بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

الجهة الثانية

اعتبار العلو في مفهوم الأمر

الجهة الثانية من جهات مادة الأمر ، هي أن مفهوم الأمر هل يعتبر فيه العلو أو كلا الأمرين من العلو والاستعلاء ، أو أحد الأمرين الجامع بين العلو والاستعلاء ، أو لا يعتبر شيء من ذلك؟. ففي المقام عدة احتمالات ، وهذا البحث يساق على محورين.

المحور الأول : تبحث المسألة بلحاظ كون الأمر موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة.

فبهذا المعنى تحرّر المسألة ، بأن يقال ، إن موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة ، هل هو الطلب الصادر مع العلو فقط ، أو مع العلو والاستعلاء ، أو بدون علو أو استعلاء؟. فإن حرّرت المسألة بهذا النحو ، فالمسألة مسألة عقلية ، وليست لغوية ، ولا ربط لها بتشخيص معنى كلمة الأمر في اللغة ، وإذا كانت المسألة عقلية فلا معنى لتحريرها بحيث أن العقل هو الحاكم بوجوب امتثال الطلب الصادر من العالي الحقيقي ، أو العالي المستعلي ، ولا معنى لهذا البحث ، لوضوح أن حكم العقل بوجوب الإطاعة ، موضوعه هو الطلب الصادر من المولى ، والمولوية هي العلو الحقيقي في المقام ، فالطلب إذا صدر من المولى ولو لم يكن بلغة الاستعلاء بل كان بلغة الاقتراض ـ ومن يقرض الله قرضا حسنا ـ مع هذا يكون موضوعا لوجوب الإطاعة بحكم العقل ، وإذا صدر من غير المولى فلا يكون موضوعا لوجوب الإطاعة بحكم العقل ، وهذا لا نزاع فيه.

٢١

المحور الثاني : تبحث المسألة بلحاظ كون كلمة الأمر في لغة العرب ، هل أخذ فيها العلو ، أو العلو مع الاستعلاء ، أو الجامع بين الأمرين ، بحيث يكون لهذه المسألة فائدة فقهية وليس لها فائدة أصولية ، لأن فائدة هذا البحث حينئذ ، يكون في مثل ما لو دلّ دليل على وجوب إطاعة أوامر الوالدين ، وحينئذ يقال ، بأنه هل يعتبر في صدق الأمر من الوالد الاستعلاء أو لا يعتبر ، فمن قال باعتبار العلو والاستعلاء معا قد يدّعي بأن الوالد إذا طلب من ولده شيئا في لسان الاسترحام فلا يشمله دليل وجوب إطاعة الوالدين ومن قال بكفاية العلو من دون الاستعلاء يقول بأنه يشمله دليل وجوب إطاعة الوالدين ، فتكون الثمرة ثمرة فقهية ، ولكن هذه الثمرة محل إشكال ، إذ لو فرض ورود دليل بلسان إطاعة الوالدين ، وفرض أن الاستعلاء دخيل في عنوان الأمر لغة ، ولكن العرف بمناسبات الحكم والموضوع ، يفهم من دليل وجوب إطاعة الوالدين ، أن نكتة المطلب ليس هو استعلاء الوالد وتكبّره في مقام المخاطبة ، بل نكتته علوّه الحقيقي وفضله على ولده ، فبمناسبات الحكم والموضوع يمكن إلغاء خصوصية الاستعلاء حتى لو قلنا بدخلها في مفهوم الأمر لغة ، فلا تبقى هذه الثمرة الفقهية أيضا لمثل هذا البحث.

وكيف كان ، فهو بحث في نفسه ، من أنه هل يعتبر العلو أو العلو والاستعلاء أو الجامع ما بينهما ، والظاهر بمراجعة الاستعمالات العرفية أنه يعتبر العلو بلا إشكال ، لأن الطلب إذا صدر من غير العالي إلى مساويه أو إلى من هو أعلى منه لا يسمّى أمرا ، حتى لو كان مستعليا ، فلا إشكال في كفاية العلو في نفسه ، وإن كان لسان الأمر لسان استرحام.

وأما الاستعلاء فالظاهر عدم اعتباره في المقام ، بحسب الاستعمالات العرفية ، فإذا كان مستعليا يعني مدّعيا للعلو ، فهو مدع لقابلية الطلب بإدعائه للعلو ، فكأنه يدّعى صدور الأمر منه ، لأن الأمر متقوم بالعلو ، فإذا ادعى أنه عال فهو يدعي إن هذا أمر ، لا أنه يكون أمرا حقيقة.

ومنه يظهر أن دعوى الجامع بين العلو والاستعلاء ، أيضا ساقطة ، فإن

٢٢

الظاهر أن الاستعلاء لا يغني عن العلو.

فالمناط إذن ، هو العلو وحده ، سواء اقترن بالاستعلاء أو تجرد عن الاستعلاء ، ولكن لا أثر لهذا الكلام لا أصوليا كما هو واضح ، ولا فقهيا بالنحو الذي أشرنا إليه ، هذا هو الكلام من الجهة الثانية.

