بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

وحينئذ نسأل ، أنه في مرتبة اقتضاء الوجوب الضمني الثاني ، هل أن الوجوب الضمني الأول موجود أو غير موجود؟.

فإن قيل بأنه غير موجود ، إذن فهذا التزام بالطولية بين نفس الوجوبات الضمنية ، وهو خلف وحدتها وجودا ، فإن الوجوبات الضمنية موجودة بوجود واحد.

وإن قيل ، بأن الوجوب الضمني الأول موجود في مرتبة اقتضاء الوجوب الضمني الثاني ، إذن يستحيل أن لا يكون له اقتضاء لأن الوجوب ، فرضه مساوق مع فرض محركيته واقتضائه ، فكيف لا يكون له اقتضاء في هذه المرتبة ، إذن فتمام الأنحاء الثلاثة المتصورة لداعوية ومحركيّة الأمر المتعلق بالمجموع المركب مستحيلة ، ولعلّ هذا هو حاقّ مقصود المحقق الأصفهاني من العبارة المجملة ، التي برهن بها على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر ، ببيان أنه يلزم منه داعوية الشيء لداعوية نفسه أو محركيّة الشيء لمحركيّة نفسه (١) ، وإذا امتنعت هذه الأنحاء الثلاثة ، امتنع جعل الأمر للمجموع المركب من الصلاة وقصد امتثال الأمر.

المرحلة الثانية

هي أنه بعد أن تبرهن على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق شخص ذلك الأمر ، يقع الكلام في المرحلة الثانية ، وهي أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، دون أن يراد بهذه القربة قصد امتثال شخص ذلك الأمر ، بل يؤخذ قصد القربة بشكل أوسع وتعمل فيه بعض العنايات لنرى هل أن هذه الاستحالة المبرهنة تسري ببعض ملاكاتها أو بكل ملاكاتها إلى الأنحاء المتصورة لأخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، أو أن بعض هذه الأنحاء سيكون معقولا ولا يلزم فيه محذور الاستحالة؟. والأنحاء المتصورة لأخذ قصد القربة في متعلق الأمر هي.

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني ج ١ ص ١٩٥.

٢٢١

النحو الأول ، هو أن نعمل أخفّ عناية ممكنة في المقام ، وذلك بأن نقول ، بأن المأخوذ في متعلق الأمر ليس هو أخذ قصد امتثال شخص ذلك الأمر وإنما المأخوذ هو قصد امتثال طبيعي الأمر من دون نظر إلى شخص ذلك لأمر وفرق هذا عمّا تقدّم البرهان على استحالته هو ، أنه فيما تقدّم كمّا نفرض أن الأمر تعلّق بالصلاة مع قصد امتثال شخص ذلك الأمر ، بحيث يكون للمولى نظر إلى شخص ذلك الأمر.

أمّا هنا فنفرض أن الأمر تعلق بالصلاة مع قصد امتثال أمر المولى بنحو كلي ، قابل للانطباق على شخص ذلك الأمر ، حيث يكون شخص ذلك الأمر مصداقا وفردا من جامع الأمر الملحوظ في مقام جعل الأمر من قبل المولى.

فهل هذا معقول وهل بهذه العناية ترتفع ملاكات الاستحالة المتقدمة أو لا ترتفع؟.

والصحيح أنه بهذه العناية ، يرتفع حينئذ الوجه الثاني من وجوه الاستحالة الأربعة المتقدمة ، دون ارتفاع الوجوه الثلاثة الأخرى من وجوه الاستحالة الأربعة ، وعليه ، فلنا في المقام دعويان.

الدعوى الأولى

هي أنه لو أخذ جامع الأمر ، بدلا عن شخص الأمر ، فإنه يرتفع الوجه الثاني الذي كنّا نصلح به كلام المحقق الخراساني ، وقلنا أنه من تحقيقات المحقق العراقي وقد كان حاص الوجه الثاني هذا ، هو أنّ الآمر في مقام جعل الأمر على شيء ، يرى أن متعلّق الأمر بمثابة المعروض للأمر ، ولأجل ذلك ، يراه المولى بنظره التصوري التشريعي مفروغا عنه ومتحصلا تام التحصّل بقطع النظر عن الأمر ، فلو فرض أنّ قصد امتثال الأمر كان مأخوذا فيه ، لزم كونه غير متحصّل وغير متقوم بذاته بقطع النظر عن الأمر ، وهذا خلف لحاظ المولى ، فيحصل بذلك التهافت في لحاظ المولى ، إذ كان يراه تام التحصّل بقطع النظر عن الأمر ، بينما هو مأخوذ فيه ، ومعنى ذلك أنه غير تام التحصّل إلّا بالأمر.

٢٢٢

وهذا الوجه المنسوب إلى المحقق (١) العراقي ، لا يرد هنا فيما إذا كان المأخوذ في متعلق الأمر قصد امتثال طبيعة أمر المولى ، دون نظر إلى شخص ذلك الأمر.

وقد قرّب سريان الاستحالة بهذا الوجه الثاني إلى محل الكلام ، بتقريب ابتدائي ، نذكر حاصله ، ثمّ ندفعه ونبيّن أنه لا يرد على محل الكلام.

أمّا التقريب الابتدائي لسريان الاستحالة بذلك الوجه ، إلى محل الكلام هو أن يقال.

أنه بعد أن فرضنا ، أن متعلق الأمر ، يكون مأخوذا وملحوظا بما هو أمر سابق رتبة على الأمر ومتقدّم على الأمر في التحصّل والتقوّم ، إذن فيكون هذا المتعلّق لا محالة مقيدا ومحصّصا بخصوص الحصة التي تكون تامة التحصّل في مرتبة سابقة على الأمر ، وبذلك يستحيل أن يبقى لهذه الحصة إطلاق للحصة التي لا تتحصّل إلّا بالأمر.

وبتعبير آخر هو أنه يوجد في المقام حصتان.

أ ـ حصة أولى ، وهي الصلاة المأتي بها بقصد امتثال شخص هذا الأمر.

ب ـ وحصة ثانية ، وهي الصلاة المأتي بها بقصد امتثال أمر آخر منه أو أمر المولى.

