بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

لا يمكن تقييدها بإحدى الحالتين ، كذلك لا يمكن إطلاقها ، فكما لا يعقل أن نقول «لا تشرب الخمر إن كان خمرا» كذلك لا يعقل أن نقول «لا تشرب الخمر سواء كان خمرا أو لم يكن خمرا».

ج ـ الملاك الثالث لاستحالة التقييد هو ، أن يكون التقييد مستحيلا باعتبار نتيجته ، أي إذا كانت نتيجة التقييد هي قصر الحكم على المقيّد وحبس الحكم عليه ، وهذا مستحيل ، فيكون ملاك استحالة التقييد هو نتيجة التقييد ، من قبيل أن يقال مثلا ، إن الخطاب بالفروع لا يمكن أن يقيّد بخصوص الكفّار ، فيكون خطاب «صلّ أو ذكّ» مخصوصا بخصوص الكفّار ، وذلك لأنه لو كان مقيّدا بالكفّار لنتج من ذلك قصر الحكم على الكافر ، ويصير خطاب «صلّ» متوجها حينئذ نحو الكافر ، وهذا ينتج لغوية الخطاب ، لأن الكافر بكفر بأصل المطلب ، فكيف يقال له «صلّ» إذ به ، يصبح الخطاب مستهجنا عرفا.

ولكن إذا كان هذا هو ملاك استحالة التقييد ، فمثله لا يصح ملاكا لذلك ، وذلك لأن ملاك استحالة التقييد هو نتيجة التقييد ، وهي قصر الحكم والخطاب على الكافر ، ومن المعلوم أن نتيجة التقييد غير محفوظة في ضمن الإطلاق ، فلو قال المولى «أيّها الناس صلّوا» ، من دون تقييد بالكافر (١) أو غيره فلا يكون الخطاب مستهجنا حينئذ ، بل يكون معقولا ويشمل المسلمين وغيرهم.

إذن فنكتة هذا الملاك وهي نتيجة التقييد وحبس الحكم على المقيّد غير موجودة في الإطلاق ، وعليه فيخرج هذا الملاك عن كونه ملاكا للاستحالة.

__________________

(١) هذا الكلام محل إشكال ثبوتا ولا أقل من كونه محل إشكال إثباتا وبه يستكشف الاستشكال ثبوتا بأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت إذ حتى لو كان الخطاب للكافرين فإنه لا يلغو ، كونه لسان بيان عرفي لفئة منهم يصح مخاطبتها بطلب الصلاة منها إثباتا وثبوتا. وعليه فيبقى هذا ضمن ملاكات الاستحالة ـ المقرّر وإلا لاستحال كثير من ألسنة الإطلاق.

٢٨١

د ـ الملاك الرابع والأخير لاستحالة التقييد ، هو أن يكون ملاك الاستحالة قائما بالتقييد بما هو تقييد ، بحيث أن التقييد بما هو تقييد ، يكون مستحيلا بقطع النظر عن نتائجه ومقدماته ، وذلك من قبيل أن يقال مثلا ، إنّ تقييد الحكم بخصوص العالم به مستحيل ، كما لو قال المولى يا من تعلم بأمري ، آمرك ، وهذا بناء على ما قرأنا من استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم.

ومن الواضح أن هذا المحذور ليس في ثبوت الحكم لذات العالم ، وإنما المحذور هو في أخذ هذا القيد قيدا ، إذن فالمحذور في نفس التقييد ، وحينئذ ، هل يجري هذا المحذور في الإطلاق أو لا يجري؟.

فإن قلنا بأن الإطلاق هو الجمع بين القيود وبين التقييدات ، إذن فقد يتوهم حينئذ أنّ ملاك الاستحالة في التقييد ، بنفسه يجري في الإطلاق كما سيأتي تحقيقه حينما نطبق هذه القاعدة على محل الكلام ، لأن الإطلاق بناء على هذا المسلك ، يشمل كل التقييدات بما فيها هذا التقييد المستحيل ، وحينئذ قد يتوهم أن استحالة التقييد تكون موجبة لاستحالة الإطلاق ، وذلك لوحدة الملاك.

وأمّا إذا قلنا ، بأن الإطلاق ليس هو الجمع بين التقييدات ، بل هو تعرية الخطاب من كل التقييدات ، حينئذ لا يكون ملاك استحالة التقييد بنفسه ملاكا في استحالة الإطلاق ، لأن ملاك استحالة التقييد قائم بالتقييد ، وقد فرضنا بناء على هذا المسلك أن الإطلاق ليس فيه تقييد أصلا حتى يجري عليه ملاك الاستحالة ، وعليه فلا يكون ملاك استحالة التقييد مقتضيا لاستحالة الإطلاق ، فلو أريد إثبات أنّ الإطلاق أيضا مستحيل فلا بدّ من إبراز ملاك آخر غير ملاك استحالة التقييد لإثبات أن الإطلاق أيضا مستحيل.

وصفوة القول في ملاكات استحالة التقييد ، التي يلزم منها استحالة الإطلاق ، هي أنه إذا كانت استحالة شمول الحكم للمقيّد بالملاك الأول وهو عدم صلاحية ذات المقيّد ، أو بالملاك الثاني وهو عدم المقسميّة فهذا

٢٨٢

يستوجب عدم إمكان ثبوت الحكم لذات المقيّد ولو بالشمول والإطلاق.

وإذا كانت استحالة ثبوت الحكم للمقيّد بلحاظ محذور قائم بنتيجة التقييد وهي قصر الحكم وحبسه ، أو بلحاظ محذور قائم بنفس التقييد ، فحينئذ لا يكون استحالة ثبوت الحكم للمقيّد مساوقا لاستحالة ثبوت الحكم له ولو بالشمول والإطلاق.

