بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

فمثلا لو أخبر العادل عن الإمام عليه‌السلام ، بوجوب السورة ، فهنا يعقل توجه الشارع لإيجاب تصديق العادل ، لأن خبر العادل هنا له أثر شرعي وهو وجوب السورة.

لكن ، لو أخبر العادل عن خبر العادل عن الإمام بوجوب السورة ، كما لو أخبر سماعة عن زرارة عن الإمام ، فهنا العادل أخبر عن زرارة ، حينئذ ، ما هو الأثر الشرعي لخبر سماعة في المقام؟. فيقال ، إن الأثر الشرعي في المقام ، هو نفس وجوب تصديق العادل ، لأن هذا العادل أخبر عن أخبار زرارة ، وأخبار زرارة ، أثره الشرعي هو ، وجوب تصديق العادل ، من هنا نشأ الإشكال ، فقيل ، أنه وجوب تصديق العادل ، كيف يعقل أن يشمل أخبار العادل ، سماعة مثلا ، الذي أخبر عن زرارة ، مع أن هذا ليس له أثر إلّا نفس هذا الوجوب ، فيلزم اتحاد الحكم مع موضوعه وغير ذلك من التفاصيل التي ذكرت في تقريب إشكال الخبر مع الواسطة.

وقد أجيب هناك ، بأنه هنا يوجد وجوبان ، وأمران بتصديق العادل ، أو بعدد الأخبار بحسب الخارج ، لأن صدّق العادل ، قضية حقيقية تنحل إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الموضوع خارجا ، وبعدد ما هنالك من أخبار للعدول ذوات شرعية. وحينئذ ، فهنا يوجد وجوبات متعددة طولية.

الوجوب الأول ، هو وجوب صدّق العادل الذي أخبر بوجوب السورة.

الوجوب الثاني ، وجوب صدّق العادل الذي أخبر عن الخبر الأول ، وهذا الوجوب ، في طول الوجوب الأول ، لأن هذا الخبر أثره الشرعي ، هو الوجوب الأول ، وإنما توجه وجوب تصديق الخبر الثاني ، بلحاظ أن الخبر الثاني أخبر عن الخبر الأول ، والخبر الأول موضوع لوجوب التصديق ، إذن فالأثر الشرعي الملحوظ في موضوع الوجوب الثاني هو نفس الوجوب الأول.

وهذا معناه ، أنّ هذين الوجوبين طوليان ، وأحدهما وهو وجوب تصديق

٢٦١

زرارة بإخباره بوجوب السورة ، هذا يحقق موضوعا لوجوب تصديق سماعة الذي يخبر عن زرارة بوجوب السورة.

وهذان وجوبان طوليان ، ولكن هذين الوجوبين والأمرين الطوليين مجعولان بجعل واحد في خطاب صدّق العادل ، وهذا برهان على أن الطولية بين الأمرين والترتب بين المجعولين لا ينافي وحدة الجعل ووحدة الإيجاب ، فإذا صحّ هذا في خطاب صدّق العادل ، فليصح أيضا في المقام ، وهو أن يكون الأمر المتعلق بذات العمل والأمر المتعلق بقصد الامتثال ، وهما أمران طوليان ، من قبيل صدّق العادل ، فكما صحّ هذا هناك ، فليصح هنا أيضا. وبذلك ينحل الإشكال.

والتحقيق في المقام ، أن هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه. وذلك ، لأن محاولة المحقق العراقي تصوير تعدّد الأمر بوجود أمرين طوليين أحدهما متعلق بذات الفعل ، والآخر متعلق بقصد الامتثال ، هذه المحاولة تتراوح بين شقين.

فهو إمّا أنه يعتبر هذين الأمرين الطوليين ، أمرين ضمنيين مرجعهما إلى أمر نفسي استقلالي واحد ، وإمّا أنه يبنى على أنهما فردان استقلاليان من الأمر وحكمان مستقلّان ، إذن نتكلم عن كلا الشقين.

أمّا الشق الأول ، فإن أراد فيه أن يعتبر الأمرين ضمنيين طوليين مرجعهما إلى أمر نفسي استقلالي واحد ورغم هذا يقايسهما بأمر «صدّق زرارة» ، فهذا غير معقول ، وحتى يتضح عدم المعقولية ، لا بدّ من التكلم عن المقيس والمقيس عليه ، فنتكلم في المقيس عليه أولا ، ثم نرجع إلى محل الكلام.

فالمقيس عليه ، وهو خطاب «صدّق العادل» الذي يشمل «زرارة ، وسماعة» الذي يروي عن زرارة ، ففي هذا الخطاب ، الحكم بوجوب تصديق العادل له وعاءان.

أ ـ الوعاء الأول ، وعاء عالم الجعل والإنشاء من قبل المولى.

٢٦٢

ب ـ الوعاء الثاني ، وعاء عالم الفعلية والتحقق بتبع تحقق موضوعه خارجا.

أمّا في عالم الجعل والإنشاء ، فمن الواضح ، أنه لا طولية بين الوجوبات ، لأنه لا اثنينية ولا تعدّد ، فضلا عن الطولية ، إذ في عالم الإنشاء ، الجعل واحد ، فلا محالة يكون المجعول بالذات والمقوّم للجعل في أفق الجعل واحد أيضا ، إذ كل جعل واحد هو متقوّم بمجعول بالذات واحد ، وإنما التعدّد والطولية يكون في عالم الفعلية ، حيث أن المجعول ينحل إلى أفراد متعددة من الوجوب بعدد أفراد موضوعه خارجا فتتكثّر الأحكام بتكثّر الموضوعات خارجا ، فيكون هناك وجوبات وفعليّات عديدة بعضها في طول بعضها الآخر ، فإن فعلية وجوب تصديق سماعة في طول فعلية وجوب تصديق زرارة ، فالطولية بين الفعليتين في عالم الفعلية ، وحينئذ نأتي إلى محل الكلام.

فإذا فرض أن الأمر بذات الفعل والأمر بقصد الامتثال كانا أمرين ضمنيين مرجعهما إلى أمر واحد ، حينئذ لا يمكن أن نتصور التعدّد والطولية لا في عالم الجعل ولا في عالم الفعلية.

