بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

لا يرى قصد امتثال الأمر بعنوانه في معروض الأمر حتى يكون هذا خلف لحاظ المولى للمعروض سابقا على عرضه وأمره ، بل غاية ما يرى في المعروض ، هو العنوان الجامع ، فلا يلزم التهافت في لحاظ المولى. فمن كان مدرك الاستحالة عنده أحد هذين الوجهين ، الأول أو الثاني ، لا يصح منه القول باستحالة أخذ الجامع.

ولكن إذا كان مدرك الاستحالة هو الوجه الثالث ، فهذا الوجه يمكن إجراؤه في المقام ، لأنّ الأمر الثالث كان يقول ، أن الأمر إذا تعلق بالصلاة مع قصد الامتثال ، فهناك أمران ضمنيّان ، أمر بذات الصلاة ، وأمر بقصد امتثال الأمر ، وقد قلنا هناك أن هذا الأمر الضمني الثاني المتعلق بقصد امتثال الأمر لا تعقل محركيته ولا يعقل جعله بداعي المحركية.

وذلك لأن الأمر الضمني الأول المتعلق بذات الصلاة إن كان كافيا في محركية العبد نحو الصلاة ، فهذا عبارة أخرى عن قصد الامتثال ، فلا حاجة إلى الأمر الثاني ، ولا يعقل حينئذ محركية الأمر الثاني ، لا تأسيسا ولا تأكيدا.

وإن كان الأمر الضمني الأول غير كاف للمحركية نحو الصلاة ، فالثاني مثله أيضا ، لأن مرجعهما إلى أمر واحد وروح واحدة.

وهذا الوجه بعينه يجري في المقام عند ما يكون المأخوذ قيدا في المتعلق هو الجامع بين قصد امتثال الأمر وبقية القصود القربية ، وذلك لأنه يكون عندنا حينئذ أمران ضمنيان ، أحدهما متعلق بذات الصلاة والآخر متعلق بجامع قصد القربة ، وحينئذ يقال ، بأن الأمر الثاني لا يكون صالحا للمحركية ، لأنه إن فرض أن الأمر الضمني الأول المتعلق بذات الصلاة ، أنه كان صالحا للمحركية ولقدح الإرادة في نفس العبد نحو الصلاة ، إذن فهذا بنفسه إيجاد لذلك الجامع الذي يأمر به الأمر الثاني ، إذ أن قدح الإرادة من قبل الأمر بالصلاة عبارة أخرى عن قصد القربة ، فلا يبقى مجال لمحركية الأمر الضمني الثاني المتعلق بقصد القربة لا تأسيسا ولا تأكيدا ، لعدم تعقّل التأكيد في الأوامر الضمنية ، وإن كان الأمر الضمني الأول المتعلق بذات الصلاة لا يصلح أن يحرك وأن يقدح إرادة

٢٤١

في نفس العبد ، إذن فالأمر الضمني الثاني أيضا مثله من هذه الناحية ، لأن ملاك تحريكهما واحد.

وكذلك إذا كان مدرك الاستحالة هو الوجه الرابع ، فإنه يجري في المقام لأنه كان يقال في الوجه الرابع أنه إذا تعلق الأمر بالمجموع المركب من الصلاة وقصد امتثال الأمر ، فهذا الأمر ، إن أوجب انقداح إرادة ومحركية ، فمعنى ذلك أنه ينشئ إرادة متعلقة بالمجموع المركب من الصلاة وقصد امتثال الأمر ، وهذا غير معقول ، لأن هذه الإرادة بمجرد تعلقها بالصلاة يتحقق تكوينا الجزء الآخر ، إذن فلا تكون هذه الإرادة ممكنة التعلق بالجزء الآخر أصلا إذ بمجرد تعلقها بالصلاة قد تحقق قصد الامتثال ، فكيف تتعلق الإرادة بأمر قد تحقق بمجرد وجودها.

هذا البيان نفسه ، يجري في محل الكلام أيضا ، إذ يقال هنا ، أنه إذا تعلّق الأمر بالصلاة مع جامع قصد القربة ، حينئذ يقال ، بأن هذا الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الصلاة وقصد القربة ، إن كان محركا ، فمحركيته تكون بقدحه لإرادة في نفس العبد متعلقة بالمجموع المركب من الصلاة وقصد القربة ، مع أنّ تعلق الإرادة من قبل هذا الأمر بالمجموع المركب من الصلاة وقصد القربة غير معقول ، لأن هذه الإرادة بمجرد تعلقها بالصلاة يتحقق قصد القربة ، لأن قصد القربة يتحقق بهذه الإرادة ، لأنها ناشئة من قبل الأمر ، فكيف تنبسط هذه الإرادة على الجزء الثاني الذي هو قصد القربة؟ ، إذن فمحركية هذا الأمر نحو مجموع متعلقه أمر غير معقول ، والأمر الذي لا يعقل محركيته نحو مجموع متعلقه لا يعقل جعله على مجموع ذاك المتعلق.

وبهذا يتضح أن أخذ الجامع بين أخذ قصد الأمر والقصود الأخرى أيضا غير معقول ، لا على أساس الوجه الأول والثاني بل على أساس ما بعد ذلك من الوجوه.

وبهذا اتضح ، أن أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر غير معقول لأنه

٢٤٢

لا يكفي لدفع المحذور وكذلك تبيّن أن أخذ الجامع بين قصد امتثال الأمر وغيره من القصود أيضا غير معقول.

نعم أخذ غيره بالخصوص معقول ، لكنه تقدّم أنه غير محتمل إثباتا.

وبذلك أيضا تبيّن ، أن الوجه الأول من الوجوه الأربعة التي كانت تقال للفرق بين هوية الواجب التعبدي ، والواجب التوصلي ، وهو أنه في التعبدي يؤخذ قصد القربة وفي التوصلي لم يؤخذ قصد القربة في المتعلق ، هذا الوجه المفرّق بين الواجبين غير معقول وفاقا لمشهور المحققين المتأخرين ، وبعد هذا ننتقل إلى ذكر الفرق الثاني المتصوّر بين الواجب التعبدي والواجب التوصلي.

الفرق الثانى

بين الواجب التعبدي ، والواجب التوصلي المتصوّر ، هو.

