بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

فإن قلنا بالاجتماع ، لم يكن للمادة في دليل الواجب إطلاق ، فيتمسّك بإطلاق الهيئة ، وهو يقتضي عدم السقوط.

وإذا قيل بالجواز فحينئذ نتمسك بإطلاق المادة ، ويثبت بذلك ، أنّ الواجب هو الجامع بين الحصة المحرمة والحصة المحلّلة ، وحينئذ فمقتضى القاعدة ، يكون هو السقوط.

والخلاصة ، أنه إذ قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي يكون مقتضى الأصل اللفظي هو السقوط ، وذلك تمسّكا بإطلاق المادة ، وأمّا إذا قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، فيستحيل إطلاق المادة للحصة المحرّمة ، ومعه فيبنى لا محالة على تقييد المادة بالحصة المحلّلة ، فيتمسك بإطلاق مفاد الهيئة ، وهو الوجوب ، لإثبات الوجوب على كل حال ، فتكون النتيجة هي عدم السقوط.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل اللفظي في المسألة الثالثة.

المقام الثاني

وهو تأسيس الأصل العملي في هذه المسألة.

والتحقيق أن يقال أن الشك هنا يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر سواء قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، أو قيل بجواز اجتماع الأمر والنهي.

أمّا بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فواضح ، لأن المكلّف يعلم بتعلق الوجوب بالجامع بين الحصة المحلّلة والمحرمة ، ولا يعلم بتقييد هذا الواجب بخصوص إحدى الحصتين ، فيكون من الشك في الإلزام الزائد ، فيدخل في الأقل والأكثر وتجري البراءة.

وأما بناء على اجتماع الأمر والنهي ، وأنّه يستحيل إطلاق المادة في دليل الواجب للحصة المحرّمة ، فقد يقال حينئذ ، أنّ الشك لا يكون من الشك في الأقل والأكثر ، بل يكون من باب الشك في المسقط ، لأنّ تعلق الوجوب بالجامع أمر مستحيل.

١٨١

إذن فالوجوب قد تعلّق بخصوص الحصة المحلّلة ، غاية الأمر ، أنّه يشك في أنّ هذا الوجوب مقيّد بعدم الإتيان بالحصة المحرمة ، أو أنّه غير مقيد ، فيرجع إلى الشك في المسقط ، وحينئذ فكل على مبناه ، من حيث البراءة ، أو الاشتغال.

وتحقيق الكلام أن يقال ، أنه ينبغي أن نعرف المحذور الذي يوجب امتناع الإطلاق في المادة وشمول الواجب للحصة المحرّمة ، هل هو محذور ناظر إلى مرحلة مقام الإثبات والدليل ، أو هو ناظر إلى مقام عالم الجعل والتشريع ، بحيث يستحيل في عالم الجعل والتشريع ، إطلاق الواجب للحصة المحرّمة.

فإن كان المحذور في إطلاق الواجب محذورا ثبوتيا وإثباتيا معا :

إذن فهذا الكلام الذي قلناه تام ، وهو أنّ المكلّف يعلم ببرهانية هذا المحذور ، بأن الوجوب ثبوتا قد تعلق بالحصة المحلّلة لاستحالة تعلقه بالجامع ، بين المحلّل والمحرّم ويكون الشك شكا في المسقط وفي سعة الوجوب وضيقه لا في سعة الواجب وضيقه.

وأمّا إذا كان المحذور محذورا إثباتيا فقط ، أي محذورا مربوطا بإطلاق المادة في خطاب «اغسل» فقط ، إذن ، فمعنى هذا أنّه من الممكن للمولى ثبوتا أن يجعل الوجوب على الجامع ، فإذا لم يتم إطلاق في الدليل اللفظي وانتهت النوبة إلى الأصل العملي ، فحينئذ ، المكلّف يشك في أن المولى هل جعل الوجوب على الجامع أو أنه جعله على الحصة الخاصة المحلّلة ، وحينئذ يكون الأمر دائرا بين الأقل والأكثر.

وتحقيق سبب امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وهل أنّ ذلك يكون بسبب محذور ثبوتي أو محذور إثباتي ، تحقيق ذلك وتفصيله موكول إلى بحث اجتماع الأمر والنهي.

لكن نلخّص الإشارة إلى ذلك التفصيل فنقول. إنّ الوجوب الواجب ،

١٨٢

تارة ، يكون واجبا بنحو مطلق الوجود ، كما إذا قال «أكرم كلّ عالم» ، ففي مثل ذلك ، لا إشكال في استحالة اجتماع الأمر والنهي ، باعتبار أنّ الأمر المجعول بنحو مطلق الوجود ، يكون انحلاليا لا محالة ، فكل فرد من أفراد المادة يكون موضوعا للأمر والوجوب ، فلو تعلّقت الحرمة ببعض أفراد المادة فيستحيل هنا شمول الوجوب لها ، وذلك ، بسبب التضاد بين الوجوب والحرمة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا إذا فرضنا أن الواجب ، لم يكن بنحو مطلق الوجوب ، بل كان بنحو صرف الوجود الجامع بين الأفراد ، فهنا لا يوجد محذور بحسب الحقيقة من ناحية التضاد ، لأن الوجوب واقف على صرف الوجود ولا يسري منه إلى الأفراد ، فإذا ثبتت الحرمة لفرد من الأفراد ، لا يلزم من ذلك اجتماع الضدين ، وذلك لتعدّد الموضوع ، إذ موضوع الحرمة هو الفرد ، وموضوع الوجوب هو صرف الوجود ، وعليه فلا سريان للوجوب المتعلق بصرف الوجود إلى الأفراد أصلا.

وبناء على هذا ، لا يكون المحذور في عدم اجتماع الأمر والنهي هو المحذور الثبوتي.

إذن يكون محذور اجتماع الأمر والنهي محذورا إثباتيا.