هذه خلاصة الكبرى والميزان الكلي التي على أساسها نعرف أنه متى يلزم من استحالة التقيد استحالة الإطلاق ، ومقدار ما ينتفع به القائلون بامتناع أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر عند ما يريدون إثبات مدّعاهم من عدم إمكان التمسك بإطلاق الخطاب لإثبات التوصلية وشمول الأمر للحصة غير القربية ، لأن الإطلاق غير معقول ، وما دام الإطلاق غير معقول ، فلا يستكشف من إطلاق الخطاب إثباتا الإطلاق ثبوتا.

هذا المدّعى ، وهو امتناع التقييد وثبوت الحكم للصلاة المقيّدة بقصد الأمر ، يوجب امتناع الإطلاق ، أيضا. يمكن لأصحابه أن يدّعوا أنّ مدّعاهم من القسم الأول أو الثاني من أقسام ملاكات استحالة التقييد ، وهذان الملاكان يوجبان استحالة الإطلاق.

ولكنّ الصحيح كما سوف نرى ، أن هذا الميزان سوف لا ينفع القائلين بامتناع أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر بحجة أن امتناع التقييد الذي يوجب امتناع الإطلاق موافق لميزان استحالة التقييد في القسم الأول والثاني من ملاكات الاستحالة الأربعة. بل سوف نرى أنهم حتى لو ادّعوا هذه الدعوى ، فإنها سوف تنتج عكس مقصودهم. وتوضيح ذلك.

هو أن دعوى ، أنّ المقام من القسم الأول أو الثاني معناه ، أنه إذا استحال ثبوت الأمر والحكم على الصلاة المقيدة بقصد الأمر استحال شموله لها ولو بالإطلاق والشمول ، وهذا الإطلاق والشمول للصلاة المقيّدة بقصد

٢٨٣

الأمر هو بحسب الحقيقة من نتائج وبركات رفع قيد عدم قصد القربة ، فإنه برفض قيد عدم قصد القربة ، حينئذ يشمل الأمر الحصة المأتي بها بقصد القربة.

وأصحاب هذه الدعوى ، لا يريدون أن يقولوا ، أنّ تعلق الأمر بالصلاة مع قصد القربة ولو بالشمول والإطلاق غير معقول ، بل يريدون أن يقولوا ، إنّ تعلّق الأمر بالصلاة اللّاقربية بالشمول والإطلاق غير معقول ، وذاك الشمول والإطلاق من تبعات رفض أخذ قصد القربة ، إذن فالشمول الذي تستدعي هذه الكبرى الكلية استحالته ، هو غير الشمول الذي يريدون إثبات استحالته لأجل منع التمسك بالإطلاق.

وبتعبير آخر أنه عندنا في المقام شمولان.

أ ـ الشمول الأول ، هو شمول الأمر للحصة القربية.

ب ـ الشمول الثاني ، هو شمول الأمر للحصة اللّاقربية ، التي لم يؤتى بها بقصد القربة.

وما هو محل الكلام في بحث التعبدي والتوصلي إنما هو ، الشمول الثاني ، بمعنى هل أن الأمر يشمل الحصة الأقربية فيكون توصليا أو أنه لا يشملها ، إذن المراد بإطلاق الخطاب ، هو إثبات شمول الأمر ثبوتا للحصة اللّاقربيّة ، وهؤلاء الذين يمنعون عن التمسك بالإطلاق ، يقولون إن شمول الأمر للحصة اللّاقربية غير معقول.

ومن الواضح أن شمول الأمر للحصة اللّاقربية هو من نتائج عدم تقييده بقصد القربة ، إذ مع عدم تقييده بقصد القربة فإنه لا محالة يشمل الفاقد لقصد القربة ، هذا هو محل الكلام.

وأمّا الكبرى ـ كبرى أنه إذا استحال ثبوت الحكم للصلاة المقيّدة بقصد القربة يستحيل شمول الحكم لها ، فهذه الكبرى ، لو تمّ تطبيقها في محل الكلام فإنها تقتضي استحالة الشمول الآخر ، وهو شمول الأمر للحصة القربية ، لا شمول الأمر للحصة اللّاقربيّة الذي هو محل الكلام ، بل تقتضي استحالة

٢٨٤

شمول الأمر للحصة القربية ، ببيان ، أنّ تعلّق الأمر بالمقيّد بقصد القربة محال ، إذن فتعلقه بهذا المقيّد ولو بنحو الشمول والإطلاق محال أيضا ، وهذا الشمول من نتائج عدم تقييد متعلق الأمر بعدم قصد القربة ، وليس من نتائج عدم تقييده بقصد القربة.

إذن فالكبرى لو طبّقت ، لأنتجت استحالة شمول غير الشمول الذي يكون من مصلحة هذا المدّعي في المقام ، إثبات استحالته.

فالشمول الذي تصلح الكبرى لإثبات استحالته ـ لو طبّقت في محل الكلام ـ إنما هو شمول الأمر للحصة المقيّدة بقصد القربة مع أن هذا لا يريده أصحاب هذه الدعوى في المقام ، وإنما الذي يريدونه هو إثبات استحالة شمول الأمر للحصة الأخرى المقيّدة بعدم قصد القربة ، إذن فهذه الكبرى لا يمكن لمنكر الإطلاق التمسك بها في المقام.

