بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

وهي من تبعات نفس الحكم ومن نتائج نفس الحكم ، وأمّا متعلقات المتعلقات التي هي نفس الموضوعات ، فهي دائما تكون قيودا وشروطا للحكم.

وحيث أن الحكم مجعول على نهج القضية الحقيقية ، وحيث أن الموضوع في القضية الحقيقية دائما يكون مفروض الوجود ، إذن فهذه القيود تكون مفروضة الوجود في مقام جعل الحكم ، وينتج عن ذلك تقدمان رتبيّان.

أ ـ أحدهما تقدم وجودها الخارجي على فعليّة المجعول.

ب ـ والأخر ، تقدّمها بحسب النظر التصوري للمولى على الجعل والإنشاء ، وهذه المقدمة تكون بمثابة الكبرى.

المقدمة الثانية

وهي بمثابة الصغرى لهذه الكبرى وحاصلها.

هو أنه لو أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر ، إذن يصبح عندنا متعلقان ، متعلق ، ومتعلق المتعلق ، أمّا المتعلق ، فهو نفس قصد الامتثال ، وهذا المتعلق نسبته إلى الأمر نسبة الركوع والسجود إلى الأمر ، وليس هذا مأخوذا شرطا أو قيدا في الأمر ، وأما متعلّق المتعلق ، وهو نفس الأمر ، لأنه قصد امتثال ما ذا أخذ في متعلق الأمر؟. طبعا ، الذي أخذ في متعلق الأمر ، هو قصد امتثال الأمر ، إذن فنسبة الأمر إلى قصد امتثال الأمر ، نسبة القبلة إلى الصلاة ، فكما أن الصلاة إلى القبلة ، تكون القبلة متعلقا للمتعلق ، كذلك تكون في أخذ قصد امتثال الأمر ، فيكون الأمر متعلقا للمتعلق ، أي أنه متعلق ثانوي للأمر.

فإذا كان الأمر كذلك ، طبّقنا عليه حينئذ الكبرى المنقّحة في المقدمة الأولى ، وهي أن المتعلقات الثانوية ، يلزم أخذها قيودا في الأمر وفي الحكم مفروضة الوجود في مقام الجعل.

وينتج عن ذلك ، أن نفس الأمر يجب أن يؤخذ قيدا في الأمر ومفروض

٢٠١

الوجود فيه. فكما أن الآمر الذي يريد أن يأمر بالصلاة إلى القبلة ، يجب عليه أن يأخذ القبلة مفروضة الوجود ، والوقت مفروض الوجود أيضا ، فيقول إذا كانت هناك قبلة ، وكان هناك زوال فصلّ عند الزوال إلى القبلة ، كذلك يجب أن يقول إذا كان هناك أمر فأقصد امتثال الأمر ، وهذا معناه ، أخذ الأمر قيدا في الأمر وأخذه مفروض الوجود في مقام جعل الأمر.

ويلزم من ذلك التهافت في عالم فعلية المجعول وفي عالم الجعل.

أمّا في عالم فعلية المجعول ، فلأننا قلنا بأن كل مجعول ، فعليته تابعة لفعلية موضوعه ، أي لفعلية تلك القيود والمتعلقات الثانوية التي أخذت مفروضة الوجود ، فوجوب الوفاء بالعقد ، فعليته تابع لفعلية العقد ، فهنا أيضا ، يكون فعلية الأمر بالصلاة تابعا لفعلية متعلقاته الثانوية التي منها نفس الأمر ، فيكون فعلية الشيء متوقفا على فعلية نفسه ، وهذا تهافت بحسب عالم الفعلية.

وأمّا في عالم الجعل والإنشاء ، فلأنّ المولى بالنظر التصوري اللحاظي في عالم الجعل ، فهو يرى أن جعله بعد مفروضاته ، لأنه يأخذ المتعلقات الثانوية مفروضة الوجود ، إذن فهو بالنظر الفرضي اللحاظي يرى أن جعله بعد مفروضاته ، وحينئذ ، فإن كان ما يفرض وجوده نفس الأمر ، فكأنه يرى تهافتا أيضا ، حيث يرى كأنّ أمره بعد أمره ، إذن فلا يمكنه أن يشكّل قضية ويقول ، إذا كان أمري موجودا فأمري موجود.

إذ من الواضح ، أن هذا لا معنى له ، إذ لا معنى لتشكيل قضية يكون جزاؤها نفس عين شرطها.

وخلاصة النكتة في بيان المحقق النائيني (١) ، هو التمييز بين المتعلق الأولي والمتعلق الثانوي ، والالتفات إلى نكتة أنّ ما يكون مأخوذ مفروض الوجود وقيدا في الحكم إنما هو متعلق المتعلق لا المتعلق الأولي ، بينما

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ١٥٨.

٢٠٢

أصبح متعلق المتعلق هنا ، هو الأمر ، فيكون قيدا لنفسه ، فيلزم بهذا المحال.

وقد أجاب السيد الخوئي «قده» (١) عن هذا البيان بما حاصله ، المنع من إطلاق المقدمة الأولى في البرهان وبيان ذلك.

هو أننا قلنا في المقدمة الأولى في هذا البرهان ، أن المتعلقات الثانوية دائما تؤخذ قيدا في الأمر وشرطا مفروض الوجود في مقام جعلها وإنشائها ، ولازم ذلك أخذ الأمر مفروض الوجود في مقام جعل الأمر.

هنا يستشكل السيد الخوئي ويقول ، أنه لا يوجد برهان على أن كل متعلق المتعلق يجب أن يؤخذ مفروض الوجود في مقام جعل ذلك الحكم ، وإنما أخذه مفروض الوجود في مقام جعل الحكم بحيث يرجع إلى قضية شرطية ، مفادها ، أنه إذا كان هناك عقد فيجب الوفاء به ، إذا كان هناك قبلة وزوال فصلّ ، ويكون

ملاك ذلك أمران

أ ـ إمّا ملاك إثباتي.

ب ـ وإمّا ملاك ثبوتي.