وحاصل هذا المحذور الإثباتي ، هو ، أن الدليل الذي يدل على إيجاب الجامع بنحو صرف الوجود ، يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على الترخيص في تطبيق هذا الجامع على تمام أفراده.

وهذا المدلول الالتزامي العرفي لدليل «اغسل» وهو الترخيص في تطبيقه على تمام أفراده يكون منافيا لا محالة مع حرمة بعض أفراده ، فالتنافي بحسب الحقيقة ليس بين دليل الحرمة وبين المدلول المطابقي لدليل «اغسل» ، بل بين دليل الحرمة والمدلول الالتزامي العرفي لدليل «اغسل». وبذلك يسقط إطلاق المادة كما سيأتي توضيحه في بحث اجتماع الأمر والنهي.

١٨٣

فبناء على هذا المسلك ، يكون المحذور في إطلاق المادة محذورا إثباتيا ، بلحاظ الدلالة الالتزامية العرفية في دليل «اغسل» ولا يكون هناك محذور ثبوتي أصلا في إطلاق المادة بحسب عالم الجعل.

فلو بني على مسلك الامتناع ، لكن بعد أن يؤوّل الامتناع بهذا التأويل ، حينئذ ، يكون المحذور إثباتيا لا ثبوتيا ، ومعه يكون الشك ثبوتا ، راجعا إلى الشك في تعلّق الوجوب بالجامع بنحو صرف الوجود ، أو بالحصة ، فيدخل في الأقل والأكثر الارتباطيين.

نعم من يقول بامتناع اجتماع الأمر والنهي لمحذور ثبوتي بسبب توهّم محذور التضاد بين وجوب صرف الوجود ، وبين الحرمة ، مثل المحقق الخراساني ، حينئذ يكون المحذور عنده محذورا ثبوتيا لا إثباتيا فقط ومعه يرجع الشك في المقام إلى الشك في المسقط ، وكل على مبناه كما تقدّم.

وأمّا إذا قلنا بالامتناع ، بالمشرب الذي أجملناه ، فيكون المحذور فيه إثباتيا لا ثبوتيا ، فحينئذ يكون مقتضى الأصل العملي هو البراءة لأنه يدخل في الأقل والأكثر الارتباطيين.

وبذلك تمّ الكلام في المسائل الثلاثة التي تكفّلت بتحقيق ما هو مقتضى الأصل اللفظي ومقتضى الأصل العملي في المعاني الثلاثة للتوصلي والتعبدي إذا شكّ فيها.

١٨٤

المسألة الرابعة من مسائل التعبدي والتوصلي

وهي المسألة المعقودة لتحقيق حال الأصل اللفظي أولا ، وتحقيق الأصل العملي ثانيا ، فيما إذا شكّ في توصليّة الواجب وتعبديّته بالمعنى الرابع ، أي التوصلي فيما لا يعتبر في مقام الفراغ في عهدته قصد القربة ، والتعبدي بمعنى ما يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته قصد القربة.

وفي هذا المعنى يقع الكلام ، فيما إذا شكّ بالتوصلية والتعبدية ، فهل يمكن إجراء الأصل اللفظي لنفي التعبدية؟ أو في حالة عدم وجود إطلاق للدليل اللفظي وانتهاء النوبة إلى الأصول العملية ، فهل يمكن إجراء أصل عملي في مقام التأمين عن خصوصية التعبّدية التي بها يمتاز التعبدي عن التوصلي أو لا؟.

ولتحقيق ذلك ، ومعرفة وفاء الأصل اللفظي ، أو الأصل العملي لنفي خصوصية التعبدية ، لا بدّ أن نعرف مقدمة لذلك ، حاق الخصوصية التي بها يمتاز الواجب التعبدي عن الواجب التوصلي في هذه المسألة ، وبعد أن نشخّص تلك الخصوصية في امتياز التعبدي عن التوصلي ، نبحث حينئذ في إمكانية مساعدة الأصول اللفظية على نفيها أو عدم إمكانيتها ، وهل تساعد الأصول العملية على التأمين من ناحيتها أم لا؟.

وفي مقام تحقيق حاق الفرق بين التعبدي والتوصلي ، وما يمتاز أحدهما

١٨٥

عن الآخر ، يذكر عدة وجوه ، وإن كان تمامها يرجع إلى المعنى الإجمالي للتعبدي والتوصلي ، وهو أن التعبدي ما لا يمكن الخروج عن عهدته إلّا بأخذ قصد القربة فيه ، والتوصلي هو ما يمكن الخروج عن عهدته من دون حاجة إلى ذلك ، إذن فالمعنى الإجمالي للتعبدي والتوصلي محفوظ على كل حال ، ومع هذا ذكرت لتفصيل المعنى الإجمالي وجوه.

الوجه الأوّل

هو أن يقال ، بأن الواجب التعبدي هو ما كان الأمر فيه متعلقا بالفعل مع قصد القربة ، بحيث يكون قصد القربة مأخوذا في متعلق الأمر على حدّ مأخوذية سائر الأجزاء والشرائط.

والواجب التوصلي ، هو ما كان الأمر فيه أمرا واحدا متعلقا بالفعل على الإطلاق سواء انضم إليه قصد القربة أو لم ينضم إليه.

وهذا هو الفرق بين الواجبين.

وفي تحقيق حال هذا الوجه وقع كلام حيث ذهب المشهور من المحققين المتأخرين إلى استحالة أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر.

وبناء على هذا ، لم يجعلوا أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر فارقا بين التعبدي والتوصلي ، وحينئذ وقع الكلام في مرحلتين.

المرحلة الأولى هي في قصد القربة عند ما يراد بالقربة قصد امتثال الأمر بالخصوص.

المرحلة الثانية هي في الالتفات إلى سائر القصود القربية الأخرى من قبيل الإتيان بالفعل بقصد كونه ذا مصلحة أو ذا ملاك أو بقصد كونه محبوبا وغيره من القصود الأخرى.