ومن هنا قام المحقق النائيني (١) بمحاولة ولفتة لتغير أو ترميم هذه الكبرى ، بحيث جعلها على نحو يمكن فيه لمنكر الإطلاق أن يستفيد منها ، وقد كانت الصيغة السابقة له تقول ، أنّ استحالة ثبوت الحكم للمقيّد بما هو مقيّد يستلزم استحالة ثبوت الحكم له ولو بالشمول والإطلاق ، بينما في الصيغة المرمّمة الجديدة فإنه يقول ، أنه متى ما كان أخذ قيد في المتعلق مستحيلا فرفض نفس هذا القيد الذي هو معنى الإطلاق المقابل له مستحيل أيضا ، إذن الترميم هو أنه كلّما كان أخذ خصوصية في المتعلق مستحيل ، فعدم أخذها ورفض أخذها أيضا مستحيل ، وحينئذ هذه الكبرى ، تصبح نافعة في محل الكلام ، لأن من ينكر الإطلاق يقول ، بأن أخذ قصد القربة في المتعلق مستحيل ، وبمقتضى هذه الصيغة الميرزائية الجديدة ، هو أنه إذا استحال أخذه استحال رفضه أيضا ، وإذا استحال رفضه ، إذن استحال شمول الأمر للحصة غير القربية ، لأن شمول الأمر للحصة غير القربية من بركات رفض أخذ قصد

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٨٢.

٢٨٥

القربة فإذا استحال أخذ هذا القصد قيدا استحال رفضه عن القيدية ، إذن لم يتحقق هناك شمول للحصة الفاقدة لقصد القربة ، إذن فيكون الإطلاق ثبوتا للحصة غير القربية مستحيلا وعليه فلا يمكن إثبات هذا الأمر المستحيل بمقدمات الحكمة في مقام الإثبات.

وبهذا التغيير في الكبرى ، من صيغتها الأولى الطبيعية ، إلى هذه الصيغة الميرزائية ، أصبحت هذه الكبرى دليلا يمكن لأصحاب هذه الدعوى أن يستندوا إليه لإثبات امتناع الإطلاق الثبوتي ، والشمول الذي هو محل الكلام.

وبعد أن غيّر الميرزا وجهة البحث بهذا النحو حينئذ يطرح هذا السؤال ، وهو أنه ما هو الدليل على أنه إذا استحال أخذ شيء قيدا استحال رفضه عن القيدية أيضا الذي هو معنى الإطلاق؟. وبعبارة أخرى ، هي أننا برهنّا بالبراهين السابقة على أن أخذ قصد القربة قيدا هو أمر مستحيل ، فلما ذا يلزم أن يكون رفضه عن القيدية أيضا مستحيل يمتنع شمول الأمر للحصة الفاقدة لقصد القربة؟. وهذا التساؤل يمكن أن يبيّن بعدة بيانات.

أ ـ البيان الأول ، والذي تكاد تكون عبارة المحقق النائيني نصا فيه هو ، أنه باعتبار أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، إذ أن الإطلاق هو عدم التقييد في المورد القابل للتقييد فإذا استحال التقييد إذن فلا تقييد ولا إطلاق ، أمّا أنه لا تقييد ، فلاستحالته ابتداء ، وأمّا أنه لا إطلاق فلأن الإطلاق هو عدم التقييد في الموضع القابل ولا قابلية هنا للتقييد إذن فلا إطلاق.

ب ـ البيان الثاني ، هو أيضا ممّا يستلمح من كلمات الميرزا إن لم يكن كلام الميرزا نصا فيه.

وخلاصته هو أن يقال ، بأن التقييد بقصد الأمر والإطلاق من ناحية قصد الأمر كلاهما غير معقول ، وذلك بنكتة عدم المقسميّة ، إذ أن انقسام الطبيعة وهي الصلاة مثلا إلى ما يكون مأتيا به بقصد القربة وما يكون مأتيا به لا بقصد

٢٨٦

القربة ، هذا الانقسام في طول الأمر ومتأخر رتبة عن الأمر ، إذن ففي رتبة معروض الأمر التي هي الرتبة السابقة على الأمر لا يوجد هذا الانقسام للطبيعة ، ولهذا يسمّى هذا بالانقسامات الثانوية ، في مقابل انقسام الطبيعة إلى كونها صلاة في المسجد أو في السوق ، في الثوب الأبيض أو في الثوب الأسود ، فهذه انقسامات معقولة ثابتة في المرتبة السابقة على الأمر.

وأمّا انقسامها إلى ما يكون بقصد الأمر وما لا يكون فهو انقسام في مرتبة متأخرة عن الأمر ، إذن ففي المرتبة السابقة على الأمر ، الطبيعة ليست مقسما ليعقل فيها أخذ القيد تارة ورفضه أخرى.

وهذا البيان الثاني لا يتوقف على دعوى أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

البيان الثالث لتقريب هذا المدّعى مبني على مجموع أمرين.

الأمر الأول ، هو أن الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود ، بمعنى أن الإطلاق عبارة عن إسراء الحكم إلى تمام الحالات ، من قبيل العموم ، بحيث تكون الحالات بما هي حالات منظور إليها في المرتبة السابقة على الحكم. كما هو الحال في أكرم كل عالم ، فإنه في المرتبة السابقة على وجوب الإكرام نحن نلحظ العموم ساريا في تمام الحصص والأفراد ، فنحن نلحظ الحصص والأفراد أولا ثمّ نجري الحكم عليها ثانيا ، إذن فالإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصور واللحاظ ، إذ من يريد أن يطلق يعني يتصوّر تمام الحصص ويعلّق الحكم عليها بتمامها.