أن يقال ، أن الواجب التعبدي والواجب التوصلي ، ليس الفرق بينهما من ناحية متعلق الأمر ، بل من ناحية وحدة الأمر وتعدّده ، إذ في الواجب التعبدي ، يوجد أمران بحسب الحقيقة ، أمر مجعول متعلّق بذات العمل ، وأمر مجعول بجعل آخر ، متعلق بقصد امتثال ذلك الأمر الأول ، فقصد الامتثال ، أخذ في متعلق الأمر الثاني ، وأريد به قصد امتثال الأمر الأول ، لا أنه أخذ في متعلق نفس الأمر الأول قصد امتثال ذلك الأمر الأول.

وقبل الدخول في كلام المحققين ، حول هذا الكلام ، نلفت إلى أنّ هذا الكلام ، هو محاولة ، للتخلص من محذور الوجه الأول ، والوجه الثاني للاستحالة.

أمّا التخلص من الوجه الأول ، الذي كان يرى لزوم أخذ وصول الأمر في موضوع شخص ذلك الأمر ، فيمكن التخلص منه بهذا البيان ، حيث يقال ، في المقام ، يوجد أمران وجعلان ، أحدهما أمر بذات الصلاة ، وهذا الأمر لم يؤخذ في متعلقه قصد الامتثال ليلزم أخذ الوصول في موضوعه ، والأمر الثاني ، هو الأمر بقصد امتثال الأمر الأول ، إذن فالأمر الثاني أخذ في متعلقه

٢٤٣

قصد امتثال الأمر الأول ، ولازم ذلك ، أن يؤخذ في موضوعه وصول الأمر الأول ، ولا محذور في ذلك ، إذ غايته ، أن فعلية الأمر الثاني تتوقف على فعلية وصول الأمر الأول ، لا أن فعلية الأمر الأول تتوقف على وصول شخص ذلك الأمر ، وبهذا يندفع الوجه الأول لو تمّ هذا البيان في نفسه ولم يرد عليه محذور آخر.

وأمّا التخلص من محذور الوجه الثاني الذي كان يرى لزوم التهافت في عالم لحاظ المولى وعالم جعله ، فهو ممكن أيضا بنفس بيان التخلص الأول ، حيث يقال ، إن المولى حينما أمر بالصلاة أولا لم يأخذ في معروض أمره هذا ، قصد امتثال الأمر ، ولكن حينما أمر ثانيا أخذ في المعروض قصد امتثال الأمر الأول ، فالمولى هنا ، يرى تحصّل وتعقّل الأمر الأول قبل الأمر الثاني ، لا أنه يرى نفس تحصّل الأمر الثاني قبل الأمر الثاني ليلزم منه كون الملحوظ متأخرا ملحوظ متقدما ويلزم التهافت في اللحاظ ، إذن فلا تهافت ولا إشكال.

لكن لو تجاوزنا هذين الوجهين من وجوه الاستحالة ، وتعقّلناهما ، فإنّ الوجه الثالث والرابع يفسدان طريقة تعدّد الأمر للتخلص من هذه المشكلة.

وذلك لأن ما بينّاه في الوجه الثالث يجري في المقام حرفا بحرف ، وذلك لأن الأمر الثاني والأمر الأول ، وإن فرضا أنهما مجعولين بجعلين وإنشاءين ، لكن روحهما أنهما أمران ضمنيان ، يعني أنهما ناشئان من غرض واحد وملاك واحد ، غاية الأمر أن المولى لم يمكنه أن ينشئ إنشاء واحدا على طبق غرضه لئلّا يقع المحذور ، فيعمد إلى إنشاء إنشاءين وجعل جعلين دون أن يتغيّر في كون مرجعهما الغرض الواحد والملاك الواحد.

ومن هنا قلنا سابقا أنه إن كان الأمر الأول كافيا للمحركيّة نحو ذات الصلاة ، إذن فالأمر الثاني لا يعقل محركيته لا تأسيسا ولا تأكيدا ، أمّا تأسيسا فواضح ، وأمّا تأكيدا ، فلأنه وإن كان مجعولا بجعل مستقل ، لكنه ليس وراءه ملاك مستقل ليكون من باب التأكد في الملاكات والأغراض ، بل الأمر الثاني يعبّر عن نفس ما يعبّر عنه الجعل الأول من الملاك والغرض ، إذن فكما لا

٢٤٤

يعقل التأكيد بين الأمرين الضمنيين ، كذلك لا يعقل التأكيد بين هذين الأمرين وإن كانا مجعولين بجعلين استقلاليين ، لأن هذه الاستقلالية من باب اضطرار المولى وعجزه عن دمجهما في خطاب واحد.

وإن كان الأمر الأول غير كاف للمحركية ، إذن فالأمر الثاني مثله أيضا ، لأن الأمر الثاني ليس محركيته وملاكاته إلّا عين جهات الأمر الأول التي تقتضي التحريك فيه ، إذن فالأمر الثاني مبرهن على استحالته ، بدعوى أنه غير قابل للمحركية ، فلا يعقل جعله بداعي كونه محركا وباعثا نحو قصد الامتثال.

نعم لو كان الأمر الثاني ناشئا من ملاك آخر غير ملاك الأمر الأول ، لأمكن جعله محركا ولو بنحو التأكيد والتشديد ، باعتبار أن الإنسان الشقي قد يفوّت ملاكا واحدا للمولى ، لكن إذا اجتمعت ملاكات متعددة في مورد واحد حينئذ هذا الشقي ، لا يكون مستعدا إلى تفويتها جميعا ، وبهذا يتضح أنه لا يمكن اندفاع المحذور.

وتمام فذلكة الموقف حينئذ هي ، أن ما بينّاه من البرهان في الواقع لا يفرّق فيه ، بين أن يكون الأمر الضمني ضمنيا صورة وحقيقة ، أو يكون الأمر الضمني ضمنيا حقيقة ، وبين أن يكون استقلاليا صورة ، فهو على كل حال يجري فيه هذا البرهان.

اللهم إلّا أن نعطي للأمر الثاني ، معنى جديدا غير المعنى الذي قصده هؤلاء المحيلون ، بحيث نخرجه عن كونه أمرا ، ونجعله شيئا آخر ، وهذا ما سوف نتعرض له ، وكلّ ما تقدّم كان الكلام يدور فيه حول شكل واحد من أشكال تعدّد الأمر للتخلص من عويصة الاستحالة.

