بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

إذن فيلزم من عدم بيانه له نقض غرضه ، وحينئذ يتم البرهان.

وأمّا إذا لم يلزم من عدم بيانه له نقض غرضه ، فلا يتم البرهان ولا يتم الإطلاق المقامي.

ومن هنا كان موضوع هذا التقريب ، بيان أنّه ، متى يلزم نقض الغرض حتى يتم البرهان ، وبالتالي يتم الإطلاق المقامي.

وقد أوضح المحقق العراقي (١) ، أن لزوم نقض الغرض يتوقف على أحد أمرين ، إن تمّ أيّ واحد منهما تمّ لزوم نقض الغرض ، وتسجّل البرهان وثبت الإطلاق المقامي.

الأمر الأول هو أن قصد القربة غالبا ما يكون من القيود المغفول عنها عرفا ، بحيث أن الإنسان العرفي غالبا وعادة لا يلتفت إلى معنى قصد القربة ، ولا يخطر على باله احتمال اعتبار قصد القربة من باب الغفلة وعدم دقة النظر.

الأمر الثاني هو أنه لو سلّم أن قصد القربة من القيود غير المغفول عنها والملتفت إليها ، فهل تجري في موردها أصالة الاشتغال عند الشك ، أو أصالة البراءة كما سيأتي؟.

وهنا في الأمر الثاني هذا ، بعد تسليمه بكون قصد القربة من القيود الملتفت إليها عادة والمشكوك فيها غالبا ، فإنه يبنى على كون الشك هنا مجرى لأصالة البراءة ، لا لأصالة الاشتغال.

وعليه فإن تمّ الأمر الأول أو الأمر الثاني تمّ الإطلاق المقامي عند المحقق العراقي ، وإن لم يتم كلا الأمرين لم يتم هذا الإطلاق وتوضيح ذلك.

هو أنه إذا تمّ الأمر الأول ، وقلنا أن قصد القربة من القيود المغفول عنها عادة عند الناس ، فحينئذ يقال ، بأن قصد القربة ، لو كان دخيلا في غرض

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٣٠١

المولى ، وهو يعرف أنه ممّا يغفل عنه الناس غالبا ، ولا يأتون به إذا لم يبيّنه لهم ، ورغم هذا لم يبينه ، فيكون بذلك ناقضا لغرضه إذن فيلزم من عدم البيان رغم كونه دخيلا في غرضه نقض غرضه.

وعليه فيتم البرهان الأول ، وحينئذ يستكشف من عدم بيانه بالجملة الخبرية لما هو دخيل في غرضه الذي يغفل عنه غالبا ، يستكشف أنه ناقص للغرض ، ونقض الغرض مستحيل ، كما يكون عدم البيان هذا دليلا على عدم الدخل ، وهذا إطلاق مقامي.

وكذلك لو أنكرنا الأمر الأول ، وقلنا أن قصد القربة من القيود التي يلتفت إليها الناس عادة وعرفا ورغم هذا بنينا على أن كل من شك في أخذ قصد القربة ودخله في الغرض ، لو لم يقم عليه بيان ، تجري البراءة في حقه ، لو قلنا هذا ، أيضا يلزم منه نقض الغرض ، بسبب عدم بيان المولى بالجملة الخبرية لما لو كان له دخل في غرضه للزم من عدم بيانه له نقضا للغرض ، وبذلك نستكشف أيضا عدم الدخل في الغرض وهذا إطلاق مقامي أيضا.

وأمّا إذا لم نقبل كلا الأمرين ، وقلنا أن قصد القربة من القيود التي يلتفت إليها الناس عادة ، خلافا للأمر الأول ، وقلنا بأن الأصل الجاري عند الشك في دخل قصد القربة في الغرض ، هو أصالة الاشتغال ، لا أصالة البراءة ، فحينئذ لا يكون المولى ناقضا لغرضه لو لم يبين اعتبار أخذ قصد القربة ، حتى لو كان دخيلا في غرضه ، إذ لعلّه اعتمد في مقام تحصيل غرضه على أصالة الاشتغال التي يجريها المكلّف عند شكه في دخل قصد القربة في غرض المولى.

وبذلك ، لا يكون المولى ناقضا لغرضه.

وعليه فلا يمكن أن نستكشف من عدم البيان عدم الدخل في الغرض.

وعلى هذا فمن ثبت عنده أحد الأمرين يتم عنده الإطلاق المقامي لنفي اعتبار قصد القربة.

وهذا التقريب يرد عليه اعتراضان.

٣٠٢

أ ـ الاعتراض الأول ، هو أن يقال ، بإن هذا الإطلاق المقامي بهذا البيان لا يفيدنا شيئا في أكثر الموارد وليس هو المقصود.

