذا اللفظ مع كلمة أخرى يحتمل كونها قرينة على أن لفظ الأسد استعمل في الرجل الشجاع فحينئذ ، يتعطل الظهور الوضعي ، لاحتمال كون هذه الكلمة الأخرى ، قرينة على عدم إرادة المدلول الوضعي للفظ الأسد

وهذا الكلام بهذا البيان غير مقبول ، وذلك ، أن القرينة التي يحتمل كونها قرينة على إبطال الظهور ، ليست سوى كون المورد من موارد توهم الحظر ، وهذا معناه ، احتمال كون المولى في مقام بيان الإباحة ، ومجرد كون المورد من موارد توهم الحظر ، واحتمال أن يكون المولى في مقام بيان الإباحة ، لا يكفي لإبطال الظهور.

فبعد فرض أن صيغة افعل لها ظهور في الوجوب ، وحينئذ في غير مورد توهم الحظر ، لو قال المولى ، «صلّ صلاة الليل» ، ولا يتوهم حرمة صلاة الليل ، ففي مثل هذا يقال ، بأنّ ظهوره في الوجوب منعقد ، لكن إذا قال المولى ، «فإذا حللتم فاصطادوا» فهنا حيث يتوهم حرمة الصيد ، قال ، «فاصطادوا» ، فهنا لعلّه في مقام بيان احتمال الإباحة ، لا في مقام بيان الوجوب.

فغاية ما توجب هذه الموردية ، التي أراد السيد الخوئي ، أن يجعل منها قرينة ، هو أن يكون المراد غير الوجوب ، ومن الواضح أن احتمال أن يكون المراد هو غير الوجوب ، لا يسقط الظهور ، فإنّ كثيرا ما يحتمل الإنسان معنى آخر ، إلى جنب الظاهر ، ولكن الحجة عليه هو المعنى الظاهر ، لا المحتمل كونه معنى آخر غير الظاهر.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ موردية هذه المادة ، لتوهم الحظر ، لا يوجب إسقاط الظهور في الوجوب.

٣٤٠