إلّا أن المحققين ذكروا شكلين آخرين لتعدد الأمر ، وبهما أو بأحدهما يمكن التخلص من عويصة الاستحالة.

الشكل الأول ، هو أن يفرض وجود أمرين ، الأمر الأول متعلق بذات الصلاة ومطلق ، بمعنى أن متعلقه هو الطبيعة المطلقة الجامعة بين الصلاة

٢٤٥

القربية وغيرها ، والأمر الثاني متعلق بإتيان ذلك الجامع بقصد امتثال أمره.

الشكل الثاني ، هو ما ذهب إليه المحقق النائيني (١) ، وحاصله.

أن الأمر الأول المتعلق بذات الصلاة ، لم يتعلق بالصلاة المقيدة بقصد القربة ، ولم يتعلّق بالصلاة المطلقة من حيث قصد القربة ، إذن هو أمر ليس مقيّدا ولا مطلقا ، ذلك لأن التقييد كما تقدّم غير معقول ، فلا يمكن أن يتعلق الأمر بالمقيّد بقصد القربة ، وأمّا الإطلاق فهو أيضا غير معقول حينئذ على مبنى الميرزا ، وحاصله ، أنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، فكلّما كان التقييد بقصد القربة مستحيلا كان الإطلاق من هذه الناحية مستحيلا أيضا. وإذا كان الأمر غير متعلق لا بالمقيّد ولا بالمطلق فلم يبق إلّا أن يكون متعلقا بالمهمل ، وهذا الإهمال معقول ، لا يلزم منه الإهمال في الواقع ، لأن الأمر الأول ليس هو تمام الواقع ، بل هو شق من الواقع ، والشق الثاني هو الأمر الثاني ، ولهذا تكون وظيفة هذا الأمر الثاني رفع هذا الإهمال وتعيين ما هو لبّ متعلّق الأمر الأول ، فإمّا أن يرفعه إلى التقييد فيثبت بذلك التعبدية ، وإمّا أن يرفعه إلى الإطلاق فيثبت بذلك التوصليّة.

فالفرق بين الشكلين هو أن الأمر الأول في الشكل الأول يفرض تعلقه بالمطلق ، وفي الشكل الثاني يفرض تعلقه بالمهمل لا بالمطلق ولا بالمقيّد ، ولهذا يسمّى الأمر الثاني «بمتمّم الجعل» ، لأن الجعل المهمل لا يصح أن يبقى على إهماله فلا بدّ من تتميمه بما يرفع إهماله لئلّا يلزم الإهمال في تمام مراتب الواقع ، إذن لا بدّ من الكلام عن كل واحد من هذين الشكلين.

أمّا الشكل الأول ، وهو تعلق الأمر الأول بالمطلق ، وتعلق الأمر الثاني بالإتيان به بقصد القربة ، فقد استشكل في ذلك المحقق الخراساني (٢) وغيره بما حاصله ، أنه لو أتى بذات الصلاة من دون قصد القربة ، فهذا مصداق لما

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٨٦.

(٢) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١١١.

٢٤٦

تعلق به الأمر الأول ، لأن المفروض أن الأمر الأول قد تعلّق بالمطلق ، والمطلق كما ينطبق على الواجد ينطبق على الفاقد ، وحينئذ نسأل ، أنه هل يسقط الأمر الأول أو لا يسقط؟.

فإن قيل أنه يسقط من ناحية الإتيان بمتعلقه ، إذن لم يبق موضوع لامتثال الأمر الثاني ، لأن الأمر الثاني يأمرنا بقصد امتثال الأمر الأول ، وقد سقط ، إذن فلا محالة يسقط الأمر الثاني أيضا ، لانتفاء موضوعة ، وهذا يؤدي إلى أنّ من أتى بالصلاة لا بقصد الامتثال يسقط عنه كلا الأمرين وهذا خلف.

وإن قيل بأن الأمر الأول لا يسقط ، بل يبقى حتى بعد الإتيان بمتعلقه ، محركا نحو الإتيان بمتعلقه ، فهذا أمر غير معقول ، لأن الأمر إنما يحرك بمقدار ما تعلّق به ، وما تعلّق به بحسب الغرض إنما هو المطلق ، والجامع وجد في الخارج ، فلو حرّك نحوه مرة أخرى للزم التحريك نحو الحاصل ، ولا يعقل التحريك نحو الجامع بعد حصوله ، إذن فهذا الشق أيضا غير معقول ، وعليه فأصل هذه الفرضية أيضا غير معقولة.

وفي مقام الجواب يقال ، بأننا نختار الشق الأول ، وهو أن الأمر الأول المتعلق بالمطلق يسقط بعد الإتيان بذات الفعل ، ولكن رغم هذا فإن سقوط الأمر الأول يكون من باب تعذّر بقائه لا من باب استيفاء غرضه ، وذلك لأن الغرض شيء وحداني قائم بمجموع الأمرين ولا يستوفى إلّا بالإتيان بالصلاة مع قصد القربة ، إذن فسقوط الأمر الأول يكون سقوطا اضطراريا وليس سقوطا استيفائيا ، وحينئذ إذا كان الأمر كذلك وكان الغرض محفوظا ، فنفس ذاك الغرض المحفوظ يستدعي خطابا آخر وإنشاء أمر آخر على طبقه من جديد ، فإن ابتلي الأمر الثاني بنفس ما ابتلي به الأمر الأول وسقط سقوطا اضطراريا فلا بدّ أن ينشئ أمرا آخر أيضا ، وهكذا حتى يحصل بحسب الخارج السقوط باستيفاء الغرض ، وهو الإتيان بالصلاة مع قصد امتثال الأمر ، وبهذا يتبين أن الأمر الثاني لم يرتفع موضوعه ، لأن موضوعه امتثال الأمر المتعلق بذات الصلاة ، والأمر المتعلق بذات الصلاة إن سقط شخص من أشخاصه سقوطا

٢٤٧

اضطراريا ، أنشئ شخص آخر من أشخاصه حتى يسقط سقوطا استيفائيا بالإتيان بالصلاة مع قصد القربة ، إذن فلا إشكال من هذه الناحية.