٢٣

الجهة الثالثة

لمادة الأمر

بعد أن ثبت أن الأمر بمعنى الطلب ، يقع الكلام في أن كلمة الأمر ، هل تدل على جامع الطلب ، أو على خصوص الطلب الوجوبي ، فلو قال المولى لعبده ، أمرتك بالسعي ، فهل يكون هذا الكلام دالا على الحصة الوجوبية من الطلب ، أو يدل على أصل الطلب الملائم للوجوب والاستحباب؟؟ فالكلام يقع في مقامين ، أول المقامين ، هو أصل دلالة كلمة الأمر على الوجوب ، وبعد الفراغ عن هذه الدلالة ، يقع الكلام في المقام الثاني ، في أنه ما هو ملاك ونكتة هذه الدلالة.

أ ـ المقام الأول

وهو البحث عن أصل دلالة كلمة الأمر على الوجوب ، فقد حاول بعض الأصوليين (١) أن يستدل على ذلك بجملة من الآيات والروايات من قبيل (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ، وغير ذلك ممّا كان من هذا القبيل من الروايات بتقريب ، أن في مثل هذه الآية الكريمة ، أخذ عنوان الأمر موضوعا للحذر والتحذّر ، ومن الواضح أن الطلب الاستحبابي ليس موضوعا للحذر ، وإنما الذي يكون موضوعا للحذر هو الطلب الوجوبي ، فيستكشف من ذلك أن

__________________

(١) إحكام الأحكام ج ٢ ـ معالم الدين ـ أبو منصور الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ص ٤٠.

٢٤

الأمر مختص بالطلب الوجوبي ، وليس أعم من الطلب الوجوبي والاستحبابي ، إذ لو كان أعم لما وقع على إطلاقه موضوعا لوجوب التحذّر ، والحال أنه قد وقع كذلك.

والتحقيق أنه لا يمكن التعويل على مثل هذا التقريب في مقام الاستدلال بهذه الآية وما شابهها من روايات ، وذلك : لأنه هنا يوجد موضوع وحكم ، فالموضوع هو عنوان الأمر ، والحكم هو التحذّر ، ونعلم من الخارج أن الاستحباب لا حذر فيه ولا محذور في مخالفته ، فالاستحباب قطعا خارج عن موضوع هذه القضية بهذا الدليل الخارج ، إلّا أن الأمر يدور بين أن يكون خروج الاستحباب عن موضوع هذه القضية خروجا تخصيصيا ، أو خروجا تخصصيا ، فإن كانت كلمة الأمر مختصة بالطلب الوجوبي كما هو المدّعى ، إذن فالاستحباب خارج تخصصا ، بمعنى أنه ليس أمرا أصلا ، وإن كانت كلمة الأمر ، دالة على الجامع ما بين الطلب الوجوبي والاستحبابي ، إذن فالاستحباب خارج تخصيصا لا تخصصا ، بمعنى أنه أمر ، لكن لا حذر فيه.

إذن فالأمر يدور بين أن يكون خروج الاستحباب عن موضوع الآية الكريمة خروجا تخصيصيا أو خروجا تخصّصيا ، والمستدل بالآية على أن الأمر يختص بالوجوب ، مراده إثبات أن الاستحباب خارج خروجا تخصّصيا عن موضوع الآية ، لا أنه خارج تخصيصا ، فلا بد للمستدل بالآية أن يعيّن الاحتمال الأول مقابل الاحتمال الثاني.

وحينئذ ففي مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، التي هي مسألة معنونة في بحث العام والخاص ، وهو في أنه إذا علم بخروج فرد من العام ودار الأمر بين أن يكون خروجه تخصيصا أو تخصّصا ، ففي تلك المسألة ، إن قيل بأن أصالة عدم التخصيص لا تجري ولا يثبت بأصالة عدم التخصيص ، التخصص لأن أصالة عدم التخصيص إنما تجري فيما إذا احتمل شمول حكم العام للفرد ، وأمّا إذا علم بأن الفرد ليس مشمولا لحكم العام ، ودار الأمر بين أن يكون عدم شموله من باب التخصيص أو من باب

٢٥

التخصّص ، فلا تجري اصالة عدم التخصيص ، فإن قيل كما بنى صاحب الكفاية (١) والمشهور بين المحققين على أن اصالة عدم التخصيص لا تجري في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، إذن فلا يمكن للمستدل في المقام أن يجري اصالة عدم التخصيص لكي يثبت التخصص ، فإن إثبات التخصّص الذي هو مرامه فرع إجراء اصالة عدم التخصيص ، فإذا لم يقل بجريان اصالة عدم التخصيص لا يمكن للمستدل أن يثبت التخصص في المقام ، فلعلّه تخصيصا ، وإن قيل هناك في تلك المسألة ، أنه في مثل دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص تجري اصالة عدم التخصيص ، لأن التخصيص على خلاف القاعدة ففيه مئونة وعلى خلاف الأصل ، فتجري اصالة عدم التخصيص ، وبأصالة عدم التخصيص يتعيّن التخصّص ، فأيضا هذا لا ينطبق على محل الكلام ، ففي المقام ، لا يمكن للمستدل أن يجري اصالة عدم التخصيص ، والنكتة في ذلك هي ، أن من يقول بجريان اصالة عدم التخصيص إنما يقول بذلك فيما إذا كان على فرض التخصيص لا يوجد قرينة متصلة صالحة للتخصيص ، بحيث أنه على فرض التخصيص ، يكون تخصيصا بلا قرينة متصلة ، ففي مثل ذلك يدور الأمر بين التخصيص ، بلا قرينة متصلة ، وبين التخصص ، فيقال بأن التخصيص بلا قرينة متصلة على خلاف الأصل ، فيجري أصالة عدم التخصيص ، ويتعين التخصّص ، وأما لو فرض أنه على فرض التخصيص يوجد قرينة متصلة على هذا التخصيص ، إذن فهذا التخصيص ليس على خلاف الأصل لأنه تخصيص بقرينة متصلة ، فلا معنى لإجراء أصالة عدم التخصيص ، فالأصل هو عدم التخصيص بلا قرينة متصلة لا أن الأصل هو عدم التخصيص مع نصب قرينة متصلة.

