بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

غير مربوط بكلام الميرزا ، لأنه ناظر إلى المدلول التصديقي ، فجعل كلام الميرزا مبنيا على كلام المشهور القائلين ، بأنّ صيغة الأمر لها مدلول تصوري ، وهو النسبة التحريكية ، هذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فلا بدّ من النظر إلى المدلول التصديقي ، فهل هو طعّم بالبعث ، إذن يتم كلام الميرزا لو لا ما تقدم من جواب ، سواء قيل بالمدلول التصوري ، أو بالمنع منه ، مع الالتزام بالمدلول التصديقي من أول الأمر ، فإنكار المدلول التصوري أو الالتزام به ، لا دخل له بإشكال الميرزا.

الوجه الثاني : هو أنه في بحث الضد والتزاحم ، لو فرض أنّ الصلاة وقعت مزاحمة للإزالة ، وفرض أنّ الإزالة أهم ، فهنا يسقط الأمر بالصلاة رأسا لو قلنا بعدم إمكان الترتب ، وحينئذ ، هل تصح الصلاة المأتي بها ، أو لا تصح؟. وتصحيح الصلاة يتوقف على إحراز الملاك ، فكيف يمكن إحراز الملاك؟. وهنا يقول الميرزا (١) بإمكان التمسك بإطلاق المادة لإثبات الملاك ، لأن المادة وهي الصلاة في قولنا («صلّ») وقعت موضوعا لمطلبين ، أحدهما الوجوب ، والآخر الملاك ، فبلحاظ محمولها الأول ، سقط الوجوب يقينا ، باعتبار المزاحمة مع الواجب الأهم ، ولكن بلحاظ محمولها الثاني ، وهو الملاك ، يمكن التمسك بإطلاق المادة ، فيثبت وفاؤها بالملاك.

وعلى هذا ، إن صحّ أن نثبت بإطلاق المادة وجدانها للملاك في مورد المزاحمة ، إذن فلنتمسك بإطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني ، فيثبت قيام الملاك بالجامع ، بين الاختياري وغير الاختياري ، فيثبت بذلك السقوط بالحصة الغير اختيارية ، نظير ما تقدم من الميرزا في بحث المزاحمة ، فأيّ فرق بين المقامين.

وهنا يمكن للميرزا «قده» أن يدفع نقض السيد الخوئي «قده» ، وذلك عبر بيان الفرق بين المقامين بأحد بيانين.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ـ ص ٧٥ ـ ٧٦.

١٦١

البيان الأول

هو أن يقال ، بأنّه في المقام ، وإن كان إطلاق المادة في نفسه بلحاظ المحمول الثاني جاريا ، ولكنّه معارض بإطلاق الهيئة.

وتوضيح ذلك : أنّ المادة ، إن كانت على الإطلاق ، موضوعا للملاك ، فيلزم من ذلك ، أن يكون وجوب الفعل ، مقيّدا بعدم الإتيان بالحصة الغير اختيارية ، لأنّ الوجوب تابع للملاك ، فإذا فرض أنّ الحصة الغير اختيارية ، كانت وافية بالملاك على حد وفاء الحصة الاختيارية ، غاية الأمر أن الوجوب لا يعقل أن يتعلق بالجامع ، لأنه تحريك ، والتحريك يختص بالحصة الاختيارية ، إذن لا محالة يكون هذا الوجوب مقيّدا بعدم وقوع الحصة الغير اختيارية ، إذ مع وقوعها لا يبقى ملاك ، إذن لا يبقى وجوب ، وإذا كانت المادة وافية بالملاك لا على الإطلاق ، بل بخصوص الحصة الاختيارية ، إذن فالوجوب ثابت على الإطلاق سواء أوتي بالحصة الغير اختيارية أو لم يؤت بها ، فهنا إذن ، تعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة ، لأنه بعد التحفظ على إطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني وهو الملاك ، يلزم من ذلك ، رفع اليد عن إطلاق الهيئة وتقييد الوجوب بعدم وقوع الحصة الغير اختيارية ، بينما إذا قيّد إطلاق المادة بلحاظ المحمول الثاني بخصوص الحصة الاختيارية ، فسوف يكون مفاد الهيئة وهو الوجوب مطلقا ، ثابتا ، سواء أوتي بالحصة الغير اختيارية أو لم يؤت بها ، إذن فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين ، إذ بقاؤهما معا غير معقول ، وبعد التعارض والتساقط ، ينتقل إلى الأصل العملي ، إذا تبين أنّه لا يمكن إثبات السقوط بالدليل اللفظي ، وهذا بخلاف المزاحمة ، فيما إذا فرض أن الصلاة مزاحمة للإزالة الأهم على الغرض ، ففي المزاحمة إطلاق المادة ، وهي الصلاة في («صلّ») بلحاظ محمولها الثاني وهو الملاك ، يكون ثابتا ، ولا يعارضه إطلاق الهيئة ، لأن الوجوب هناك ساقط بالمزاحمة على كل حال ، بخلافه هنا ، فإنّ الوجوب هنا غير ساقط في نفسه ، وإنما يحتمل سقوطه بالحصة غير الاختيارية ، ولا يقطع بسقوطه ، فالتمسك بإطلاق