وتوضيح ذلك ، هو أن يقال ، بأن هذا الإطلاق المقامي بهذا البيان غاية ما يثبته هو ، أن عدم بيان المولى لدخل قصد القربة بجمله خبرية ، يكشف عن عدم كون قصد القربة دخيلا في غرض المولى ، وذلك ببرهان لزوم نقض الغرض لو كان دخيلا ولم يبينه ، وهذا البيان إنما ينفع فيما إذا كنّا قد أحصينا تمام ما صدر عن المولى من كلمات وبيانات وجزمنا بأنه لم يصدر منه شيء طيلة حياته بخصوص دخل قصد القربة في غرضه ، بحيث ثبت عندنا سكوته المطلق عن هذه الناحية ، حينئذ نقول ، بأنه لو كان قصد القربة دخيلا في غرضه ومع هذا سكت سكوتا مطلقا ولم يبيّن ، يكون هذا نقضا للغرض ، وببرهان نقض الغرض نستكشف من السكوت المطلق عدم دخله في الغرض.

ولكن لا يمكن إن نستكشف من هذا الإطلاق المتوقف على إحراز السكوت المطلق وعدم البيان عدم دخله في غرضه ، إذ لعلّ المولى بيّن ولكن لم يصل إلينا.

إذن لا سبيل إلى إحراز السكوت المطلق في أكثر الموارد.

نعم إن الشيء الذي نحرزه ، هو سكوت المولى في خصوص هذا المورد عن قصد القربة حيث قال «اغسل ثوبك مرتين» دون أن يتطرق إلى قصد القربة أو يبيّن أنها دخيلة في الغرض.

ومن الواضح أن سكوت المولى عند شخص هذا المورد وشخص هذا الخطاب ليس هو السكوت المطلق الذي يكشف لنا عن عدم دخل قصد القربة في غرضه ، لأنه لا يلزم من سكوته في شخص هذا المورد وهذه اللحظة ، لا يلزم من ذلك نقضه للغرض ، إذ لعلّه قد بيّن قبل هذا المورد وهذه اللحظة.

وبعبارة أخرى ، أنه عندنا في المقام سكوتان.

٣٠٣

سكوت مطلق ، ومطلق السكوت ، أي السكوت في حال صدور شخص خطاب «اغسل ثوبك مرتين». فإنه وإن كان السكوت المطلق يكشف عن عدم اعتبار قصد القربة ، ولكن لا سبيل إلى إحرازه.

ومطلق السكوت ، أي سكوته عند صدور شخص هذا الخطاب ، وإن كان يوجد سبيل إلى إحرازه ، وهو شهادة الراوي مثلا ، ولكن هذا لا ينفعنا في لزوم نقض غرضه ، إذ لعلّه قد بيّنه في لحظة أخرى.

إذن فالإطلاق المقامي بهذا التقريب لا ينفع شيئا.

ب ـ الاعتراض الثاني ، على هذا التقريب ، هو أن هذا التقريب يبرهن عقلا على أنّ قصد القربة ليس شرطا واقعيا دخيلا في غرض المولى واقعا حتى لو أحرزنا السكوت المطلق ، لأنه لو كان دخيلا واقعا وعلى الإطلاق في غرض المولى ورغم سكوت المولى سكوتا مطلقا يلزم منه نقض الغرض ، مع هذا كله ، فإنّ هذا التقريب لا يبرهن على نفي احتمال أن يكون قصد القربة شرطا ذكريا ، يعني شرطا عند ذكره والالتفات إليه ولو على سبيل الصدفة.

وتوضيح ذلك ، هو أن الشروط على قسمين.

شروط تكون شرطيّتها أو جزئيتها واقعية على الإطلاق ، بحيث تكون محفوظة حتى مع الغفلة والذهول ، بلحاظ هذا ، يحكم ببطلان العمل لو صدر ناقصا من الغافل والذاهل.

وهناك قسم آخر من الشروط ، تكون شرطيته ، شرطية ذكرية ، بمعنى أن الملتفت إلى كونه شرطا يجب عليه الإتيان به ، أمّا من تركه عن غفلة وذهول ، فلا ضير عليه وعمله صحيح.

إذن فهذا الإطلاق المقامي بهذا البيان البرهاني الآنف ، إنما ينفي الشرطية الواقعية المطلقة ، دون أن ينفي الشروط المقيّدة بالذكر والالتفات ، ولكن حتى لو قبلنا ما قيل حول القسم الأول ، من أن الإطلاق لا ينفيه ، لأنه

٣٠٤

الشروط المغفول عنها عادة ، ولذلك أوجبنا على المولى بيانه ليرفع عنهم الغفلة.

أقول حتى لو قبلنا بهذا ، فلا يلزم من عدم بيان المولى له نقض الغرض ، لأنه إن كان كما ذكر أنه شرط ذكري ، وفرضنا أنه تجري أصالة الاشتغال عند الالتفات ، إذن فالمولى هنا لم ينقض غرضه ولو لم يبيّن ، لأنّ الشرطية غير موجودة أصلا بالنسبة إلى الغافل ، وبالنسبة إلى الملتفت ، هي موجودة ، وتجرى في حقه أصالة الاشتغال.

فهذا البيان ، مع قبولنا بالقسم الأول ، لا يكفي لنفي الشرطية الذكرية وإن كان ينفي الشرطية الواقعية ، ولكن المقصود في المقام ، هو نفي الشرطية بكل أنحائها بما فيها الشرطية الذكرية ، هذا مضافا إلى أنه يلزم عدم كون هذا الإطلاق مفيدا لمن لا يغفلون كغفلة الإنسان العرفي.

وعليه فهذا الإطلاق المقامي غير مفيد بسبب هذين الاعتراضين.