الأمر الثاني ، هو أن المحذور في أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر. هو محذور لحاظي ، بمعنى أنه يستحيل أن يلحظ المولى قصد القربة في معروض الأمر ، لأن قصد الأمر يرى في طول الأمر ، فلا يمكن أن يلحظه في مرتبة سابقة على الأمر لئلا يلزم التهافت في اللحاظ.

٢٨٧

فلو تمّ هذان الأمران حينئذ يقال ، أنه كما يستحيل التقييد يستحيل الإطلاق.

أمّا التقييد فقد استحال ، لأنه يلزم منه أنّ المولى يرى قصد الأمر قبل الأمر وهو تهافت في اللحاظ.

وأمّا استحالة الإطلاق فلأن الإطلاق بحكم الأمر الأول هو الجمع بين القيود بمعنى أنه يرى قبل الأمر كلتا الحالتين حالة قصد الأمر وحالة عدم قصد الأمر.

ومن المعلوم أن حالة قصد الأمر لا يمكن أن ترى قبل الأمر لا وحدها ولا مع غيرها فيلزم حينئذ التهافت في اللحاظ.

وهذه التقريبات الثلاثة للصيغة الميرزائية كلها غير تامة نبطلها جميعها بدءا بإبطال البيان الثالث فنقول.

إنه من الواضح أن الأمر الثالث مبني على مقدمة غير صحيحة ، وهي أن الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في مقام التصور واللحاظ بحيث أن من يطلق يلزمه أن يلحظ تمام الحالات.

ومن الواضح أن هذا ليس هو الإطلاق ، وإنما الإطلاق هو قصر النظر على ذات الطبيعة من دون ملاحظة أمر زائد عليها ، فليس معنى إطلاق الصلاة من ناحية قصد الأمر ، يعني أن المولى يلحظ في مرتبة معروض الأمر ، قصد الأمر وعدم قصد الأمر ، وإنما معناه أن المولى يقصر نظره على ذات الطبيعة كما بيّنا مفصلا في بحث المطلق والمقيّد ، الفرق بين الإطلاق الحقيقي الحكمي وبين العموم حيث قلنا هناك ، بأن النظر العمومي له نظر إلى الأفراد ، وأمّا النظر الإطلاقي فليس له نظر إلى الأفراد ، وليس هو جمع بين القيود حتى في مقام التصور واللحاظ.

وأمّا إبطال التقريب الثاني الذي كان حاصله هو أنه إذا امتنع أخذ قصد

٢٨٨

القربة قيدا في متعلق الأمر ، امتنع رفضه والإطلاق أيضا من ناحيته.

وكان برهان ذلك ، هو أن كلا من التقييد والإطلاق فرع كون الطبيعة مقسما لواجد القيد وفاقد القيد ، رغم أنه من الواضح أن الطبيعة في المرتبة السابقة على عروض الأمر عليها ليست مقسما للحصة القربية والحصة اللّاقربية ، وإنما يكون هذا الانقسام في طول الأمر وبعد الأمر وليس قبل الأمر ، حيث لا أمر في هذه المرتبة ليفرض حصة بقصد الأمر وحصة لا بقصد الأمر ، فإذا لم يكن هناك أمر في مرتبة المعروض. إذن فلا انقسام في هذه المرتبة ، إذن فلا مقسمية ، فإذا لم تكن الطبيعة مقسما فلا يصح لا التقييد ولا الإطلاق ، لأن كليهما فرع المقسمية.

وهذا التقريب بهذا البرهان غير صحيح ، وذلك لأنه لو كان عدم المقسميّة هو برهان استحالة أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، لكان ما ادّعي تاما ، لأنّ عدم المقسمية كما يبرهن على عدم إمكان التقييد كذلك يبرهن على عدم إمكان الإطلاق.

ولكن ليس هذا هو برهان استحالة التقييد حتى لو قبلنا باستحالة التقييد ، وإنما برهان الاستحالة هذه هو أحد البراهين الأربعة المتقدمة وليس بملاك عدم مقسّمية الطبيعة ، وأمّا ما قلناه آنفا ، من أن الطبيعة في المرتبة السابقة على عروض الأمر ليست مقسما ، إنما كان هذا القول منّا لبيان هذا التقريب.

بل الذي يحصل في طول الأمر هو إمكان وقوع القسمين خارجا لا المقسميّة المفهومية ، إذ فرق بين وقوع القسمين خارجا والمقسميّة المفهوميّة.

وتوضيح ذلك ، هو أن الطبيعة في المرتبة السابقة على عروض الأمر عليها وبقطع النظر عن عروض الأمر عليها فإنه لا إمكان لوجود حصتين منها خارجا إحداهما بقصد الأمر والأخرى لا بقصد الأمر ، لأن المفروض عدم الأمر ، وإنما يمكن وجود الحصتين بعد أن يتعلق الأمر بالطبيعة ، حينئذ يمكن أن توجد صلاة بقصد الأمر ، وصلاة أخرى لا بقصد الأمر.

٢٨٩

وأمّا انقسام الطبيعة مفهوميا وفي عالم المفهومية لهاتين الحصتين ، بمعنى مصداقيّة كل من الحصتين للطبيعة ، لا بمعنى وجود الحصة خارجا ، هذه المصداقيّة محفوظة حتى بقطع النظر عن الأمر ، إذ أن الحصة المأتي بها بقصد الأمر ، والحصة المأتي بها لا بقصد الأمر كلتاهما صلاة على أيّ حال.

إذن هنا فرق بين إمكان وجود الحصتين خارجا ، وبين مصداقية الحصتين للطبيعة مفهوما ، فمصداقية الحصتين للطبيعة مفهوما أمر محفوظ حتى قبل الأمر ، لأن مصداقية كل واحدة من الحصتين للطبيعة ذاتية لتلك الحصة وليس هذا في طول الأمر.