نعم يبقى واردا في المقام مدّعى الاستحالة ، وهو إشكالنا الذي حقّقناه فيما تقدم ، وذلك بأن يقال ، بأن الأمر الثاني يكون لغوا حينئذ وغير قابل للمحركية ، لأنه كان المراد منه التوصل إلى قصد الامتثال ، والمفروض أن الأمر الأول بنفسه يكفي لذلك ، لأنه كلّما مات هذا الأمر وسقط سقوطا اضطراريا أتي به من جديد.

وبعبارة أخرى ، وإن فرضنا أن الأول قد يسقط بشخصه ، فهو لا يسقط بنوعه ، لأنه لم يؤتى بالصلاة مع قصد القربة ، فالغرض يبقى محفوظا في فرد آخر في نوعه ، ومعه لا فائدة للأمر الثاني.

وإن شئتم قلتم ، أن الأمر الأول ، إن سقط بنوعه أيضا كما يسقط بشخصه عند الإتيان بالصلاة بلا قصد القربة ، فالأمر الثاني يبقى بلا موضوع ، فيسقط.

وإن حفظ بنوعه ، وسقط بشخصه ، فهو كاف في حصول المقصود كما عرفت.

وأمّا الشكل الثاني ، وهو مختار المحقق النائيني (١) قدس‌سره ، وخلاصته ، هو أن الأمر الأول متعلق بالطبيعة المهملة ، لا المقيّدة بقصد امتثال الأمر ، ولا المطلقة من هذه الناحية ، والأمر الثاني يتعلق بالإتيان بتلك الطبيعة بقصد امتثال أمرها ، وكان سبب عدول الميرزا عن الشكل الأول إلى الشكل الثاني ، هو أن الميرزا يبني على أن استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق فإذا استحال أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر الأول ، استحال كونه مطلقا من هذه الناحية ، إذا استحال التقييد والإطلاق معا لم يبق إلّا الإهمال ، فلا بدّ أن يكون متعلق الأمر مهملا ، إلّا أن هذا الإهمال ليس أبديا ، بل هو إهمال في مرتبة جعل الأمر الأول

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٨٦.

٢٤٨

لا في تمام مراتب الواقع ، إذ أن الأمر الثاني يمثل مرتبة أخرى من مراتب الواقع ونفس الأمر ، وفي مرتبة الأمر الثاني سوف يتعيّن المطلب ، ويتوضح أن المطلوب هو المقيّد لا المطلق.

وقد اعترض عليه السيد الخوئي باعتراضين (١).

الاعتراض الأول وهو اعتراض على المبنى حيث يقال ، بأن استحالة التقييد لا توجب استحالة الإطلاق ، لكي يتعيّن المصير إلى الإهمال في الأمر الأول ، بل استحالة التقييد قد توجب ضروريّة الإطلاق دون أن تصل النوبة إلى الإهمال ، وهذا نقاش في المبنى نؤجله إلى بحث صلب مسألة التعبدي والتوصلي ، حيث نرى هناك هل أن استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق أو لا توجب.

الاعتراض الثاني للسيد الخوئي (٢) على استاذه ، هو أن الإهمال في الأمر الأول غير معقول. وهذا الادّعاء ، يبيّن تقريبه بأحد بيانين.

إذ تارة يبيّن بلحاظ نفس الحكم ، وأخرى يبين بلحاظ الحاكم.

أمّا البيان الأول ، فيقال فيه ، بأن الحكم يعني هذا المجعول في الأمر الأول ، له حظ من الوجود لا محالة ، غاية الأمر ، أنّه وجود مناسب له في أفق الاعتبار وكل شيء له حظ من الوجود لا بدّ وأن يكون في أفق وجوده له تعيّن وتحدّد ، لاستحالة التردّد في أفق وجود الشيء ، وما هو متعلق الأمر الأول في أفق جعله الذي هو أفق وجوده ، لا بدّ أن يكون له تعيّن وتحدّد أيضا ، لاستحالة المردّد والمبهم.

نعم لا بأس بأن يكون للشيء إبهام وتردّد في مرحلة تالية لوجوده ، وهي المسمّاة بمقام الإثبات ، إذ يمكن بحسب مقام الإثبات والانكشاف أن يكون مجملا ومردّدا.

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ١٨٧ ـ ١٧٩.

(٢) نفس المصدر ص ١٧٨.

٢٤٩

وأمّا البيان الثاني ، وهو البيان بلحاظ الحاكم فيقال فيه ، بأنه يستحيل أن يكون الأمر الأول معلقا بالمهمل ، لأن هذا ، معناه أن المولى في عالم الجعل لا يدري ما ذا يطلب ، هل المطلق أو المقيّد.

ومن الواضح أن المولى لا يعقل أن يشك فيما يطلب ، وإن كان غير المولى يشك فيما يطلب المولى.

وأنت كما ترى فإن كلا البيانين روحهما واحدة ، وإن اختلف طرز البيان فيهما ، سوف يختلف طرز الجواب عنهما ، وإن كانا لا يرجعان إلى معنى محصّل.

أمّا البيان الأول ، وهو كون الإهمال غير معقول ، لأن الأمر المجعول التشريعي له حظ من الوجود فلا بد أن يكون متعيّنا في أفق وجوده لاستحالة المردّد والمبهم.

هذا الكلام جوابه هو ، أن تعلق الأمر الأول بالطبيعة المهملة ليس معناه ، تعلق الأمر بالمردّد بين المطلق والمقيّد بحيث يكون المتعلق هو المردّد بينهما في لوح الأمر ونفس الأمر والواقع ، حيث يكون متعلق الأمر شيئا مرددا ، لا هو المطلق بعينه ولا هو ليس المطلق بعينه ولا هو المقيّد بعينه ولا هو ليس المقيّد بعينه ، وهكذا تردّد ثبوتا ولبا بين المطلق والمقيّد ، مثل هذا التردد لو كان هو المراد من الإهمال فهذا أمر محال.