ومقامنا من هذا القبيل ، فلو فرض أن مدلول كلمة الأمر أعم من الوجوب والاستحباب ، فهنا يوجد قرينة متصلة على خروج الاستحباب ، فنفس التحذير مع مركوزيته ، يكون مستتبعا للعقاب ، بينما الاستحباب ليس

__________________

(١) المشكيني ج ١ ص ٣٥٠ ـ ٣٥٢.

٢٦

منشأ للعقاب ، فهذا بنفسه قرينة متصلة على التخصيص ، فالأمر دائر ، بين التخصّص وبين التخصيص مع القرينة المتصلة ، فلو بني على أصالة عدم التخصيص في موارد الدوران بين التخصيص والتخصّص ، لا ينطبق هذا المبنى على محل الكلام.

وعلى هذا ، فالاستدلال بمثل هذه الآية في غير محله وبحسب الحقيقة ، لم يتحقق إشكال معتد به في أصل دلالة الأمر على الوجوب ، ولم يستشكل أيّ فقيه عادة في الفقه في أنه لو ورد في لسان آية أو رواية لفظ الأمر فإنه يفتي بالوجوب طبقا للتبادر العرفي ، فإن المتبادر عرفا والمتفاهم عقلائيا من كلمة الأمر ، هو الوجوب ، ولهذا لو أمر المولى المفروغ عن مولويته ، وتخلّف العبد عن الامتثال ، فيستحق العقاب والعتاب ، وليس ذلك إلّا لمفروغية العرف عن انفهام الوجوب ، والإلزام في مثل هذا الخطاب ، فأصل دلالة لفظ الأمر على الوجوب ليس محلا للإشكال أصلا ، وليس بحاجة إلى الاستدلال ، وإنما يثبت بالتبادر والوجدان العرفي ، أضف إلى ذلك أن أصل دلالة صيغة الأمر على الوجوب أيضا أمر مفروغ عنه فقهيا وعرفيا ويكفيه التبادر والوجدان العرفي.

المقام الثاني

بعد الفراغ عن أصل دلالة كلمة الأمر وصيغة الأمر على الوجوب ، يقع الكلام في أنه ما هو ملاك دلالة الأمر على الوجوب مادة وصيغة ، وفي هذا المقام يوجد ثلاثة مسالك.

المسلك الأول :

الوضع ، بمعنى أن الأمر موضوع للدلالة على حصة خاصة من الطلب ، وهو الطلب الوجوبي ، وهذا المسلك موقوف على إبطال المسلكين الأخيرين ، لأن الدليل على الوضع ، إنما هو الوجدان العرفي ، لأن العقلاء والعرف يرون أن المولى إذا أمر عبده وعصى ، صحّت معاقبته وإدانته ، وهذا يكشف عن الوضع إذا بطل المسلكان الأخيران ، وأما إذا ثبت أحد هذين المسلكين ،

٢٧

واقتضى الحمل على الوجوب فحينئذ لا ينحصر وجه هذه السيرة العقلائية والتفاهم العرفي في الوضع ، وهذا المسلك ذهب إليه مشهور الأصوليين.

المسلك الثاني :

وهو مسلك المحقق النائيني (١) القائل بأن دلالة الأمر على الوجوب إنما هي بحكم العقل وتبعه بذلك السيد الأستاذ (٢).

المسلك الثالث :

هو مسلك المحقق الخراساني (٣) وذهب إليه المحقق العراقي (٤) القائلان بأن دلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

__________________

(١) فوائد الأصول الكاظمي ج ١ ص ٧٠.

(٢) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٤.

(٣) كفاية الأصول مشكيني ج ١ ص ٩٢.

(٤) بدائع الأفكار ج ١ ص ١٩٧ الآملي.

٢٨

محاولة إبطال المسلك الثاني

وحاصل ما ذكره الميرزا في توضيح مسلكه ، هو أن المدلول اللفظي للأمر ، صيغة ومادة ، إنما هو الطلب بمعنى تصدّي المولي لتحصيل الفعل ، فعند ما يقول المولى آمرك ، أو صلّ ، فمفاد كلامه ، إنما هو طلب فعل الصلاة من المكلف ، وهذا الطلب ، وهو تصدي المولى لتحصيل الفعل من قبل العبد ، له حالتان.

فتارة يقترن بنصب بيان من قبل المولى متصل أو منفصل على الترخيص فيقول آمرك بالصلاة ومع هذا يبين متصلا أو منفصلا أنه لا بأس بالترك.