والحصة الأولى ، هي الحصة التي تكون متقومة ومتحصلة بالأمر ، وفي طول هذا الأمر ، ولا يمكن وقوعها في مرتبة سابقة على هذا الأمر.

والحصة الثانية ، التي يؤتى بها بداعي امتثال أمر آخر من أوامر المولى ، غير شخص هذا الأمر هي التي تكون تامة التحصّل والتعقّل ، وهي التي يأتي العبد بها بقصد امتثال أمر آخر.

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٢٩.

٢٢٣

وقد بيّنا سابقا ، أنه لا يعقل أخذ الحصة الأولى المتقومة بالأمر في موضوع الأمر ، ذلك لأن هذا خلف ما يراه المولى من تقدّم المعروض على عرضه في أفق حكمه ، لكن مع هذا ، فإن المحقق العراقي يقول بسريان هذا الوجه إلى محل الكلام ، إذا كان المأخوذ هو الجامع بين الحصتين ، على نحو يكون لهذا الجامع إطلاق يشمل الحصة الأولى التي لا تتحصل إلّا بالأمر وفي طوله ، وذلك لأنه بعد فرض أنّ ما يؤخذ معروضا لأمر المولى لا بد وأن يكون تام التحصل والتعقّل وغير متقوّم بشخص ذلك ، إذن فلا محالة من تحصّص المتعلق بخصوص الحصة الثانية ، ولا يعقل انطباقه على الحصة الأولى ، لأنها ليست تامة التحصّل والتعقل إلّا بشخص الأمر ، وحينئذ يحصل ضيق قهري في معروض هذا الأمر بنحو لا يعقل انطباقه على الحصة التي لا تتحصّل ولا تتعقل إلّا بالأمر ، إذن فيستحيل أخذ الجامع الشامل بالإطلاق لقصد امتثال شخص ذلك الأمر ، وبهذا يتم تعميم سريان الاستحالة.

ولكن هذا التقريب غير صحيح ، وذلك لأنه خلط بين الرؤية التصورية والتقيّد التشريعي المولوي.

وتوضيح ذلك. هو أن كون المعروض سابقا على الأمر ومتحصّلا بقطع النظر عنه ، تارة ، يفرض أنه يؤخذ قيدا تشريعا في متعلق الأمر على حدّ أخذ قيد الطهارة والاستقبال في متعلق الأمر ومعروضه ، كما عند ما يأمر المولى بالصلاة ، فإنه يقيّد مولويا وتشريعيا الصلاة بعدة قيود ، أحدها الطهارة ، والآخر الاستقبال ، والثالث التحصّل بقطع النظر عن الاستقبال ، بل يأخذه المولى قيدا مولويا وتشريعيا ، كما يأخذ قيد الاستقبال الطهارة في معروض أمره ، وحينئذ كما أن معروض الأمر لا ينطبق على فاقد الطهارة وعلى فاقد الاستقبال ، فهو كذلك لا ينطبق هذا المعروض على الحصة وعلى الفرد الذي هو في طول الأمر ، لأنه فاقد للشرط الثالث الذي هو التحصّل ، والذي ينبغي أن يكون متعقلا ومتحصلا بقطع النظر عن الأمر.

لكن لا يوجد في المقام برهان ، أو دليل عقلي أو شرعي ، على أن التحصّل بقطع النظر عن الأمر قد أخذ قيدا مولويا تشريعيا في معروض الأمر.

٢٢٤

نعم الشيء الذي يثبت بالبرهان هو ، أن المولى حينما يجعل أمره على معروضه ، يرى معروض أمره برؤية تصورية متحصلا بقطع النظر عن أمره ، وهذا شيء يمكن البرهنة عليه ، وهو رؤية المولى لمعروضه ، برؤية تصورية في مقام جعل أمره على مطلوبه ، لا أنه يأخذه قيدا مولويا وتشريعيا في معروض مطلوبه ، بل هو بحكم أنه يوجد في نفسه عروض الأمر على شيء ، فهو يرى ذاك الشيء أسبق من الأمر وتام التحصّل بقطع النظر عن الأمر ، لا أنه يأخذه قيدا مولويا بما هو مشرّع ، فإذا كان الأمر كذلك ، فلا بدّ أن يكون محط نظره التصوري ، سنخ ماهية غير متقوّمة بالأمر ، لأجل أن يتاح للمولى أن يراها قبل الأمر ، وهذا المطلب يكفي فيه أن تكون هذه الماهية ، هي الجامع بين الحصتين ، لأنه إذا أخذ الجامع بين الحصة الطولية والحصة القبلية في معروض الأمر ، يصبح من الواضح كون هذا الجامع تام التحصّل بقطع النظر عن الأمر ، بل بما هو ماهية في أفق العروض ، يكون تام التحصّل بقطع النظر عن الأمر ، لأن انتزاع هذا الجامع بين الحصتين إنما يكون بإلغاء الخصوصية التي بها كان الطولي طوليا وبإلغاء هذه الخصوصيّة. لا يبقى لهذه الماهية المنتزعة تقوّم بالأمر ، بل تكون تامة التحصّل بقطع النظر عن الأمر ، لأن الجامع بين المتقوّم وغير المتقوّم غير متقوّم لا محالة ، وإذا كان غير متقوّم ، إذن يمكن للمولى أن يراه رؤية تصوّرية بما هو مفروغ عنه قبل الأمر ، من دون أن يأخذ هذه المفروغية قيدا في معروض أمره ، لأنه يستحيل حينئذ انطباقه على الفرد الطولي.

وهذه قاعدة عامة ، إذ في كل مورد ينشأ فيه محذور ضيق النظر التصوري للمولى ، حيث لا يعقل أن يكون نظره منصبا على الحصة الطولية ، في ذاك المورد ، يعقل حينئذ أخذ الجامع بين الحصة الطولية وغيرها بنحو يكون لهذا الجامع إطلاق لتلك الحصة ، وهذا الإطلاق لا يكون معناه ، أن تلك الحصة هي أيضا منظورة للمولى ليلزم كونه يرى الطوليّ في المرتبة السابقة ، وذلك لأن الإطلاق ليس جمعا بين القيود وبين الحصص ، بل

٢٢٥

الإطلاق هو إلغاء للخصوصيات وقصر النظر على صرف الوجود ، ويرجع هذا الإطلاق إلى الانطباق القهري لهذه الطبيعة على أفرادها الطولية والعرضية ، من دون أن يلزم من ذلك وقوع ما هو متأخر تحت النظر.