ولكن المراد من الإهمال ليس الوجود المردّد للطبيعة ، بل للطبيعة وجود متعين في أفق الحكم وأفق الجعل ، إلّا أنّ هذا الوجود المتعيّن لذات الطبيعة لم ينضم إليه لا الإطلاق ولا التقييد ، لأن التقييد عبارة عن لحاظ القيد مع الطبيعة ، والإطلاق عبارة عن رفض القيد عن الطبيعة ، ولكن ليس معنى هذا ، أن وجود الطبيعة الذهني في أفق الأمر والجعل يكون وجودا مردّدا ، بل هو وجود متعيّن ، غايته أنه نفيت عنه الإضافة ، لا أنه وجود المردّد ، فالإهمال الذي نتعقله أجنبي عن باب الفرد المردّد واستحالة التردد في الوجود ، ومن جواب البيان الأول هذا ،

٢٥٠

يعرف حال جواب البيان الثاني ، فيقال أن المولى لا يتردد ، فإن مطلوبه بمقدار سعة ذات الطبيعة الملحوظة مهملة.

وتوضيحه ، كما تقدّم في دفع البيان الأول ، هو أن المولى يعقل أن يتعلّق لحاظه بذات الطبيعة بدون ضم لحاظ القيد وبدون ضم رفض القيد ، وحينئذ ، مثل هذه الطبيعة لا محالة لها نحو من السعة في مقام الانطباق على أفرادها ، ومطلوب المولى هو هذه الطبيعة بمقدار ما لها من سعة في مقام الانطباق ، وما دام سعتها في مقام الانطباق متعيّنا ، لا محالة ، إذن يكون مطلوب المولى متعيّنا

فإن قلنا أن المهمل في قوة المقيّد ، فحينئذ ، يكون مطلوب المولى وسيع بمقدار قابلية هذه الطبيعة المهملة للانطباق ، والمفروض أنها في قوة المقيّد ، إذن فلا يسري مطلوب المولى إلى غير المقيّد.

وإن قلنا أن المهمل في قوة المطلق ، إذن فهذه الطبيعة تسري إلى تمام الأفراد ، إذن فمطلوب المولى يسري إلى تمام الأفراد ، وهنا لا بدّ من صرف عنان الكلام إلى هذا البحث وهو بحث ، هل أن الطبيعة المهملة في قوة المقيّد أو في قوة المطلق ، وبهذا يتنقّح الموقف ، وتوضيح ذلك.

هو أننا تعرضنا إجمالا في المطلق والمقيّد إلى نظريتين في سريان الطبيعة إلى تمام أفرادها.

النظرية الأولى ، هي أن الطبيعة بذاتها ، لو خلّيت ونفسها لا تقتضي السريان ولا تقتضي عدم السريان ، وإنما السريان من شئون الإطلاق اللحاظي ، يعني من شئون لحاظ رفض القيود ، وعدم السريان من شئون التقييد اللحاظي ، أي من شئون لحاظ القيد ، فالمقتضي للسريان ليس هو الطبيعة ، بل هو لحاظ عدم القيد ورفض القيد المسمّى بالإطلاق اللحاظي ، فلحاظ ذات الطبيعة وحده لا يقتضي السريان.

النظرية الثانية : هي أن الطبيعة بذاتها تقتضي السريان ما لم يمنع عنه مانع ، والمانع هو لحاظ التقيّد ، فلحاظ التقيّد إذا انضم إلى الطبيعة يمنع عن

٢٥١

تأثير اقتضائها الذاتي في السريان ، وإلّا فالطبيعة بذاتها مقتضية للسريان والانطباق على تمام الأفراد.

وفرق النظرية الثانية عن النظرية الأولى هو ، أن المقتضي للسريان في الأولى ، أمر خارج عن الطبيعة ، وهو الإطلاق اللحاظي ، والمقتضي للسريان على النظرية الثانية هو ذات الطبيعة ، غاية الأمر ، أنه سنخ مقتض قد يقترن بالمانع وهو لحاظ التقيّد

والفرق العملي بين النظريتين يظهر في الطبيعة المهملة التي لم ينضم إليها لا تقيد لحاظي ، ولا إطلاق لحاظي.

فإن قلنا بالنظرية الأولى وهي أن السريان والانطباق من شئون الإطلاق اللحاظي وأمّا الطبيعة ذاتها فلا تقتضي السريان ، إذن فالطبيعة المهملة في قوة المقيّدة ، لأن الطبيعة إنما تسري إلى الأفراد بقوة الإطلاق اللحاظي ، فإذا لم ينضم إليها لا إطلاق لحاظي ولا تقيد لحاظي ، إذن لا تسري إلى تمام الأفراد ، وهذا معنى أنها في قوة المقيّدة.

وإن اخترنا النظرية الثانية كما هو الصحيح ، وقلنا بأن الطبيعة بذاتها تقتضي السريان ما لم يمنع عن ذلك اللحاظ التقييدي ، فحينئذ ، تكون الطبيعة المهملة في قوة المطلق ، لأن المقتضي للسريان موجود ، والمانع مفقود.

أمّا المقتضي للسريان ، فهو ذات الطبيعة ، وذات الطبيعة محفوظة تحت اللحاظ.

وأمّا المانع عن السريان ، فهو لحاظ القيد ، والمفروض عدمه ، إذن فتسري ، وهذا معناه أن الطبيعة المهملة تكون في قوة المطلقة.

إذن فالمبنى المختار في باب المطلق والمقيّد ، هو كون المهمل في قوة المطلق.

ومنه يظهر ، أنه لا يأتي إشكال ، أن المولى لا يعرف مطلوبه ولا حدود مطلوبه ، بل إنّ ما هو مطلوب المولى معلوم الحدود في كلا العالمين ، في

٢٥٢

عالم الوجود الذهني ، وفي عالم الانطباق والسريان ، أمّا في عالم الوجود الذهني ، فلا تردد في الوجود الذهني ، وأمّا في عالم الانطباق والسريان ، فلأن هذا المهمل إمّا في قوة القيد ، بناء على النظرية الأولى ، وإمّا في قوة المطلق ، بناء على النظرية الثانية.

نعم ، من هنا ينقدح بيان آخر للإشكال على تعدّد الأمر بنحو الإهمال ، حاصله.

أنه إن كنّا من أصحاب النظرية الأولى القائلة ، بإن المهمل في قوة المقيّد في مقام الانطباق والسريان ، إذن فلا حاجة في مقام حل مشكلة قصد القربة إلى الأمر الثاني أصلا ، بل يكفي الأمر الأول المتعلق بالطبيعة المهملة.