فإن وجد أحد الملاكين ، قلنا بأن متعلق المتعلق قد أخذ مفروض الوجود وأمّا إذا لم يوجد أحد هذين الملاكين ، فلا موجب لأخذ متعلق المتعلق مفروض الوجود.

أمّا الملاك الإثباتي ، فهو الاستظهار العرفي ، فإذا استظهر عرفا من الدليل أن المولى لا يريد متعلق المتعلق وأن متعلق المتعلق ليس من مقدمات الواجب ، وإنما هو من مقدمات الوجوب ، حينئذ هذا الاستظهار بنفسه يكون كاشفا عن أخذ هذا القيد قيدا في الوجوب ، أي مفروض الوجود ، فحينما يقول المولى ، أوفوا بالعقود ، يجب الوفاء بالعقود ، لكن العرف هنا لا يفهم من ذلك ، أن العقد مقدمة وجودية ، حيث أن من لم يكن لديه عقد يجب عليه

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٥٨.

٢٠٣

أن ينشئ عقدا حتى يأتي به ، وإنما العرف يفهم من هذا البيان ، أن العقد مقدمة وجوبية لا مقدمة وجودية ، وأن المولى لا يلزم من ليس عنده عقد أن يحدث العقد ، وأنما المولى يريد ممّن أحدث عقدا أن يفي بعقده.

إذن فهذا الاستظهار العرفي بنفسه يكون قرينة على أن العقد قد أخذ مفروض الوجود وقيدا للوجوب لا للواجب ، إذن فيرجع قوله «أوفوا بالعقود» بقرينة هذا الاستظهار العرفي ، إلى قضية شرطية ، وهي أنه إذا وجد لديك عقد فيجب الوفاء به ، هذا هو الملاك الإثباتي.

وأمّا الملاك الثبوتي ، وهو فيما إذا كان متعلق المتعلق أمرا غير اختياري للمكلّف ، حينئذ لا بدّ للمولى من أن يأخذه قيدا في الوجوب ومفروض الوجود في مقام جعل الوجوب ، إذ لو لم يأخذه قيدا في الوجوب ، وجعل الوجوب على الإطلاق ، سواء وجد ذلك القيد الغير اختياري أو لا ، للزم التكليف بغير المقدور ، من قبيل الزوال ، لو قال صلّ عند الزوال ، فالزوال هنا يجب أن يؤخذ قيدا في الوجوب ومفروض الوجود في مقام جعل الحكم ، وذلك لأن الوجوب لو لم يقيّد بالزوال لكان مطلقا وكان معنى هذا صلّ عند الزوال سواء وجد زوال أو لم يوجد زوال ، وهذا معناه ، التكليف بغير المقدور في حال عدم وجود زوال ، وعليه فلا بدّ أن يكون الزوال قيدا في الوجوب لئلّا يلزم فعليّة الوجوب في حال فقدان الزوال ، وبه يلزم التكليف بغير المقدور ، إذن فأخذ القيد مفروض الوجود وقيدا للحكم يتوقف على أحد هذين الملاكين ، إمّا الاستظهار العرفي ، وإمّا لزوم محذور عقلي كالتكليف بغير المقدور إذا لم يأخذه قيدا.

ولكن إذا لم يلزم شيء من هذين المحذورين فحينئذ لا نلتزم بأخذ متعلق المتعلّق قيدا في الحكم ومفروض الوجود في مقام جعل الأمر ، ولهذا في خطاب لا تشرب الخمر ، الخمر هنا متعلق المتعلق ، لكن لا يلزم أخذه مفروض الوجود ، إذ ليس معناه ، أنه إذا وجد خمر فلا تشربه ، وإنما معناه ، حرمة فعلية مطلقة لشرب الخمر سواء وجد خمر أو لم يوجد ، وهذا إنما هو

٢٠٤

من ناحية أنه لا يوجد لا استظهار عرفي يقتضي أخذ الخمر قيدا في الموضوع ، ولا يوجد محذور عقلي في عدم أخذه قيدا في الموضوع ، ولهذا لا يؤخذ قيدا في الموضوع.

فإذا تمّت هذه المناقشة في إطلاق الكبرى ، حينئذ نأتي إلى الصغرى ، أي إلى المقدمة الثانية ، وهي أنه لو أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر فسوف يكون نفس الأمر متعلقا للمتعلق ، أي موضوعا.

هنا السيد الخوئي (١) قدس سرّه يسلّم بهذه الصغرى لو تمّت ، ولكنّه يقول بأن هذا لا يتم ، إذ ليس من الضروري في كل موضوع أن يكون مأخوذا مفروض الوجود في مقام جعل ذلك الحكم ، وإنما يلزم أخذه مفروض الوجود في حالتين.

أ ـ حالة وجود ظهور عرفي في ذلك.

ب ـ حالة وجود محذور عقلي من عدم أخذه كذلك ، كلزوم التكليف بغير المقدور لكن كلا الأمرين غير موجود في المقام.

أمّا الأمر الأول ، فواضح أن المولى حينما يقول «صلّ بقصد امتثال الأمر» فإنه ليس بهذا الخطاب ظهور عرفي في وجود حالة منتظرة من ناحية الأمر بوجه من الوجوه.

وأمّا انتفاء المحذور العقلي ، فلأنّ الأمر ، وهو الموضوع في المقام ، وإن كان غير اختياري للمكلّف وحاله من هذه الناحية حال الوقت والقبلة فإنهما غير اختياريين للمكلّف ، ولكن هناك نكتة تفرّق بين الأمر ، وبين الوقت والقبلة ، وهي أن المولى لو لم يأخذ الوقت قيدا ومفروض الوجود ، للزم إطلاق الوجوب حتى لحال فقد الوقت ، فيكون وجوب صلاة الظهر ثابتا حتى قبل الزوال وحتى بدون زوال ، وهذا تكليف بغير المقدور ، وأمّا إذا لم يأخذ

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ١٥٨ ـ ١٥٩ ـ ١٦٠.