نعم يلزم من ذلك ، أن يكون ما هو متأخر مصداقا لما هو تحت النظر لا وقوعه تحت النظر.

وكونه مصداقا لما هو تحت نظر المولى شيء ، وكونه واقعا تحت نظر المولى شيء آخر ، فحينما يقول المولى ، أكرم الإنسان ، فإن زيدا لم يقع تحت نظر المولى ، لأن المولى لم ير إلّا ماهية الإنسان دون أن يرى زيدا أو عمروا ، ولكنّ زيدا مصداق لما يقع تحت النظر ، لا أنه هو وقع تحت النظر.

إذن لا بأس من أخذ طبيعي قصد امتثال الأمر الجامع بين امتثال شخص ذلك الأمر وبين غيره من الأوامر في معروض الأمر.

نعم هذا الجامع ، صدفة بحسب الخارج ، ينحصر فرده بالفرد الطولي ، إذ لا يوجد عندنا أمر آخر غير هذا الأمر ، لكن انحصار فرده بالحصة الطولية لا يلزم منه المحذور ، لأن ما تحت النظر إنّما هو الطبيعة ، والطبيعة ترى متقدمة.

هذا هو تمام توضيح النكتة في الفرق بين المقامين.

وعليه فالصحيح ، أن البرهان الثاني من البراهين الأربعة لا يجري في المقام ، فلو أننا بقينا مع هذا البرهان فقط ، لقلنا بإمكان أخذ قصد امتثال طبيعي الأمر في متعلق الأمر ، لكن البرهان الأول والثالث والرابع ، يجري في المقام ، وهذه هي دعوانا الثانية.

الدعوى الثانية

هي أنّ الوجوه الثلاثة الأخرى للاستحالة تجري في المقام ، فلا يفرّق في هذه الوجوه بين أن يكون المأخوذ في متعلق الأمر قصد امتثال شخص ذلك الأمر ، أو قصد امتثال جامع الأمر القابل للانطباق على شخص ذلك الأمر.

٢٢٦

أمّا الوجه الأول الذي كان حاصله ، أنه لو أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ، ومن المعلوم أن إتيان الصلاة بقصد الامتثال يتوقف على وصول الأمر ، إذن فلا بدّ من أخذ وصول الأمر في عالم جعل ذلك الأمر ، فيكون من باب أخذ وصول الأمر في موضوع شخص ذلك الأمر وهو مستحيل.

وهذا الوجه بروحه يأتي في المقام أيضا فإنه لو أخذ قصد امتثال طبيعي الأمر في متعلق الأمر ، فهذا يتوقف على وصول طبيعي الأمر الجامع بين شخص هذا الأمر وغير هذا الأمر ، إذن فلا بدّ من أخذ وصول طبيعي الأمر في موضوع شخص هذا الأمر ، فيرجع قول المولى «صلّ» بقصد امتثال طبيعي الأمر إلى قضية شرطية حاصلها أنه إذا وصل إليك أمر ما فصلّ بقصد امتثال الأمر وهذا وإن لم يلزم منه أخذ العلم بشخص الأمر في موضوع شخصه ، بل إنما يلزم منه أخذ العلم بطبيعي الأمر في موضوع شخص الأمر ، ولكنه على أيّ حال يلزم الدور في عالم الفعلية ، لأن المفروض خارجا أنه لا يوجد أمر آخر بالصلاة غير شخص هذا الأمر ، وحينما يتوقف فعلية الأمر بالصلاة على فعلية وصول جامع الأمر ، وينحصر جامع الأمر خارجا بشخص هذا الأمر ، إذن فيرجع بالتالي إلى أنّ فعلية هذا الأمر متوقفة على وصول شخص هذا الأمر ، لأن هذا الأمر أنيط بوصول طبيعي الأمر ، وطبيعيّ الأمر منحصر بحسب الفرض في شخص هذا الأمر ، فبحسب النتيجة تكون فعلية الأمر المجعول في هذه القضية ، متوقفة على وصول شخص هذا الأمر لانحصار الجامع به ، وهذا معناه توقف فعليته على وصوله ، وتوقف وصوله على فعليته ، وهو معنى التهافت والدور.

وعليه فالوجه الأول يبقى واردا في المقام.

نعم ، لو فرض أنه يوجد لطبيعي الأمر مصاديق أخرى غير شخص هذا الأمر ، كما لو وجد أوامر قبلية بالصلاة غير أمر «صلّ» بقصد امتثال الأمر ، حينئذ لا يلزم الدور في عالم الفعلية ، إذ يمكن أن يصل ذاك الأمر ويتحقق به موضوع فعلية هذا الأمر ، لكن بعد فرض انحصار طبيعي الأمر بشخص هذا

٢٢٧

الأمر ، إذن فسوف يتوقف خارجا فعلية هذا الأمر المجعول على وصول الجامع المنحصر في ضمن هذا الفرد ، والنتيجة توقفه على وصول شخصه ، فيلزم التهافت في عالم الفعلية.

وكذلك يسري الوجه الثالث في المقام والذي كان مفاده ، أن الأمر إذا تعلّق بالصلاة بقصد امتثال الأمر ، بحيث كان ينحل إلى أمرين ضمنيين ، أحدهما بذات الصلاة ، والآخر بقصد امتثال الأمر.

كذلك يقال هنا ، أن الأمر الضمني الثاني لا تعقل محركيّته ، وذلك لأن المكلّف إن كان يكفيه الأمر الأول للمحركيّة وهو أمر «صل» ، إذن فسوف يتحرك عنه ، ولا يكون الأمر الثاني محركا ، لا تأسيسا كما هو واضح ، ولا تأكيدا لعدم تعقّل التأكيد في الأمرين الضمنيين ، وإن كان المكلّف لا يكفيه الأمر الضمني الأول حتى يتحرك ، إذن فلن يحركه الأمر الضمني الثاني ، لأن حاله حال الأول.