وذلك لأن الأمر الأول المتعلق بالطبيعة المهملة ، حيث أنه لم يؤخذ في متعلقه قصد القربة فلا يلزم شيء من الإشكالات والبراهين السابقة التي برهنت على استحالة أخذ قصد القربة قيدا أو جزءا في متعلق الأمر ، وحيث أن المهمل في قوة المقيّد ، إذن فالعبد لا يمكنه أن يمتثل الأمر الأول إلا بالإتيان بمصداق المقيّد ، وذلك ، بأن يأتي بالصلاة مع قصد القربة ، لأنه لو أتى بها بدون قصد القربة لا ينطبق عليه الطبيعة المهملة ، لأننا فرضنا أن المهملة في قوة المقيدة ، ومعنى هذا ، أن المهملة لا تنطبق على غير المقيّد ، وحينئذ ، يتبيّن أنه لا حاجة إلى الأمر الثاني وإلى متمّم الجعل ، هذا إن كانت المهملة في قوة المقيّد.

وأمّا إذا كانت المهملة في قوة المطلق ، حينئذ يكون هذا رجوع إلى الشكل الأول ، ولم يكن شكلا آخر في مقابل الشكل الأول ، لأننا إذا قلنا أن المهملة في قوة المطلق ، فهذا معناه ، أننا نشايع النظرية الثانية في الإطلاق القائلة بأن الإطلاق من شئون ذات الطبيعة ، وعليه يصبح متعلق الأمر الأول مطلقا ، غاية الأمر لا إطلاقا لحاظيا ، بل إطلاقا ذاتيا ، وحينئذ لا يكون شكلا آخر في مقابل الإطلاق.

نعم يكون إطلاقا ذاتيا في مقابل الإطلاق اللحاظي.

٢٥٣

وحينئذ ، فما أورد على الشكل الأول ، وما دفعنا به الإيراد عنه ، يأتي هنا إشكالا ودفعا نقضا وإبراما.

وبهذا تبيّن ، أن الصحيح في مقام الاعتراض على الشكل الثاني لتعدّد الأمر ، هو أن يقال.

إن الأمر الأول المتعلق بالطبيعة المهملة ، إن قلنا بإن الطبيعة المهملة في قوة الطبيعة المطلقة بحيث أنها تسري إلى تمام الأفراد باعتبار كفاية الإطلاق الذاتي في السريان ، إذن فيرجع الشكل الثاني إلى الشكل الأول ، ويرد عليه نفس ما أوردناه على الشكل الأول نقضا وإبراما.

غاية الأمر ، أن الإطلاق هنا ، إطلاق ذاتي في مقابل الإطلاق اللحاظي.

وإن قلنا أن الطبيعة المهملة في قوة المقيّدة. بحيث بنينا على أن السريان والإطلاق من شئون الإطلاق اللحاظي ولا يكفي ذات الطبيعة في السريان والإطلاق ، فبناء على ذلك ، تكون الطبيعة المهملة في قوة المقيّدة ، وحينئذ يرد على تعدّد الأمر بالنحو الذي ذكر إشكالان.

أ ـ الإشكال الأول ، تقدّم ، وقلنا أنه لو تعقلنا الأمر بالطبيعة المهملة وفرضنا أنها في قوة المقيّدة ، حينئذ يمكن الاكتفاء بالأمر الأول ، دون الحاجة إلى الأمر الثاني ، وذلك أن الأمر الأول يحقق فائدة المولى من الأمر بالمقيّد ، من دون أن يرد محذور الأمر بالمقيّد ، لأن المولى لم يأخذ قصد الأمر قيدا في الطبيعة ليلزم المحذور المشهور ، وهو أخذ المتأخر في المتقدم ، بل المولى لاحظ ذات الطبيعة دون أن يلحظ معها قصد الأمر ، وحينئذ لا يرد المحذور ، ومقصود المولى يحصل بذلك ، لأن مقصوده هو إلزام العبد بأن يأتي بالفعل من قبله ، ولم يكتف بالفعل المأتي به بداع نفساني ، وهذا الإلزام يحصل في المقام على أي حال ، لأن المفروض أن الطبيعة المهملة في قوة المقيّدة ، إذن فالأمر الأول المتعلق بالطبيعة المهملة لا يمكن امتثاله ، إلّا أن يؤتى بالمقيّد ، وبذلك يتحقّق مقصود المولى ، إذن فلا حاجة إلى جعل الأمر الثاني.

٢٥٤

ب ـ وأمّا الإشكال الثاني ، الذي يرد عليه حينئذ ، فهو أن هذا الأمر الأول المتعلق بالطبيعة المهملة ، إذا قلنا بأن الطبيعة المهملة في قوة المقيّدة ، فحينئذ ، لا يرد عليه أكثر براهين استحالة التقييد ، لكن يرد عليه بعض تلك البراهين.

فالبرهان الثاني وهو لزوم أخذ المتأخر في المتقدم ، والتهافت في لحاظ المولى ، إنّ هذا البرهان لا يرد في المقام ، لأن المولى لم يلحظ قصد الأمر في معروض أمره ليلزم التهافت في لحاظ المولى ، كما أن البرهان الثالث والرابع لا يرد ، وهو أنّ الأمر إذا تعلّق بالصلاة مع قصد الأمر ، فإن حصة منه تكون غير قابلة للمحركية ، وهي الحصة المتعلقة بقصد الأمر ، مثل هذا لا يرد في المقام ، لأنه في المقام ، فرض أن الأمر يتعلّق بذات الطبيعة ، لا بالطبيعة مع قصد الأمر ، ليلزم أن تكون حصة من الأمر غير قابلة للمحركيّة.

ولكن البرهان الأول ، يرد في المقام ، وذلك لأن الأمر بالطبيعة المهملة بعد أن فرضنا أن الطبيعة المهملة في قوة المقيّدة ، إذن لا يمكن امتثال هذا الأمر إلّا بالإتيان بالصلاة مقيّدة مع قصد امتثال الأمر.

ومن الواضح أن الإتيان بالصلاة مع قصد امتثال الأمر يتوقف إمكانه على وصول الأمر ، إذن فلا بدّ للمولى من أخذ وصول الأمر في موضوع هذا الأمر ، فيلزم المحذور.