التقريب الثاني

للتمسك بالإطلاق المقامي ، وهو التقريب الوجيه ، وحاصله ، هو أن يدّعى ، أن المولى حينما يقول «اغسل ـ صلّ ـ» لا إشكال في أن مدلول خطابه هو الأمر والجعل في مقام بيان الحكم ، وظاهر حاله أنه في مقام بيان تمام ما يأمر به ويطلبه ، لكن لا بنحو يكون الأمر منظورا إليه بالنظرة الاستقلالية ، بل بما هو طريق إلى غرضه ، لأن المولى إنما يهتم بإيصال أمره إلى عبده باعتبار أن أمره كاشف عن غرضه ، وليس من باب أنه أمر بما هو أمر ، فالأمر ملحوظ عرفا من قبل الآمر بنحو المعنى الحرفي وبما هو معبّر وكاشف عن الغرض ، إذن فهو في مقام بيان تمام الغرض.

وحينئذ ، فإذا ثبت بالظهور الحالي المقامي ، أنه في مقام بيان تمام الغرض ، وإن لم يكن الغرض هو المدلول المطابقي للخطاب ، ولكن حيث أن مدلوله المطابقي ، وهو الأمر ، ملحوظ طريقا إلى الغرض وكاشفا عنه ، فيكون

٣٠٥

المولى بحسب ظهور حاله ، في مقام بيان تمام غرضه عند التصدّي لبيان تمام أمره ، وحينئذ إذا سكت عن شيء ولم يبيّن دخل قصد القربة ولو بنحو الجملة الخبرية ، ينعقد الإطلاق باعتبار الظهور الحالي ، لا باعتبار برهان نقض الغرض ، فيقال ، بأن ظاهر حال المولى أنه في مقام بيان تمام غرضه بواسطة أمره الكاشف عن غرضه ، وحيث أنه لم يبيّن دخل قصد القربة في الغرض ولو بالجملة الخبرية ، يستكشف من ذلك ، عدم دخله.

وهذا إطلاق مقامي ، يرجع إلى باب الظهور الحالي لكلام المولى ، ولا بأس بادّعائه في المقام الأول وهو تأسيس الأصل اللفظي عند الشك في التعبدية والتوصلية.

٣٠٦

المسألة الثانية

وهي فيما إذا شك في كون واجب تعبديا أو توصليا بالمعنى المعروف للتوصلي ، وهو ما لا يحتاج سقوطه إلى قصد القربة ، فما هو الأصل العملي عند الشك ، بعد فرض عدم الدليل الاجتهادي من الإطلاقات اللفظية ، لإثبات التوصلية ، فهل مقتضى القاعدة ، هو أصالة البراءة ، أو أصالة الاشتغال؟. المتبادر إلى الذهن بدوا ، أن المقام صغرى من صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث أنه لو فرض اعتبار قصد القربة ، فليس هو واجبا مستقلا ، وإنما هو جزء من الواجب الأصلي ، فيرجع الشك في الحقيقة ، إلى دوران الأمر في الواجب ، بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإذا بني هناك على البراءة بني هنا على البراءة ، وإذا بني هناك على الاشتغال ، بني هنا على الاشتغال.

ولكن تفصيل الكلام في ذلك هو : أنه إن بني على أن قصد القربة ممّا يمكن أن يتعلق به الأمر الشرعي ، فإمّا أن يقال بتعلق نفس الأمر الأول به ، بناء على إمكان أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر الأول ، وإمّا بتعلق أمر ثان به ، بناء على مسلك متمم الجعل ، حيث يتصور أمران ، أحدهما متعلق بذات الفعل ، والآخر متعلق بقصد القربة ، فعلى هذين المسلكين تجري البراءة عند الشك في اعتبار قصد القربة.

أمّا على المسلك الأول ، وهو فيما إذا كان قصد القربة مما يمكن أخذه في الأمر الأول ، إذن فحاله حال سائر ما يشك في جزئيته وشرطيته ، فيكون

٣٠٧

المقام من صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين ، فتجري البراءة هنا ، بناء على جريانها هناك.

وأما على المسلك الثاني ، القائل بمتمم الجعل ، فإن متمم الجعل جوهرا وروحا روح الأمرين الضمنيين ، وإن لم يكونا أمرين ضمنيين بحسب الجعل ، ولكن كأنهما أمران ضمنيّان روحا وجوهرا.

فعلى هذا ، إذا شكّ في قصد القربة ، يكون الشك في الوجوب الزائد ، فتجري البراءة ، إذ يقال ، بأن وجوب أصل الصلاة معلوم ، ووجوب قصد القربة بالجعل الثاني مشكوك ، فتجرى البراءة عن هذا الوجوب المشكوك.