وتارة أخرى ، التصدي المولوي لتحصيل الفعل من قبل العبد ، لا يقترن ببيان على الترخيص لا متصل ولا منفصل ، ففي الحالة الأولى ، حيث اقترن الطلب بالرخصة المتصلة أو المنفصلة ، فإن مثل هذا الطلب والتصدي ليس موضوعا لحكم العقل بوجوب التحرك والامتثال ، لإمكان أخذ العبد بالرخصة في المقام ولا ضير عليه ، وأمّا في الحالة الثانية حيث أن الطلب لم يقترن بترخيص متصل أو منفصل ، فإن مثل هذا التصدي هو تمام الموضوع لحكم (١) العقل بلزوم التحرك على طبقه ، لأن المولى حرّك العبد ولم يرخصه في عدم التحرك. إذن فبمقتضى مولوية المولى وعبودية العبد يكون الطلب موضوعا

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ص ٧٠.

٢٩

للزوم التحرك بحكم العقل ، وفي هذه المرحلة يتصف الطلب بعنوان الوجوب ، فالوجوب صفة تتحقق للطلب بلحاظ وقوعه موضوعا لحكم العقل بلزوم التحرك ، وهذا الوجوب مرجعه إلى أمر عقلي متأخر عن الطلب وفي طول الأمر ، وليس أمرا شرعيا سابقا على الأمر. إذن فكلّما صدر من المولى شيء يسمّى طلب سواء كان هذا الطلب بمادة الأمر أو بصيغة الأمر أو بلسان آخر ، ولم يقترن ببيان للترخيص لا متصل ولا منفصل ، فمثل هذا الطلب طلب وجوبي يعني يقع موضوعا لحكم العقل بلزوم التحرك على طبقه من باب قانون المولوية والعبودية ، إذن فالوجوب لا يحتاج إثباته إلى دلالة لفظية ، فإن اللفظ لا يدل على الوجوب ، وإنما الوجوب شأن من شئون حكم العقل مترتب على صدور الطلب من قبل المولى.

وما أفاده الميرزا (قده) لا يمكن المساعدة عليه حلا ونقضا.

أما الحل : فإننا نمنع أن يكون موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة ، هو صدور الطلب من المولى مع عدم بيان الترخيص ، لوضوح أنه لو صدر طلب من قبل المولى ولم يصدر ترخيص بالترك ، ولكن علم واقعا بعلم غير مستند إلى بيان المولى ، بأن هذا الطلب الصادر منه نشأ من ملاك غير شديد ، وأن المولى تطيب نفسه بتفويت هذا الملاك وحينئذ ، العقل لا يحكم في مثل ذلك بلزوم الامتثال ، ولا يرى المخالفة منافية مع العبودية ، فلا يكون العبد حينئذ عاصيا أو مستحقا للعقاب في هذا الغرض ، فليس ميزان حكم العقلاء بلزوم الامتثال ، هو مطلق صدور الطلب من المولى مع عدم بيان الترخيص بالمخالفة ، بل الميزان هو صدور الطلب من المولى بملاك أكيد شديد بحيث لا تطيب نفسه بالمخالفة

وهذا المطلب يحتاج إلى كاشف ، فإذ صدر طلب من المولى ، ولم يعرف أنه صدر بملاك شديد أم لا ، إذن كيف يبنى على الوجوب في المقام وكيف يحكم العقل بلزوم الإطاعة!. فلا بد أن يدّعى أنّ لفظة الأمر تدل على أن الطلب صدر بملاك شديد ، وهذا رجوع إلى الدلالة اللفظية ، فلا يمكن في

٣٠

المقام دعوى أن لا يحتاج إثباته إلى الدلالة اللفظية وأن الوجوب يثبت بحكم العقل بلزوم الإطاعة ، لأن هذه الدعوى إنما تتم إذا قلنا بمسلك الميرزا ، لكن بعد الالتفات إلى أن حكم العقل بلزوم الإطاعة لا يكفي في موضوعه مجرد صدور طلب وعدم بيان الترخيص ، بل موضوعه صدور الطلب وأن يكون واقع نفس المولى غير راضية بالمخالفة ، وحينئذ ، كيف يعرف أن واقع نفسه راضيه بالمخالفة أو غير راضية بالمخالفة ، هذا لا يمكن للعقل أن يثبته أو ينفيه ، وإنما المرجع فيه هو بيان المولى ، فلو قيل بأن لفظ الأمر يدل على ذلك ، إذن فقد ثبت دلالة الأمر اللفظية على الوجوب ، وأن لفظ الأمر يدل على الوجوب بالوضع أو بالإطلاق ، وهذا خلاف ما يقوله الميرزا ، وإن قيل بأن لفظ الأمر لغة وعرفا وإطلاقا لا يدل إلّا على أصل الطلب ، إذن فلا يتسجل الوجوب في المقام بحكم العقل ، لأن الوجوب بحكم العقل فرع أن تكون نفس المولى غير راضية بالمخالفة ، وهذا المطلب لم يثبت في المقام من المولى ، فكيف يقال بالوجوب!.

هذا البيان بحسب الحقيقة هو حل المطلب ، وتمام النكتة في حل المطلب هو تشخيص أن موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، ليس هو الطلب مع عدم بيان الترخيص ، بل هو الطلب وأن يكون واقع نفس المولى آبية عن المخالفة ، يعني أن يكون الطلب مقرونا بالملاك الشديد القوي في نفس المولى ، وهذا الموضوع بحكم العقل ينحصر إثباته بلفظ المولى ، فإذا لم نقل بأن لفظ الأمر يدل على الطلب الأكيد الشديد الذي هو الوجوب ، إذن فكيف يتم حكم العقل بالوجوب ولزوم الامتثال!.