وعليه فإن البرهان الأول الذي برهنّا به على استحالة تعلق الأمر بالصلاة المقيّدة مع قصد امتثال الأمر وهو لزوم أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر ، هذا البرهان يجري هنا ، لأن الأمر هنا ، وإن كان لم يتعلق بالمقيّد ، بل تعلق بذات الطبيعة المهملة ، لكن بعد أن فرضنا أن هذه الطبيعة المهملة لا تنطبق إلّا على المقيّد ، لأن المهملة في قوة المقيّدة ، إذن فالمكلّف لا يمكنه الامتثال إلّا بالمقيّد ، فتكون قدرته على الامتثال موقوفة على تمكّنه من قصد الأمر ، وتمكّنه من قصد الأمر فرع وصول الأمر ، إذن فيجب على المولى أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر ، وهذا هو المحذور.

٢٥٥

وممّا ذكرنا ، ظهر أيضا الجواب على كلام آخر يستفاد من بعض كلمات المحقق العراقي عند ما يحاول الفرار من محذور أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر.

وملخّص كلام العراقي (١) هو أنه تصوّر للأمر صورا ثلاث.

الصورة الأولى ، هي أن يتعلق الأمر بالمطلق ، بالذات المطلقة من ناحية قصد القربة.

الصورة الثانية ، هي أن يتعلّق الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد القربة ، وكلتا هاتين الصورتين لا تنفع المولى في باب التعبديّات.

أمّا الصورة الأولى وهي الأمر بالمطلق فلأنه خلاف غرضه.

وأمّا الصورة الثانية ، وهي الأمر بالمقيّد ، فلأن إشكال علماء الأصول مستحكم ، باعتبار استحالة تعلق الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد القربة.

الصورة الثالثة ، هي أن يتعلّق الأمر بالحصة الخاصة المقيّدة ، لكن بنحو يكون القيد والتقيّد كلاهما خارجا عن متعلق الأمر ، وبهذا يختلف عن الأمر بالمقيّد ، إذ أن الأمر بالمقيّد معناه ، دخول التقيّد وخروج القيد ، بينما في الصورة الثالثة المسمّاة بالحصة التوأم ، يكون الأمر متعلقا بالحصة التوأم مع القيد ، لكن بنحو ، لا التقيّد ولا القيد يكون داخلا تحت الأمر ، بل ما هو تحت الأمر ، إنما هو ذات المقيّد ، وعند ما يؤخذ المقيّد هكذا ، يؤخذ كمعرّف ومشير إلى ذات الحصة التوأم ، كما هو الحال في سائر العناوين المعرّفة المشيرة ، فإذا قال سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اتّبعوا بعدي خاصف النعل ، فهنا ، مقيّد ، وقيد ، وتقيّد ، فالمقيّد هو ذات الإمام عليه‌السلام ، والقيد هو خصف النعل ، والتقيّد هو انتساب خصف النعل إلى الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٢٥٦

ومن الواضح أن موضوع وجوب الإتباع هو ذات المقيّد ، وأمّا التقيّد والقيد فهما خارجان عن موضوع الإتباع وإنما أخذ عنوان خاصف النعل مشيرا ومعرّفا إلى ذات الحصة الخاصة التي حباها الله سبحانه بنعمة الإمامة وكرامتها.

إذن ففي هذه الصورة الثالثة تعلّق الأمر بذات الحصة التوأم مع القيد بنحو لا يكون التقيّد ولا القيد تحت الأمر ، بل هما مجرد معرّف ومشير ، إذن فهذه صورة ثالثة في الصورتين السابقتين.

وبناء على هذه الصورة الثالثة للأمر ، يمكن للمولى حينئذ ، أن يتوصل إلى غرضه في باب التعبديات بأمر واحد متعلق بالحصة التوأم من دون أن يلزم أيّ محذور ، لأن المحذور إنما يلزم لو أخذ قصد الأمر قيدا في متعلق الأمر ، وهنا لم يؤخذ ، لأن المطلوب هنا خروج القيد والتقيّد من تحت الأمر ، وبهذا يكون المولى قد وصل إلى غرضه ، لأن الأمر وقف على الحصة دون أن يسري منها إلى باقي الحصص ، لأن المفروض أن الطبيعة في هذه الصورة أخذت بنحو الحصة ولم تؤخذ بنحو المطلق.

ذكرنا فيما تقدم أن هذه الصورة الثالثة قد ظهر جوابها مجملا ممّا تقدّم ، وتفصيل هذا الجواب أن يقال.

إن موضوع الحكم في القضية ، تارة يكون حصة لها تعيّن وتميّز في المرتبة السابقة على تقيّدها بالقيد كما هو الحال في الأعيان الخارجية ، فمثلا الحصة المعيّنة من الإنسان التي حباها الله تعالى بكرامة الإمامة ، وهي ذات الإمام عليه‌السلام ، هذا الإنسان الخاص ، بقطع النظر عن اتصافه بخصف النعل ، له تعيّن وتميّز عن باقي الحصص وأفراد الإنسان.

وتارة أخرى يفرض أن الحصة المقيّدة ليس لها تعيّن في مقابل سائر الحصص ، إلّا بنفس هذا التقيّد ، كما هو الحال في الحصص المفهومية الكلّية ، فالإنسان الأبيض يميّزه عن الإنسان ، الإنسان الأسود ، أو الأصفر ، فتميّزه بنفس تقيّده بالبياض والسواد وغيره ، وإلّا بقطع النظر عن تقيّده

٢٥٧

بالبياض ، الإنسان واحد على كل حال ، وهو حقيقة واحدة في الجميع ، وهذا التميّز ليس في المرتبة السابقة على هذا التقيّد.

وحينئذ ففي القسم الأول في الحصص الخارجية التي يكون لها تعيّن وتميّز في المرتبة السابقة على تقيّدها بالقيد الأمر معقول فيه ، لأن كلا من القيد والتقيّد خارجا عن موضوع الحكم. ولو أخذ القيد والتقيّد فهو يؤخذ كمشير ومعرّف إلى ذات تلك الحصة ، لأن تلك الحصة لها تعيّن وتميّز في نفسها في مقابل سائر الحصص.