وعليه فالمقسمية محفوظة في المرتبة السابقة على الأمر ، لأن مناط كون الطبيعة مقسما هو مصداقية الحصتين للطبيعة مفهوما ، لا إمكان وجودهما خارجا. إذن فهذا التقريب الثاني غير صحيح.

وأمّا إبطال التقريب الأول الذي كان مفاده ، أنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فالإطلاق هو عدم التقييد في موضع قابل للتقييد ، فإذا لم يمكن التقييد فلا إطلاق.

وقد اعترض على هذا الكلام باعتراضات أهمها اعتراضان.

أ ـ الاعتراض الأول ، هو اعتراض حلّي وحاصله هو ، أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس مسألة لغوية حتى نستعين باللغة لشرح مدلول كلمة إطلاق ومدلول كلمة تقييد فيها ، من قبيل مدلول كلمة أعمى وبصير ولمعرفة أن كلمة إطلاق في اللغة هل هي موضوعة لعدم التقييد في الموضع القابل ، وأن كلمة أعمى هل هي موضوعة في اللغة لمن لا يكون بصيرا في الموضع القابل ، أو أنّ كلمة إطلاق موضوعة لعدم التقييد مع الإطلاق سواء كان في الموضع القابل أو لم يكن في الموضع القابل ، لو كانت المقابلة بينهما هكذا ، لرجعنا إلى اللغة أو العرف في تشخيص مدلولهما.

لكن المسألة في الإطلاق والتقييد مسألة واقعية ، لأننا نريد في الإطلاق

٢٩٠

تلك النكتة التي بها يحصل سريان الطبيعة إلى تمام الأفراد إذن تلك النكتة هي التي نقصدها بالإطلاق ، وهي التي تبحث عنها أنها مستحيلة أو ممكنة ، وفي تشخيص تلك النكتة يوجد مسلكان.

١ ـ المسلك الأول ، هو أن النكتة المقتضية للسريان إلى تمام الأفراد هي نفس القابلية الشأنية للطبيعة ، وهذه النكتة تقتضي في نفسها السريان إلى سائر الأفراد ، غاية الأمر ، أن هذا المقتضي الذاتي قد يقترن بالمانع الذي هو عبارة عن لحاظ التقييد ، فإذا لم يوجد لحاظ التقييد هذا ، يؤثر هذا المقتضي أثره.

وبناء على هذا المسلك ، فإنه من الواضح أن التقابل بين الإطلاق والتقييد إنما هو السلب والإيجاب أي تقابل التناقض ، لأن التقييد عبارة عن لحاظ أخذ القيد في الطبيعة ، بينما الإطلاق يكفي فيه مجرّد عدم المانع ، ذلك لأن المقتضي للسريان دائما محفوظ ، وهو القابلية الشأنية للطبيعة في الانطباق على تمام الأفراد.

وهذا المقتضي ذاتي في الطبيعة لا يمكن انسلاخه عنها وإنما المهم رفع المانع يعني أن لا يكون هناك تقييد.

إذن فيكفي في حصول الإطلاق عدم القيد ، وبمجرد عدم لحاظه يؤثر المقتضي أثره ، من دون دخل لكون التقييد ممكنا أو غير ممكن ، ما دام المقتضي الذي هو القابلية الشأنية محفوظ على كل حال.

بناء على هذا ، فالتقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل السلب والإيجاب أو تقابل التناقض.

٢ ـ المسلك الثاني في تشخيص النكتة هو أن يقال.

إن الطبيعة ، قابليتها الشأنية للانطباق على كل الأفراد ، لا تقتضي السريان ، وإنما الذي يقتضي السريان انطباقها فعلا على تلك الأفراد ، أي لحاظها بنحو تكون منطبقة على تلك الأفراد ، وأمّا قابليتها الذاتية فإنها ليست

٢٩١

مقتضية ، فالطبيعة بما هي هي ، ليس لها اقتضاء أصلا للسريان ولا للوقوف ، وإنما يكون السريان من نتائج لحاظ الإطلاق ولحاظ عدم دخل القيود.

وبناء على هذا ، يكون التقابل بين التقييد والإطلاق ، تقابل التضاد ، تقابل أمرين وجوديين لا تقابل العدم والملكة ، لأن التقييد بناء على هذا ، عبارة عن لحاظ أخذ القيد ، والإطلاق عبارة عن لحاظ عدم أخذ القيود ، أو لحاظ رفض القيود أو تسرية الطبيعة.

وبهذا يتضح ، أنه على كلا المسلكين لا يتصوّر كون التقابل بين الإطلاق والتقييد أنه من تقابل العدم والملكة ، ولا يتصوّر فرض ثالث للنكتة تصوّر لنا أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة.

ب ـ الاعتراض الثاني ، على التقريب الأول هو اعتراض نقضي ، وحاصله ، هو أنه لو سلّم أن استحالة التقييد يوجب استحالة الإطلاق ، حينئذ نأتي إلى محل الكلام ، فنرى أنه في محل الكلام يوجد عندنا تقييدان متقابلان وفي مقابل كل من التقييدين إطلاق ،

أ ـ التقييد الأول ، تقييد الصلاة بقصد الأمر.

ب ـ التقييد الثاني ، تقييد الصلاة بالدواعي الأخرى ، كالداعي النفساني مثلا المقابل لقصد الأمر ، هذان تقييدان متقابلان ، وفي مقابل كلّ واحد منهما إطلاق.

التقييد بقصد الأمر ، في مقابله رفض أخذ قصد الأمر.

التقييد بالداعي النفساني ، في مقابله رفض أخذ الداعي النفساني.