أمّا في عالم الجعل ، فلأنه ليس هناك تعدّد فضلا عن الطولية ، لأنه في عالم الجعل يوجد جعل واحد ، فلا محالة يكون إذن مجعول واحد.

وأمّا في عالم الفعلية ، فأيضا لا يعقل الطولية ، إذ لا يعقل التعدّد هنا ، باعتبار أن الأمرين ضمنيان ، والضمنية تحفظ حتى في عالم الفعلية ، فإن الضمنية معناها أنه في عالم الفعلية أيضا تكون فعلية كل واحد منهما فعلية ضمنية لا فعلية استقلالية ، إذ كما أنه في عالم الجعل جعله جعل ضمني ، كذلك في حالة الفعلية أيضا تكون فعليته فعلية ضمنية ، إذن في عالم الفعلية يوجد عندنا فعليتان ضمنيتان ، ومعنى هذا ، أن الفعليتين الضمنيتين فعلية واحد استقلالية ، وحينئذ ، إذا كانت فعليتهما فعلية واحدة استقلالية موجودة بوجود واحد في عالم الفعلية فكيف يعقل الطولية والترتب بينهما.

٢٦٣

ومن هنا يتضح الفرق بين خطاب «صلّ» هنا ، وخطاب «صدّق العادل» هناك ، فإن خطاب «صدّق العادل» حيث أنه ينحل في عالم الفعلية إلى أحكام متعددة استقلالية ، إذن فيعقل تصور الطولية فيه بين حكم وحكم ، وأمّا هنا ، فحيث أننا نريد التحفّظ على الضمنية ، إذن فالأمران الضمنيّان هما ضمنيين في تمام العوالم بما في ذلك عالم الفعلية ، إذ فيه ، فعليتهما فعليتان ضمنيتان ، إذن فهما فعلية واحدة يستحيل فيها الطولية والترتب.

هذا إذا أريد التحفظ على الضمنية بين الأمرين.

وأمّا الشق الثاني ، وهو أن يريد المحقق العراقي بالأمرين أنهما أمران استقلاليان ، غاية الأمر أنهما مجعولان بجعل واحد ، وبذلك يصير حالهما حال وجوب «صدّق زرارة» ووجوب «صدّق سماعة» فكما أن خطاب «صدّق زرارة» يتضمن وجوبات استقلالية ، فكذلك الأمر المتعلق بذات الفعل والأمر المتعلق بقصد امتثال الفعل ، فهما وجوبان استقلاليان أيضا ، غاية الأمر أنهما أنشئا بجعل واحد ، إذن تعقل الطولية بينهما في عالم الفعلية لأنهما استقلاليان غير ضمنيين.

إلّا أن هذا غير تام في محل الكلام وذلك ، لأن هذا إنما يتعقّل في محل الكلام ، فيما إذا صادف المولى في هذا الخطاب نفس ما صادفه في خطاب «صدّق العادل» وتوضيح ذلك.

أن المولى ، في خطاب «صدّق العادل» أراد أن يجعل وجوبين أحدهما وجوب تصديق زرارة ، والآخر وجوب تصديق سماعة ، وكلاهما بجعل واحد ، وإنما تمكّن المولى من هذا بجعل واحد ، عند ما وجد جامعا بين الواجبين ، هو عنوان «تصديق العادل» ، فإن عنوان التصديق ، جامع بين تصديق زرارة وتصديق سماعة ، وهو عنوان جامع أيضا بين الموضوعين ، وهو الأثر الشرعي. إذ أن تصديق زرارة بلحاظ أثر شرعي ، وهو وجوب السورة ، فوجوب السورة أثر شرعي ، وتصديق سماعة بلحاظ أثر شرعي ، وهو وجوب

٢٦٤

تصديق زرارة ، وهذا أثر شرعي أيضا ، إذن فالمولى اقتنص جامعا بين المتعلقين ، وهو عنوان «تصديق العادل» واقتنص جامعا بين الموضوعين ، وهو عنوان الأثر الشرعي ، وحينئذ ، أنشأ الوجوب على الجامع بجعل واحد ، فقال «صدّق العادل» في الأثر الشرعي وهذا إنشاء للوجوب على العنوان الجامع والموضوع الجامع ، ثمّ أن هذا الإنشاء في عالم الانحلال انحل إلى وجوبين طوليين أحدهما موضوع للآخر.

بينما في المقام ، في خطاب «صل» إنما يتمكن المولى من الصنيع نفسه إذا وجد جامعا بين المتعلقين ، بين الصلاة ، وقصد الأمر ، وجامعا بين الموضوعين ، بين ما به يمكن الصلاة وهو القدرة البدنية ، وما به يمكن قصد الأمر ، وهو نفس الأمر ، إذا وجد المولى في المقام جامعا بين المتعلقين وبين الموضوعين أمكنه حينئذ إنشاء الوجوب على الجامع وينحل بذلك إلى أمرين.

لكن هذا مجرد فرض في المقام ، لأن المولى لا يمكنه تصور مثل هذا الجامع ثمّ إنشاء الوجوب عليه ، وذلك لعدم وجود مثل هذا الجامع ، وإنما هنا في محل الكلام المولى أنشأ الوجوب ابتداء على الصلاة وعلى قصد امتثال الأمر ، لا أنه أنشأه على الجامع بين الصلاة وقصد امتثال الأمر.

وبتعبير آخر ، إن المولى الذي يريد أن يجعل الوجوب على الصلاة وقصد الامتثال ، إمّا أن يفرض أنه استحضر نفس الصلاة وقصد الامتثال وأوجبهما معا ، وإمّا أنه استحضر جامعا بينهما وأوجبه.

أمّا أنّ المولى استحضر نفس الصلاة وقصد الامتثال وأوجبهما فهذا أمر غير معقول وذلك لأنه إن استحضر الصلاة وقصد الامتثال وأوجبهما بعنوانهما فلا محالة يكون هذا الوجوب وجوبا واحدا متعلقا بهما ، ويكون وجوب كل منهما وجوبا ضمنيا تستحيل الطوليّة والترتب بينهما ، وإن فرض أنه استحضر جامعا بينهما وأنشأ الوجوب عليه ، فهذا أمر معقول ، ولكن دون هذا الجامع خرط القتاد في محل الكلام.

٢٦٥

وعليه ، فحل المشكلة ، عن طريق فرض أمرين مجعولين بجعل واحد كما ذهب إليه المحقق العراقي ، أمر غير ممكن.