أمّا المرحلة الأولى

فإن المعروف بين المحققين هو عدم إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في

١٨٦

متعلق الأمر ، وقد برهنوا على ذلك بعدة بيانات نستعرض بعضها

البيان الأول :

وهو ما يظهر من عبارة صاحب الكفاية حيث قال بأن ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر لا يمكن أن يؤخذ في متعلق الأمر (١).

وحاصل هذا البيان دعوى أن أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر غير معقول للزوم الدور والتهافت والتناقض وذلك.

لأن قصد امتثال الأمر بحسب طبعه ، هو متأخر رتبة عن الأمر ، باعتبار أنه لا يعقل ولا يمكن وجوده إلّا بعد فرض أمر بعد الأمر ، وإلّا فمن دون فرض أمر لا معنى لقصد امتثال الأمر ، فقصد امتثال الأمر وجوده متأخر رتبة عن الأمر ، فلو كان قصد امتثال الأمر مأخوذ في متعلق الأمر ، للزم كونه بلحاظ آخر ، أسبق رتبة من الأمر ، لأن متعلق الأمر أسبق رتبة من الأمر ، وهذه الأسبقية ، أسبقية متعلق الأمر من الأمر ، ثابتة على كل حال ، وإن كان هناك اختلاف في تفسير هذه الأسبقية وتكييفها.

فإنه إن قيل بأن الأمر مع متعلق الأمر موجودان بوجودين ، وأن الإرادة مع متعلق الإرادة موجودان بوجودين ، إذن فيكون تأخّر الأمر عن متعلقه من باب تأخر العارض عن معروضه ، لأن نسبة الأمر إلى متعلقه حينئذ ، هي نسبة العرض إلى محلّه ، فيكون تأخره عنه ، تأخرا وجوديا على حد تأخر العارض عن معروضه.

وإذا قيل بأن الأمر ، ومتعلق الأمر ، موجودان في أفق نفس الآمر بوجود واحد ، وأن الحبّ والمحبوب ، وأنّ الإرادة والمراد موجودان بوجود واحد ، إذن فمتعلّق الأمر لا يكون متقدما على الأمر بالوجود ، ولكنّه متقدم عليه بالطبع على كل حال ، على حدّ تقدّم الإنسان على زيد بالطبع ، فإن الإنسان

__________________

(١) كفاية الأصول : مشكيني ج ١ ص ١٠٩.

١٨٧

وزيد وإن كانا موجودين بوجود واحد ، ولكن الإنسانية متقدمة على زيد بالطبع ، فإن ميزان التقدم بالطبع هو ، أنه كلّما كان للمتأخر وجود كان للمتقدم وجود ، وليس كلّما كان للمتقدم وجود كان للمتأخر وجود.

وهنا في زيد والإنسان ، كلما كان لزيد وجود ، لأن الإنسانية أعم من زيد وهذا الميزان موجود هنا ، فإنه كلّما كان للأمر بالصلاة وجود ، فللصلاة وجود لا محالة في أفق نفس الحاكم والآمر ، إذ لا يعقل أن يأمر الآمر بشيء قبل أن يوجد في ذهنه ، فكلّما كان للأمر بالصلاة وجود في نفس الآمر كان للصلاة وجود في نفسه ، وليس العكس ، لأنه قد يتصور الصلاة ولا يأمر بها ، وبناء على هذا فتكون الصلاة ، أي المتعلق أسبق رتبة من الأمر ، لكن سبقا طبعيا.

وعلى أيّ حال ، سواء قيل بالسبق الوجودي للمتعلّق على الأمر ، وبنينا على تعدد الوجود للأمر وللمتعلق ، أو قلنا بالسبق الطبعي لمتعلّق الأمر على الأمر ، وقلنا بأنهما موجودان بوجود واحد ، كوجود الإنسانية وزيد الواحد ، ففي كلتا الحالتين ، المتعلّق أسبق رتبة على الأمر.

فإذا كان قصد امتثال الأمر مأخوذا في المتعلّق ، يلزم أن يكون متأخرا ومتقدما ، وهو تهافت ، فإنه متأخر عن الأمر ، لأن وجوده يتوقف على فرض الأمر ، وبدون الأمر لا يتصوّر وجود لقصد امتثال الأمر. وهو متقدم على الأمر ، لأنه أخذ في متعلقه ، والمتعلق متقدّم عليه.

وهذا البيان واضح الاندفاع ، إذ يكفي في اندفاعه قبل أن نتعمّق في المسألة أن نقول في المقام ، بأن المتأخر غير المتقدم ، بينما هو موقوف على الأمر غير ما يكون الأمر موقوفا عليه ، فإنّ قصد امتثال الأمر ، وجوده خارجا ، يتوقف على الأمر ، وأمّا الأمر ، فهو يتوقف على الوجود الذهني لقصد امتثال الأمر في أفق نفس الآمر والحاكم ، إذ أن هناك وجودين لقصد امتثال الأمر.

أ ـ أحدهما الوجود الخارجي الذي يأتي به العبد خارجا.

١٨٨

ب ـ والآخر وجود ذهني لقصد امتثال الأمر ، وهو وجود في ذهن المولى حينما تصوّر المولى الصلاة بقصد الامتثال ، فأمر بها ، بينما هو موقوف على الأمر ، إنما هو الوجود الخارجي ، وما يتوقف عليه الأمر ، إنما هو الوجود الذهني ، وعليه فلا دور ولا تهافت.

وأحسب أن هذا الجواب يغني عن التعمق أكثر ، وكذلك يمنع البيانات الأخرى ، عن تتميم بيان الاستحالة.