١٦٢

الهيئة معارض بإطلاق المادة ، بينما في المزاحمة ، الوجوب معلوم السقوط باعتبار التزاحم وعدم إمكان الترتب بحسب الغرض.

إذن فإطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني وهو الملاك ، لا يعارضه إطلاق الوجوب ، لأنّ الوجوب ساقط رأسا بالمزاحمة ، وأمّا في المقام ، فالوجوب ليس ساقطا ، وإنما يشك في أنّ الإتيان بالحصة غير الاختيارية يسقط الوجوب أو لا يسقطه ، فحينئذ ، إطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني وهو الملاك ، يسقط الوجوب ، وإطلاق الهيئة بلحاظ الوجوب يثبت الوجوب ، فيتعارض الإطلاقان في المقام ، بينما لا تعارض بينهما في باب المزاحمة.

البيان الثاني

هو أن يقال بأن المادة وإن وقعت موضوعا لكلا المحمولين الوجوب والملاك ، لكن موضوعيتها للملاك في طول موضوعيتها للوجوب ، بمعنى أن صيغة الأمر («افعل») تدل بالمطابقة على وجوب المادة ، وبالالتزام ، على وجود الملاك ، ولا إشكال عند الجميع ، في أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا ، فلو لم يكن في الخطاب ظهور دال على الوجوب ، فلا يكون فيه ظهور يدل بالالتزام على الملاك ، كما هو عند الميرزا ومشهور طبقته ، أنّ الدلالة الالتزامية غير تابعة للدلالة المطابقية في الحجية ، بل في الوجود.

وعلى هذا يقال في مورد المزاحمة في خطاب («صلّ») ، حيث انعقد ظهور ودلالة مطابقية في وجوب الصلاة ، ودلالة التزامية في ثبوت الملاك ، غاية الأمر أن خطاب («أزل») يكون كاشفا عن بطلان المدلول المطابقي ، بمعنى عدم وجوب الصلاة ، وأمّا المدلول الالتزامي فلا كاشف عن بطلانه ، إذ لعلّ الملاك موجود ، إذن فيؤخذ بالدلالة الالتزامية لأنها غير تابعة للدلالة المطابقية في الحجية فتبقى الدلالة الالتزامية على الحجيّة ، هذا في مورد المزاحمة.

١٦٣

وأمّا في محل الكلام ، فيما إذا قال المولى («اغسل») فإن المدّعى للميرزا عدم انعقاد دلالة مطابقية أصلا بلحاظ الوجوب ، فضلا عن الملاك ، وذلك لأن الكاشف عن بطلان المدلول المطابقي وهو الوجوب ، يعتبر قرينة متصلة بالخطاب ، وهو داعي البعث والتحريك ، وهذا لا يناسب بداهة ، الأمر الغير اختياري ، فهذه قرينة متصلة على أن الواجب يختص بخصوص الحصة الاختيارية ، فلا ينعقد للخطاب ظهور من أول الأمر ، ولا للمادة إطلاق من أول الأمر بلحاظ المدلول المطابقي حتى يتولد في طول ذلك ، إطلاق ودلالة بلحاظ المدلول الالتزامي وهو الملاك ، وهذا بخلاف مورد المزاحمة ، فإنه في مورد المزاحمة ، القرينة منفصلة ، وهو خطاب («أزل») ، فلا تهدم أصل الدلالة ، ولا تفني أصل الظهور.