٢٠٥

الأمر قيدا في موضوع الأمر ومفروض الوجود ، فلا يلزم إطلاقه لحالة عدم الأمر ، لأنه بنفس وجوده ينتفي عدم الأمر ، وبتحققه يستحيل حينئذ أن لا يكون هناك أمر. فهذا القيد ، هذا الموضوع ، يوجد بنفس الخطاب وبذلك يختلف عن بقية الموضوعات ، فإنه بخطاب «صلّ عند الزوال» لا يوجد الزوال ، لأن الزوال مربوط بحركة الفلك ، وهكذا فإنه بخطاب «صلّ إلى القبلة» لا يوجد القبلة ، لأن القبلة مربوط بثبات الأرض ، إذن فيجب أن يكون هذا الخطاب بنفسه مقيدا بالوقت والقبلة إذ لو لم يقيّد بالوقت والقبلة ، لكان مطلقا حتى لحال فقدهما ، ومعنى هذا ، التكليف بغير المقدور.

إذن ففي المقام ، هذا الموضوع ، متعلق المتعلق الذي هو نفس الأمر ، وإن كان أمرا غير اختياري ، لكنّه يوجد بنفس الخطاب ، ويحفظ بنفس الإيجاب ، فلا يعقل أن يكون للخطاب إطلاق لحال فقده حتى لو لم يقيّد ، وعليه فلا يلزم في المقام تقييده ولا في عالم الجعل.

هذا تمام مناقشة السيد الخوئي (١) لأستاذه المحقق النائيني قدس‌سره. وإلى هنا نكون قد استعرضنا أربعة وجوه للبرهنة على استحالة أخذ قصد الأمر قيدا في متعلق الأمر بما فيها مناقشة السيد الخوئي لأستاذه.

والتحقيق في المقام ، أنه لا يعقل أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر ، وفاقا لأصحاب هذه الوجوه ، وإن اختلف أسلوب البرهنة على ذلك ، وذلك لعدة وجوه أخرى يمكن أن تعتبر مستقلّة عن تلك الوجوه ، ويمكن أن يعتبر بعضها إصلاحا وتنقيحا لبعض ما أفيد من الوجوه التي استدلّ بها على الاستحالة.

الوجه الأول

من الوجوه المختارة لإثبات استحالة أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ٢ ص ١٥٨ ـ ١٥٩ ـ ١٦٠ ـ ١٦١.

٢٠٦

متعلق الأمر ، كما يمكن اعتباره إصلاحا لما أفاده المحقق النائيني قدس سرّه ، حيث نبيّن في هذا الوجه ملاكا للاستحالة يندفع به ما أورده السيد الخوئي على أستاذه الميرزا قدس‌سره ، حيث أن الميرزا (١) قدس سرّه ، كان يرى بأن المتعلقات الثانوية التي يتوقف عليها المتعلق الأولي ، من قبيل الوقت والقبلة والعقد والزوجية ، هذه المتعلقات الثانوية ، يجب أن تؤخذ قيودا في الحكم وفي الوجوب مفروضة الوجود في عالم جعل الحكم.

ومن هنا كان يطبّق هذه الكبرى على نفس الأمر ، لو أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ، وكان يرتب الميرزا على ذلك ، أن قصد امتثال الأمر حينئذ ، يكون متعلقا أوليا ، والأمر يكون متعلق المتعلق ، إذن يجب أخذه قيدا في الأمر مفروض الوجود في مقام جعل الأمر ، وهذا يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه. وكان السيد الخوئي (٢) يعلق على كلام الميرزا أستاذه بأنه لا برهان عقلي على أن كلّما يتوقف عليه المتعلق من المتعلقات ، يجب أن يؤخذ قيدا في الأمر ومفروض الوجود في مقام الجعل والإنشاء ، إلّا إذا وجد أحد ملاكين استظهار عرفي ، أو محذور عقلي من عدم أخذها قيودا في الحكم ، حينذاك فقط ، يجب أخذها قيودا في الحكم ومفروضة الوجود ، وإنما يلزم المحذور العقلي عند السيد الخوئي قدس سرّه ، فيما إذا كان هذا الشيء أمرا غير اختياري ، فإنه حينذاك ، لو لم يؤخذ في موضوع الأمر قيدا وشرطا للزم إطلاق الأمر حتى لحال فقد هذا الأمر الغير اختياري ، وبذلك يلزم التكليف بغير المقدور.

وكلام السيد الخوئي إلى هنا متفق مع كلام الميرزا قدس‌سره.

لكن السيد الخوئي ، يستثني من ذلك شيئا واحدا ، وهو الأمر غير الاختياري الذي يحصل بنفس الخطاب والأمر ، مثل هذا الأمر الغير اختياري ،

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٨٧.

(٢) محاضرات فياض : ج ٢ ص ١٥٨ ـ ١٥٩ ـ ١٦٠ ـ ١٦١.

٢٠٧

لا يلزم أخذه قيدا في الموضوع ، لأنه حتى لو لم نأخذه قيدا في الموضوع ، فهو حاصل على كل حال ، لأن الأمر يكفل وجوده ، كما لو فرض بأن أمر المولى كان يحرّك الفلك ويوجد الزوال ، حينئذ لا يكون المولى بحاجة إلى أن يقيّد أمره به لأنه بالأمر سوف يتحرك الفلك ويوجد الزوال ، وأنما كان يلزم أخذه قيدا في متعلق الأمر فيما إذا لم يكن نفس الأمر متكفلا لإيجاده ، وضامنا لتحققه ، وما دام مكفول الوجود بنفس الخطاب ، فلا يلزم أخذه قيدا ولا يترتب عليه محال أو تقدم للشيء على نفسه.

ولكننا نحن نركّز على هذه الإضافة ، التي كان السيد الخوئي يتملّص بها من إشكال استاذه الميرزا قدس سرّه ونقول.

إن أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر يلزم منه توقف الصلاة توقف المتعلق وهو الصلاة مع قصد الامتثال ، على أمر غير اختياري ، وهذا الأمر الغير اختياري ، ليس هو الأمر حتى يقال ، أنه مكفول الوجود بنفس الخطاب ، بل هو شيء آخر غير الأمر ، وهو بالتالي غير مكفول الوجود بنفس الخطاب ، وحينئذ ، نطبّق عليه القاعدة التي بيّنها السيد الخوئي نفسه ، إذن فيجب أن يؤخذ قيدا في موضوع الأمر ، وتوضيح ذلك يكون ببيان مقدّمتين.