البيان الثاني

للاستحالة هو أن يقال ، بأن قصد امتثال الأمر ، إذا أحذ قيدا في متعلّق الأمر ، يلزم الدور ، باعتبار أن كل أمر مشروط لا محالة بالقدرة على متعلقه ، فهو متأخر عن القدرة على متعلقه تأخر المشروط عن شرطه لاستحالة التكليف بغير المقدور ، فلا محالة يكون الأمر بالشيء مشروطا بالقدرة على ذلك الشيء ، ومتأخر عنها ، فلو فرض أن قصد امتثال الأمر أخذ في متعلق الأمر ، فيكون الأمر بالصلاة المقيّدة بقصد الامتثال ، مشروطا بالقدرة على إيقاع الصلاة بقصد الامتثال ، والمفروض أنّ المكلّف لا يقدر على إيقاع الصلاة بقصد الأمر إلّا بعد الأمر ، لأنه قبل الأمر لا قدرة على إيقاعها.

وعليه فيلزم الدور من الجانبين ، وذلك لأنّ الأمر متوقف على القدرة على متعلقه ، من باب توقف المشروط على شرطه ، والقدرة على المتعلق معناها ، القدرة على الإتيان بقصد امتثال الأمر ، والقدرة على الإتيان بقصد امتثال الأمر ، تتوقف على الأمر ، لأنه من ناحية الأمر تنشأ هذه القدرة ، إذن فقد توقف كلّ منهما على الآخر ، وبذلك يلزم الدور.

وهذا البيان ، وإن كان أحسن حالا من البيان السابق ، لكنّه أيضا لا يرجع إلى معنى صحيح.

وذلك لأنّنا ، وإن سلّمنا أحد التوقّفين ، وهو توقّف القدرة على قصد امتثال الأمر ، على الأمر ، وقلنا ، بأنّ القدرة على قصد امتثال الأمر ، إنّما تنشأ

١٨٩

من قبل الأمر ، لكن من قال ، بأنّ الأمر مشروط بهذه القدرة ، ومتوقف عليها ، على حدّ توقف المشروط على شرطه ، إذ أنّ دليل اشتراط القدرة ، إنّما هو العقل الحاكم باستحالة التكليف بغير المقدور.

ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم باستحالة التكليف بغير المقدور ، إذا كان نفس التكليف والأمر يحدث القدرة ، كما لو فرض مثلا ، أنّ كلام المولى مع عبده المشلول تكوينا ، يوجب استيناس العبد ، وبالتالي شفاءه ، هنا لا بأس بأن يتوجه المولى إلى عبده ويقول له ، قم ، ذلك أنّ القدرة على القيام وإن كانت هنا غير موجودة ، لكنّها سوف تحصل من أمر المولى ، وبذلك لا يكون أمر المولى أمرا إحراجيا للعبد ، إذ الميزان في اشتراط التكليف بالقدرة إنما هو عدم إحراج العبد من قبل المولى ، وعدم الإحراج يكفي فيه نشوء القدرة من قبل نفس الأمر ، فلو نشأت القدرة من قبل نفس الأمر ، فهذا يكفي في صحة الأمر ، وحينئذ يندفع الدور ، لأن القدرة على قصد الامتثال نشأت من الأمر ، وهي متأخرة رتبة عن الأمر تأخر المعلول عن علته ، ولكن الأمر ليس متأخرا رتبة عن القدرة على قصد امتثال الأمر تأخر المشروط عن شرطه ، وإنما هو متأخر عن إمكان حصول القدرة بالأمر ، وإمكان حصول القدرة بالأمر فعليّ قبل الأمر ، وإن كانت نفس القدرة هي بعد الأمر ، ولكن إمكان حصولها بالأمر مطلب واقعي ثابت قبل الأمر.

إذن فلا دور ، وهذا غير ما يقال ، من أنّ الأمر يشترط فيه القدرة وقت العمل ، فإن ذاك الكلام لا يرفع إشكال الدور ، لأن الأمر أصبح مشروطا بالقدرة على العمل ، والقدرة في وقت العمل مشروط بالأمر ، إذن صار كل منهما مشروطا بالآخر ، وهذا دور.

وكلامنا لا يرجع إلى هذا ، وإنما يرجع إلى أن القدرة على قصد الامتثال ، متوقف على الأمر ، لكن الأمر هنا ليس متوقفا ولا مشروطا بالقدرة ، لا بالقدرة حينه ، ولا بالقدرة في وقت العمل ، بل هو مشروط بإمكان حصول القدرة به ، والإمكان أمر ثابت قبل الأمر ، لأنه قبل الأمر يصدق قولنا ، أنه لو

١٩٠

أمر المولى لحصلت القدرة ، إذن فما هو الموقوف على الأمر ، غير ما يكون الأمر موقوف عليه ، إذ ما هو موقوف على الأمر إنما هو القدرة الفعلية على قصد امتثال الأمر ، وما يكون الأمر موقوفا عليه ومشروطا به ليس هو القدرة الفعلية ، لأن برهان الاشتراط إنما هو حكم العقل ، والعقل لا يأبى عن تكليف العاجز إذا كان نفس التكليف موجبا تكوينا لخروجه عن عجزه ، إذن فما هو الشرط في نظر العقل ، وما تمّ البرهان عليه ، إنما هو إمكان حصول القدرة ولو بالأمر ، لا حصول القدرة فعلا.

إذن فالموقوف على الأمر غير الموقوف عليه الأمر وبذلك يندفع الدور.

البيان الثالث

للبرهنة على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر هو أن يقال ، بأن الأمر إذا تعلّق بالصلاة مع قصد امتثال الأمر ، أصبح المكلّف عاجزا عن الإتيان بها مع قصد امتثال الأمر ، فأخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ، يوجب عجز المكلّف عن الامتثال ، وبذلك يكون أمرا بغير المقدور والأمر بغير المقدور غير معقول ، وتوضيح ذلك :

هو أن إمكان الإتيان بالصلاة بقصد امتثال الأمر ، يتوقف على أن يكون هناك ذات متعلقا للأمر ، ومصداقا للواجب ، لوضوح أنّ ذات الصلاة لو لم تكن متعلقا للأمر فلا يعقل الإتيان بها بقصد امتثال الأمر.