فالفرق واضح بين المقامين ، ففي المقام ، الدلالة المطابقية ذاتا ، غير موجودة ، لأن القرينة متصلة ، فتنعدم الدلالة الالتزامية ، وأمّا في المزاحمة ، فالدلالة المطابقية ذاتا موجودة ، ولكنها ساقطة عن الحجية ، وحيث أن الدلالة الالتزامية على مختاره غير تابعة للمطابقية في الحجية ، أمكن التمسك بالدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية.

إذن فالصحيح في الجواب ، على ما ذكره الميرزا من التقييد لإطلاق المادة ، أن يقال ، بأنه لا موجب لتقييد إطلاق المادة على ما تقدم منا ، وداعي التحريك يناسب مع الجامع وصرف الوجود بين الحصة الاختيارية والحصة الغير اختيارية. فإشكال الميرزا على إطلاق المادة غير وارد.

والإشكال الثاني على إطلاق المادة ، هو ما ذكره السيد الخوئي ، وهو مبني على مباني الميرزا (١) ، وحاصله.

أنه إذا استحال التقييد ، استحال الإطلاق (٢) ، لأن الإطلاق هو عدم

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ص ٨٢.

(٢) أجود التقريرات ـ الخوئي ص ١٠٥ هامش ١٠٤.

١٦٤

التقييد في موضع يمكن فيه التقييد ، وفي المقام ، تقييد المادة بخصوص الفعل غير الاختياري أمر غير معقول ، لأنه غير مقدور ، وإذا استحال التقييد بغير الاختياري استحال الإطلاق لغير الاختياري أيضا.

وهذا الاعتراض لا مجال له ، وذلك : أنّ المقصود في المقام هو جعل المادة منطبقة على الحصة غير الاختيارية ومطلقة ، بمعنى عدم التقييد المقابل لتلك الحصة ، فمثلا انطباق عنوان «العالم» في «أكرم العالم» على غير الهاشمي ، يتوقف على الإطلاق ، لكن أيّ إطلاق؟. الإطلاق بمعنى ، أنه لم يؤخذ فيه قيد الهاشمية ، فإن المولى إذا حكم بوجوب إكرام «العالم» وقيّد العالم بالهاشمي ، إذن فلا ينطبق هذا العالم على غير الهاشمي ، وأمّا إذا لم يقيّده بالهاشمي ، إذن فسوف ينطبق على غير الهاشمي ، فالانطباق على غير الهاشمي من نتائج الإطلاق ، بمعنى عدم التقييد بالهاشمي.

فهنا يكون العالم منطبقا على غير الهاشمي ، إذا كان مطلقا ، بمعنى ، أنه لم يؤخذ فيه قيد الهاشمية ، ويكون هذا العالم ، منطبقا على الهاشمي نفسه إذا كان مطلقا ، بمعنى ، أنه لم يقيّد بغير الهاشمي ، لأنه لو قيّد بغير الهاشمي ، إذن لما انطبق على الهاشمي ، فانطباقه على الهاشمي ، فرع الانطباق المقابل لتقييده بغير الهاشمي.

وهكذا يوجد في خطاب ، «أكرم العالم» تقييدان ، في مقال كل منهما إطلاق ، التقييد بالهاشمي ، في مقابله إطلاق ، بمعنى عدم التقييد بالهاشمية ، وهذا الإطلاق ، من نتائجه ، تطبيق عنوان «العالم» على غير الهاشمي ، والتقييد بغير الهاشمي ، في مقابله إطلاق ، بمعنى عدم أخذ قيد غير الهاشمي ، وهذا الإطلاق ، من نتائجه ، تطبيق العنوان على الهاشمي.

وبهذا يصح أن يقال ، بأن تطبيق العنوان على كل حصة ، هو من شئون الإطلاق ، بمعنى عدم التقييد بالحصة الأخرى.