المقدمة الأولى

وهي أن الإتيان بالصلاة بقصد امتثال الأمر ليس فقط يتوقف صدوره من المكلّف على وجود الأمر فحسب ، بل أيضا يتوقف على وصول هذا الأمر إلى المكلّف ، ولو بأدنى مراتب الوصول إذ أنّ الوصول له مراتب ، الوصول القطعي ، والوصول الظني ، والوصول الاحتمالي ، والمكلّف لا يعقل أن تصدر منه الصلاة بقصد امتثال الأمر حتى لو كان هناك أمر إذا لم يكن قد وصل إليه هذا الأمر لا بالوصول القطعي ، ولا بالوصول الظني ، ولا بالوصول الاحتمالي ، وإلّا لو أن المكلّف أتى بالصلاة بقصد امتثال الأمر من دون أن يكون الأمر واصلا إليه ولو احتمالا ، لكان هذا المكلّف مشرّعا فيما أتى به ، وكان ما فعله حراما ، لأن معنى عدم الوصول ولو احتمالا ، يعني أنه لا يحتمل

٢٠٨

الأمر ، وحينئذ كيف يأتي بالصلاة بقصد الأمر ، مع أنه لا يحتمل الأمر ، إذن فلا بدّ من وصول الأمر ولو وصولا احتماليا حتى يأتي بالصلاة بقصد امتثال الأمر ولو رجاء أو احتمالا على أقل تقدير.

وإذا كان المتعلق في المقام ، وهو الصلاة ، متوقف أيضا على وصول الأمر والتصديق به ولو ظنا أو احتمالا.

حينئذ يقال ، بأن وصول الأمر هذا ، شيء غير اختياري كنفس الأمر ، ولا يتكفله نفس الخطاب ، ولا ينشئه نفس الخطاب ، إذ أن الخطاب يكفل وجود الأمر ، لا أنه يكفل وصوله ، إذن فينطبق عليه نفس القاعدة التي اعترف بها السيد الخوئي ، حيث قال ، بأنه إذا توقف المتعلق على أمر غير اختياري لا يكفل وجوده نفس الخطاب ، ولا يتحقق بنفس الخطاب فإنّ مثل هذا ، يجب أن يؤخذ قيدا في موضوع الحكم ، وكلام السيد ينطبق هنا في محل الكلام ، لأن المتعلق ، وهو الصلاة بقصد امتثال الأمر يتوقف صدوره من المكلّف على أمر غير اختياري ، وهو وصول الأمر الشرعي ، لا واقع الأمر الشرعي. ووصوله أمر غير اختياري ، ولا يتحقق بنفس الخطاب ، لوضوح أنه بنفس الخطاب الذي يجعل الحكم على نهج القضية الحقيقية ، لا يكفل وصوله ، بل قد يصل وقد لا يصل.

إذن بمقتضى الكبرى المعترف بها من قبل السيد الخوئي ، لا بدّ أن يكون وصول الأمر مأخوذا في موضوع الأمر.

نعم إذا كان الأمر مجعولا بنحو القضية الخارجية الجزئية ، كما لو توجّه المولى إلى شخص بعينه ، وقال له ، «صلّ بقصد القربة» ، فهنا المولى ، تكفّل إيجاد الأمر ، وتكفّل إيصاله ، في مثل هذه الحالة ، لا حاجة إلى أخذ الوصول قيدا في الموضوع.

لكن إذا كان الحكم مجعولا على نهج كلّي وعلى طرز القضايا الحقيقية ، إذن فهذا الخطاب لا يكون منشئا للوصول.

٢٠٩

إذن فالوصول أمر غير اختياري وقد توقف عليه المتعلق ، ولا يكفل وجوده نفس الخطاب ، إذن فيجب أن يؤخذ في موضوع الأمر ، فينحل قوله «صلّ بقصد الأمر» إلى قوله «إذا كان الأمر واصلا إليك فصل بقصد الأمر».

المقدمة الثانية

وحاصلها هو أننا قد برهنّا في بحث القطع ، أنه يستحيل أخذ وصول الحكم في موضوع شخص ذلك الحكم ، وهذا المطلب ، قد اتفقت عليه كلمات المانعين والمثبتين للاستحالة ، بما فيهم السيد الخوئي المانع للاستحالة فإنه هنا يعترف بذلك.

كما كان يعترف باستحالة أخذ نفس الحكم في موضوع شخصه ، ذلك أنه لو أخذ وصول ذاك الحكم في موضوع ذلك الحكم للزم التهافت ، وذلك لأن الحكم بمقتضى كونه قد قيّد بوصول نفسه ، يكون متأخرا رتبة عن وصول نفسه ، وبمقتضى كون الوصول انكشاف لنفسه والانكشاف في طول المنكشف بحسب نظر المنكشف لديه ، إذن فيكون في طول الأمر ، وعليه يكون كل واحد منهما في طول الآخر وهذا هو التهافت الموضّح في مباحث القطع.

وحينئذ إذا تمّت هاتان المقدمتان ، يتبرهن استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر.

وليكن هذا توضيحا أو تنقيحا لما أفاده المحقق الميرزا قدس‌سره.

غاية الفرق بين هذا البيان ، وبين ما ذكره المحقق الميرزا ، هو أن الميرزا ، كان يدّعي أن تعلّق الأمر بالصلاة مع قصد امتثال الأمر يتوقف على أن يكون نفس الأمر مأخوذا في موضوعه ، بينما نحن نقول ، بأن تعلّق الأمر بالصلاة مع قصد امتثال الأمر يتوقف على أن يكون وصول الأمر مأخوذا في موضوعه ، وهذا أيضا محال كالأول.

٢١٠

والنتيجة أنه بضم المقدمة الأولى إلى الثانية ، يتبرهن استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر.

الوجه الثاني

للبرهنة على استحالة أخذ قصد الأمر قيدا في متعلق الأمر.