وكذلك أيضا ، تجري البراءة ، بناء على مسلكنا في تصوير حقيقة الواجب التعبدي ، حيث أننا وإن ذهبنا إلى أنّ قصد القربة لا يمكن أن يتعلق به لا الأمر الأول ولا الأمر الثاني ، ولكن مسلكنا أن الأمر التعبدي ينحل إلى أوامر متعددة ، «إلى صلّ ، وكلما صلّيت صلّ إلى أن تأتي بالصلاة بقصد القربة» ، بينما الأمر التوصلي أمر واحد ، يسقط بمجرد الإتيان بالفعل ، وعلى هذا المسلك ، لو شك في واجب ، أنه تعبدي أو توصلي ، فهذا معناه ، الشك في وجود أمر ثاني ب «صلّ» ، بعد أن أتيت بالصلاة بدون قصد القربة ، وعدم وجود أمر ثاني ، فيرجع الشك ، إلى الشك في الوجوب الشرعي الزائد ، فتجري البراءة عنه.

نعم هذا الوجوب الشرعي الزائد المشكوك على مسلكنا ، ليس هو وجوب قصد القربة ، بل هو وجوب تكرار نفس الفعل.

إذن على هذه المسالك الثلاثة ينبغي القول بإجراء البراءة ، لأن التعبدية مرجعها إلى وجوب شرعي زائد ، فالشك في التعبدية ، شك في الوجوب الشرعي الزائد ، فتجري البراءة ، كما هو الحال في سائر موارد الشك في التكليف.

٣٠٨

وإنما الكلام ، بناء على مبنى المحقق الخراساني (قده) الذي يقول (١) ، بأن الأمر التعبدي ، أمر واحد متعلق بذات الفعل ، ولا يتصور الأمر بقصد القربة ، لا بالجعل الأول ، ولا بالجعل الثاني ، كما لا يتصور أمرا ثانيا بذات الفعل ، بل هو يرى ، أن الأمر الأول متعلق بذات الفعل ، ولكن في موارد التعبديات ، لا يسقط هذا الأمر ، بمجرد الإتيان بالفعل ، بل يبقى ببقاء غرضه ، وحيث أن الأمر لا يسقط ، فالعقل يحكم بلزوم الخروج عن عهدته ، وذلك بإسقاطه (٢) بالإتيان بالفعل مع قصد القربة ، وعلى هذا المبنى ، لو شكّ في واجب ، أنه تعبدي أو توصلي ، فما هو الأصل العملي؟. فهل تجري البراءة ، أو الاشتغال؟؟.

ظاهر كلام المحقق الخراساني ، أنه تجري في المقام ، أصالة (٣) الاشتغال ، حتى لو قيل بجريان البراءة في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين.

ولتوضيح الحال في ذلك ، لا بدّ من استعراض المسألة في جهتين.

الجهة الأولى ، هو أنه ، لو قلنا بالبراءة العقلية في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ، فهل تجري البراءة العقلية في المقام أو لا تجري؟.

الجهة الثانية ، هو أنه لو قلنا بالبراءة الشرعية ، في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ، فهل تجري البراءة الشرعية في المقام ، أو لا تجري؟. ففي الجهة الأولى ، نتكلم في جريان البراءة العقلية وعدم جريانها ، وفي الجهة الثانية ، نتكلم في جريان البراءة الشرعية وعدم جريانها في المقام.

أمّا الجهة الأولى :

فالمحقّق عندنا ، أن البراءة العقلية ، لا أساس لها في الأحكام الشرعية ،

__________________

(١) المشكيني : ج ١ ص ١١١.

(٢) مشكيني : ج ١ ص ١٠٧.

(٣) مشكيني ج ١ ص ١١٣.

٣٠٩

إذ لا نؤمن بأصالة البراءة العقلية ، ولا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وإن هذه القاعدة مطلب خلط فيه بين الأحكام الشرعية ، والأحكام العرفية العقلائية ، إذ أن مورد هذه القاعدة ، هو أحكام العقلاء بالنسبة إلى مواليهم ، لا أحكام الشارع بالنسبة إلى المكلفين ، ولكن الأصوليين ، عمّموا هذه القاعدة للأحكام الشرعية أيضا ، وهذا الأمر تحقيقه متروك إلى بحث البراءة إن شاء المولى تعالى.

إلّا أننا نتكلم بناء على مشربهم ، من القول بقبح العقاب بلا بيان ، وجريان البراءة العقلية ، لنرى أنه ، هل تجري البراءة أو لا تجري؟.

ومن أجل توضيح ذلك لا بدّ من استعراض مهم الوجوه التي يستند إليها ، في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، لإثبات الاشتغال العقلي ، والمنع من جريان البراءة ، لنرى أن تلك الوجوه التي يستدل بها هناك على الاشتغال ، هل تجري في المقام أو لا تجري؟. وعلى فرض جريانها ، فهل أنّ الجواب الذي يجاب به عن تلك الوجوه في تلك المسألة ، يجاب به أيضا عن تلك الوجوه في هذه المسألة ، أو لا يجاب به عن تلك الوجوه في هذه المسألة.

إذن فنستعرض مقدمة ، مهمّ الوجوه التي تذكر أدلة على أصالة الاشتغال هناك وهي عديدة.

الوجه الأول

دعوى تشكيل العلم الإجمال في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك بأن يقال بأن المكلف ، إذا شك في جزئية السورة ، فيكون لديه علم إجمالي إما بوجوب الأقل لا بشرط ومطلقا ، أو بوجوبه بشرط شيء مقيدا ، وهذا علم إجمالي يدّعى تنجيزه في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث أنّ هذا العلم الإجمالي بوجوب شرعي ، متعلق ، إمّا بالمطلق ، وإمّا بالمقيد.