وأما النقض فهو أن مسلك الميرزا ، في تصوير دلالة الأمر على الوجوب ، له لوازم في الاستنباط في الفقه لا يلتزم بها أصحاب هذا المسلك ، ومن جملة هذه اللوازم :

أولا : أنه يلزم بناء على مسلك الميرزا ، رفع اليد عن دلالة الأمر على الوجوب فيما إذا دلّ عموم عام على الترخيص ، مع أنه لا يلتزم أحد بذلك ،

٣١

وتوضيحه : لو قال المولى «آمرك باكرام الفقيه أو أكرم الفقيه» وورد على لسان المولى أيضا «لا يجب إكرام العالم» ، الأعم من الفقيه وغير الفقيه. فإن هذين الدليلين بينهما تعارض بدوي ، لأن قوله «أكرم الفقيه» ظاهر في وجوب إكرام الفقيه ، وقوله «لا يجب إكرام العالم» دال بعمومه وإطلاقه على عدم وجوب إكرام الفقيه لأن الفقيه هو أيضا أحد العلماء ، فلا بأس بترك إكرامه. ومقتضى الجمع العرفي بين هذين الدليلين ، هو جعل الخاص قرينة على العام ، ويخصّص العام بالخاص ، لأن الخاص بحسب الفهم العرفي يصلح أن يكون قرينة على العام فيخصصه ، وأمّا العام فلا يصلح بحسب هذا الفهم أن يكون قرينة على الخاص ، إذن فترفع اليد عن عموم العام ويلتزم بالتخصيص ونتيجة ذلك ، أن الفقيه يجب إكرامه ، وغير الفقيه من العلماء لا بأس بترك إكرامه ، هذه نتيجة الجمع الدلالي بين هذين الدليلين.

وهذا الجمع إنما يتم بناء على أن يكون الوجوب مدلولا لفظيا للخطاب إمّا بالوضع أو بمقدمات الحكمة وأمّا بناء على أن يكون الوجوب ليس مدلولا للفظ ، وأن الأمر مادة وصيغة لا يدل على الوجوب أصلا ، وإنما يدل على جامع الطلب ، فعلى هذا ، إذن لا تعارض بين الدلالتين فإن دلالة «أكرم الفقيه» هي جامع طلب الإكرام المناسب للوجوب والاستحباب ، ودلالة «لا يجب إكرام العالم» هي نفي الوجوب فقط ، إذن فلا تعارض بين الدلالتين حتى يصل الأمر إلى الجمع الدلالي ، وتقديم القرينة على ذي القرينة. بل يوجد في المقام حكم العقل بلزوم الامتثال ، ومن الواضح أن حكم العقل هذا معلّق على عدم صدور الترخيص من قبل المولى ، والعام ترخيص من قبله ، فيكون عموم العام واردا على حكم العقل ورافعا لموضوعه ، فلم يبق للعقل حكم بوجوب الإطاعة ، ويبقى عموم الترخيص من قبل المولى بلا معارض ، لأن المفروض أن «أكرم الفقيه» لا يدل على الوجوب فيكون مقتضى القاعدة حينئذ ، هو تقديم عموم الدال على الترخيص على دلالة الأمر على الوجوب ، مع أن هذا لا يلتزم به عادة في الفقه ، وليس ذلك إلّا للارتكاز العرفي والفقهي بأن دلالة الأمر على الوجوب ليس من باب حكم العقل ، بل هي دلالة لفظية ، ولهذا

٣٢

يطبّق عليه قواعد الجمع العرفي وقواعد القرينة وذي القرينة فيقدم الخاص على العام.

ثانيا : إن الذي أفاده الميرزا من موضوع حكم العقل بلزوم الإطاعة ، هو الطلب مع عدم بيان الترخيص ، وحينئذ نسأل ، أنه ما المراد بعدم بيان الترخيص!. هل المراد عدم بيان الترخيص المتصل أو عدم بيان الترخيص ولو المنفصل؟.

فإن كان المراد هو عدم البيان المتّصل ، فمعناه أنه لو صدر من المولى طلب ولم يتصل به قرينة على الترخيص فالعقل يحكم بلزوم الامتثال والإطاعة ، فإذا ورد بعد ذلك بيان منفصل على الترخيص ، يلزم أن يكون هذا البيان الترخيصي المنفصل معارضا ومنافيا لحكم العقل بالامتثال ، لأن المفروض أن الحكم العقلي مقيّد بعدم البيان الترخيصي المتصل ، وقد تمّ عدم البيان المتصل ، إذن فيكون البيان المنفصل منافيا لحكم العقل ، والمنافاة مع حكم العقل مستحيلة.

وإن كان المراد بعدم بيان الترخيص هو عدم صدور بيان مولوي بالترخيص لا متصل ولا منفصل ، كما هو ظاهر عبارة الميرزا ، ولعلّه صريحها ، إذن فلو صدر من المولى طلب ولم يقترن بالترخيص لكن احتمل صدور ترخيص منفصل ، ففي مثل ذلك لا يمكن للعقل أن يستقل بالوجوب ، لغرض أن حكم العقل معلّق على عدم صدور بيان بالترخيص لا متصل ولا منفصل فمع احتمال البيان الترخيصي المنفصل ، لا يمكن للعقل أن يحكم بالوجوب ، بل يكون الوجوب مشكوكا حينئذ ، ولا دليل عليه ، لأن خطاب «أكرم العالم» ، لا يدل على الوجوب بل على جامع الطلب ، وحينئذ يمكن الرجوع إلى مثل حديث الرفع وبعض الأصول المؤمّنة لرفع مثل هذا الخطاب وهو «أكرم العالم» ، هذا بناء على مسلك الميرزا ، وأمّا بناء على أن دلالة الأمر على الوجوب دلالة لفظية ، نقول بأن دلالة الأمر وظهوره في الوجوب موقوف على عدم القرينة المتصلة على الترخيص ، فبمجرد عدم القرينة المتصلة على