وحينئذ يقال ، إذا كان تقييد الصلاة بقصد الأمر مستحيل ، إذن الإطلاق المقابل له مستحيل أيضا ، وهذا يعني ، أنّ رفض أخذ الإطلاق ، الذي ينتج الشمول للحصة غير القربية هو مستحيل أيضا ، إذن فهذا الأمر لا يشمل الحصة غير القربية ، لاستحالة الإطلاق.

٢٩٢

وأمّا التقييد الثاني ، تقييد الصلاة بالداعي النفساني ، فهو أيضا مستحيل ، إذ أنه من المستحيل للمولى أن يأمر عبده أن يصلّي لا بداعي أمره ، لأن هذا معناه لغوية هذا الأمر ، لأن المكلّف إن صلّى بقطع النظر عن هذا الأمر ، إذن فما هو أثر هذا الأمر ، وإن صلّى بسبب هذا الأمر ، فلا تقبل منه هذه الصلاة ، لأن المولى يقيّد الصلاة بأن تكون بقصد الأمر ، إذن فسوف يكون هذا الأمر لغوا في المقام وغير قابل للمحركية ، إذن فهذا التقييد الثاني مستحيل.

وعليه فالإطلاق المقابل له وهو رفض أخذ ذاك الداعي النفساني الذي ينتج الشمول للحصة القربية هو أيضا مستحيل ، وبهذا يكون كل من التقييدين مستحيلا ، وكل من الإطلاقين مستحيلا أيضا ، ويصبح الواجب سنخ طبيعة مهملة غير قابلة للانطباق لا على الحصة القربية ولا على الحصة غير القربية بل إن استحالة هذا الإطلاق ثابتة حتى بمتمم الجعل فضلا عن الجعل الأول ، بمعنى أن تقييد الواجب بغير ما يكون بقصد القربة أمر غير معقول ، لا بالجعل الأول ولا بمتمم الجعل.

إذن فيبقى هذا الأمر وهذا الجعل مهملا إلى الأبد ، وإن أريد تطبيق هذا البرهان في المقام لأدّى سفسطة في تصوير هذا الجعل ، حيث يؤدي إلى طبيعة مهملة غير قابلة للانطباق على أيّ حصة من الحصص لا بالجعل الأول ولا بمتمّم الجعل.

ب ـ الاعتراض الثاني على المسلك الرابع ، القائل بامتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وقد كان الكلام في أنه بناء عليه ، هل يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية ، وقد قلنا بأنه اعترض على ذلك بثلاث اعتراضات تقدّم الأول منها وهذا هو الاعتراض الثاني على التمسك بالإطلاق ، وهو مبنيّ على نقيض ما بني عليه الاعتراض الأول ، إذ أن صاحب هذا الاعتراض يعترف بأن استحالة التقييد لا توجب استحالة الإطلاق الثبوتي للواجب ، بل الثابت عكس ذلك ، وهو كون الإطلاق ضروري

٢٩٣

وواجب ، وذلك لأن المولى في مقام الجعل وعالم الثبوت يدور أمره بين ثلاثة أمور ، فهو

أ ـ إمّا أن يقيد الواجب بقصد القربة.

ب ـ وإمّا أن يهمل.

ج ـ وإمّا أن يطلق.

وقد تقدّم أن التقييد بقصد القربة غير معقول بالبراهين المتقدمة. والإهمال أيضا غير معقول لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت إذن فينحصر المطلب بالشق الثالث ، وهو الإطلاق.

وعليه فيكون الإطلاق ضروريا وواجبا بحسب عالم الجعل ، وعليه فلا نحتاج في إثبات الإطلاق إلى مقدمات الحكمة بحسب مقام الإثبات ، بعد أن قطعنا به برهانا.

ولكن هذا الإطلاق الثبوتي الثابت عندنا بالقطع والبرهان ، لا قيمة له ولا ينفع شيئا.

وذلك لأننا نريد إثبات التوصلية ، والتوصلي بناء على هذا ، إنما يمتاز على التعبدي بحسب الغرض وليس بحسب عالم الجعل ، إذ كلاهما بحسب عالم الجعل مطلق ، لاستحالة التقييد واستحالة الإهمال ، وإنما المائز بينهما بحسب عالم الغرض ، بمعنى أن الغرض من الأمر التوصلي مطلق يحصل حتى بلا قصد القربة والغرض من الأمر التعبدي مقيّد لا يحصل بدون قصد القربة ، وعلى هذا الأساس ، فإذا أردنا أن نثبت التوصلية ، فعلينا أن نثبت الإطلاق في الغرض ، لا الإطلاق في عالم الجعل.

قد يقال ، إن الإطلاق في الجعل يكشف عن الإطلاق في الغرض.

فيقال ، بأن الإطلاق في الجعل للواجب أنما يكشف عن الإطلاق في الغرض لو كان المولى يمكنه أن يطلق وأن لا يطلق ومع هذا أطلق ، فحينئذ ،

٢٩٤

يكشف هذا الإطلاق عن إطلاق غرضه ، لأن الجعل تابع للغرض.

وأمّا إذا كان الإطلاق ضروريا ويستحيل على المولى أن لا يطلق في عالم الجعل فحينئذ مثل هذا الإطلاق الثابت بالضرورة لا يكشف عن إطلاق الغرض ، وعليه فهذا الإطلاق لا يفيدنا شيئا في التمسك به لإثبات التوصلية.

وتحقيق هذا الاعتراض ، يتوقف على مطلب سبقت الإشارة إليه ، وهو أنه إذا كان المهمل ـ بمعنى الطبيعة التي لم يلحظ فيها التقييد ولا الإطلاق ـ.