ويمكن اعتبار هذا الوجه الثاني تنقيحا للوجه الأول من الوجوه الأربعة التي تقدم الإشكال عليها ، وكان حاصل الوجه الأول هو ، أنه لا يعقل أن يؤخذ في متعلق الأمر ومعروضه ما لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر ، كما عبّر المحقق الخراساني (١) ، لأنه يلزم من ذلك التهافت في الرتب ، وتوضيحه.

أن قصد امتثال الأمر بحيث أنه في طول الأمر ولا يكاد يتأتى إلّا بلحاظ الأمر ، إذن فهو في مرتبة متأخرة عن الأمر ، وحيث أنه أخذ في متعلق الأمر ومعروضه والمعروض أسبق رتبة من العارض ، إذن فيكون متقدما على الأمر ، وهذا هو معنى التهافت في الرتب حيث يكون الشيء الواحد متقدما ومتأخرا.

وقد أشكل على هذا الوجه الأول بما حاصله.

إن المتأخر غير المتقدم ، إذ أن المتأخر هو قصد امتثال الأمر بوجوده الخارجي ، بينما المتقدم هو قصد امتثال الأمر بوجوده الذهني والعنواني ، لوضوح أن الأمر وإن كان في عالم نفس الحاكم ، نسبته إلى متعلقه من قبيل نسبة العارض إلى معروضه ، لكنّه لا يعرض على واقع متعلقه الخارجي ، فهو لا يعرض على واقع الركوع والسجود وقصد الامتثال بوجوده الخارجي ، وإنما يعرض على عناوين هذه الأشياء ، إذن فهو متأخر بالرتبة عن الوجود العنواني للركوع والسجود وقصد الامتثال ، لا عن الوجود الخارجي ، وعليه فلا يلزم التهافت ، والتناقض في الرتب ، لأن ما هو متأخر عن الأمر هو الوجود الخارجي لقصد امتثال الأمر وما هو متقدم بالرتبة على الأمر هو الوجود

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٠٩.

٢١١

العنواني لقصد امتثال الأمر ، والعنوان غير المعنون ، فليكن المعنون متأخرا وليكن العنوان متقدما.

والآن في هذا الوجه الثاني ، نحاول أن ندفع هذا الإشكال عن الوجه الأول ، ونريد أن نصحّح الوجه الأول.

وذلك بتقريب أن الأمر في أفق نفس الحاكم وإن كان حاكما على الوجود العنواني لا على الوجود الخارجي الحقيقي كما ذكرنا آنفا ، فيكون متأخرا عن الوجود العنواني ، بحيث أن الحاكم بنظره التشريعي يرى أن الوجود العنواني له ثبوت وتقرّر في مرتبة سابقة ، ثمّ يطرأ عليه الأمر على حدّ طروّ العارض على المعروض.

هذا هو سنخ نظر المولى التشريعي في مقام جعل أمره وجعل حكمه ، فهو يرى شيئين مترتبين ، أحدهما بالنسبة إلى الآخر بمثابة العرض مع المعروض ، العرض هو الأمر ، والمعروض هو الوجود العنواني لمتعلق الأمر.

إذن فهذان الأمران هما مترتبان في الواقع أيضا ترتب العارض على معروضه ، وليسا مرتبين بالنظر التشريعي التصوري اللحاظي.

وهذا كنّا نعترف به سابقا ، لكن هو بحاجة إلى نكتة مختصرة حتى يتم بها البرهان ،

وحاصل هذه النكتة هو ، أن يقال ، أن هذا الوجود العنواني الذي هو بحسب لحاظ المولى يرى أنه قبل الأمر وفي مرتبة سابقة عليه كما هو في الواقع كذلك ، هذا الوجود العنواني هل هو ملحوظ للمولى بما هو عنوان وبما هو صورة ذهنية ، أو أنه ملحوظ للمولى بما هو فان في معنونه بحيث أن المولى يراه كأنّه هو المعنون؟

ومن الواضح ، أن هذا الوجود العنواني بالنظر التصوري للمولى في مقام جعل حكمه ، هو لا يتصوره بما هو عنوان في مقابل المعنون وبما هو صورة في مقابل الحقيقة ، إذ لو تصوره هكذا لما أمر به ، ذلك لأن المولى يريد

٢١٢

المعنون دون العنوان ، وإنما يتصوره المولى من أول الأمر بما هو المعنون وبما هو الحقيقة ، أي بما هو فان ومرآة للمعنون.

إذن فهو بالنظر التصوري يرى به المعنون ولهذا يعلّق عليه أمره ، وقد فرضنا أن المولى يراه في مرتبة سابقة على الأمر وهو يرى به المعنون ، إذن فهو في شخص هذه الرؤية يرى المتعلق وهو المعنون أسبق رتبة من الأمر بحيث يكون له نحو من التقرّر والثبوت بقطع النظر عن الأمر ومن ثمّ يطرأ عليه الأمر ، لأن هذا مقتضى الجمع بين مطلبين صدّقنا بهما معا.

أ ـ المطلب الأول ، هو أن المولى يرى أن معروض أمره أسبق رتبة من أمره ومفروغ عنه بقطع النظر عن أمره ، وهذه الرؤية من المولى مطابقة للواقع فإنّ حاق المطلب أيضا هو هذا ، لوضوح أن الأمر متأخر عن الوجود العنواني لمتعلقه تأخر العارض عن معروضه.

ب ـ والرؤية الثانية للمولى ، أنه يرى أن هذا الوجود العنواني هو عين المعنون ، لأنه يلحظه بما هو فان في معنونه وبما هو مرآة لمعنونه.

ومن الواضح أنّ هذه الرؤية الثانية خلاف الواقع ، لأن الواقع أن العنوان غير المعنون وليس عينه ، ونفس المولى لو التفت بعد أن يجعل الحكم على معروض حكمه بنظرة ثانية لأعترف بأن معروض حكمه إنما هو العنوان وليس هو المعنون ، لكن في شخص تلك النظرة التي بها قوام جعل الأمر من قبل المولى ، لا بدّ وأن يكون الوجود العنواني ملحوظا بما هو فان في المعنون وبما هو مرآة له وإلّا لو لاحظه بما هو عنوان في مقابل معنونه لما طلبه ولما أراده.