٣٣

الترخيص ينعقد ظهور فعلي للخطاب في الوجوب ، فلو وجد بعد هذا قرينة متصلة على الترخيص يقع التعارض بين الظهورين ، ولا مشاحة في التعارض بين الدلالتين والظهورين ، وحينئذ يعمل معهما معاملة الدليلين المتعارضين.

وهذا النقض الثاني يبرهن أيضا على أن النكتة المركوزة في الأذهان الفقهية والعرفية لدلالة الأمر على الوجوب ليست هي عبارة عن حكم العقل بوجوب الإطاعة ، بل هي الدلالة اللفظية للأمر ولكن هل أن هذه الدلالة هي بالإطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع ، فهذا سوف يأتي إن شاء تعالى.

٣٤

محاولة إبطال المسلك الثالث

وحاصل هذا المسلك هو ، أن دلالة الأمر على الوجوب دلالة لفظية ولكنها ليست بالوضع وإنما هي بالإطلاق ومقدمات الحكمة من قبيل دلالة أسماء الأجناس على الإطلاق الثابتة بمقدمات الحكمة (١).

وقد قرّب ذلك المحقق العراقي ، بما يرجع حاصله ، إلى أنّ الأمر مادة وصيغة يكون دالا بلحاظ مدلول تصديقي على الإرادة المولوية القائمة في نفس المولى ، فكأن لفظ الأمر مادة وصيغة قالب لإبراز إرادة المولى وطلبه. ثم إن هذه الإرادة أمرها مردّد بين أن تكون شديدة وهي الوجوب ، وبين أن تكون ضعيفة وهي الاستحباب.

والمراد بمقدمات الحكمة وبالإطلاق ، إثبات أن هذه الإرادة المدلول عليها بالأمر هي إرادة قوية وليست ضعيفة.

ويتم إثبات ذلك ببيان وهو : أن الإرادة الشديدة ، تختلف عن الإرادة الضعيفة في تأكد الإرادة ، بمعنى أن الإرادة الشديدة تشترك مع الإرادة الضعيفة في أصل الإرادة ، وتختلف الشديدة عن الضعيفة بتأكد هذه الإرادة وشدّتها ، إذن فما به امتياز الإرادة الشديد عن الإرادة الضعيفة هو الإرادة أيضا وقوة هذه

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي ج ١ ص ١٩٧.

٣٥

هذه الإرادة ، وهذا معناه أن الإرادة الشديدة لا تزيد عن الإرادة بشيء ، لا بما له الاشتراك ولا بما به الامتياز ، لأن ما به الاشتراك وهو الإرادة ، وما به الامتياز هو قوة الإرادة وتأكدها ، الذي هو عبارة عن الإرادة ، إذن فالإرادة الشديدة وما به اشتراكها وما به امتيازها كلاهما إرادة ، وأما الإرادة الضعيفة فما به اشتراكها هو الإرادة أيضا ، لكن ما به امتيازها هو فقدان الإرادة ، وبناء على ذلك فإنّ لفظ الأمر مادة وهيئة ، الصادر من المولى ، يدل على الإرادة ، وعندئذ ، إن كان الثابت في نفس المولى هو الإرادة القوية ، إذن فالخطاب المولوي يبين تمام حقيقة هذه الإرادة بلحاظ ما به اشتراكها وبلحاظ ما به امتيازها ، لأنها بتمامها إرادة ، ولا تزيد عن الإرادة بشيء ، فما به الاشتراك فيها هو الإرادة ، وما به امتيازها عن غيرها هو الإرادة ، والخطاب الصادر من المولى يفي بالتعبير عن الإرادة ، فالتعبير به مناسب للتعبير عن تمام هوية هذه الإرادة ، فتمام هوية هذه الإرادة لا يزيد عن الإرادة بشيء ، وأمّا إذا كان ما في نفس المولى هو الإرادة الضعيفة ، إذن خطاب المولى يعبّر عمّا به الاشتراك في هذه الإرادة عن أصل الإرادة ، وأمّا ما به امتياز هذه الإرادة عن الإرادة القوية فلا يعبّر عنه خطاب المولى ، لأن ما به الامتياز هو فقدان المرتبة العالية من الإرادة وهذا الفقدان ليس مدلولا لخطاب المولى بالأمر مادة وصيغة.