وبهذا اتضح أن الفرق بين الأمر التعبدي ، والأمر التوصلي ، لا يمكن أن يرجع إلى ناحية المتعلق ، بحيث يكون الأمر التوصلي متعلقا بذات الفعل ، والأمر التعبدي متعلقا بالفعل مع قصد القربة ، وذلك لعدم إمكان تعلق الأمر الحقيقي بقصد امتثال الأمر ، بدون فرق بين أن يكون مجعولا ، أو بمتمّم الجعل على كلا التقديرين ، بل كل من الأمر التعبدي والتوصلي متعلق بذات الفعل من دون زيادة.

كما اتضح ممّا سبق ، أن كلا من الأمرين ما دام متعلقا بذات الفعل ، فلا محالة يسقط بالإتيان بذات الفعل ، إذ لا يعقل بقاء شخص الأمر بعد الإتيان بمتعلقه ، لأنه لو بقي شخص الأمر بعد الإتيان بمصداق متعلقه للزم كونه طلبا لتحصيل الحاصل ، ذلك لأن متعلقه هو الجامع بين المأتي به وغيره ، والجامع بين المأتي به وغيره هو مأتي به وحاصل ، إذن فلا معنى لتحصيله ، إذن فالأمر يسقط لا محالة بالإتيان بذات الفعل ، سواء كان الأمر توصليا أو تعبديا ، لأنه في كلتا الحالتين تعلّق بذات الفعل واستحال انبساطه على قصد الأمر ، واستحال تحصيله بعد أن حصل.

ولكن مع هذا يبقى فرق لبّي وثبوتي بين الأمرين ، وهذا الفرق هو ، أن الأمر التوصلي باعتبار نشوئه من غرض يستوفى بمجرد الإتيان بالفعل خارجا فيسقط لا إلى بدل ، إذن فلا موجب فيه لاستئناف أمر آخر ، بينما في الأمر التعبدي وإن كان يسقط شخص الأمر بالإتيان بذات الفعل لأنه تعلق به ، لكن حيث أنه ناشئ من غرض لا يستوفى إلّا بالإتيان بالحصة القربية خاصة ، إذن فهو يسقط إلى بدل ، بمعنى أن المولى بعد سقوط خطابه الأول يجعل خطابا ثانيا فيقول للمكلّف مرة أخرى ، «صلّ» فإن أتى بالصلاة مع قصد القربة فقد حصل غرض المولى وسقط الأمر لا إلى بدل ، وإن أتى بها بدون قصد القربة

٢٦٦

سقط الأمر أيضا لكن إلى بدل ووجد آخر وهكذا ، وهذا معنى من معاني تعدّد الأمر.

لكن غير تعدّد الأمر الذي تقدّم وتعرضنا له ، فإن الأمر الذي تقدّم وتعرضنا له ، كان يتعلق الأمر الأول بذات الفعل ، والأمر الثاني بقصد القربة ، وهنا لا نقول بذلك ، بل الأمر الثاني هو أيضا متعلق بذات الفعل كالأمر الأول ، إذن فيمكن أن يقال ، بأن الفرق الثبوتي بين التعبدي والتوصلي ـ رغم اشتراكهما بالتعلق بذات الفعل ـ هو أن الأمر التوصلي يسقط بالإتيان بذات الفعل لا إلى بدل أمر آخر ، بينما الأمر التعبدي هو الآخر وإن كان يسقط بالإتيان بذات الفعل لكن إلى بدل ، باعتبار أنّ غرضه لا يزال باقيا ، إذن فهذا الفرض يحدث خطابا آخر لا محالة ، وهكذا الثاني يسقط دون الفرض فينشئ هذا الفرض يحدث خطابا آخر لا محالة ، وهكذا الثاني يسقط دون الفرض فينشئ هذا الفرض خطابا آخر ، وهكذا إلى أن يصل المولى إلى مقصوده. والمثال العرفي لذلك هو كما لو أراد المولى من خادمه الأمي أن يعطيه كتاب الوسائل من مكتبته ولأن الخادم لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، فيقول له المولى أعطني كتابا من المكتبة لاحتمال أن الخادم قد يأتيه بكتاب الوسائل ، لكن هذا الخادم يخطئ ويأتيه بكتاب آخر ، فلو أنّ هذا الخادم أصاب غرض المولى وجاءه بكتاب الوسائل من الأمر الأول ، إذن فقد سقط هذا الأمر لا إلى بدل ، ولكن إذا أخطأه حظه وجاءه بكتاب الجواهر ، فهنا يجدّد المولى خطابه وينشئ خطابا آخرا فيقول ، أعطني كتابا آخر ، فإن جاءه بغير مقصوده فقد سقط الأمر الأول أيضا وبقي غرض المولى بدون تحقّق ، فينشئ خطابا آخرا فإن ساعده حظه وجاء بكتاب الوسائل ، إذن فقد سقط الأمر وحصل الغرض لا إلى بدل وإن جاءه بغير مطلوبه يسقط الأمر ويبقى الغرض ، ويعود المولى ليطلب : ثالثة ورابعة وخامسة حتى يحصل على غرضه فيسقط الأمر لا إلى بدل هذا هو سنخ التعبدي.

وأمّا سنخ الأمر التوصلي ، فيمثّل له عرفيا أيضا بما لو كان غرض المولى

٢٦٧

يحصل بأي كتاب يأتي به الخادم من المكتبة وكيفما اتفق فقال للخادم أعطني كتابا «ما» فإذا أتاه هذا الخادم بأي كتاب ، حينئذ يسقط الأمر لا إلى بدل والغرض أيضا يسقط. فمثال الأمر الأول يشبه الأمر التعبدي ، ومثال الأمر الثاني يشبه الأمر التوصلي.

وفي المقام هنا أيضا يقال ، بأن المولى إن كان له غرض في الحصة القربية خاصة ، فهو حيث لا يتمكن من جعل الأمر على الحصة القربية ، يطلب من المكلّف الإتيان بالفعل ، فإن أتى هذا المكلف بالفعل قربيا إذن يسقط أمر المولى لا إلى بدل ، لحصول الغرض ، وإن لم يأت به قربيّا مرة آخرى ينشئ المولى خطابا آخر يطلب فيه الإتيان بالفعل ، فإن أتى به قربيا سقط الأمر لا إلى بدل وسقط الفرض أيضا ، وإلّا فمرة أخرى وهكذا ، وكل هذه الأوامر والخطابات المتعدّدة والمتكررة متعلّقها واحد ، وهو ذات الفعل ، لا أن الأمر الأول متعلق بذات الفعل ، والأمر الثاني متعلق بقصد القربة.