ومن مجموع هاتين الرؤيتين للمولى ، يتحصّل أنه يستحيل أخذ قصد الامر قيدا في متعلق شخص ذلك الأمر وذلك لأنّ قصد امتثال الأمر يصبح حينئذ متعلقا للأمر ، فيكون الأمر متقدما ومتأخرا عن الوجود العنواني لقصد

٢١٣

الأمر ، وهذا أمر يراه المولى رؤية مطابقة للواقع ، إلّا أن المولى في شخص لحاظه المقوّم لجعله للحكم سوف لن يرى هذا الوجود العنواني بقصد الامتثال بما هو عنوان في مقابل المعنون ، بل يراه بما هو عين المعنون بالفناء والمرآتية ، إذن هو يرى التقدم والمفروغية عن المتعلق ، وطرو الأمر عليه بعد المفروغية عنه بما هو ملحوظ فان في متعلقه ، مع أنه إذا لوحظ قصد امتثال الأمر بما هو فان في معنونه إذن لا يعقل المفروغية عنه قبل الأمر بحيث يكون له هناك نحو تقرّر وتعقّل بقطع النظر عن طرو الأمر عليه ، بل هو متقوم بالأمر.

وبهذا الوجه الثاني الذي اعتمد عليه المحقق العراقي (١) ، يتم برهان الوجه الأولى على الاستحالة.

الوجه الثالث على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر. وقد تقدم آنفا كلام لتصحيح بعض الوجوه وكان حاصله.

أن الأمر ينحل إلى أوامر ضمنية فيكون هناك أمر ضمني بالصلاة ، وأمر ضمني آخر بقصد امتثال الأمر ، وهكذا ، وقد علّقنا هناك على هذا الانحلال ، وقلنا ، بأن هذا الأمر المنحل أو المشتمل على أمرين ضمنيين لا يعقل أن يكون أمرا حقيقيا مجعولا بداعي البعث والتحريك وبتمام حصصه الضمنية محركا وباعثا حقيقة ، بل هو لو جعل كذلك ، فإنه لا يعدو كونه اعتبارا ولقلقة لسان وبالتالي هو أمر مستحيل ، وتوضيح ذلك هو.

إننا إذا لاحظنا الأمر الضمني المتعلق بذات الصلاة ، نقول ، بأن هذا الأمر لو لم يكن معه أمر آخر ضمني متعلق بقصد الامتثال ، هل كان يكفي وحده لتحريك العبد نحو الإتيان بالفعل لو لم يكن لديه داعي نفساني وشهواني للإتيان به ، أو أنه لا يكفي لذلك؟.

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي ج ١ ص ٢٢٤.

٢١٤

فإن فرض أن هذا الأمر المتعلق بالفعل ـ بقطع النظر عن انبساطه على قصد الامتثال واشتماله على الوجوب الضمني الآخر ـ إن فرض أنه كان محركا للعبد نحو الإتيان بمتعلقه وموجبا لقدح الإرادة في نفس العبد للإتيان بالصلاة ، إذن فهذا عبارة أخرى عن قصد الامتثال ، ومعه تلغو محركيّته ، ويلغو جعل الأمر الضمني الآخر متعلقا بقصد الامتثال ، لأن قصد الامتثال ليس له معنى إلّا الإرادة التي نشأت من الأمر وتولّدت منه ، فإذا كان الأمر بمقدار تعلقه بالصلاة ـ وبقطع النظر عن تعلقه بالجزء الثاني وهو قصد الامتثال ـ إذا كان هذا الأمر كافيا لتحريك العبد وقدح الإرادة في نفسه لو لم يكن لديه أيّ دافع نفساني شهواني ، إذن على هذا يلغو جعل وجوب الحصة الأخرى المتمثلة بقصد الامتثال ، ولا يكون الوجوب المجعول على قصد الامتثال مؤثرا في المحركيّة ، لكفاية هذا الأمر في المحركية ، كما أنه لا يكون مؤكدا للمحركية ، ذلك لأن التأكيد أنما يتصوّر في أمرين استقلاليين أحدهما يؤكد الآخر ، لا في أمرين ضمنيين مرجعهما إلى روح واحدة بملاك واحد ، إذ في مثله لا معنى للتأكّد ، إذن لا يعقل جعل الوجوب بنحو يشتمل على الوجوب الضمني : الآخر ، ويكون صدوره بداعي البعث والتحريك لغوا.

وإن فرض أن الأمر بمقدار تعلقه بالصلاة ، لم يكن كافيا لتحريك العبد نحو الصلاة ، ولم يكن موجبا لقدح الإرادة في نفس العبد نحو الصلاة ، إذن فالأمر الضمني الآخر لا يوجب ذلك بالضرورة ، لأن الأمر الضمني الثاني هو صنو الأمر الضمني الأول إذ كلاهما مرجعهما إلى أمر واحد ودعوة واحدة ومولوية واحدة ، إذن فجعل الأمر الضمني الثاني بداعي الباعثية والمحركيّة أمر غير معقول.

ونحن لا نقصد من قصد الامتثال إلّا الإرادة التي نشأت من قبل المولى ، فإن فرض أن الأمر المتعلق بذات الصلاة يوجب إرادة ، ويقتضي قدح الإرادة في نفس العبد ، إذن فيكون وحده كافيا في ذلك ، ويستحيل أن يكون للأمر الضمني الآخر المعلق بقصد الامتثال أيّ محركيّة لا تأسيسية ولا تأكيدية ، أمّا

٢١٥

تأسيسية فواضح ، لأن الأمر الأول هو المحرّك ، وأمّا تأكيدية فلما بيّناه من أنّ التأكيد إنما يكون بين الأوامر الاستقلالية دون الضمنية التي روحها وملاكها أمر واحد ، وهكذا إذا كان الأمر المتعلق بذات الصلاة لا يكفي وحده لقدح الإرادة في نفس العبد ، فإن ضمّ الأمر الضمني الآخر إليه لا يوجب كفاية ذلك.