وهذا البيان بعينه ، يسري إلى محل الكلام ، إذ لا يفرق في هذا الوجه ، بين أن يكون متعلق الأمر الثاني قصد امتثال شخص هذا الأمر ، أو قصد امتثال طبيعي الأمر الشامل له ، فإنه على كل حال ، هذا الأمر الضمني الثاني لا يصلح للمحركية ، لأن العبد إن كان منقادا ، تحرّك عن الأمر الأول وتمّ بذلك المطلب ، وإن لم يكن منقادا فسوف لن يتحرك ، لا عن الأمر الأول ، ولا عن الأمر الثاني.

وكذلك يجري في المقام الوجه الرابع الذي كان ملخّصه هو. أن الأمر إذا كان متعلقا بالمجموع المركّب من الصلاة وقصد امتثال الأمر ، فإن محركيته نحو المجموع ، معناه قدحه للإرادة في نفس العبد نحو المجموع.

ومن الواضح أن انقداح الإرادة في نفس العبد نحو المجموع ، من الصلاة وقصد امتثال الأمر غير معقول وذلك.

أن هذه الإرادة بمجرد تعلقها بالصلاة ، يتحقق الجزء الثاني ، وهو قصد

٢٢٨

الامتثال لأن قصد الامتثال ليس إلّا الإرادة الناشئة من أمر المولى وهذه إرادة ناشئة من أمر المولى ، والمفروض أنه يستحيل أن تكون هذه الإرادة متعلقة بالجزء الثاني ، لأن ذلك يكون من إرادة تحصيل الحاصل.

وهذا الكلام بعينه يأتي في محل الكلام ، فإن الأمر المتعلق بالمجموع المركّب من الصلاة وقصد امتثال طبيعي الأمر ، إذا كان محركا ، فمحركيته تكون بقدح الإرادة نحو هذا المجموع ، وقدح الإرادة نحو هذا المجموع ، غير معقول ، لأن هذه الإرادة بمجرد تعلقها بالجزء الأول ، وهو الصلاة ، يتم الجزء الثاني ، لأن الجزء الثاني هو قصد امتثال طبيعي الأمر ، وهذه الإرادة هي مصداق لقصد امتثال طبيعي الأمر ، إذن فكيف يمكن أن تتعلّق هذه الإرادة في عرض تعلّقها بالجزء الأول بالجزء الثاني؟.

النحو الثاني ، وهو أن نعمل فيه أشدّ العنايات ، لنرى ما ذا يسقط بها من الوجوه الأربعة المتقدمة ، بعد أن أسقطنا الوجه الثاني بأضعف العنايات.

وهذا النحو الثاني من العنايات ، هو أن يؤخذ في متعلق الأمر عنوان ملازم لقصد امتثال الأمر ، لا نفس قصد امتثال الأمر ، كما نقل الميرزا عن أستاذه الشيرازي أنه لو فرض أن أخذ في موضوع الأمر عنوان ملازم مع قصد امتثال الأمر فلا يلزم من ذلك محذور ، وقد اعترض على ذلك باعتراضات ،

الاعتراض الأول ، هو أن هذا ، فرضه فرض أنياب الأغوال ، إذ من أين نأتي بذاك العنوان الملازم لقصد امتثال الأمر الذي متى ما تحقق تحقق ذاك ، ومتى لم يتحقق لا يتحقق ذاك.

الاعتراض الثاني ، هو ما ذكره المحقق (١) الميرزا ، من أنه لو تصورنا هذا القول وفرضنا عنوانا ملازما لقصد امتثال الأمر ، فأيضا يلزم المحذور ، لأن هذا العنوان الملازم ، يمكن للعقل أن يفرض ولو فرضا ، انفكاكه عن

__________________

(١) فرائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٨١.

٢٢٩

ملازمه ، فلو فرض أن المولى أمر بالصلاة مع ذاك العنوان الملازم ، ثمّ تحقق هذا العنوان الملازم ، دون أن يتحقق معه قصد الامتثال ، ولو بفرض المحال ، فإنه ليس محالا ، حينئذ ، ما ذا يكون موقف المولى اتجاه هذا الفرض؟.

فإن هو اكتفى بالصلاة فقط فهذا خلاف الضرورة ، إذ الصلاة لا تقبل إلّا عبادة ، وإن كان لا يكتفي بها ، فهذا معناه ، أنه يأخذ في متعلق الأمر قصد الامتثال لا العنوان الملازم ، وأنما العدول عن عنوان قصد الامتثال إلى ذلك العنوان الملازم تغطية ، وإلّا فالمأخوذ في الحقيقة في متعلق الأمر ، إنما هو نفس قصد الامتثال.

وكلا هذين الاعتراضين ليس بشيء.

أمّا الاعتراض الأول ، وهو أنه من أين نحصّل هذا العنوان الملازم؟.

فمن الواضح أنّ كل ضدين لا ثالث لهما يكون أحد الضدين ملازما لعدم ضده لا محالة ، وهذا أمر واضح ، وحينئذ نأتي إلى محل الكلام ونقول ، بأن داعي امتثال الأمر ضد ـ بالمعنى العرفي دون الفلسفي ـ للمعنى العرفي للداعي النفساني ، وبعبارة أخرى ، فإنّ الداعي الإلهي والداعي النفساني متضادان وليس لهما ثالث ، إذ لا يعقل أن يقع الفعل الاختياري إلّا ، إمّا بداعي إلهي ، وإمّا بداعي نفساني دنيوي ، وهذان أمران متضادان ومتقابلان ولا ثالث لهما ، وحينئذ ، فعدم أحدهما يساوي وجود الآخر من حيث الملازمة ، فعدم كونه بداع نفساني أمر ملازم مع كونه بداع إلهي ، وحينئذ ، فليفرض أن هذا الأمر الملازم المأخوذ في متعلق الأمر هو عبارة عن أمر عدمي ، مرجعه عدم ضد هذا الداعي ، ويكون مأخوذا في متعلق الأمر.