وحينئذ إن فرضنا أن الأمر تعلّق بذات الصلاة ولم يؤخذ في متعلقه قصد الامتثال فلا إشكال في المسألة ، لأن ذات الصلاة أصبحت متعلقا للأمر ، فيمكن للعبد أن يأتي بالصلاة بقصد امتثال الأمر المتعلق بها ، لأنه قادر على ذلك.

وأمّا إذا لم يتعلق الأمر بذات الصلاة ، بل تعلّق بالمجموع المركّب من الصلاة وقيد قصد امتثال الأمر ، فإذا لم تقع ذات الصلاة متعلقا للأمر ، فلا يعقل أن يقصد بها امتثال الأمر ، لأن قصد امتثال الأمر بالصلاة ، فرع أن يكون

١٩١

ذاك الأمر متعلقا بالصلاة ، مع أننا فرضنا أن الأمر لم يتعلق بذات الصلاة بل تعلّق بها مقيّدة بقصد امتثال الأمر.

وبهذا ، لا يتأتّى للمكلّف أن يقصد امتثال الأمر بذات الصلاة ، وعليه يكون الامتثال غير مقدور له ، ويكون الأمر أمرا بغير المقدور.

والجواب المشهور على هذا البيان هو أن يقال ، بأن الأمر وإن كان تعلّق بالصلاة المقيّدة بقصد امتثال الأمر ، ولم يتعلق بذات الصلاة ، لكن هذا هو الأمر النفسي الاستقلالي ، فإن الأمر النفسي الاستقلالي قد تعلّق بالمجموع المركّب ، أو بالمقيّد بقصد امتثال الأمر ، ولكن هذا الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق بالمجموع المركب والمقيّد ، ينحل إلى أوامر ضمنية متعددة بعدد الأجزاء والتقييدات ، إذن فذات الصلاة التي هي جزء الواجب ينالها أمر ضمني لا محالة ويتعلّق بها ، وحينئذ يصح أن يؤتى بها بقصد امتثال ذلك الأمر الضمني دون قصد امتثال ذلك الأمر النفسي الاستقلالي المتعلّق بالمقيّد ، لأنّ هذا الأمر الضمني جزء من ذلك الأمر النفسي الاستقلالي الواحد ، وهو قد تعلّق بذات الصلاة باعتبارها جزءا من الواجب.

هذا مع العلم أنه لا يصحّ طبعا في سائر الموارد أن يؤتى بجزء الواجب فقط بقصد الامتثال منفصلا عن باقي الأجزاء ، فمثلا لا يصح أن يؤتى بالركعة الأولى فقط بقصد الامتثال منفصلا عن الركعة الثانية.

لكن في خصوص المقام حيث أن الجزء الثاني أو القيد هو نفس قصد الامتثال ، إذن فلو أتى بذات الصلاة بقصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بها ، فقد انضمّ أحد الجزءين إلى الآخر أو انضمّ القيد إلى مقيّده ، وبهذا يتم الامتثال خارجا.

فحاصل هذا الجواب المشهور هو ، انحلالية الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق بالمجموع المركب ، أو المقيّد ، إلى أوامر ضمنية انحلالية بنحو يكون كل جزء أو كل تقيّد منه حصة من هذا الأمر ومنه الأمر الضمني المتعلق

١٩٢

بالصلاة ، فيأتي حينئذ بذات الصلاة ، بقصد امتثال ذلك الأمر الضمني المتعلق بها وبذلك يتم الامتثال.

وقد أشكل على جواب المشهور ، بإشكالين ، أحدهما غير وارد ، والآخر وارد عليه.

أمّا الإشكال غير الوارد على جواب المشهور هو ، أن يقال ، بأنّ هذا الجواب مبني على انحلال الأوامر النفسية المتعلقة بالمقيّدات والمركّبات إلى حصص وأوامر ضمنية ، من قبيل البياض الواقع على ورقة فإنّه يتقطّع ويتجزأ تبعا لتقطع الكتاب وتجزئته ، فكذلك هنا في عالم الوجوب ، فإن الوجوب المنبسط على المقيّد أو المركب يكون مشتملا على حصص متعددة ، فتكون حصة من الوجوب متعلقة بهذا الجزء ، وحصة منه متعلقة بذاك الجزء ، وبهذا يتم هذا البيان.

وأجيب عن هذا الإشكال بأننا ننكر هذا الانحلال ونقول ، بأن الأمر المتعلّق بالمركب أو المقيّد لا يكون مشتملا على حصص متعددة ، وذلك بنكتة أن المقيّد أو المركب لا يكون متعلقا للأمر النفسي الاستقلالي الواحد إلّا إذا لبس ثوب الوحدة وأصبح واحدا ولو في وعاء الذهن وعالم الاعتبار ، ولهذا سمّي بالمركبات الاعتبارية والوحدات الاعتبارية ، إذن فهذا المجموع المركب من الصلاة وقصد الامتثال ، أو من السورة والفاتحة والسجود ، هو في أفق الذهن وفي عالم نفس الوجود هو وجود واحد لا وجودين ، وإلّا لو كان وجودات متعددة في أفق ثبوت الحكم لاستحال أن يلبس حكما واحدا لأن الوجوب الواحد والحكم الواحد لا بدّ أن يكون معروضه في أفق عروضه واحدا أيضا.

إذن لا بدّ من فرض الوحدة في العروض ، وكون هذا المجموع المركب واحدا في أفق العروض ، وإذا كان واحدا ، إذن فلا معنى للتحصّص في المقام ، إذ ليس هنا أشياء عديدة بالنظر التشريعي للحاكم حتى نوزع أمره على حصص المتعلق ، بل هنا شيء واحد.

١٩٣

وهذا الإشكال في أصل انحلال الأمر النفسي الاستقلالي إلى أوامر ضمنيّة متعددة على التقييدات والأجزاء ، لا يقول بأن هذا الانحلال معناه تعدّد حصص الوجوب بلحاظ أفق الاعتبار وبلحاظ الصورة الذهنية ، بل بلحاظ محكييها.