ولكن ما ذا يصنع المولى في القسم الثاني ، وهو الحصص المفهومية التي يكون تعيّنها وتميّزها وتحصّص بعضها في مقابل بعضها الآخر يكون بنفس هذا التقيّد فهنا إن فرض أن الحكم تعلّق بذات الطبيعة من دون أن يكون التقيّد والقيد داخلا في معروض الحكم ، بل هما خارجان عن معروض الحكم ، حينئذ نسأل ، بأن هذا الحكم سوف يقف على الحصة المتعينة المتميّزة ، أو أنه سوف يسري إلى سائر الحصص؟.

هذا الكلام مربوط بما نقّحناه فيما تقدّم ، من كفاية الإطلاق الذاتي وعدم كفاية الإطلاق الذاتي والاحتياج إلى الإطلاق اللّحاظي.

فإن قلنا كما هو الصحيح ، أن الإطلاق يكفي فيه نفس ذات الطبيعة ولا حاجة في سريان الطبيعة إلى لحاظ الإطلاق ، بل الطبيعة في نفسها مقتضية للسريان والانطباق ما لم يمنع عن ذلك مانع والمانع هو التقيّد.

وبناء على هذه النظرية ، إذن يستحيل وقوف أمر المولى على الحصة ، بل يكون الأمر حينئذ ساريا إلى المطلق وإلى تمام الأفراد لأن المقتضى موجود والمانع مفقود ، أمّا المقتضي للسريان فهو ذات الطبيعة وأمّا المانع عن السريان المفقود فهو التقيّد والمفروض أن التقيّد والقيد كلاهما خارج عن مركّب الحكم لأن مركب الحكم هو ذات الطبيعة. وذات الطبيعة تقتضي السريان إذن يستحيل أن يقف الحكم على الحصة التي أراده أن يقف عندها المحقق العراقي بل الحكم هنا يسري إلى تمام الأفراد.

٢٥٨

نعم لو قلنا بالنظرية الثانية ، وهي أن إطلاق الطبيعة لا يكفي فيها ذاتها ، بل تحتاج إلى لحاظ الإطلاق فحينئذ يكون مرجع الحصة التوأم إلى ما سمّيناه بالطبيعة المهملة والآن نسميه بالحصة التوأم يعني أن المولى يأمر بالطبيعة المهملة بلا لحاظ الإطلاق ولا لحاظ التقيّد حيث يكون لا لحاظ التقيّد داخل في معرض الحكم ولا لحاظ الإطلاق داخل في معرض الحكم.

وهذا ما سمّاه المحقق النائيني بالطبيعة المهملة فإذا ركّب الحكم على الطبيعة المهملة هذه وهي المسماة بالحصة التوأم فإن الأمر لا يسري حينئذ إلى غيرها بناء على أن السريان فرع الإطلاق اللحاظي.

وبهذا تبين أن الحصة التوأم في عالم التقيّدات المفهومية التي يكون تمايزها بنفس التقيّد أساسا غير معقول لا في المقام ولا في غير المقام إلّا بناء على هذا المبنى ، مبنى أن المهملة في قوة التقيّد فترجع الحصة التوأم إلى الطبيعة المهملة.

وأمّا بناء على ما هو المختار من كفاية الإطلاق الذاتي في السريان ، وأن الطبيعة المهملة في قوة المطلقة ، حينئذ ، إذا لم يكن القيد والتقيّد داخلان في مركب الحكم ومعروضه ، فلا محالة ، يكون مطلقا ، ولا يتصوّر وقوفه حينئذ على الحصة.

وبهذا تبيّن ، أن تصحيح المشكلة بالحصة التوأم عند المحقق العراقي قدس سرّه ، في غير محله.

وبهذا تبيّن أيضا ، عدم صحة كلا الجعلين لتعدّد الأمر.

وهناك شكل ثالث لتعدّد الأمر ، مقابل للشكلين السابقين اقترحه المحقق العراقي (١) ، وذلك أن الشكلين السابقين لتعدّد الأمر كانا معا مشتركين في خصيصة ، وهي أن كل واحد من الأمرين مجعول بجعل غير الجعل المتعلق

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٢٥٩

بالأمر الآخر ، فهناك جعلان ومجعولان على اختلاف بين الشكلين في تحقيق حال ما هو المتعلق ، وهل هو المهمل. ، أو هو المطلق؟.

أما هذا الشكل الثالث ، فهذا يختلف عن كلا الشكلين السابقين ، فهو يرى تعدّد الأمر ، لا تعدّد الجعل. أمر متعلق بذات العمل ، وأمر آخر متعلق بالإتيان بقصد الامتثال.

ولكن هذين الأمرين ، ليسا مجعولين بجعلين وبإنشاءين ، بل هما مجعولان بجعل وإنشاء واحد رغم ما بينهما من الطولية والترتب ، إذ أن الأمر المتعلق بقصد الامتثال ، مترتب على الأمر المتعلق بذات العمل ، وهو في طوله ، لأن الأمر المتعلق بذات العمل ، يحقق موضوعا للأمر الثاني المتعلق بقصد امتثال الأمر الأول المتعلق بذات العمل ، ولكن رغم كونهما طوليين ومجعولين بجعل واحد ، فإن هذه الطولية بينهما لا تنافي كونهما عرضيين في مقام الجعل ، وكونهما مجعولين بجعل واحد.

وقد شبّه المحقق العراقي ذلك ، بمثل خطاب صدّق العادل (١) ، في مسألة حجية خبر الواحد ، حيث تعرّض المحقق العراقي هناك لإشكال حجية الخبر مع الواسطة ، حيث يلزم منه اتحاد الحكم مع موضوعه ، حيث أنه في بحث حجية خبر الواحد يوجد بحث خلاصته.

هو أن خطاب صدّق العادل ، كيف يمكن شموله للخبر مع الواسطة؟. وحيث عمد المحقق إلى تشبيه المقام بذلك المقام ، فكان لا بدّ من ذكر الإشكال في بحث حجية الخبر ، ثم التعرض لذكر وجه المشابهة ، وحاصل الإشكال في بحث حجية الخبر هو.

أن خطاب صدّق العادل ، إنما هو بلحاظ الأثر الشرعي ، إذن فلا بدّ أن يكون خبر العادل ذا أثر شرعي حتى يعقل توجه الشارع لإيجاب تصديقه ،

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٢٦٠