وهذه الصيغة لإجراء أصالة الاشتغال بقانون العلم الإجمالي ، لا معنى

٣١٠

لادعائها في المقام ، بناء على مسلك صاحب الكفاية وأمثاله (١) ، إذ نعلم بأن الوجوب الشرعي ، قد تعلق بالمطلق ، سواء كان تعبديا أو توصليا ، ولم يتعلّق بالمقيّد ، لأن أخذ قصد القربة في متعلق الأمر مستحيل ، فالأمر الشرعي بناء على مسلك صاحب (٢) الكفاية ونظائره لم يتعلق بالمقيد يقينا ، سواء كان تعبديا أو توصليا ، بل تعلق بالمطلق ، فلا يوجد علم إجمالي بالوجوب المردّد بين المطلق والمقيد ، فتلك الصيغة للعلم الإجمالي ، غير واردة على المبنى الذي نتكلم عنه.

الوجه الثاني

لإجراء أصالة الاشتغال العقلية ، في موارد الأقل والأكثر ، هو أن يقال :

بأنه لو سلّم ، أنّ هذا العلم الإجمالي ، منحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل ، وإلى الشك البدوي في وجوب الزائد على الكلام ، والتفصيل في مسألة الانحلال ، لكن المكلف ، يقطع بوجوب الأقل ، ولا إشكال بوجوب الإتيان بما ينطبق عليه الأمر بالأقل ، ليخرج عن عهدته.

ومن الواضح ، أن الأمر بالأقل هنا ، المعلوم تفصيلا ، مردّد ، بين أن يكون أمرا نفسيا استقلاليا ، أو أمرا ضمنيا ، لأن السورة إن كانت جزءا من الأمر بالأقل ، «بالتسعة التي هي غير السورة» فيكون الأمر بالأقل أمرا ضمنيا ، وإن لم تكن السورة جزءا ، فالأمر بالأقل يكون استقلاليا ، وهذا الأمر بالأقل ، إن كان استقلاليا ، فمتعلقه قابل للانطباق على التسعة المجردة عن العاشر ، لأنّ متعلقه حينئذ يكون مطلقا ، وأمّا إذا كان الأمر بالأقل أمرا ضمنيا ، فالأمر الضمني يستحيل أن يتعلق بالمطلق ، بل إنّما يتعلق بالطبيعة المهملة الغير القابلة للسريان إلى فاقد القيد ، «يعني إلى التسعة المجردة عن العاشر».

إذن المكلف العالم تفصيلا بوجوب الأقل ، لو أتى بتسعة بلا عاشر ، فهو

__________________

(١) مشكيني : ج ١ ص ١١٤.

(٢) مشكيني : ج ١ ص ١١٢.

٣١١

لم يقطع بأن معلومه التفصيلي ينطبق على ما أتى به أو لا ينطبق على ما أتى به ، لأن الأمر بالأقل إن كان أمرا ضمنيا ، فمتعلقه لا يعقل فيه الإطلاق والانطباق على الفاقد ، وإن كان أمرا استقلاليا ، فينطبق على الفاقد ، إذن فهو يشك بأنّ متعلق الأمر بالأقل المعلوم تفصيلا ، ينطبق على ما أتى به أو لا ينطبق على ما أتى به ، فتجري أصالة الاشتغال.

وهذه الصيغة لهذا الوجه الثاني لا تجري في المقام ، بناء على المبنى الذي نتكلم عليه ، حيث نعلم على كل حال بأن الأمر تعلق بالمطلق ، ولم يتعلق بالمهمل بل بالمطلق ، لاستحالة وقوف الأخر على خصوص الحصة المقيدة بقصد القربة ، إذن فالأمر تعلق هنا بالمطلق ، وإنّما الشك في أن غرض المولى استوفي بذلك أو لم يستوف ، فانطباق متعلق الأمر المعلوم تفصيلا على ذات الصلاة ، محرز وجدانا ، وليس هذا من قبيل ذاك ، إذن فصيغة الوجه الثاني لو أجريت هناك ، لا تجري في المقام.

الوجه الثالث :

لو سلّم بأن الأمر بالأقل ، على كل حال ، متعلقه هو ذات الأقل ، سواء كان أمرا استقلاليا أو أمرا ضمنيا ، وذات الأقل ينطبق على الفاقد كما ينطبق على الواجد ، على كلام متروك إلى بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولكن يقال ، بأنّ المكلف لو أتى بالأقل من دون سورة ، فما أتى به ، وإن كان مصداقا للأقل وجدانا ، لكن مع هذا لم يحرز سقوط الأمر بالأقل ، فإن سقوطه بالإتيان بالأقل المجرد عن السورة مشكوك فيه ، لوضوح أن الأمر بالأقل ، إن كان أمرا استقلاليا ، فسوف يسقط بالإتيان بمتعلقه ، وأمّا إذا كان أمرا ضمنيا ، فباعتبار أن الأوامر الضمنية متلازمة في الثبوت والسقوط ، فهو لا يسقط وحده ، بل يسقط مع سائر الأوامر الضمنية الأخرى ، إذن فسوف يبقى ولن يسقط في المقام.