نعم هنا يوجد فائدة واحدة من ضم الأمر الضمني الثاني إلى الأول. كما لو فرضنا أن المولى لم يضم الأمر الضمني الثاني إلى الأول ، بل بقي الأمر الأول وحده ، وقد صلّى العبد بداع نفساني أو شهواني ما ، ثم بعد ذلك أصبح خيّرا وملتزما بأوامر مولاه ، حينئذ يمكن لهذا العبد أن يقول بأن أمر مولاه قد سقط عنه لأن أمر مولاه كان قد تعلق بجامع الصلاة دون أن يقيّدها بشيء ، وقد أوجد هذا العبد الصلاة ، وبها سقط الأمر المتعلق بها دون أن يكون هذا الأمر هو المحرّك ، ولكن هذا العبد الذي أوجد الصلاة قبل هدايته بدافع شخصي ، الآن وبعد هدايته والتزامه بأوامر مولاه ، يقول ، بأن الأمر بالصلاة لا يزال موجودا في حقّه ، لأن صلاته تلك غير صحيحة ، فيجب عليه أن يصلّيها ، فالفائدة هنا هي ، أن الأمر الضمني الثاني حفظ الأمر الضمني الأول عن السقوط (١).

__________________

(١) كون فائدة الأمر الضمني الثاني ، منحصرة في حفظ الأمر الضمني الأول ، في النفس منها شيء ، إذا قد يسأل ، أنه إذا كان الأمر الضمني الثاني معدوم المحركية والباعثية ، فكيف يحفظ هذه المحركية والباعثية للأمر الأول ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، من هنا قد يقال ، بأنّ هذا الأمر الضمني الثاني ، له تأثير ما ، في بعث المحركية والباعثية في الأمر الضمني الأول ، ولا أقل من كون هذا التأثير في الأمر الضمني الأول على نحو الشرط أو المقتضي أو عدم المانع.

فإن قيل بأن تأثير الأمر الضمني الثاني ، على نحو واحد من أجزاء العلة ، إذن فهو شريك في التأثير ، دون أن يفرق الحال من كونه في عرض الأول أو في طوله ، وإن كنّا نختار كون تأثيره في طول الأول ، وحينئذ يكون له باعثية ومحركية بعد أن سقط الأمر الأول عن الباعثية والمحركية بالعصيان ، وإن قيل بأنه مستقل في التأثير في الباعثية والمحركية ، وهو أمر معقول أيضا ، فأيضا يكون هو المطلوب ،

٢١٦

لكن هذه الفائدة لا تصحّح ما نحن بصدد البرهنة على استحالته ، وهو أن الأمر الضمني الثاني ، لا يعقل جعله باعثا ومحركا حقيقة ، ولا محركا في عرض محركيّة الأمر الأول.

إذن ، جعل أمر نفسي على المجموع المركب بحيث يكون بتمام حصصه الضمنية بداع الباعثية والمحركية حقيقة ـ يبقى مستحيلا ، وهذه الفائدة لا تدفع هذا البرهان على الاستحالة.

الوجه الرابع من الوجوه التي يمكن بيان هذه الاستحالة به هو.

إنه إذا تعلّق أمر بالصلاة مع قصد امتثال الأمر ، فهنا أمر استقلالي واحد ، وهو متعلّق بالمجموع المركب من الصلاة وقصد امتثال الأمر ، ولا محالة أن كل أمر يحرك نحو متعلقه وهو مقتض للجري على طبقه ، وقد تقدّم آنفا أن تحريك الأمر نحو شيء ، ليس على حدّ تحريك المقتضيات التكوينية لمعلولاتها ، لأن الأمر لا يدفع المكلّف نحو متعلقه دفعا ، كما يدفع قانون الجاذبية قطرة المطر إلى سطح الأرض تكوينا ، وإنما دافعية الأمر ومحركيته ، مرجعها إلى قدح الإرادة في نفس العبد ، فقدح الإرادة في نفس العبد هو الذي يمثل محركية الأمر ودافعيته للعبد ، فإذا انقدحت الإرادة في نفس العبد جرى على طبقها خارجا ، إذن فهذا الأمر الذي فرضناه متعلقا بالمجموع المركب من الصلاة وقصد امتثال الأمر يوجب قدح الإرادة في نفس العبد نحو متعلقه ، وهذه الإرادة التي يقدحها هذا الأمر النفسي الاستقلالي الواحد المتعلق بالمجموع المركب ، هذه الإرادة تتصوّر على ثلاثة أنحاء ، وكلها مستحيلة ، وبهذا يكون أصل هذا الأمر مستحيلا.

__________________

وعلى هذا الأساس ، نصحّح استحالة أخذ قصد الأمر ، قيدا في متعلق الأمر ، لما تقدم في التعليق على هذا الوجه «المقرر» ..

٢١٧

النحو الأول

من أنحاء الإرادة التي يقدحها الأمر هو :

إن الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق بالمجموع المركب من الصلاة وقصد الامتثال يحرك نحو متعلقه الذي هو المجموع ، وذلك بقدح إرادة واحدة متعلقة بالمجموع على حدّ سائر الموارد ، فلو أن المولى أمر بالمجموع المركب من الركوع والسجود والتشهد والتسليم ، فهذا الأمر يوجب قدح إرادة واحدة نحو المجموع ، مطابقا مع إرادة المولى التشريعية ، لأن مقتضى عبوديته أن يكون مريدا لكل ما يريده مولاه ، فإذا أراد المولى المجموع المركب أراد العبد المجموع المركب ، ومعنى هذا أن هذا العبد يتكون في نفسه من بركات هذا الأمر المولوي النفسي إرادة للصلاة مع قصد الامتثال.