وبهذا يندفع الاعتراض الثاني ، الذي كان يفرض الانفكاك بين قصد الامتثال والعنوان الملازم وذلك.

لأنه إن أريد بفرض الانفكاك ، فرضه من باب فرض المحال ، من قبيل فرض الانفكاك بين العلة والمعلول ، وفرض ارتفاع النقيضين ، واجتماع

٢٣٠

الضدين ، فهذا لا معنى له ، لأنه لا يلزم على الآمر في مقام جعل الأمر أن يجعل أمره وافيا بفرضه إلّا بلحاظ الفروض الممكنة لا بلحاظ الفروض المستحيلة ، وإلّا لكان كل أمر صادر من المولى غير واف بفرضه ، إذ لو جاز اجتماع النقيضين لأمكن للعبد أن يصلّي ولا يصلّي في آن واحد ، وحينئذ ما ذا يصنع المولى في هذا الفرض وهو كما ترى سفسطة.

وإن أريد بالفرض ، الفرض الذي هو ممكن الوقوع ، والذي يحصل غالبا في الملازمات الغالبية ، كالزي المخصوص ، الملازم كون لابسه عالما ، وأحيانا يحصل الانفكاك بينهما ، حينئذ إذا كان هذا هو المقصود من الفرض المحال ، فهذا غير موجود في المقام ، لأن عدم أحد الضدين الذي لا ثالث لهما ، يستحيل انفكاكه عن الضد الآخر بحسب الخارج ، إذن فالاعتراض الثاني ساقط.

إذن ففي الأساس ، لا بدّ أن يبحث عن أنه ، لو أخذ هذا العنوان الملازم في متعلق الأمر ، فهل يلزم من ذلك محذور التهافت في اللحاظ والرؤية ، أو لا يلزم.

ومن الواضح أن الوجه الثاني من الوجوه الأربعة يبقى على سقوطه هنا ، لأن هذا العنوان الملازم ، لا يلزم من إدخاله في معروض الأمر ، أن المولى يرى أمره في مرتبة معروض أمره ، لأن هذا العنوان ملازم مع قصد امتثال الأمر ، ولم يستبطن في أحشائه عنوان الأمر وماهية الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر لا يلزم منه محذور التهافت في اللحاظ وفي الرؤية ، بحيث أن المولى يرى أن أمره قد صعد إلى مرتبة معروض أمره وقوّم معروض أمره ، إذن فهذا المطلب غير لازم في المقام.

ولكن بقية الوجوه الأربعة تبقى واردة في المقام ، فإن الوجه الأول يرد في المقام ، لأن تمكّن المكلّف من الإتيان بالصلاة مع ذاك الأمر الملازم مع قصد الامتثال ، يتوقف على وصول الأمر لا محالة ، كما أنّ نفس قصد الامتثال لا يكون إلّا في حق من وصل إليه الأمر ، كذلك ذاك المطلب الملازم مع قصد

٢٣١

الامتثال ، لا يتأتى إلّا ممّن وصل إليه الأمر ، فيلزم أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر فيأتي الإشكال السابق ، وكذلك الإشكال الثالث ، والإشكال الرابع ، لأن الأمر المتعلق بالصلاة مع ذاك العنوان الملازم مع قصد الامتثال ينحل إلى أمرين ، أمر بذات الصلاة ، وأمر بذاك العنوان الملازم لقصد الامتثال ، وهذا الأمر الثاني ، محركيته نحو هذا الملازم هي روحا ، عبارة أخرى عن كونها مساوقة خارجا مع المحركية نحو قصد الامتثال.

وحينئذ يأتي فيها نفس ما قلناه هناك من استحالة هذه المحركية ، لأن الأمر بالصلاة ، إن كان محركا ، إذن فهو يكفي لإيجاد هذا الأمر الملازم ، وإن لم يكن محركا ، لم يكن هذا محركا.

وكذلك التقريب الرابع أيضا ، يقال فيه ، إن الإرادة التي يقدحها هذا الأمر الوحداني المتعلق بالمجموع المركّب يستحيل أن تتعلق بالمجموع المركب ، لأنها بمجرد تعلقها بالصلاة يتحقق ذاك العنوان الملازم تكوينا.

إذن فنفس تلك الوجوه تأتي في المقام ، وبهذا يتضح عدم فائدة هذه العناية الثانية ، ومن هنا ننتقل إلى العناية الثالثة.

النحو الثالث من العناية ، ونتكلم فيه عن إمكان أخذ قصود قربية أخرى في متعلق الأمر ، على أساس أن قصد القربة غير منحصر بقصد امتثال الأمر ، ونذكر من هذه القصود الأخرى أربعة قصود هي :

أ ـ قصد المحبوبية.

ب ـ قصد المصلحة.

ج ـ قصد كونه حسنا ذاتا.

د ـ قصد كونه سبحانه أهلا للعبادة.

وهذه القصود ، ينبغي أن نسقط منها اثنين ، وهما القصد الثالث والرابع ، ذلك لوضوح أن الإتيان بفعل ، بداعي أن المولى أهل للعبادة ، فرع أن يكون

٢٣٢

هذا بنفسه عبادة ، إذ لا يمكن أن تكون عباديته بنفس هذا الداعي ، إذن فلا بدّ من داع آخر قبل فرض كونه أهلا للعبادة ، إذ بقطع النظر عن هذا الداعي ، لو لم يكن هذا عبادة ، فلا معنى لأن يؤتى به لأن المولى أهل للعبادة ، وكذلك كونه حسنا ذاتا ، فإن الإتيان بفعل بداعي حسنه الذاتي ، فرع أن يكون مصداقا معنونا بعنوان حسن ذاتا وهو عنوان التعبّد للمولى أو الطاعة له إذن فلا بدّ قبل ذلك من فرض عنوان التعبد إذ العبادية لا يمكن أن تكون ناشئة من هذين الداعيين ، فينحصر الأمر في الداعيين الآخرين ، وهما داعي المحبوبية وداعي المصلحة ، وإذا كان يوجد للحكم الشرعي ثلاثة عوالم هي ، عالم الخطاب والجعل ، وعالم الإرادة والمحبوبية ، وعالم الملاك والمصلحة ، ولكل عالم من هذه العوالم الثلاثة قابليته للمحركية ، فيقع الكلام إذن في أخذ محركية العالم الثاني ومحركية العالم الثالث في متعلق الأمر.