وبعد معرفة روح الفرق بين الأمر التعبدي والأمر التوصلي بالبيان المزبور ، يفترض أن يكون المولى على واحدة من حالتين.

فهو إمّا أن يكون مع المكلّف في حالة شخصية وقضية شخصية ، حيث يمكن لهذا المولى أن يتوصل إلى مقصوده وغرضه بخطابات متعددة يوجهها إلى المكلّف مباشرة ويأمره شخصيا فيقول ، «أقيموا الصلاة» وهو يراه ، وحينئذ ، فإن صلّى هذا المكلّف صلاته بقصد القربة سقط خطاب المولى لا إلى بدل كما سقط بذلك غرضه ، وإلّا فإن لم يأت بصلاة قربية يعود المولى من جديد وينشئ خطابا آخر ، فيقول «صلّ» ويأتي هذا المكلف ثانية بالصلاة ، فإن رآه المولى قد صلّى صلاة قربية ، إذن سقط خطابه لا إلى بدل ومعه يسقط غرضه ، وإلّا فمن جديد ينشئ أمرا وهكذا ، فإمّا أن يسقط خطاب المولى لكن إلى بدل إذا لم يأت بالصلاة مع قصد القربة ، وإمّا أن يسقط خطابه لا إلى بدل ومعه يسقط غرضه إن هو أتى بها مع قصد القربة ، وكلّ هذا في موارد القضايا الشخصية متيسر ومعقول.

٢٦٨

وأمّا إذا كان المولى في حالة ومقام مولويته الحقيقية وتشريعه في موارد الأوامر الكلية بنحو القضايا الكلية والحقيقية بحيث لا يكون المولى في مورد شخصي وحالة شخصية ومباشرة مع عبده ، حينئذ ، في مثل هذا المورد التشريعي الكلي لا بدّ للمولى عند ما يأمر عبده «بالصلاة» ما دام حيا من أن ينصب قرينة مع متعلق أمره يكون مفادها ، أن هذا الأمر بالصلاة قد يتجدد في حالة الإتيان بالصلاة بدون قصد القربة ، فهو وإن سقط ، لكنه يسقط إلى بدل ، لأن غرض المولى لم يستوفى بعد ، وقد لا يتجدّد هذا الأمر بالصلاة إن أتى بها العبد مع قصد القربة لأن غرضه في هذه الحالة قد استوفي.

إذن في الحالة الثانية لا بدّ للمولى من نصب قرينة مع متعلق أمره مفادها أن هذا الأمر الكلي له تجدّدات وتوجهات متعدّدة مترتبة وكثيرة نحو المكلّف إن أتى هذا المكلف بالصلاة بدون قصد القربة وإلّا فمعها يتوقف هذا التوجه والتجدّد لخطاب المولى ، لأن العبد قد أتى بالصلاة قربية ، ومعها يسقط أمره لا إلى بدل وتجدّد وتوجه كما يسقط بذلك غرضه ، وبهذه القرينة النوعية يعوّض المولى ويستفني عن الحالة الأولى الشخصية والمباشرة الشخصية في توجيه الخطاب وتجديده أو عدم تجديده ، وبهذه القرينة النوعية العامة أيضا يحصل المقصود ، كما أنه بهذه القرينة يجعل المكلّف يعرف أنه لا يمكنه الخروج عن عهدة التكليف إلّا عند ما يصلّي بقصد القربة وإلّا فسوف يتجدّد أمر «أقيموا الصلاة».

وهذا ليس معناه ، أن الأمر الواحد ينبسط على الفعل وقصد القربة ، بل الأمر هنا يتعلّق بالفعل فقط ، ولكن حيث أن لهذا الأمر تجدّد وتوجه جديد نحو المكلف إن لم يأت بالصلاة على وفق القرينة فلا يمكن للمكلّف التخلّص منه إلّا إذا صلّى بقصد القربة فيسقط الأمر لا إلى بدل.

إذن فهذه القرينة ، رغم أنها لا تؤدي إلى انبساط الأمر على قصد القربة لاستحالة ذلك.

٢٦٩

إلّا أنها تؤدي إلى نتيجة ذلك ، وهي أن المكلّف لا يخرج عن العهدة إلّا بالإتيان بالصلاة مع قصد القربة ، وبهذا تكون حال المكلّف حال ما إذا فرض أن المولى أمر بقصد القربة ، وحيث أن النتيجة هي نفس النتيجة ، إذن يصح عرفا ، أن تبيّن هذه القرينة بلسان تقيّد متعلق الأمر فيقال ، «صلّ بقصد القربة» ، وكلمة ، «بقصد القربة» في قولنا «صلّ بقصد القربة» هذه الكلمة ، هي لبّا وتحليلا وعمقا ، ليست قيدا في متعلّق الأمر وإنما هي قرينة عامة عرفا على أنّ خطاب «صلّ» يتجدد ويتوجه مكررا وأنه دائما يسقط إلى بدل ما لم يؤتى بالصلاة مع قصد القربة ، لكن حيث أن هذا المطلب في النظر العرفي في قوة تقيد متعلّق الأمر بحيث أن الإنسان العرفي بما هو إنسان عرفي لا يميّز بين المطلبين ، لهذا يرى صحة بيان هذا المطلب ، بلسان تقييد متعلق الأمر بتلك القرينة النوعية العامة الآنفة الذكر والتي لا تخرج في روحها لبا عن كونها قرينة على أن الأمر يتجدد ويتوجه من جديد.

وبهذا ينحل التنافر بين الوجدان والبرهان ، إذ أننا بوجداننا العرفي لا نرى محذورا في أن يأمر المولى بالصلاة مع قصد امتثال الأمر ، وإن كان مجرد تصوره برهانيا يكفي في الجزم باستحالته ، وحينئذ يكون التوفيق بينهما بهذا البيان الذي بيّناه.