وفرق هذا الوجه ، عن الوجه السابق ، أن في الوجه السابق ، كان يقال ، إن انطباق الأقل على المأتي به غير محرز ، لأن الأقل ، لعلّه ليس له إطلاق

٣١٢

للفاقد ، أمّا في هذا الوجه الثالث ، يفترض أن انطباق الأقل على الفاقد محرز ، لكن سقوط الأمر المتعلق بالأقل غير محرز ، فإن الأمر بالأقل معلوم تفصيلا ، والشغل اليقيني يستدعي السقوط اليقيني ، وفي المقام ، لو أتى بالأقل من دون زيادة ، فهو لم يقطع بسقوط الأمر بالأقل ، لأنّ الأمر بالأقل ، إن كان ضمنيا فلا يسقط ، وإن كان استقلاليا يسقط.

وهذا الوجه بهذه الصيغة ، يمكن إجراؤه في محل الكلام ، بأن يقال هنا أيضا ، أنّ الأمر المتعلق بذات الصلاة معلوم تفصيلا ووجدانا ، فلو أتى المكلف بذات الصلاة بلا قصد القربة ، فإن كان هذا الأمر توصليا ، يسقط بالإتيان بذات الفعل ، وإن كان تعبديا ، فالمفروض على مبنى «الآخوند» أنه لا يسقط بالإتيان بذات الفعل ، بل يبقى ببقاء علته وملاكه ، إذن فالمكلف ، يشك في سقوط هذا الأمر المعلوم تفصيلا ، وعدم سقوطه ، وحيث أن الشك في السقوط ، فتجري أصالة الاشتغال ، لأن الشغل اليقيني ، يستدعي الإسقاط اليقيني ، فهذا الوجه بهذا التقريب ، يمكن أن يأتي في محل الكلام.

الوجه الرابع :

لو تركنا الأمر ، وقطعنا النظر عنه ، وقلنا أنه من ناحية الأمر ، لم يحصل تنجيز ، ولكن نلتفت إلى الغرض والملاك ، فإن الواجب الارتباطي ، وراءه غرض معلوم وجدانا ، فمثلا معراجية المؤمن التي هي غرض من الصلاة ولو بمعنى شأنية المعراجية لا فعلية المعراجية ، فهذا الغرض وهذه المعراجية الشأنية ، يشك بحصوله بالأقل ، فلعلّه لا يحصل إلّا بضم السورة إلى الأقل ، فيكون المورد ، من موارد الشك في المحصّل للغرض المولوي المعلوم وجدانا ، وكلّما كان الشك في المحصل تجري أصالة الاشتغال.

وهذا الوجه بنفس صيغته يمكن إجراؤه في محل الكلام أيضا ، بأن يقال ، يوجد هنا غرض معلوم للمولى ، وهذا الغرض يشك في تحصيله بالإتيان بالصلاة بدون قصد القربة ، إذن فيكون من الشك في المحصّل ، فتجري أصالة الاشتغال.

٣١٣

وفرق هذا الوجه عن الوجوه السابقة ، أن هذا الوجه الرابع ، ناظر إلى الغرض والملاك ، والوجوه السابقة ، ناظرة إلى مرحلة الوجوب ، لا إلى مرحلة الملاك :

إلى هنا اتضح ، أن الوجهين الأولين بصيغتهما المطروحة ، لا يمكن إجراؤهما في محل الكلام ، على المبنى الذي نلحظه ، وأمّا الوجهان الأخيران بصيغتهما المطروحة ، يمكن إجراؤهما في محل الكلام.

فمن هنا يقع الكلام ، في أن الوجه الثالث أو الرابع اللذين يمكن إسراؤهما في محل الكلام ، هل أن الجواب الذي يجاب به عنه هناك ويثبت به البراءة ، أيضا يمكن إسراؤه إلى محل الكلام ، أو لا يمكن إسراؤه؟. فإن فرض أن ذاك الجواب الذي أجيب به عن الوجه الثالث والرابع في تلك المسألة يمكن إسراؤه إلى محل الكلام ، إذن تثبت البراءة في كلا المقامين ، وأمّا إذا كان ذاك الجواب لا يمكن إسراؤه إلى محل الكلام ، فتثبت حينئذ ، فرضيّة الآخوند «قد» ، وهي جريان البراءة هناك ، وأصالة الاشتغال هنا ، وإذا كان الجواب الذي أجيب به هناك ، لا يجري هنا ، إذن ما ذا هو الجواب؟.

والآن ننتقل إلى تشخيص الجواب ، حتى نرى أن الجواب الذي أجيب به عن الوجه الثالث والرابع هناك ، هل يجري هنا في المقام ، أو لا يجري؟. ولنبدأ بالوجه الثالث.