وبعد أن أنهينا الكلام عن العالم الأول ، واستعرضنا كل ما قيل في محركيته ، نتوجه : الآن إلى محركية العالم الثاني ، عالم المحبوبية المولوية والإرادة ، والعالم الثالث ، عالم المصلحة والملاك ، لنرى هل أنه يمكن أخذ هذين القصدين في المتعلّق أو لا يمكن؟.

ومن الواضح أنه لا إشكال بحسب مقام الإثبات ، في أنه ، لا يحتمل أن يكون قصد الإرادة ، وكون قصد المصلحة والملاك ، مأخوذا بخصوصه قيدا في متعلق الأمر. لأنه لو كان مأخوذ بخصوصه قيدا في متعلق الأمر ، إذن لما صحّ حينئذ الإتيان بالصلاة بقصد امتثال الأمر ، بل لكان الإتيان بها بهذا الداعي غير مجز وغير صحيح في مقام الامتثال ، مع أنه لا إشكال في صحته وإجزائه ، بل للزم بناء على أخذ قصد الإرادة وقصد المصلحة في المتعلق ، لزم امتناع الإتيان بالصلاة بقصد امتثال الأمر ، لا مجرد عدم صحة ذلك ، لأن الصلاة ، إذا كانت متعلقا للأمر بقيد الإتيان بها بقصد الإرادة ، أو قصد المصلحة ، حينئذ لا تكون ذات الصلاة واجبا نفسيا استقلاليا ليؤتى بها بقصد امتثال الأمر ، وإنما تكون واجبا ضمنيا ، والواجب الضمني إنما يعقل الإتيان به بقصد امتثال الأمر

٢٣٣

في حال ، يكون الجزء الثاني من الواجب منضما إليه ولو بنفس ذلك القصد.

وفي المقام ، إذا ضممنا قصد امتثال الأمر إلى الصلاة ، لا يكمل الواجب ، لأن الجزء الثاني من الواجب بحسب الفرض هو قصد المصلحة أو قصد الإرادة ، إذن فيكون حال الإتيان بالصلاة بقصد امتثال الأمر مثل حال الإتيان بالركعة الأولى فقط بقصد امتثال الأمر ، وهذا معنى الإتيان بالواجب الضمني بقصد امتثال الأمر بحال عدم انضمام الجزء الآخر إليه ، وهذا أمر غير معقول في نفسه.

وبهذا يتضح عدم أخذ قصد الإرادة أو قصد المصلحة بخصوصه في متعلق الأمر إثباتا. وإلا للزم محذور عدم الإجتزاء بالصلاة المأتي بها بقصد امتثال الأمر ، بل لزم عدم تعقّل ذلك.

ولكن مع أنّ هذا الأمر غير محتمل إثباتا ، نريد أن نبحث ، في أنه هل يمكن ثبوتا أخذ قصد الإرادة أو قصد المصلحة في متعلّق الأمر استطراقا فيما بعد لمعرفة أنه هل يمكن أخذ الجامع بين الكل أو لا يمكن ، ومن هنا يقع الكلام في جهتين.

الجهة الأولى

هي في أنه هل يمكن أخذ خصوص هذين القصدين ، وهما قصد الإرادة أو قصد المصلحة في المتعلق أو لا يمكن ، هذا مع الجزم بأنه حتى لو كان ممكنا ثبوتا ، فإنه غير واقع إثباتا ، ولكن هذه المحاولة استطراقا إلى الجهة الثانية.

الجهة الثانية

وهي التي نبحث عن إمكان أخذ الجامع بين القصود كلّها بما فيها أخذ قصد امتثال الأمر.

أمّا الكلام في الجهة الأولى ، وهي في إمكان أخذ الإرادة والمحبوبية في

٢٣٤

متعلق الأمر والتحرك عنهما ثبوتا ، فهل يلزم منه محذور بلحاظ عالم الأمر تارة ، أو بلحاظ عالم الإرادة أخرى؟.

أمّا بلحاظ عالم الأمر ، فالأمر الشرعي المتعلق بحسب هذا الفرض بالصلاة المأتي بها بقصد الإرادة والمحبوبية ، فالصحيح أنه لا يلزم شيء من الوجوه الأربعة التي كانت براهين للاستحالة إثباتا.

أمّا الوجه الأول ، وهو لزوم الدور ، بسبب كون أخذ قصد امتثال الأمر ، فرع وصول الأمر ، فيكون أخذ وصول الأمر شرطا في الأمر المجعول ، فيلزم من ذلك ، توقف الأمر على وصوله ، توقف فعلية الأمر على فعلية وصوله.

هذا المحذور لا يأتي في المقام ، لأن الأمر هنا ، تعلق بالصلاة مع قصد الإرادة لا مع قصد الأمر ، والإتيان بالصلاة بقصد الإرادة يتوقف على وصول الإرادة لا على وصول الأمر ، إذن فغاية ما يلزم من ذلك ، أخذ وصول الإرادة في موضوع الأمر ، لا أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر ، وما هو مستحيل ، إنما هو أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر ، دون أخذ وصول الإرادة في موضوع الأمر ، فإنه لا استحالة فيه ، إذن فالوجه الأول لا يرد على محل الكلام.

وأمّا الوجه الثاني ، وهو كون المولى في عالم اللحاظ ، يرى أن معروض أمره سابق تحصّلا وتعقّلا على نفس أمره ، فكيف يرى بعد ذلك أن معروض أمره متقوم بالأمر ، هذا أيضا لا يجري في المقام ، وذلك لأن معروض أمره في المقام لم يؤخذ فيه قصد امتثال الأمر ليكون متقوما بالأمر ، بل أخذ فيه قصد الإرادة ، إذن فلا يلزم محذور كون معروض الأمر متقوما بالأمر.