إن كان هذا المهمل في قوة المطلق ، وهو الذي سميّناه بالإطلاق الذاتي ، بمعنى أن الطبيعة بذاتها تقتضي السريان ـ إذا كان هكذا هذا المهمل ، فهو في قوة المطلق ، وبناء على هذا التقدير ، فهذا الاعتراض المدّعى يكون تاما في المقام ، لأنه بحسب الحقيقة لا يكون عندنا إلّا شقان ، مقيّد ومطلق ، لأن المهمل اللحاظي في قوة المطلق اللحاظي كما تقدم ، وحينئذ إذا امتنع المقيّد وجب المطلق ، وهذا الإطلاق الضروري في عالم الجعل لا يكشف عن الإطلاق الغرضي ، وحينئذ ، بناء على هذا ، يتم هذا الاعتراض.

وأمّا إذا بنينا على أن المهمل اللحاظي ليس في قوة المطلق اللحاظي ، بل هو في قوة المقيّد اللحاظي كما مرّ ، حينئذ ، لا بدّ لنا من ملاحظة البراهين السابقة التي بها برهن على استحالة التقييد اللحاظي لنرى هل أن تلك البراهين التي برهنت على استحالة أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر هل أنها تقتضي أيضا استحالة المهمل الذي هو في قوة المقيّد ، أو أنها لا تقتضي ذلك.

وحينئذ فإن اتّبعنا بعض البراهين السابقة التي تقتضي استحالة المقيّد واستحالة المهمل الذي هو في قوة المقيّد من قبيل برهان الميرزا (١) في لزوم الدور ، فحينئذ يتم هذا الاعتراض ، لأن المقيّد محال ، والمهمل الذي هو في

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٧٨.

٢٩٥

قوة المقيّد أيضا محال ، ومع هذا فيبقى المطلق اللحاظي ، ويكون واجبا وضروريا ، ولكونه ضروريا لا يكشف عن الإطلاق الغرضي الذي هو المقصود في المقام.

وأمّا إذا اتبعنا بعض البراهين الأخرى على استحالة المقيّد والتي لا تبرهن على استحالة المهمل الذي هو في قوة المقيّد ، كما لو كان هذا البرهان هو الوجه الثالث أو الرابع فحينئذ تكون الشقوق ثلاثة كما تقدّم ـ المقيّد ، والمهمل الذي هو في قوة المقيّد ، والمطلق ، والمفروض أنّ المقيّد محال بالبرهان ، لكن المهمل الذي هو في قوة المقيّد لا يكون محالا بالبرهان ، وعليه فلا يتعيّن الإطلاق ، إذن فيبقى هناك شيئان ممكنان ، أحدهما الإهمال الذي هو في قوة التقييد ، والآخر الإطلاق الذي هو في مقابل التقييد ، فإذا كان كل منهما ممكنا ، واختار المولى الإطلاق في عالم الجعل ، فلا محالة أنّ هذا يكشف عن الإطلاق الغرضي ، لأن المولى هنا لم يكن مضطرا إلى الإطلاق ، لأن المفروض إمكان الإهمال ثبوتا فإذا اختار الإطلاق ، فيكشف اختياره هذا عن إطلاق غرضه ، وبذلك يندفع هذا الاعتراض.

فهذا الاعتراض ، على تقديرين وارد ، وعلى تقدير ثالث غير وارد.

أ ـ التقدير الأول ، أن يكون المهمل في قوة المطلق ، إذن ليس عندنا إلّا مقيّد ومطلق ، والإطلاق ضروري ، فيكون الاعتراض واردا.

ب ـ التقدير الثاني ، أن يكون المهمل في قوة المقيّد ، لكن برهاننا على استحالة المقيّد ثبوتا يبرهن على استحالة المهمل الذي هو في قوة المقيّد أيضا ، وبناء على هذا يكون الإطلاق ضروريا ويتم الاعتراض.

ج ـ التقدير الثالث ، أن يكون المهمل في قوة المقيّد اللحاظي ويكون برهان استحالة المقيّد لا يشمل المهمل ، بناء على هذا ، لا يكون الاعتراض واردا ، فلو ثبت الإطلاق حينئذ يكشف عن الإطلاق الغرضي.

وحيث أن الصحيح من هذه التقادير هو التقدير الأول ، لهذا يتم هذا

٢٩٦

الاعتراض الثاني على التمسك بالإطلاق.

د ـ الاعتراض الثالث ، وهذا الاعتراض مبني على التنازل عن كلا الاعتراضين السابقين.

فهو لا يقول ، بأن الإطلاق مستحيل كما يقول الأول ، ولا يقول بأنه ضروري كما يقول الثاني ، وإنما يقول ، بأنه ثبوتا بحسب عالم الجعل يمكن للمولى أن يهمل إهمالا في قوة المقيّد وأن يطلق وإن كان لا يمكنه التقييد ، فأمر المولى دائر بين شيئين ، بين المهمل اللحاظي وبين المطلق اللحاظي ، وعليه فالمطلق اللحاظي الذي هو منشأ السريان والشمول ، لا هو مستحيل ولا هو واجب ، بل هو ممكن إلّا أن هذا الإطلاق اللحاظي الممكن بحسب عالم الجعل ، لا يمكن أن نثبته بمقدمات الحكمة في مقام الإثبات ، وذلك لأن مقدمات الحكمة بحسب مقام الإثبات وعلى هذا التقدير مرجعها إلى دلالة عرفية مفادها ، أن عدم التقييد في التخاطب والتكلم ، يدل على الإطلاق في مقام الجعل والثبوت ، إذن حينئذ لا بدّ من الرجوع إلى هذه الدلالة العرفية ، لنرى هل أن الدال على الإطلاق هو عدم التقييد حيث يمكن للمولى أن يقيّد ، أو عدم التقييد في مقام التخاطب ولو لم يمكن للمولى أن يقيّد؟.