٣١٤

بيان دفع الوجه الثالث

الوجه الثالث لأصالة الاشتغال هو ، دعوى أن الأمر بالأقل معلوم تفصيلا ، والعقل يحكم بلزوم تحصيل الجزم بسقوطه ، لأن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، ومن الواضح ، أن المكلف في باب الأقل والأكثر ، لو أتى بالتسعة أجزاء ولم يأت بالجزء العاشر المشكوك ، فهو لا يعلم بسقوط الأمر بالأقل ، لأن الأمر بالأقل ، إن كان استقلاليا ، يسقط ، وإن كان ضمنيا فلا يسقط ، للتلازم بين الأوامر الضمنية في السقوط والثبوت ، إذن فلا بدّ من الإتيان بالزائد لكي يحصل الفراغ اليقيني والعلم بالسقوط ، ومعه تجري أصالة الاشتغال في باب الأقل والأكثر الارتباطيين.

وهذا الوجه الثالث ، يدفع في باب الأقل والأكثر ، بهذا البيان ويقال : بأن المكلف ، إن أتى بالتسعة ، ولم يأت بالعاشر ، فهو وإن كان يشك في سقوط الأمر بالأقل لاحتمال كونه ضمنيا ، ولكن هذا الشك في سقوط الأمر بالأقل ، هو من تبعات الشك في وجود الأمر الضمني الزائد ، لأنّ المكلف إنما يشك في سقوط الأمر بالأقل ، لاحتمال أن يكون الأمر بالأقل توأما مع أمر ضمني آخر ، وهو الأمر بالزائد ، فإذا كان الشك في السقوط من تبعات الشك في تكليف زائد ، فحينئذ ، التأمين عقلا ، عن ذاك المنشأ ، عن التكليف بالزائد ، يستدعي عقلا أيضا ، التأمين من ناحية هذا الشك في السقوط ، فلا تجري أصالة الاشتغال.

٣١٥

وخلاصة هذا البيان ، أن الشك في السقوط على نحوين.

فتارة يكون الشك في السقوط ، ناشئا من الشك في تكليف زائد ، بحيث يكون الشك في التكليف الزائد ، تحت البراءة عقلا ، إذن فمثل هذا الشك في السقوط الذي هو من تبعات الشك في التكليف الزائد ، هو أيضا تحت البراءة عقلا ، ولا يحكم العقل بأصالة الاشتغال في مثله.

وتارة أخرى يكون الشك في السقوط ، لا بسبب الشك في تكليف زائد ، كما لو فرض أن المكلف شك في أنه صلّى أو لم يصلّ ، فهنا شكّه في السقوط ليس ناشئا من الشك في تكليف زائد ، لكي يكون تحت التأمين العقلي ، بل في مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال لا البراءة.

والكلام في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، أن الشك في سقوط الأمر بالأقل ، ناشئا من الشك في التكليف الزائد ، وحيث أن الشك في التكليف الزائد ، مشمولا للبراءة العقلية ، إذن فالشك في السقوط الناشئ من تبعات ذلك الشك في التكليف الزائد ، أيضا يكون مشمولا للبراءة العقلية ، وبذلك يندفع الوجه الثالث في بحث الأقل والأكثر ، لإثبات الاشتغال.

لكن هذا الدفع ، لا يأتي في محل الكلام ، حيث أن الشك في سقوط الأمر بالصلاة عند الإتيان بها ، لا بقصد القربة ، ليس ناشئا من الشك في التكليف الزائد ، إذ لا يحتمل التكليف بقصد القربة بحسب الغرض ، حيث أن الكلام على مبنى من لا يتعقل انبساط التكليف على قصد القربة ، فالشك في سقوط الأمر بالصلاة عند الإتيان بها ، بلا قصد القربة ، ليس من تبعات شك بدوي في تكليف زائد ، حتى يكون التأمين العقلي بلحاظ المنشأ ، ساريا أيضا إلى تبعاته.

إذن فالشك في سقوط الأمر بالصلاة عند الإتيان بها بلا قصد القربة ، داخل في الشك في السقوط الغير الناشئ من الشك في التكليف الزائد ، فتجري فيه أصالة الاشتغال.

٣١٦

دفع بيان دفع الوجه الثالث

سبق بيان ، يمكن من خلاله إيجاد فرق بين مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وبين محل الكلام ، فهناك يقال ، أن الشك في السقوط مجرى للبراءة ، لأنه من تبعات الشك في التكليف البدوي الزائد.

وأمّا هنا ، فالشك في السقوط ، مجرى لأصالة الاشتغال ، لأنه ليس من تبعات الشك البدوي في التكليف الزائد.

إلّا أن هذا البيان ، ليس صحيحا ، وتوضيح ذلك :

أن الشك في السقوط ، على نحوين.

النحو الأول هو : أن يكون الشك في سقوط الأمر ناشئا من احتمال مطلب يرجع إلى المولى بيانه.

والنحو الثاني هو : أن يكون الشك في السقوط ، ناشئا من جهة ترجع إلى العبد لا إلى المولى.

وحينئذ ، النحو الثاني للشك في السقوط ، مجرى لأصالة الاشتغال عقلا ، وهو ما إذا كان الشك في السقوط ، ناشئا من جهة ترجع إلى العبد وليس من وظيفة المولى بيانها.

ومقصودنا من هذه الجهة ، هي عالم الامتثال ، بمعنى أن يكون الشك في السقوط ، ناشئا من شك المكلف في الامتثال وعدمه ، كما لو علم بأن

٣١٧

الصلاة واجبة ، وشك في سقوط هذا الأمر ، للشك في أنه صلى أم لا؟. وهنا تجري أصالة الاشتغال بلا إشكال.