وبهذا البيان يصح أن يقال ، بأنّ الفرق بين الأمر التعبدي والأمر التوصلي له زاويتان.

أ ـ إذ تارة ، ينظر إلى الفرق بينهما من زاوية مقام الثبوت وعالم اللب والبرهان.

ب ـ وأخرى ، ينظر إلى هذا الفرق من زاوية عالم النظر العرفي.

فإن نظر إلى الفرق بينهما من الزاوية الأولى ، فالفرق بينهما ليس في المتعلّق ، لاستحالة انبساط الأمر على قصد القربة ، لا بالجعل الأول ، ولا بمتمّم الجعل ، بل الفرق بينهما هو في أن الأمر التعبدي دائما يتجدّد ، ويسقط

٢٧٠

إلى بدل ، والأمر التوصلي يسقط لا إلى بدل ، هذا مع فرض أنّ تمام الأوامر المتبادلة في باب التعبدي كلها متعلقة بذات الفعل.

وإن نظرنا من زاوية النظر العرفي والوجداني ، فحيث أن المولى يحتاج إلى نصب قرينة على ذلك التجدّد وتلك النوعية في الخطاب التعبدي ، وحيث أن بيان تلك القرينة بلسان التقييد أمر عرفي ، لهذا يرى العرف أنه كأنّ الأمر التعبدي تعلّق بالصلاة مع قصد القربة وأن الأمر التوصلي تعلّق بذات الفعل ، ولذلك تراهم يقولون بأن الفرق بينهما من ناحية المتعلّق.

ويمكن أن يكتفى بهذا المقدار فيما هو المهم من عقد هذا البحث ، لأن المهم للفقيه منه هو الاستطراق للتمسك بإطلاق خطاب «صلّ» أو خطاب «اغسل» لنفي التعبدية وإثبات التوصلية حيث يقال حينئذ ، بأن المولى لم يقيّد خطابه بقصد القربة ، إذ لو كان الواجب تعبديا لقيّده بقصد القربة ، وهنا يجري مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق ونفي التقييد بقصد القربة.

وهنا يكفي في إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة أن يكون التقييد ممكنا بالإمكان العرفي وإن لم يكن ممكنا بالإمكان البرهاني واللبّي ، يعني أن المولى عرفا كان يمكنه أن يقول «صلّ بقصد القربة» فيقيّد الصلاة بقصد القربة ، وإن كان هذا التقييد بنظر برهاني تحليلي ليس تقييدا وإنما هو أمر بذات الصلاة ومع هذا الأمر قرينة على أنه يتجدّد إلى بدل.

وسوف يتوضّح هذا المطلب أكثر حين الدخول في البحث ، إذ لا زلنا نبحث في المقدمة لتحقيق حقيقة الواجب التعبدي والتوصلي.

وقبل إنهاء التحقيق في حقيقة التعبّدي والتوصلي ، نريد أن نلحق تصعيدا لما انتهينا إليه ، وهو أن نقول ، بأن ما قلناه سابقا من استحالة التقييد الثبوتي بقصد القربة ، نصعّد به هنا ونقول ، بأن هذا التقييد ليس محالا في حق كل إنسان ، بل هو محال في حق إنسان دون إنسان ، إذن فهي استحالة مقيّدة ثبوتا ، لا استحالة مطلقة ، وتوضيح ذلك.

٢٧١

هو أن بعض المحالات تكون محالا من أي شخص ومن أي فاعل ، من قبيل الجمع بين الضدين ، فإن الجمع بينهما مستحيل من أي فاعل ، سواء كان هذا الفاعل إنسانا عرفيا أو شرعيا ، ذكيا أو غبيا ، فإنه لا يمكنه الجمع بين الضدين.

وهناك بعض المحالات ، محالات تختلف باختلاف أحوال الشخص وخصوصياته ، فمثلا ، العبد المشلول يستحيل للمولى العارف بشلله أن يأمره بالحركة فإن أمره هذا غير معقول ، أمّا المولى الجاهل بشلل عبده ، وإنما يخيّل إليه أنه بتمام الصحة والعافية فيأمر هذا العبد بأن يجلب له الماء وإن كان هذا العبد سوف لن يتحرك لأنه مشلول ، لكن صدور الأمر من المولى وتصدّيه لبعثه وتحريكه أمر معقول.

إذن فاستحالة التصدّي المولوي إلى تحريك المشلول إنما تكون استحالة في مولى يعرف أن عبده مشلول لا في مولى يجهل شلل عبده ويبني على معافاته ، إذن فهذا النحو من الاستحالة ، استحالة مقيّدة تختلف باختلاف أحوال المولى وشئونه.

والآن في محل الكلام ، عند ما نقول ، أن أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر هو أمر مستحيل ، نريد أن نعرف ، أن هذه الاستحالة هي من أي أشكال الاستحالة ، هل هي من باب استحالة الجمع بين الضدين ، بحيث أنه لا يمكن صدور هذا الأمر من أيّ مولى كما في جمع الضدين ، أو أنه مستحيل من قبيل تكليف المشلول الذي هو غير مستحيل في حق مولى جاهل بشلل عبده.

وبعبارة واحدة هل أن هذه الاستحالة مطلقة ، أو أنها استحالة مقيّدة؟. وحينئذ لا بدّ أن نراجع البراهين الأربعة المتقدمة التي أقيمت على هذه الاستحالة لنرى هل أنها تبرهن على استحالة مطلقة أو على استحالة مقيّدة ، فإذا رجعنا إلى البرهان الثاني من براهين الاستحالة الذي كان يقوم على لزوم التهافت في لحاظ المولى ، حيث أن قصد القربة يراه المولى في طول الأمر

٢٧٢

فكيف يؤخذ في معروض الأمر؟. إذا رجعنا إلى هذا البرهان ، نرى أنه لا يختلق فيه حال المولى الشرعي والمولى العرفي والمولى الذكي والمولى الغبي ، ذلك لأن التهافت في اللحاظ مستحيل على أيّ حال وفي حق أيّ إنسان إذ لا يمكن لإنسان أن يرى المتناقضين ولا يتهافت لحاظه ، وهذا من قبيل الجمع بين الضدين ، فتكون استحالته استحالة مطلقة.