وهذا أمر غير معقول ، وذلك لأن هذه الإرادة التي نشأت من قبل الأمر ، هي بنفسها قصد امتثال للأمر إذ بمجرد تعلقها بالصلاة ، وقبل أن تصل إلى الالتفات إلى تعلقها بالجزء الثاني الذي هو قصد الامتثال ، فقد تمّ قصد الامتثال ، إذ لا يراد بقصد الامتثال إلّا إرادة الفعل إرادة ناشئة من أمر المولى ، إذ هذه الإرادة بنفسها مصداق لقصد الامتثال بالحمل الشائع ، لأنها نشأت من الأمر ، وبمجرد تعلقها بالصلاة يحصل قصد الامتثال ، إذن فلم يبق مجال لكي يريد قصد الامتثال ، لأن قصد الامتثال قد وجد خارجا بمجرد تعلق الإرادة بالصلاة التي هي الجزء الأول من المجموع المركب ، وإلّا لو قيل بانبساط هذه الإرادة على الجزء الثاني من المركب ضمنيا ، للزم من ذلك ، تحصيل الحاصل ، لأنه يكون إرادة لما هو موجود بنفس هذه الإرادة ، وهذا أمر غير معقول ، إذن فهذا النحو من المحركية لهذا الأمر غير معقول ، وفي أحسن الحالات ، لو قيل بانبساط الإرادة على الجزء الثاني من المجموع المركب ، فإنما يعقل هذا فيما إذا كان تعلق هذه الإرادة بأحد الجزءين لا يحقق بنفسه الجزء الآخر ، كما هو الحال في إرادة تعلّقت بالمجموع المركب من الركوع والسجود ، هنا يمكن أن يقال ، بأن تعلّقها بالركوع لا يحدث سجودا في

٢١٨

الخارج ، إذن يبقى مجال لتعلق الإرادة بالسجود أيضا ، بخلاف المقام ، فإن الإرادة بمجرد تعلقها بالصلاة تحدث قصد الامتثال ، إذ ليس قصد الامتثال إلّا تعلّق إرادة بالصلاة نشأت من قبل أمر المولى ، وهذه كذلك ، إذن فلا يبقى مجال لتعلقها بالجزء الثاني الذي هو قصد الامتثال ، بل يكون هذا تحصيل للحاصل ، وهو محال.

النحو الثاني

في المقام هو أن يكون أمر المولى المتعلق بالمجموع المركب من الصلاة وقصد الامتثال ، يكون محركا ، لكن محركية تتمثل في إرادة واحدة متعلقة فقط بأحد الجزءين ، وهو الصلاة ، من دون أن تكون هناك إرادة ومحركية نحو الجزء الثاني.

وهذا أيضا أمر غير معقول ، وذلك لأن فرض تعلّق الأمر بكلا الجزءين هو فرض محركيته نحو كلا الجزءين ، إذ كيف يعقل أن يكون الأمر متعلقا بكلا الجزءين ، ولا يكون محركا إلّا نحو أحد الجزءين ، لأن الإرادة المنقدحة من أمر المولى لها اقتضاء بالنسبة إلى الجزء الآخر ، وإلا فمعنى هذا أن الأمر لا يحرّك نحو جزء متعلقه ، وهذا مساوق لعدم تعلّقه به ، لأن تعلق الأمر بشيء مساوق للتحريك نحوه ، فإذا لم يكن محركا نحوه ، إذن فلا يكون متعلقا به وهو خلق تعلقه به كما فرض ، إذن فهذا النحو باطل أيضا.

النحو الثالث

الذي يتصوّر لمحركية هذا الأمر هو : أن يكون لهذا الأمر محركيتان طوليتان ، المحركية الأولى تتمثل في محركية الأمر الضمني المتعلق بقصد الامتثال نحو قصد الامتثال ، وهذا الأمر الضمني المتعلق بقصد الامتثال يحرك نحو قصد الامتثال ، ومعنى أنه يحرك نحو قصد الامتثال ، يعني أنه يوجب في نفس العبد قدح إرادة قصد الامتثال ، إذن ففي المرتبة الأولى يكون هناك إرادة

٢١٩

لقصد الامتثال ، لا إرادة للصلاة ، ولا إرادة للمجموع المركّب ، بخلاف النحوين المتقدمين.

فهنا في النحو الثالث ، يوجد في المرتبة الأولى إرادة لقصد الامتثال ، وهذه الإرادة تمثّل محركيّة الأمر الضمني الثاني المتعلق بقصد الامتثال ، فهذا الأمر الضمني الثاني ، يحدث في نفس العبد إرادة ، كي يقصد الامتثال وكي يريد الصلاة ، أي يريد أن يريد الصلاة ، ثمّ في طول ذلك وفي المرتبة الثانية تنشأ محركيّة ثانية تتمثل في إرادة نفس الصلاة ، وبذلك يكون هناك إرادتان طوليتان ، الإرادة الأولى هي إرادة قصد الامتثال ، وهذه تمثل محركية الأمر الضمني الثاني وهو الأمر المتعلق بقصد الامتثال ، وفي طول ذلك إرادة ثانية متعلقة بنفس الصلاة ، وهذه الإرادة الثانية ، هي متعلق الإرادة الأولى ، بحيث يصحّ بين الإرادتين وضع (فاء الترتيب) حيث نقول ، بأنه أراد أن يقصد الامتثال بالصلاة فقصد الامتثال بالصلاة ، فإرادة قصد الامتثال بالصلاة قبل (فاء الترتيب).

هذه المحركية الأولى ، وإرادة قصد الامتثال بالصلاة بعد (فاء الترتيب) ، هذه المحركية الثانية ، (والفاء) بينهما باعتبار الترتب الطولي بين المحركيتين.

وهذا النحو أيضا غير معقول ، وذلك ، لأن معنى هذا أن الأمر له اقتضاء أن طوليان ، أي أنّ اقتضاء الأمر الضمني الأول في طول الأمر الضمني الثاني ، ومعنى هذا ، أنه في مرتبة اقتضاء الأمر الضمني الثاني لا اقتضاء للأمر الضمني الأول ، إذ المفروض أن اقتضاء الأمر الضمني الأول ومحركيته في طول محركية الأمر الضمني الثاني ، إذن ففي مرتبة محركيّة الأمر الضمني الثاني لا اقتضاء للأمر الضمني الأول.

وهذا غير معقول ، باعتبار أن الوجوبين ليسا في المقام طوليين ، ليكون اقتضاؤهما طوليا ، بل هما عرضيان ببرهان أنهما ضمنيان مجعولان لوجود واحد ، إذ شأن الوجوبات الضمنية أن تكون وجوبات عرضية.

٢٢٠