وأما الوجه الثالث ، فإنه لا يجري في المقام ، لأن الأمر هنا المتعلق بالمجموع المركّب ينحل إلى أمرين ضمنيين ، أحدهما ، الأمر بذات الصلاة ، والآخر الأمر بداعي الإرادة ، وهذا الأمر الثاني صالح للمحركية في المقام ، ولا يغني عن محركيته محركية الأمر الأول ، ذلك لأن محركية الأمر الأول ، معناها ، محركية الأمر لا محركية الإرادة ، بينما الأمر الثاني ، يريد من العبد أن

٢٣٥

يتحرك عن الإرادة ، بمعنى أن يكون العبد أشدّ تحركا ، بحيث لا ينتظر وجود أمر آخر غير الإرادة ، لكي يتحرك ، بل يتحرك وإن لم يكن هناك أمر ، إذن فمحركية الأمر الأول لا تحقق مقصود الأمر الثاني لكي يكون الأمر الثاني لغوا في المقام.

وأما الوجه الرابع ، فهو أيضا لا يجري في المقام ، إذ من الواضح أنه بالإمكان أن يكون هذا الأمر بالمجموع ، محدثا لإرادة متعلقة بالمجموع.

ولا يقال هنا ، أنّ هذه الإرادة بمجرد تعلقها بالصلاة يحصل الجزء الثاني ، فلا يعقل حينئذ انبساطها على الجزء الثاني ، وذلك لأنّ هذه الإرادة بمجرد تعلقها بالصلاة لا يحصل الجزء الثاني ، لأن الجزء الثاني هو عبارة عن القصد الناشئ من عالم الإرادة ، وهذه الإرادة نشأت من عالم الأمر ، فمجرد تعلّقها بالصلاة لا يحقق الجزء الثاني تكوينا ، لأنه يستحيل تعلّقها به.

إذن فتمام هذه الوجوه الأربعة ، لا تأتي بحسب عالم الأمر.

وأمّا في عالم الإرادة ، فأيضا لا يلزم أيّ محذور من هذه المحاذير الأربعة.

أمّا المحذور الأول والثالث والرابع فكلها لا موضوع لها بالنسبة إلى عالم الإرادة وذلك.

لأن المحذور الأول والثالث والرابع ، كلها مبنية على أن الأمر لا بدّ وأن يكون محركا وباعثا نحو أمر مقدور ، وهذا إنما هو شأن عالم الأمر لا شأن عالم الإرادة والحب ، إذ في عالم حب المولى ، لا يلزم أن يكون هذا الحب باعثا ومحركا بحيث لو لم يكن باعثا لما كان هناك حب ، فإن الباعثية والمحركيّة من مقدمات عالم الأمر لا مقدمات عالم الإرادة ، وعليه فأيّ محذور في أن تتعلّق الإرادة بكلا الجزءين ، تتعلق بالصلاة ، وتتعلّق بقصد التحرك عن الإرادة.

فلو فرضنا أنه يلزم من ذلك إرادة أمر غير مقدور ، أو يلزم من ذلك عدم

٢٣٦

محركية الإرادة ، فإن هذا ليس عيبا في الإرادة ، وإنما هو عيب في الأمر ، فالوجه الأول والثالث والرابع كلها مبنية على ملاحظة عالم الأمر ، وأمّا بملاحظة عالم الإرادة والحب فلا محذور من فرض تعلق الإرادة بغير المقدور ، أو فرض عدم محركية الإرادة.

وأمّا الوجه الثاني ، فقد كان بحسب تقريبه المتقدم لا يفرّق فيه بين عالم الأمر وعالم الإرادة ولهذا يتخيّل وروده هنا ، إذ كما أن الأمر في عالمه له معروض ، والآمر يرى أن معروض أمره متحصل قبل أمره فلا يمكن أن يتقوّم بشخص أمره ، هنا أيضا ، فإن المريد بنظره الإرادي يرى أن لإرادته معروضا ، وأن هذا لمعروض متحصّل قبل إرادته قلا يمكن أن يتقوّم بشخص تلك الإرادة.

ولكن بالإمكان التخلّص من ذلك بالعناية الأولى من العنايات المتقدمة ، وذلك بأن يؤخذ طبيعي الإرادة ، لا شخص هذه الإرادة ، وحينئذ لا يلزم المحذور ، لأن تلك العناية ، كما تقدمت تفي بدفع محذور الوجه الثاني ، وبهذا لم يبق إشكال لا بلحاظ عالم الأمر ولا بلحاظ عالم الإرادة.

وأمّا في أخذ قصد المصلحة في المتعلق ، فالكلام فيه ، هو الكلام الآنف ، ونفس ما قلنا ، في دفع المحاذير الأربعة ، نقوله هنا لو أخذ قصد المصلحة بلحاظ عالم الأمر.

وأمّا لو أخذ قصد المصلحة في المتعلّق بلحاظ عالم نفس المصلحة ، على أساس أن المصلحة لها عالم أيضا ، فأيضا هذه المحاذير الأربعة لا يلزم شيء منها ، إذ كلها لا موضوع لها بالنسبة إلى عالم نفس المصلحة.

أمّا الوجه الأول والثالث والرابع ، فلأنها كما تقدم ، مختصة بعالم الأمر ، وأمّا المصلحة فليس عيب فيها أن تكون متعلقة بغير المقدور ، أو تكون غير قابلة للمحركية والباعثية.

وأمّا الوجه والمحذور الثاني ، فأيضا لا يرد على محل الكلام وإن كان

٢٣٧

يتخيّل وروده ، حيث يقال ، بأن هذا المحذور الثاني إنما يتصوّر بالنسبة إلى محمول له عروض بحسب عالم نفس المولى ، حينئذ يقال ، بأنه يلزم التهافت في لحاظ المولى ، لأن هذا المولى يرى معروضه متحصّلا قبل العارض وليس متقوما بالعارض.

لكنّ هذا لو كان ، فإنما يكون في الأمر مع معروضه أو في الإرادة مع معروضها. وأما المصلحة ، فهي بحسب الحقيقة أمر واقعي تكويني ليس عروضها عروضا لحاظيا في لحاظ المولى ليلزم التهافت في عالم العروض ، وبهذا يندفع المحذور الثاني.