فإن قلنا بأن الدال عرفا على الإطلاق ثبوتا هو عدم التقييد التخاطبي ، حيث يمكن للمولى ذلك ، ولا يكون عدم التقييد التخاطبي الناشئ من إكراه المولى ولجم فمه عن حرية التخاطب دالا على الإطلاق ثبوتا وجعلا.

إذن فالكاشف عرفا عن الإطلاق الجعلي ، هو عدم التقييد في مقام التخاطب ، لكن حيث يمكن التخاطب ، وهذا معناه ، أنّ الإطلاق الحكمي الإثباتي أخذ فيه القابلية ، وهذا غير ما إدّعاه الميرزا ، حيث ذكر أن الإطلاق ثبوتا وجعلا أخذ فيه القابلية ولذلك لم نقبله ، وهذا بخلاف ما لو ادّعي أخذ القابلية في الإطلاق بحسب مقام الإثبات ومقدمات الحكمة فيقبل منه ذلك.

ويقال ، إن الإطلاق الثبوتي يكشف عنه كاشف عرفي يسمّى بمقدمات

٢٩٧

الحكمة ، وهذا الكاشف العرفي عبارة عن عدم التقييد ، حيث يمكن للمولى أن يقيّد في مقام التخاطب ، والمفروض أن المولى لا يمكنه أن يقيّد في مقام المخاطبة لأنه لا يمكنه أخذ قصد القربة قيدا ، إذن فالمولى لعلّه لم يقيّد ، لأنه لا يتمكن أن يقيّد ، وحينئذ لا يكون عدم التقييد في مقام التخاطب كاشفا عن الإطلاق.

وهذا البيان بحسب الحقيقة مبني على كون مقدمات الحكمة دلالة عرفية بالمعنى المتقدم ، وحينئذ يجب أن نعرف أن الدال العرفي والكاشف العرفي عن الإطلاق هل هو عدم بيان التقييد مع إمكان بيانه ، أو هو عدم بيان كل ما يخالف الإطلاق.

فإن كان الكاشف عرفا هو عدم التقييد مع إمكان بيانه ، فمن الواضح أن هذا الكاشف غير موجود في المقام ، لأن المولى لا يمكنه أن يبيّن التقييد.

وإن كان الكاشف عن الإطلاق عرفا هو عدم بيان غير الإطلاق ولو الإهمال الذي نتيجته نتيجة التقييد فحينئذ ، بناء على مبنى هذا الاعتراض ، يكون عدم بيانه هذا ، محفوظا في المقام ، لأن المولى كان يمكنه أن يبين عدم الإطلاق ، وأن ينصب قرينة على أن خطابه مهمل وليس فيه إطلاق والمفروض أنه لم ينصب مثل هذه القرينة.

نعم لم يك يمكنه أن ينصب قرينة على التقييد لكن كان يمكنه أن ينصب قرينة على الإهمال واللّاإطلاق.

إذن فإن كان الكاشف العرفي هو عدم بيان التقييد مع إمكان بيان التقييد ، فهذا الكاشف العرفي غير موجود في المقام ، وإن كان الكاشف العرفي هو عدم بيان ما يخالف الإطلاق مع إمكان بيان ما يخالف الإطلاق ، فهذا موجود في المقام.

وبذلك يتضح ، أن الصحيح من هذه الاعتراضات الثلاثة هو ، الاعتراض الثاني ، القائل بكون الأمر دائرا بين التقييد والإطلاق ولا شق ثالث ، لأن

٢٩٨

المهمل اللحاظي في قوة المطلق اللحاظي ، فإذا استحال المقيّد تعيّن المطلق ثبوتا.

أمّا مثل هذا الإطلاق المتعيّن بالضرورة في عالم الجعل لا يفيدنا شيئا ، لأنه لا يكشف عن إطلاق الغرض.

كما اتضح حتى الآن ، أنه بناء على المسلك الرابع ، القائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، لا يمكن التمسك بإطلاق الخطاب اللفظي لنفي التعبدية وإثبات التوصلية.

٢٩٩

المقام الثاني

الإطلاق المقامي

وبعد إن استعرضنا معقولية الإطلاق اللفظي إثباتا ولفظا على أربعة مباني في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وتبيّن أنه يتعذّر الإطلاق اللفظي ، كما لو كنّا قد سلكنا المبنى الرابع الذي لا يمكن بناء عليه ، التمسك بالإطلاق اللفظي ، فهل بالإمكان التمسك بالإطلاق المقامي أو لا؟.

ويقرّب الإطلاق المقامي بتقريبين.

التقريب الأول

وهو مطابق لما أفاده المحقق العراقي (١) وغيره من المحققين ، وحاصله ، أننا إذا أقمنا برهانا على هذه القضية الشرطية وهي ، أنه لو كان قصد الأمر أو القربة دخيلا في غرض المولى ، فلا بدّ له من بيانه بنحو الجملة الخبرية ، حيث يتعذر عليه أخذه قيدا في متعلق الأمر في الجملة الإنشائية كما هو المفروض ، وحينئذ نستكشف من عدم البيان عدم دخله في غرض المولى.

أمّا برهان القضية الشرطية ، فهو عبارة عن لزوم نقض الغرض ، حيث يقال.

أنه إذا كان قصد القربة دخيلا في غرض المولى ، ورغم ذلك لم يبيّنه ،

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٣٠٠