وحتى لو تخلّصنا من هذا البرهان الثاني ولو بحمل الأمر على طبيعي الأمر لا على شخص ذلك الأمر ، لكن تبقى البراهين الثلاثة الأخرى الأول والثالث والرابع كلها تنتج استحالة مقيّدة.

أمّا البرهان الأول الذي كان حاصله ، لزوم أخذ نفس الأمر أو وصول الأمر في موضوع الأمر وهو محال ، لأنه يلزم منه التكليف بغير المقدور ، ذلك لأن الأمر من قبيل القبلة ، فكما أن القبلة أمر غير اختياري ولا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الموضوع ، كذلك الأمر غير الاختياري لا بدّ من أخذه مفروض الوجود في الموضوع ، فببرهان استحالة التكليف بغير المقدور ، لا بدّ أنه يلزم من تقييد الأمر ، أخذ الأمر في موضوع الأمر وهو محال.

ومن الواضح ، أن هذا البرهان ، إنما يجري في حق من التفت إلى هذه النكتة ، لا في حق من لم يلتفت إليها من العلماء فضلا عن الجهلاء ، فإن من لم يلتفت إلى نكتة أن أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر مع بقاء الأمر على إطلاقه يلزم منه التكليف بغير المقدور مثل هؤلاء ، يمكنهم أن يأمروا عبيدهم ، لأنهم لا يرون بأنهم يكلفون بغير المقدور بل يأمرون بالإتيان بالفعل مع قصد القربة ، ويقصدون تقييد الأمر حقيقة وثبوتا كل ذلك لأنهم لم يلتفتوا إلى أنه يلزم منه تقييد الأمر وأخذ الأمر في موضوع الأمر ، بل هم يتخيلون أن هذا الأمر باق على إطلاقه وأنهم يكلّفون بالمقدور.

والخلاصة أن المولى العرفي يمكنه بسبب جهله بهذه النكتة أن يأمر بالفعل مع قصد القربة ، ويقصد التقييد حقيقة وثبوتا.

أمّا المولى الحكيم ، فلا تجري في حقه هذه الاستحالة ، من قبيل الشارع

٢٧٣

المقدّس لا محالة فإنه ملتفت إلى هذه النكتة.

ونفس الشيء نقوله في البرهان الثالث والرابع ، فإنه في البرهان الثالث برهن على أن الأمر المتعلق بقصد القربة تستحيل محركيّته وتحريكه ، وحينئذ فكل مولى التفت إلى نكتة هذا البرهان ، إذن يستحيل في حقه جعل هذا الأمر على ذات الفعل بقصد القربة ، بداعي التحريك.

أمّا المولى العرفي الذي لم يلتفت إلى هذه النكتة يخيّل له بسذاجته العرفية أن الأمر الضمني المتعلق بقصد القربة ، حاله حال الأمر الضمني المتعلّق بالسجود والركوع فكما أن هذه الأوامر الضمنية تكون محركة يخيّل له أن هذا الأمر هو محرّك أيضا ، فمثل هذا المولى يعقل بشأنه أن يأمر بداعي التحريك وإن كان لا يتحقق تحريك.

إذن فهذه البراهين كلها تنتج أن التقيد بقصد الأمر ثبوتا مستحيل في حق الملتفت إلى هذه النكات ، إذن فهي استحالة مقيّدة ، لا استحالة مطلقة.

من هنا ، فإن الإنسان العرفي حيث أنه بعرفيّته وسذاجته لا يتوصل إلى هذه النكات ، فهو بطبعه إذا أراد أن يأمر تعبديا سوف يأمر أمرا يأخذ قصد القربة قيدا في متعلقه دون أن يلتفت إلى هذه المحاذير. وعدم التفاته هذا كاف في تعقّل صدور التقييد الثبوتي منه.

نعم الإنسان الأصولي الملتفت إلى هذه النكات ، أو الشارع المقدّس الذي لا تخفى عليه خافية لا يعقل في شأنه أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، من هنا قلنا أنها استحالة مقيّدة لا مطلقة.

إذن فأخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر ، أمر معقول ثبوتا من الإنسان العرفي الساذج ، ولكنه أمر غير معقول ثبوتا من الشارع المقدّس ، أو الأصولي الدقيق.

هذا هو التصعيد ، وهو غير الكلام الذي انتهينا إليه أخيرا قبل هذا التصعيد ، وكلا الكلامين حق ، إذ أن الكلام الأول كان مفاده ، أن أخذ قصد

٢٧٤

القربة قيدا بحسب مقام الإثبات أمر معقول ، وهو أمر غير معقول بحسب مقام الثبوت.

أمّا كلامنا الثاني ، فهو مختلف ، إذ قلنا أن أخذ قصد القربة قيدا في متعلّق الأمر من قبل الإنسان العرفي الساذج هو أمر معقول ثبوتا ، لكنّه هو نفسه هذا القيد أمر غير معقول ثبوتا إذا أخذ من قبل الشارع أو الأصولي الدقيق.

وهذا كلّه يؤكد صحة بيان نكتة تجدّد الأمر بلسان التقييد ، بلسان «صلّ بقصد الأمر» من قبل المولى الدقّي أو الأصولي الدقيق ، وإن كان هذا المولى الدقّي يعرف أن هذا البيان بهذا اللسان لا يطابق الحقيقة والواقع ، ولكنه بالنظر العرفي تعبير واف ببيان الحقيقة ، حيث أن المولى الدقّي هذا في مقام البيان هو يتابع العرف لا محالة ، إذن فهو أيضا يستعمل تعبير العرف.

إذن فالمولى الدقّي وإن اختلف عن المولى العرفي في مقام الثبوت ، لكنه في مقام البيان يستعمل نفس بيانه العرفي ، فيأمر بالفعل مع قصد القربة.

وبهذا ننهي البحث في المقدمة ، لتحقيق حقيقة الواجب التعبدي والتوصلي ، وندخل في صلب البحث.

وصلب البحث هو ، أنه إذا شك في كون الواجب أنه تعبدي أو توصلي فما هو مقتضى الأصل ، فالكلام يقع في مسألتين.

المسألة الأولى ، في الأصل اللفظي.

المسألة الثانية ، في الأصل العملي.

أمّا الكلام في المسألة الأولى ، فالكلام فيها يقع في الإطلاق لا محالة ، لأنه المراد من الأصل اللفظي ، والكلام فيه أيضا يقع في مقامين.