إذن فالأمر يدور بين أن يكون ما في نفس المولى هو الإرادة القوية ، إذن فما هو في نفس المولى بتمامه مبيّن بالخطاب ، وبين أن يكون ما في نفس المولى هو الإرادة الضعيفة ، إذن فخطاب المولى لا يفي ببيان تمام ما في نفسه ، لأن ضعف الإرادة عبارة عن فقدانها ، والفقدان لا يدل عليه الخطاب كما هو واضح ، وحينئذ ، تجري مقدمات الحكمة ، ويقال أن الأصل هو كون المولى في مقام بيان تمام ما في نفسه ، فإذا كان تمام مرامه هو الإرادة القوية ، إذن فقد بيّنها بتمامها ، فقد بيّن ما به الاشتراك وما به الامتياز ، وإن كان تمام مرامه هو الإرادة الضعيفة فهو لم يبيّن تمام مرامه ، لأن الإرادة الضعيفة ما به اشتراكها قد بيّن ، وما به امتيازها عن الإرادة القوية فلم يتبيّن ، فبمقتضى أصالة كون المولى في مقام البيان ، وأنه لو كان يريد تلك المئونة الزائدة لنصب قرينة

٣٦

عليها ، وحيث أنه لم ينصب قرينة فمقتضى هذا الإطلاق وهذه المقدمات حمل الإرادة على الإرادة القوية.

وهذا البيان بحسب الحقيقة ، مرجعه إلى هذه النكتة ، وهي أن الإرادة القوية بلحاظ حيثية ما به الامتياز وحيثية ما به الاشتراك لا تزيد عن الإرادة بشيء ، وأمّا الإرادة الضعيفة فبلحاظ ما به الاشتراك ، هي إرادة ، ولكن بلحاظ حيثية ما به الامتياز فهي عدم إرادة ، ومقتضى كون المولى في مقام بيان تمام مرامه بشخص خطابه هو أن يكون في مقام إبراز الإرادة القوية ، لأنه لو كان في مقام إبراز الإرادة الضعيفة لما كان هناك كاشف عن ضعف الإرادة ، لأن الخطاب يكشف عن نفس الإرادة فقط ، وأما ضعفها وفقدها ، فلا كاشف عنه ، وهذا خلاف حالة كون المولى في مقام البيان.

وهذا البيان وإن كان صناعيا في نفسه ، لا يرد عليه جملة من الإشكالات التي أوردت عليه ، لكن الذي يرد على هذا البيان هو : إن الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ليس دلالة عقلية برهانية مبنية على التعمل الفلسفي العقلي ، وإنما الإطلاق سنخ من الدلالة العرفية ومرجعه إلى الظهور الحالي للمتكلم في أنه في مقام بيان تمام مرامه بشخص كلامه ، فحينئذ متى ما دار الأمر بين أن يكون مرام المتكلم سنخ مرام يفي به كلامه أو سنخ مرام يزيد على كلامه ولا يفي مرامه بتمامه ، يحمل حينئذ على المرام الذي يفي به كلامه باعتبار انعقاد ظهور عرفي حالي في تعيين هذا المرام الذي يفي به كلامه ، وبعد الالتفات إلى أن الإطلاق من الظهورات العرفية الحالية يتبيّن أنه يحتاج إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة إلى أن يكون الدوران بين فردين ، أحدهما في نظر العرف فيه مئونة زائدة على كلامه ، والآخر في نظر العرف ليس فيه مئونة زائدة على كلامه ، ولا يكفي أن يكون بحكم العقل والتحليل الفلسفي أحدهما فيه مئونة زائدة والآخر ليس فيه مئونة زائدة ، فلا بدّ وأن يكون كذلك بالنظر العرفي ، ومن الواضح أن هذا المطلب الذي قيل ، وهو أن الإرادة القوية ليس فيها مئونة زائدة على أصل الإرادة ، لأن ما به الاشتراك. وما به الامتياز هو

٣٧

الإرادة ، وأمّا الإرادة الضعيفة فما به الاشتراك وإن كان هو الإرادة ، ولكن ما به الامتياز ليس هو الإرادة ، بل مئونة زائدة على الإرادة وهي الفقدان ، فإن هذا المطلب إنما هو بالتعمّل الفلسفي والتحليل العقلي ، وأمّا النظر العرفي فهو لا يرى أن أحد هذين الفردين فيه مئونة زائدة أزيد من مئونة الفرد الآخر ، وما دامت المئونة غير زائدة ، إذن فلا ينعقد في المقام إطلاق عرفي يقتضي تعيين غير ذي المئونة في مقابل ذي المئونة :

وبهذا ظهر ، أن المقصود في المقام ، ليس دعوى أن العرف ليس ملتفتا تفصيلا إلى الكلام الذي أفاده المحقق العراقي ، حتى يقال كما ذكر (قده) من أن العرف وإن لم يكن ملتفتا تفصيلا ، إلّا أن هذا المطلب مركوز في ذهنه إجمالا ، بل المقصود أن العرف ولو شرح له هذا المطلب فهو لا يرى أصلا مئونة ولا يصدّق أن الفرد الشديد فرد بلا مئونة ، والفرد الضعيف فرد بالمئونة ، وهذا معناه أن هذه العناية غير موجودة في ذهن العرف ارتكازا ، إذن فلا يمكن أن تكون هذه المئونة ملاكا للإطلاق في المقام.

نعم هناك بيان آخر لتقريب الإطلاق أمتن من هذا البيان ، وهذا البيان يتوقف على بيان مقدمة.

وحاصل هذه المقدمة هو أنه من المعروف بين جملة من المتقدمين ، أن كلا من الوجوب والاستحباب مركب من جزءين (١) ، فالوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع أو النهي (٢) عن الترك ، والاستحباب مركب من طلب الفعل مع الترخيص في الترك ، فهناك قدر مشترك بين الوجوب والاستحباب وهو طلب الفعل ويمتاز الوجوب بالمنع أو بالنهي عن الترك ويمتاز الاستحباب بالترخيص في الترك ، وتارة يبنى على الكراهة في النهي ، وأخرى على الإلزام ، وهو النهي الإلزامي ، فإذا ما بني على الكراهة في النهي ، فلا

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ـ الآمدي ج ٢ ص ١٣٧.