وتوضيح ذلك هو أن الوجوب في أفق نفس الحاكم ، يكون معروضه بالذات ، هو الصورة الذهنية الواحدة ، حيث تكون معروضا بنحو من أنحاء العروض لوجوب واحد ، إلّا أن هذه الصورة الذهنية الواحدة ، إنما تكون معروضا لوجوب واحد بلحاظ حكايتها ومرآتيّتها ، لا بلحاظ نفسها ، لوضوح أن المولى لا يوجب علينا صورته الذهنية ، وإنما يوجب علينا محكيّ هذه الصورة الذهنية.

إذن فهذه الصورة الذهنية ، بما هي فانية في الخارج وبما هي حاكية عن معنونها تكون معروضة للوجوب ، وحينئذ فهذه الصورة للمجموع المركّب أو للمقيّد ، إن لوحظت بلحاظ أفق الوجود الذهني ، فهي وجود واحد ، لأن الوحدة الاعتبارية موطنها الذهن ، ولكن إذا لاحظنا محكيّها ومعنونها ومكشوفها الخارجي فلا محالة هو متعدد ، وحيث أنها إنما كانت معروضة للوجوب بلحاظ مكشوفها ومحكيّها لا بلحاظ نفسها ، فلا محالة يكون الوجوب أيضا متعددا بالعرض وبالتبع بتعدّد محكي هذه الصورة ومكشوفها ، ومن هنا يسمّى هذا بالانحلال ، لا بالتعدّد ، بمعنى أن الوجوبات الضمنية ليس لها وجوب تعددي حقيقة في عالم الحكم وفي عالم نفس الحكم. ولكنها موجودات انحلالية بلحاظ المحكي والمرئي بالصورة ، كأن هذا الواحد يكون كثيرا ، فالانحلال المدّعى في المقام ، انحلال لا بلحاظ المعروض بالذات الذي هو الصورة الذهنية والتي هي واحد في أفق الذهن ، بل بلحاظ المعروض بالعرض والمكشوف بالصورة ، فهذا قابل للتعدد ، فيتعدّد الوجوب بتبعه أيضا بالعرض لا بالذات ، وهذا معنى الانحلال.

إذن فانحلال الأمر إلى أوامر ضمنية ، ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، فهذا

١٩٤

الإشكال على تقريب المشهور لا محصّل له.

وأمّا الإشكال الوارد على جواب المشهور هو أن يقال ، بأنكم تريدون أن تصحّحوا الامتثال وقصد الامتثال بلحاظ الأمر الضمني المتعلق بالصلاة ، لا بلحاظ الأمر النفسي الاستقلالي ، وحينئذ نسألكم.

بأن هذا الأمر الضمني المتعلّق بالصلاة لا يخلو أمره ، فهو إمّا أن يكون قد تعلّق بالصلاة المطلقة ، أو بالصلاة المقيّدة أو بالصلاة المهملة ، أي بالجامع بين المطلق والمقيّد.

فإن فرضنا الأمر الضمني أنه كان قد تعلّق بالصلاة المطلقة ، فهذا أمر غير معقول ، لأن معناه تحقّق الواجب الضمني في غير ضمن المجموع ، لأن المطلق ينطبق على الجزء الغير منضم إلى بقية الأجزاء ، فلو كان الوجوب الضمني متعلقا بالجزء على إطلاقه ، سواء انضم الجزء الآخر أو لم ينضم ، كان هذا خلف قانون الضمنية والارتباط بين الواجبات الارتباطية.

وإن فرض أن الأمر الضمني كان متعلقا بالمقيّد ، فهذا أيضا غير معقول وذلك ، لأن المقيد ينحل بحسب الحقيقة إلى تقيّد وذات المقيّد ، وبهذا فقد أصبح مركبا أيضا ، وبهذا أصبح له أمران ضمنيّان لا محالة ، أمر ضمني بالتقيّد وأمر ضمني بذات المقيّد ، وحينئذ ننقل الكلام إلى الأمر الضمني بذات المقيّد ونسأل ، بأن هذا الأمر الأخير بأي شيء متعلق؟.

فإن قلتم بأنه متعلق بالمقيّد بالتقيّد وهكذا ، ننقل الكلام ، وهكذا يتسلسل ، لأنه لا يمكن الالتزام بأنّ الأمر الضمني متعلق بالمقيّد للزوم التسلسل في الأوامر الضمنية.

وإن فرض أن الأمر الضمني كان متعلقا بالصلاة المهملة ، فهذا أمر معقول ، لأن الإهمال هذا ، إهمال في مرتبة الوجوب الضمني. لا في مرتبة وأفق الواقع ، لأن الواقع ، هو الوجوب النفسي الاستقلالي ، والوجوب النفسي الاستقلالي لا إهمال فيه ، فإن الوجوب النفسي الاستقلالي قد أخذ فيه الصلاة

١٩٥

وأخذ فيه الجزء الآخر الذي هو قصد الأمر ، فلا إهمال بلحاظ الأمر النفسي الاستقلالي عند ما أخذت فيه السورة والركوع والسجود ، وإنما الإهمال بلحاظ مرتبة من مراتب الواقع ، يعني لو لوحظ الوجوب الضمني في إطار الوجوب النفسي الاستقلالي ، فقد يبدو مهملا ، ولكن هذا لا يعني أن المولى مهمل ، لأن المولى ليس في مقام جعل الوجوب الضمني فقط ، وإنما جعل الوجوب الضمني في ضمن الوجوب النفسي الاستقلالي ، وفي الوجوب النفسي الاستقلالي لا إهمال ، إذن فهو إهمال في المرتبة ، لا إهمال في الواقع ، وهذا لا بأس فيه.

إذن فهذا الشق الثالث وهو ، أن يكون متعلق الأمر الضمني ، هو المهمل ، فهذا أمر معقول وصحيح ، ولكن حينئذ يشكل على ذلك ويقال.