وأمّا ما ذكر في تقريرات (١) المحقق النائيني من استحالة ذلك في عالم المصلحة ، بدعوى أن المصلحة إذا كانت قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة ، يلزم الدور في مقام الإتيان ، لأن الإتيان بالفعل بداعي المصلحة ، فرع قيام المصلحة بالفعل وقيام المصلحة بالفعل فرع أن يؤتى به بداعي المصلحة فيلزم الدور.

ويجاب عن هذا البيان ، بأن الإتيان بالفعل بداعي المصلحة لا يتوقف على قيام المصلحة بذات الفعل ، بل يتوقف على دخل الفعل في إيجاد تلك المصلحة ، وهذا الدخل للفعل موجود على كل حال ، سواء انضم إليه داعي المصلحة ، أو لم ينضم إليه داعي المصلحة.

وبذلك تلخّص ، أن أخذ قصد المصلحة بالخصوص في متعلق الأمر ، لا يلزم منه محذور الاستحالة ، لا بلحاظ عالم الأمر ، ولا بلحاظ عوالم قبل الأمر.

نعم هذا غير محتمل إثباتا كما تقدّم ، وإنما نذكره استطراقا إلى بحث

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٨١.

٢٣٨

الجهة الثانية ، وهي في أخذ الجامع بين القصدين ، قصد الإرادة ، وقصد المصلحة ثبوتا.

وقبل الدخول في بحث الجهة الثانية ، نسجل شكا صغرويا في المقام ، وهو أن قصد المصلحة لا بدّ وأن يكون قصدا قربيا إذ لعلّ قصد المصلحة أصلا لا يكون قصدا قربيا ، وذلك لأن المصلحة.

تارة تفرض أنها مصلحة للمولى كما هو الحال في الموالي العرفية ، فإن العبد قد يأتي ببعض الأشياء وإن كان مولاه غنيّ عنها ولا يهتم بمصالح نفسه ولا يحبّها ، فمثل هذه عبودية وتقرّب نحو المولى.

وأخرى يفرض أن المصالح ، مصالح العبد ، لا مصالح المولى ، كما هو الحال في ملاكات أحكام مولانا سبحانه وتعالى ، فإن ملاكات أحكامه هي عبارة عن مصالح العباد ، لا مصالح ذاته المقدسة ، وحينئذ لو أن إنسانا أتى بالفعل باعتبار المصلحة ، فصار يدفن الموتى باعتبار مصلحة دفن الموتى ، وهي التخلص من إضرار الجثث.

وحينئذ هذا الإنسان الدّافن ، تارة لا ينسب هذه المصلحة إلى المولى بأي شكل من الأشكال ، إذن كيف يكون هذا تقربا إلى المولى حتى يصدق عليه أنه عبادة ، وتارة أخرى يكون المحرّك لهذا الإنسان ، هذه المصلحة ، باعتبار كونها موردا لاهتمام المولى ، إذن يرجع إلى التحرك عن الإرادة ولم يبق تحركا صرفا عن المصلحة.

وبعد تسجيل هذا الشك الصغروي ، نرجع إلى ما كنا فيه ، من بحث الجهة الثبوتية ، حتى نرى ، هل أن محذور أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر يسري أيضا فيما لو أخذنا الجامع بين قصد امتثال الأمر ، وقصد المصلحة ، وقصد المحبوبية ، أو لا يسري؟.

وحينئذ يقال ، بأنه إذا كان محذور الاستحالة هو الوجه الأول من الوجوه الأربعة ، حيث كان يلزم من أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ، أخذ

٢٣٩

وصول الأمر في موضوع الأمر ، ذلك لأن الإتيان بالصلاة بقصد امتثال الأمر يتوقف على وصول الأمر بمرتبة من مراتب الوصول ، فحينئذ لا بد للمولى من أن يأخذ وصول الأمر شرطا وقيدا في موضوع الأمر وهو محال.

إن كان هذا هو مدرك الاستحالة ، فهذا المدرك لا يجري فيما إذا أخذ الجامع بين قصد امتثال الأمر وقصد المصلحة وقصد المحبوبية ، وذلك ، لأن الإتيان بالصلاة مع جامع هذه القصود لا يتوقف على وصول الأمر ، بل يكفي قيد وصول المصلحة أو وصول المحبوبية ، وإن لم يصل الأمر ، إذ أن المولى غير ملزم بأخذ وصول الأمر قيدا في موضوع الأمر فيما إذا علّق أمره بالصلاة على الجامع ، بل المولى هنا يأخذ في موضوع أمره ، وصول ما يحصل به التقرّب ، ولو كان هو المصلحة ، وعليه فلا يلزم من ذلك دور في عالم الفعلية ، لأن فعلية الأمر تتوقف على وصول إحدى الجهات المولوية ولو كان هو المصلحة إن لم يكن هو الأمر ، إذن فلا دور في عالم الفعلية.

وإنما يلزم الدور في عالم الفعلية فيما إذ أخذ قصد امتثال الأمر بالخصوص ، فيتوقف على وصول الأمر بالخصوص ، وبذلك يلزم أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر.

وأمّا جامع القصد ، فهذا لا يتوقف على وصول الأمر بالخصوص بل يكفي فيه وصول المصلحة ، فيأمر المولى بالصلاة مع الجامع إذا وصلت المصلحة ، وهذا أمر معقول يتوقف فيه فعلية الأمر على فعلية وصول المصلحة ، ولا دور في ذلك.

وكذلك لا يجري الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدمة للاستحالة ، فيما إذا أخذ الجامع قيدا في المتعلق ، لأن الوجه الثاني كان يلزم منه التهافت في عالم لحاظ المولى ، لأن المولى كان يرى معروض أمره سابقا تحصّلا وتعقّلا على نفس الأمر ، وصار الآن يراه متقوّما بنفس الأمر ولا حقا له.

وهذا الوجه لا يجري في مقام أخذ الجامع ، لوضوح أنه مع أخذ الجامع

٢٤٠