المقام الأول ، في الإطلاق اللفظي.

المقام الثاني ، في الإطلاق المقامي ، بعد فرض عدم الإطلاق اللفظي.

٢٧٥

أمّا الكلام في المقام الأول من المسألة الأولى وهو أنه هل يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية ونفي التعبدية فيما لو قال المولى «اغسل ثوبك» ، وشككنا في اعتبار قصد القربة وعدم اعتباره ، أو أنه لا يمكن نفي التعبدية بالإطلاق؟.

أمّا بناء على مسلك السيد الخوئي (١) قدس‌سره القائل خلافا للمشهور بأن. أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر معقول وأنه لا برهان على الاستحالة ، لأن حقيقة الأمر التعبدي ثبوتا هو عبارة عن الأمر المتعلق بالفعل مع قصد القربة ، وإن الأمر التوصلي حقيقته الأمر المتعلق بذات الفعل على الإطلاق من دون أخذ قصد القربة في المتعلق.

بناء على هذا المسلك ، لا إشكال في جواز التمسك بإطلاق المادة لنفي اعتبار قصد القربة ، لأن حال قصد القربة ، حال بقية القيود والأجزاء والشرائط المشكوكة ، فكما ينفى اعتبار تعدّد الغسل بالإطلاق ، كذلك ينفى اعتبار قصد القربة بالإطلاق ، وبذلك يثبت كون المأمور به توصليا أو تعبديا إذ لو كان تعبّديا لأخذ قصد القربة في متعلق الخطاب ، وحيث أنه لم يؤخذ ، تجري مقدمات الحكمة لاستكشاف كون الأمر توصليا.

وأما بناء على مسلكنا في تمييز حاق الأمر التعبدي عن الأمر التوصلي ، في أن الأمر التعبدي والأمر التوصلي كلاهما يتعلّق بذات الفعل ، ولكن الأمر التعبدي سنخ أمر يشتمل على أوامر تجدّدية تعاقبية ، بينما الأمر التوصلي أمر واحد متعلق بذات الفعل وإذا أتى به فيسقط الأمر لا إلى بدل بخلاف التعبدي ، فإنه فيه ، إذا أتى بالفعل بدون قصد القربة فإنه يسقط لكن إلى بدل.

فعلى مسلكنا هذا ، أيضا يمكن التمسك بإطلاق الخطاب لنفي التعبدية ولإثبات كون الأمر توصليا ، وذلك بأحد تقريبين.

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٦١ ـ ١٧٢ ـ ١٨٤ ـ ١٨٨.

٢٧٦

التقريب الأول ، هو أن يقال ، بأن قصد الأمر وإن كان لا يعقل أخذه في متعلق الأمر ثبوتا ، ولكن قد سبق وقلنا بأن أخذه قيدا إثباتا أمر معقول وصحيح ، بمعنى أن القيدية الإثباتية بنفسها تكون بيانا عرفا لتلك النكتة الغامضة المجملة ارتكازا في أذهان الناس.

وهذه النكتة هي أن الأمر التعبدي أمر تجدّدي ، فإن هذه التجدّدية للأمر التعبدي تحتاج إلى قرينة ، والبيان العرفي لهذه القرينة هو عبارة عن لسان التقييد على ما أوضحناه سابقا.

فبناء على هذا ، أيضا يمكن التمسك بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، لأن تقييد متعلّق الأمر بقصد القربة ثبوتا ولبا وإن كان مستحيلا ، ولكنّ تقييده إثباتا وبيانا ليس أمرا مستحيلا ، ومن هنا يجري العرف مقدّمات الحكمة أيضا ويقول ، لو كان الأمر تعبديا لبيّنه بلسان المقيّد ـ بقصد الأمر ـ ، وحيث لم يبيّنه بلسان «صلّ بقصد الأمر» ، بل قال «صلّ» من دون أن يقيّد بشيء ، فيستكشف من ذلك ، أن الأمر توصلي لا تعبّدي.

التقريب الثاني ، بناء على مسلكنا ، هو أنه لو تنزّلنا عن هذه الدعوى التي ادّعيناها ، من أن التقييد الإثباتي هو بيان عرفي للتجدّد ، وفرضنا أن الإنسان العرفي ملتفت تفصيلا إلى حاق المطلب ، وهو أن الأمر التعبدي أمر تجددي ، والأمر التوصلي أمر غير تجدّدي ، فأيضا يتمسك بالإطلاق لنفي التجدّدية ، وذلك لأن التجدّدية بنفسها عناية زائدة لا يفي بإثباتها الإطلاق ، لأن مرجع الأمر التعبدي إلى اشتمال الخطاب على أوامر متعددة متعاقبة.

ومن الواضح أن الخطاب المشتمل على أمر بالفعل ، ظاهره الأمر الواحد المتعلّق بصرف الوجود ولا يفي ببيان أوامر متعددة ، فأيضا فيه ، تجري مقدمات الحكمة ويقال ، أنه لو كان الأمر تعبديا إذن لما كان الخطاب وافيا ببيانه ، لأن هذا الخطاب لا يفي ببيان التجدّد والتكثر في الأمر ، إذن فبإجراء مقدمات الحكمة وبأصالة المطابقة بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ننفي اشتمال

٢٧٧

هذا الأمر على أوامر متعددة تجددية ، وبذلك يثبت كونه أمرا توصليا.

وأمّا إذا بنينا على مسلك ثالث وهو ، مسلك من يفصّل بين قصد القربة وجامع قصد القربة ، إذ يرى هذا المسلك ، أن أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر غير معقول ، ولكنه يرى أن أخذ جامع قصد القربة في متعلق الأمر معقول ، فهذا المسلك أيضا نتيجته جواز التمسك بالإطلاق لنفي العباديّة وإثبات التوصلية ، فلو قال المولى «صلّ أو اغسل». ولم يقيّد بجامع قصد القربة نستطيع بذلك أن ننفي اعتبار قصد القربة بجامعه ، واعتباره بشخص قصد الأمر أيضا.

أمّا نفي اعتبار جامع قصد القربة ، فلأنه ممكن ، والمولى لم يأخذه ، وعدم أخذه إثباتا دليل بمقدمات الحكمة على عدم أخذه ثبوتا.