بأن المهملة في قوة الجزئية كما عرفنا ذلك في المنطق ، فإذا كان المهمل في قوة المقيّد ، إذن فيكون حال الأمر الضمني المتعلق بالمهمل ، كما لو كان متعلقا بالمقيّد ، وعليه أيضا يعود الإشكال في استحالة امتثال الأمر بذات الصلاة ، وذلك لأن قصد امتثال الأمر بذات الصلاة يتوقف على أن تكون ذات الصلاة ممّا ينطبق عليه الواجب ، بينما الواجب الضمني في المقام ـ وهو المهمل الذي هو في قوة المقيّد ـ لا ينطبق على ذات الصلاة ، وإنما ينطبق على المقيّد فقط ، فيلزم في مقام الامتثال أن يكون إمكان ضم قصد امتثال الأمر إلى ذات الصلاة متوقف على انطباق الواجب الضمني على ذات الصلاة ، في حين أن انطباق الواجب الضمني على ذات الصلاة فرع الضم ، أي فرع أن يكون مقيّدا حتى ينطبق عليه الواجب الضمني ، لأن الواجب الضمني مهمل ، والمهمل في قوة المقيّد ، إذن فهو لا ينطبق على الصلاة إلّا بعد تقيّدها ، وتقيّدها فرع انطباقه عليها ، إذن فيتعذر الإتيان بهذا الفعل خارجا ، وهذه تمام الصورة الفنية التامة للإشكال الثاني.

ولكن هذا الإشكال ، لا يتم بناء على مبانينا في بحث الإطلاق والتقييد ، حيث أننا هناك ، نبني على أن المهمل في قوة المطلق لا في قوة المهمل أو

١٩٦

المقيّد ، إذ ليس المهمل التصوري كالمهمل التصديقي ، أو القضية التصديقية المهملة في قوة الجزئية ، لكنّ المفهوم التصوري المهمل في قوة المطلق ، وقد سمّينا هذا بالإطلاق الذاتي ، في مقابل الإطلاق اللحاظي. وقد أوضحنا في بحث المطلق والمقيّد ، أن مقدمات الحكمة دائما لا تثبت أكثر من هذا المقدار من المهمل الجامع بين المطلق والمقيّد ، كما بيّنا أن هذا المهمل الجامع قابل للانطباق والسريان إلى تمام الأفراد ، فهو في قوة المطلق اللحاظي ، دون أن يلزم من ذلك خرق لقانون الضمنية والارتباط ، وذلك لأن قانون الضمنية والارتباط ، إنما يخرق لو أننا التزمنا بالإطلاق اللحاظي في الواجب الضمني ، لا بهذا الإطلاق الذاتي الذي هو الإهمال ، فإن المولى لو قال بأن الواجب هو الركوع ، سواء «سجدت أو لم تسجد» ، ووجوب الركوع بهذا الشكل نسميه بالإطلاق اللحاظي ، لأن المولى يلحظ عدم دخل القيد ويرفض دخل القيد ، فمثل هذا ينافي مع الضمنية والارتباط ، وأمّا الإطلاق الذاتي الذي يكفي فيه الإهمال وعدم اللحاظ رأسا فهذا لا ينافي مع الضمنية والارتباط.

وبناء على هذا ، فالمختار في المقام ، أنّ الأمر الضمني الانحلالي ، ليس متعلّقا لا بالمطلق اللحاظي ولا بالمقيّد اللحاظي ، بل هو متعلق بالمهمل الجامع بين المطلق والمقيّد المسمّى باللّابشرط المقسمي ، وهذا الجامع بين المطلق اللحاظي والمقيّد اللحاظي له إطلاق ذاتي ، وهو بلحاظ إطلاقه الذاتي ، يكون قابلا للسريان إلى تمام الأفراد.

وبناء عليه ، فيعقل في المقام الإتيان بذات الصلاة ، بقصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بذات الصلاة بلا إشكال ، وعليه فالجواب المشهوري تام ، وكلا الإشكالين عليه غير وارد ، وبذلك يتبيّن أنه لا محصّل لأصل بيان الاستحالة ، إذ ليس في المقام آية أو رواية تقول بأن قصد امتثال الأمر لا يكون إلّا إذا تعلق به الأمر ، كما يتبيّن بذلك ، أن كون قصد امتثال الأمر لا يكون إلّا إذا تعلّق به أمر ، كأصل موضوعي ، فهذا أصل لا أساس له ، فإنّ قصد امتثال الأمر ، يعقل أن يكون بأي شيء لا يتم الامتثال بدونه ، سواء كان الأمر متعلقا

١٩٧

به أو لم يكن متعلقا به ، وبهذا يتبيّن أنه يمكن الإتيان بالمقدمة بقصد امتثال الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق بذي المقدمة ، لأنه لا يتم الامتثال بدونه.

وفي المقام قصد امتثال الأمر بالصلاة يتوقف على أن يكون الامتثال لا يتم بدون الصلاة ، وكلّما كان الامتثال لا يتم بدون الصلاة يمكن أن يقصد امتثال الأمر بالصلاة.

وأحسب أن هذا مطلب بديهي ، فإن هذا المكلّف لا يمكنه أن يمتثل الأمر المتعلق بالصلاة مع قصد الامتثال بدون صلاة ، إذن فيأتي بها بقصد الامتثال.

ومن هنا فتمام هذه الضوضاء ، كان مبنيا على تخيّل أنّ قصد الامتثال للأمر بشيء ، فرع أن يكون الأمر قد تعلّق به بالدقة ، ومن هنا وقع الإشكال في أن ذات الصلاة لم يتعلّق بها الأمر بالدقة ، مع أن قصد امتثال الأمر بفعل ، يكفي فيه مجرد أن هذا الأمر بدون هذا الفعل يبقى بلا امتثال ، وهذا المطلب بديهي الانطباق على محل الكلام.