وأما النحو الأول للشك في السقوط ، وهو فيما إذا كان الشك في السقوط ، ناشئا من جهة غير الامتثال ، سواء كانت هذه الجهة ، عبارة عن وجوب شيء زائد ، كما هو الحال في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ، أو كانت عبارة عن دخل شيء زائد في الغرض ، كما هو الحال في موارد التعبدي والتوصلي ، فعلى كل حال ، المنشأ للشك في السقوط ، أمر يعود إلى المولى لا إلى العبد ، فإن المولى ، هو الذي يبيّن الأمر بالزائد ، وهو يبيّن ، دخل قصد القربة في الغرض.

والشك في السقوط ، نشأ من الشك في دخل الزائد ، إمّا في الأمر كما هو الحال في غير قصد القربة ، وإمّا في الغرض كما هو الحال في قصد القربة.

إذن فمثل هذا الشك في السقوط ، يكون مجرى للبراءة عقلا ، لأنه يرجع إلى الشك في جهة ترجع إلى المولى ، لا إلى العبد.

وعلى هذا ، إذا بيّنا هذا المطلب بهذه الصيغة نقول في المقام ، أنه لا فرق في جريان البراءة ، بين موارد الأقل والأكثر ، وبين محل الكلام ، لأن الشك في السقوط في كل منهما ، لا يرجع إلى الشك في ذات الامتثال وفي ذات الإتيان بالمتعلق الذي هو في عهدة المكلف ، وإنما يرجع إلى خصوصيات ، في عهدة المولى بيانها ، وهي دخل الزائد في الأمر أو دخله في الغرض.

إذن فالبراءة ، تجري في كلا الحالين ، هذا هو البيان الأول مع جوابه.

٣١٨

بيان ، دفع الوجه الرابع

البيان الثاني لتصوير الفرق بين مسألة الأقل والأكثر ، وبين محل الكلام ، مبني على الوجه الرابع القائل بمسألة الغرض ، والقائل أيضا في مسألة الأقل والأكثر ، أنه يعلم بوجود غرض وحداني مترتب على مجموعة من الأجزاء والشرائط ، فإذا شك في جزئية شيء أو شرطيته ، يكون من موارد الشك في المحصّل بالنسبة إلى ذلك الغرض ، فإن الغرض معلوم ، وإنّما الشك في المحصّل له ، والشك في المحصل مجرى لأصالة الاشتغال.

وهذا الوجه الرابع يجاب عنه هناك ببيان ، وهو أن يقال : بأن الشك في المحصّل للغرض بما هو غرض ، ليس مجرى لأصالة الاشتغال ، بل الشك في المحصّل للواجب ، يكون مجرى للاشتغال ، وذلك ، لأن الغرض بما هو غرض ، لا يقع تحت عهدة المكلف عقلا حتى يكون ملزما بإيجاد محصّله ، كما يقع الواجب بما هو واجب في عهدته عقلا ، وإنّما يقع الغرض في عهدة المكلف ، بمقدار ما يتصدّى المولى لتحصيله والتسبيب إليه تشريعا ، ومن الواضح ، أنّ هذا المقدار الذي تسبّب المولى إلى تحصيله تشريعا ، هو مردّد بين الأقل والأكثر ، حيث لا علم بأن المولى هل أمر بالتسعة أو أمر بالعشرة ، فالقدر المتيقن من تصدّي المولى وتسبيبه التشريعي إلى التحصيل ، إنّما هو التسعة ، والزائد على ذلك مشكوك ، فيكون مجرى للبراءة.

وهذا الجواب يتم في المقام ، في موارد يكون الجزء المشكوك ، أو

٣١٩

القيد المشكوك ، ممّا يمكن للمولى التصدي إلى تحصيله بالأمر به ، كما هو الحال في السورة مثلا ، وأمّا إذا كان الشك ، في دخل شيء في الغرض ، وكان لا يعقل للمولى تحصيله والتسبيب إليه تشريعا ، كما هو الحال في قصد القربة ، فحينئذ ، الغرض بنفسه يقع تحت العهدة.

فهناك فرق بين غرض ، يتمكن المولى من التصدي إلى تحصيله ، وغرض لا يتمكن المولى من التصدي إلى تحصيله ، فالغرض الذي يمكن للمولى التصدي إلى تحصيله بالأمر بمحصّله ، فمثل هذا الغرض لا يقع تحت العهدة بما هو غرض ، وإنّما الذي يقع تحت العهدة عقلا ، هو مقدار ما تصدّى المولى إلى تحصيله من ذلك الغرض ، وأمّا إذا كان الغرض سنخ غرض ، لا يتمكن المولى من التصدي إلى التسبيب لتحصيله تشريعا ، كما لو كان المولى عاجزا عن الكلام أصلا ، فمثل هذا الغرض بما هو غرض ، يقع في العهدة ، فإذا شكّ في محصّله ، تجري أصالة الاشتغال.

وبحث التعبدي والتوصلي ، من قبيل القسم الثاني للغرض ، لأن المفروض ، أن المولى لا يتمكن من الأمر بقصد القربة ، فتجري أصالة الاشتغال.

٣٢٠