(٢) معالم الدين ـ بحث الضد ـ أبو منصور الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ص ٦٥.

٣٨

يكون هناك وجوب بعد فرض كلا الجزءين طلب الفعل والنهي عن الترك ، وهذا كاشف عن أن حقيقة الوجوب ليست بهذين الأمرين الوجوديين ، لإمكان انحفاظ هذين الأمرين الوجوديين ، ومع هذا لا وجوب ، وإنما حقيقة الوجوب هي الطلب مع عدم الترخيص في الترك لا مع النهي عن الترك ، الذي هو أمر وجودي ، بل مع عدم الترخيص بالترك الذي هو أمر عدمي ، فإذا ثبت أن الوجوب والاستحباب بينهما قدر مشترك ، وهو الطلب ، والاستحباب يمتاز بأمر وجودي وهو الترخيص في المخالفة ، والوجوب يمتاز بأمر عدمي وهو عدم الترخيص بالترك ، فحينئذ ، يمكن أن يقال ، بأن مرام المولى دائر بين أن يكون مقيدا بخصوصية وجودية أو بخصوصية عدمية ، فإن نصب المولى قرينة على الخصوصية الوجودية أخذ بها ، وإذا لم ينصب قرينة على ذلك ، فنفس عدم نصب قرينة على الخصوصية الوجودية ، هو بنفسه قرينة على الخصوصية العدمية ، كما هو الحال في باب المطلق والمقيّد ، ففي هذا الباب يمتاز المقيد عن المطلق بخصوصية وجودية وهي التقييد ، ويمتاز المطلق على المقيد بخصوصية عدمية وهي عدم التقييد ، ولهذا حينما يدور الأمر بين الخصوصية الوجودية والخصوصية العدمية ، يرى العرف أن المحتاج إلى البيان إنما هو الخصوصية الوجودية ، فعدم البيان لهذه الخصوصية هو بيان للعدم ، وهذا هو معنى الإطلاق ومقدمات الحكمة ، فإذا دار الأمر بين الخصوصية الوجودية والخصوصية العدمية ، يرى العرف أن الخصوصية العدمية أخف مئونة ، ومقتضى الإطلاق هو إثبات الخصوصية الأخف مئونة ويتعيّن الوجوب.

هذان هما البيانان اللذان يمكن بهما إثبات دلالة الأمر على الوجوب ، من باب الإطلاق ومقدمات الحكمة ، والبيان الأول ، هو ما استقربه المحقق العراقي (١) ، والبيان الثاني هو ما استقربناه ، ولكن هل يمكن الاكتفاء بهذين البيانين لدلالة الأمر على الوجوب بلا الالتزام بالدلالة الوضعية وبالوضع؟.

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي ج ١ ص ١٩٧.

٣٩

وفي مقام إمكان الاكتفاء بما ذكر من بيان للإطلاق بلا حاجة إلى الدلالة الوضعية يوجد إشكالان :

الإشكال الأول

وهو أن الإطلاق وإن فرض تماميته وعرفيته ولو بالبيان الذي قرّبناه ، فهو لا يجري في سائر الموارد ، بل في بعضها ، بينما نحتاج إلى وجه للدلالة على الوجوب في سائر الموارد ، فإن البناء فقهيا وعرفيا على أنه متى صدر أمر من المولى يبنى على الوجوب ، بينما هذا الإطلاق يحتاج إلى عناية زائدة ، وهذه العناية أحيانا تكون موجودة ، وأحيانا معدومة ، فلا ينفع مثل هذا الإطلاق في المقام.

وتوضيح ذلك يتوقف على بيان كبرى الإطلاق ـ مقدمات الحكمة ـ وبيان صغريات هذه الكبرى ، وبيان ذلك تفصيلا يرجع إلى بحث المطلق والمقيّد ، ولكن نشير بنحو الإجمال إلى الكبرى وصغرياتها حتى يتضح أن الإطلاق المدعى في المقام سواء كان بتقريب المحقق العراقي أو بتقريبنا على أي حال لا يفيد في المقام في جميع الموارد.

أمّا كبرى الإطلاق التي هي أساس مقدمات الحكمة هي أصل عقلائي وظهور حالي ، وهي أصالة كون مرام المولى لا يزيد على كلامه ، فإن الأصل في كل متكلم أنه في مقام بيان تمام مرامه بكلامه ، بحيث أن مرامه لا يزيد على مقدار مدلول كلامه ، إذ لو زاد على مدلول كلامه ، إذن لما كان في مقام بيان الزيادة ، ولما كان في مقام البيان ، مع أنه في مقام البيان ، وحينئذ بناء على هذا الأصل إذا دار أمر مرام المولى بين احتمالين ، بحيث ، على أحد الاحتمالين كان مرامه لا يزيد على مدلول كلامه ، وعلى الاحتمال الآخر كان مرامه يزيد على مدلول كلامه ، فيتعيّن الاحتمال الأول وهو أن مرامه لا يزيد على مدلول كلامه وهذا هو المسمّى بالإطلاق.

وأمّا الصغرى ، فمثالها هو الإطلاق ومقدمات الحكمة بناء على مبنانا في

٤٠