نعم إن كان هناك أمل في إثبات الاستحالة ، فهو في البيان الرابع الذي أفاده المحقق النائيني قدّس سره ، إذ أنه من أجود ما أفيد في بيان الاستحالة.

البيان الرابع

في البرهنة على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر وهو ما أفاده المحقق النائيني (١) قدس‌سره ، حيث ذكر أن أخذ قصد امتثال الأمر قيدا في متعلق الأمر يلزم منه الدور وأخذ ما هو متأخر متقدما.

لكن لا بلحاظ متعلق الأمر كما كان الحال في الأول ، بل بلحاظ متعلق متعلق الأمر الذي اصطلح عليه الميرزا باسم الموضوع ، أي بلحاظ موضوع الأمر.

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٧٧ ـ ٧٨.

١٩٨

وتوضيح ذلك يكون ببيان مقدمتين.

المقدمة الأولى

هو أن الأحكام الشرعية لها متعلقات ، ولها متعلقات المتعلقات ، أمّا المتعلقات الأولية ، فهي عبارة عن تلك الأفعال التي يكون ذلك الحكم الشرعي مقتضيا لإيجادها ، أو مقتضيا للزجر عنها ، «فالصلاة» متعلق لوجوب الصلاة في «أقيموا الصلاة» ، «وشرب الخمر» متعلق للحرمة ، في «لا تشرب الخمر» ، هذه هي المتعلقات الأولية ، وأمّا متعلقات المتعلقات ، وهي المتعلقات الثانوية ، فهي عبارة عن الأشياء الخارجية التي يكون المتعلق الأولي مربوطا بها ، من قبيل ، «الخمر» في «لا تشرب الخمر» ، فالشرب هذا ، متعلق أولي ، لكن الشرب متعلقا بالخمر ، فالخمر أمر خارجي يتعلق به المتعلق ، فيكون متعلقا ثانويا ، وكالعقد في وجوب الوفاء بالعقد ، فالوفاء هو المتعلق الأولي ، والعقد هو المتعلق الثانوي ، وكالزوجة في وجوب الإنفاق على الزوجة ، فالإنفاق هو المتعلق الأولي ، والزوجة هو المتعلق الثانوي ، أو كالوقت والقبلة في «صلّ عند الزوال إلى القبلة» ، فإن الصلاة هي المتعلق الأولي ، والقبلة هي متعلّق المتعلّق ، لأن الصلاة قيّدت بها ، وقد سمّي متعلّق المتعلّق ، بالموضوع ، وهذا الموضوع الذي هو متعلق المتعلّق يؤخذ دائما شرطا للحكم وقيدا في الحكم ، وحيث أن الحكم مجعول بنحو القضية الحقيقيّة ، والقضية الحقيقية تكون كل شرائطها مفروضة الوجود ، ولهذا يقال ، بأن الموضوعات ، أي متعلقات المتعلقات تؤخذ مفروضة الوجود في مقام جعل الحكم ، فإنّ الحاكم حينما يريد أن يحكم بوجوب الوفاء بالعقد يقول ، إذا وجد عقد فيجب الوفاء به ، إذا وجدت لديك زوجة ، فيجب الإنفاق عليها ، إذا كانت القبلة موجودة والوقت داخلا ، فصلّ في الوقت إلى القبلة ، إذا كان هناك خمر ، فيحرم شربه ، وهكذا كل ذلك أمثلة لأخذ الموضوع قيدا في الحكم ، أو بتعبير المحقق النائيني ، أخذ الموضوع مفروض الوجود في مقام جعل الحكم ، على نهج القضية الحقيقية ، ونتيجة أخذ الموضوع مفروض

١٩٩

الوجود ، تكون فعلية الحكم وثبوته تابعا لفعلية موضوعه وتحقق موضوعه. ففعلية وجوب الوفاء بالعقد ، فرع فعلية العقد خارجا ، فما لم يوجد عقد خارجا لا يجب الوفاء بالعقد ، وما لم يوجد وقت وقبلة خارجا لا يجب الصلاة في الوقت إلى القبلة ، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، والمفروض أن هذه الموضوعات أخذت شرائط وفرض وجودها في مقام جعل الحكم ، فيكون فعلية المجعول تابعة لفعلية هذه الشرائط ووجودها خارجا ، هذا بحسب عالم الفعلية ، ولكن بحسب عالم الجعل والإنشاء ، تكون مرتبة وجود هذه الموضوعات قبل مرتبة الحكم بالنظر الإنشائي والتصوري للجاعل ،

يعني أن الحاكم ينيط حكمه بفرض وجود هذه الأشياء ، وهذا الفرض وإن كان هو غير وجودها خارجا ، لكن هذا الفرض حينما ينظر إليه بالنظر الطريقي فالمولى يرى به عين المفروض ، إذن فحكمه يراه بهذه الرؤية كأنّه بعد المفروض ، كأنّ إنشاءه وجعله بعد المفروض ، ويرى هذه الأشياء في رتبة سابقة على جعله وإنشائه.

إذن فهناك سبقان رتبيّان.

أ ـ سبق رتبي حقيقي لوجود العقد خارجا على وجوب الوفاء خارجا ، وهذا السبق الرتبي الحقيقي ، ملاكه ، أنّ فعليّة المجعول منوطة بفعلية موضوعه.

ب ـ وهناك سبق رتبي لحاظي على نفس الجعل والإنشاء بحسب نظر المولى لهذه الأشياء ، لأن المولى في مقام الجعل ، أناط جعله بفرض هذه الأشياء فرضا حاكيا عن المفروض وطريقا إلى المفروض ، وهو بهذا النظر ، يرى كأنّ جعله في طول المفروض ، لا في طول الفرض فقط.

إذن فحاصل المقدمة الأولى ، هو أنه يجب التمييز بين المتعلقات الأولية والمتعلقات الثانوية المسمّاة بالموضوعات ، فالمتعلقات الأولية ، ليست مأخوذة قيدا في الحكم ، ولا مفروضة الوجود في مقام جعل الحكم ، كيف

٢٠٠