وأمّا نفي اعتبار خصوص شخص الأمر ، فإن شخص قصد الأمر وإن كان لا يمكن أخذه ثبوتا ، ولكننا نقول ، بأنه لو كان شخص قصد الأمر دخيلا في غرض المولى ، إذن لكان عليه أن يأخذ جامع قصد القربة على الأقل. فإذا كان في مقام البيان ، فلا بدّ للمولى حينئذ من تضييق المادة بنحو يجعلها أقرب إلى غرضه ، وذلك بأن يأخذ جامع قصد القربة فيقول مثلا ، «توضأ بنية حسنة» فعدم أخذ جامع قصد القربة كاشف عن أنه لا الجامع دخيل في غرضه ، ولا قصد الأمر دخيل في غرضه.

نعم بناء على هذا المسلك ، لو فرض أنه ورد في دليل أخذ جامع قصد القربة ، حيث قال «صلّ بنية حسنة» وحينئذ شككنا في أنه هل يعتبر قصد الأمر بالخصوص أو لا ، هنا لا يمكن التمسك حينئذ بالإطلاق لنفي اعتبار قصد القربة كما سيأتي.

وأمّا إذا بنينا على مسلك رابع وهو ، مسلك صاحب الكفاية (١) والمسلك

__________________

(١) كفاية الأصول : المشكيني ج ١ ص ١٠٩ ـ ١١١.

٢٧٨

المشهور القائل بعدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وأنّ الأمر التعبدي أمر واحد متعلق بذات الفعل كالأمر التوصلي.

وحينئذ هل يمكن أن ننفي كون الأمر تعبديا ونثبت كونه توصليا ، أي أننا ننفي كونه منبعثا عن غرض لا يسقط إلا بقصد القربة ، ونثبت أنه منبعث عن غرض يسقط بمجرد الإتيان بالفعل ، أو أنه لا يمكن ذلك؟. هناك ثلاث اعتراضات رئيسية على هذا المسلك للتمسك بالإطلاق لنفي التعبدية وإثبات التوصلية.

أ ـ الاعتراض الأول ، هو أنه لا يمكن التمسك بإطلاق الخطاب في مقام الإثبات ، لأن إطلاق الأمر في مقام الإثبات نريد أن نستكشف به إطلاق الأمر في مقام الثبوت ، فإذا كان إطلاق الأمر ثبوتا مستحيل فيكون إعمالنا للإطلاق لاستكشاف أمر مستحيل ، هو مستحيل أيضا ، وبعبارة أخرى ، إذا كان إطلاق الأمر في مقام الثبوت مستحيل ، فاستكشاف أمر مستحيل بالخطاب مستحيل.

وقد صار إطلاق الأمر بحسب مقام الثبوت مستحيلا لأنه إذا استحال تقييد الأمر بقصد القربة ثبوتا استحال الإطلاق من هذه الناحية ، لأن استحالة التقيّد تستوجب استحالة الإطلاق ، فلا التقييد ممكن ثبوتا ولا الإطلاق في عالم الأمر ممكن ثبوتا.

وهنا نسأل ، إذن كيف تريدون أن تثبتوا بإطلاق الخطاب إطلاق الأمر؟.

وهذا السؤال يؤدي إلى سؤال آخر وهو ، هل أنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق أو لا توجبه؟.

ولتوضيح ذلك نضع في بداية الأمر ميزانا كليا نميّز به ، متى يكون استحالة التقييد موجبا لاستحالة الإطلاق ، ومتى لا يكون كذلك ، ثم نطبّق هذا الميزان على كلمات المحقق النائيني ، ونتكلم فيما إدّعاه من أن استحالة التقييد يوجب استحالة الإطلاق على أساس أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

٢٧٩

والميزان الكلي الذي نريد أن نضعه هو أن يقال.

إن استحالة التقييد تنشأ من عدة ملاكات ، بعض هذه الملاكات يستوجب استحالة الإطلاق ، وبعضها الآخر لا يستوجب استحالة لإطلاق ، وهذه هي ملاكات الاستحالة.

أ ـ الملاك الأول لاستحالة التقييد هو ، أن يكون ثبوت الحكم للمقيّد مستحيلا ، باعتبار عدم صلاحية ذات المقيّد أن يكون موضوعا للحكم من قبيل أن يقال ، إن استحالة تقييد «صلّ» بالعاجز مستحيل ، كما لو قال «صل إن كنت عاجزا» ، هذا التقييد مستحيل ، إذ يستحيل ان يتعلّق الأمر بخصوص المكلف العاجز ، وذلك لأن ذات العاجز يستحيل أن يقع موضوعا للأمر بنفسه بقطع النظر عن إمكان وقوعه موضوعا للأمر مستقلا أو في ضمن غيره.

إذا كان هذا هو ملاك الاستحالة ، فهذا الملاك بنفسه يبرهن على استحالة الإطلاق أيضا ، إذ أنه كما يستحيل أن يقول «صلّ أيها المكلف العاجز» كذلك يستحيل أن يقول «المكلّف مطلقا يجب عليه الصلاة» حتى وإن كان عاجزا ، لأن ملاك الاستحالة ليس في التقييد بما هو تقييد ، بل في ثبوت الحكم لذات المقيّد ، وثبوت الحكم لذات المقيّد محفوظ في حالتي التقييد والإطلاق معا ، إذن فمثل هذا الملاك كما يوجب استحالة التقييد هو يوجب في نفس الوقت استحالة الإطلاق.

ب ـ الملاك الثاني لاستحالة التقييد هو ، أن يكون استحالة التقييد باعتبار عدم تعقّل المقسميّة ، كما لو قيل ، بأن حرمة شرب الخمر مقيّدة بكون الخمر خمرا ، لأن تقييد الخمر بالخمرية ، فرع أن يكون الشيء مقسما لنفسه ولنقيضه ، إذ معه يصبح مقيّدا بنفسه ، ومعه لا يعقل تقييده بنفسه.

إذن فاستحالة التقييد هنا تنشأ من عدم تعقّل المقسميّة للطبيعة ، وهذا الملاك ، لو تمّ فهو يوجب استحالة الإطلاق في عرض إيجابه لاستحالة التقييد ، لوضوح أن كلا من التقييد والإطلاق فرع المقسميّة ، فالطبيعة هنا كما

٢٨٠