وهنا في محل الكلام ، لو قال ، «اغسل» فالمادة وهي «الغسل» ، أيضا

١٦٥

لها حصتان ، إحداهما ، «الغسل» الاختياري ، والأخرى ، «الغسل» الغير اختياري ، وهنا نريد أن نجعل المادة ، منطبقة على غير الاختياري ، كما جعلناها منطبقة على غير الهاشمي ، فيمكن جعل المادة ، منطبقة على غير الاختياري بالإطلاق ، بمعنى عدم التقييد بالاختياري ، فإنه لو قيّد المادة بالاختياري ، إذن لما انطبقت على غير الاختياري ، فالإطلاق بمعنى عدم التقييد بالاختياري ، هو الملاك في انطباق المادة على غير الاختياري.

إذن فالإطلاق الذي هو محل الكلام ، هو في مقابل التقييد بالاختياري ، ومن الواضح أن التقييد بالاختياري معقول بلا إشكال ، إذن فالإطلاق المقابل له معقول أيضا.

والإشكال إنما نشأ ، من تخيّل ، أنّ الإطلاق في مقابله التقييد بغير الاختياري ، مع أنّ الإطلاق الذي نحن بصدده ، مقابل التقييد بالاختياري ، لأن المراد عدم أخذ الاختياري قيدا ، وهو الإطلاق الذي ينشأ منه تطبيق المادة على غير الاختياري.

إذن فالتقابل هنا ، بين التقييد بالاختياري وعدم التقييد بالاختياري ، ومن الواضح أن التقييد بالاختياري ممكن فعدم التقييد بالاختياري ، الذي هو معنى الإطلاق ، أيضا ممكن ، وهو الملاك في تطبيق المادة ، على الحصة غير الاختيارية ، فالإشكال في غير محله.

وقد أشكل ثالثا في المقام ، على التمسك بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية ، بإشكال اللغوية ، إذ أيّ أثر لإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية ، بعد فرض عدم إمكان تحرك العبد نحو هذه الحصة ، في مقام الامتثال ، ويمكن في مقام الجواب ، على هذا أن يذكر أشياء كثيرة ، أحدها ما ذكره السيد الخوئي (١) ، حيث ذكر أنه يكفي لهذا الإطلاق فائدة ، إثبات السقوط بالحصة غير الاختيارية لو أتى بها العبد صدفة ، فيثبت ببركة إطلاق المادة سقوط

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٤٨ ـ ١٤٩.

١٦٦

الوجوب ، بالحصة الغير اختيارية ، فهذا الإشكال أيضا لا محصّل له ، وعليه فلا يوجد إشكال على التمسك بإطلاق المادة في المقام ، ومقتضى الأصل اللفظي هو التمسك بإطلاق المادة ، لإثبات تعلق الوجوب بالجامع للفعل الاختياري وللفعل غير الاختياري.

إذن فيسقط الوجوب بالحصة غير الاختيارية ، فيكون مقتضى الأصل اللفظي هو السقوط.

ثم قد يقال في المقام ، بأن مقتضى الأصل اللفظي ، هو السقوط ، أو أنه على الأقل ، لا يقتضي عدم السقوط ، حتى لو لم يتم إطلاق المادة ، ولم يثبت أن الوجوب متعلق بالجامع بين الحصتين.

والسقوط في هذه الحالة يمكن تصويره بأحد تقريبين.

التقريب الأول

هو ما نقلناه سابقا عن السيد الخوئي (١) «قده» وهو التمسك بإطلاق المادة ، بلحاظ محمولها الثاني الذي هو الملاك ، لا بلحاظ محمولها الأول الذي هو الطلب والتكليف ، فإذا لم يثبت إطلاق المادة بلحاظ المحمول الأول ، فليثبت بلحاظ المحمول الثاني الذي هو الملاك ، فيثبت إطلاق المادة بلحاظ الملاك ، وفاء الحصة غير الاختيارية بالملاك ، وهذا يقتضي السقوط بالحصة غير الاختيارية ، كما أمكن التمسك بإطلاق المادة ، لإثبات الوفاء بالملاك ، بلحاظ المحمول الثاني ، في مورد المزاحمة.

وهذا الكلام تعرضنا له سابقا ، وبيّنا وجهين من الفرق بين محل الكلام ، وبين مورد المزاحمة ، ولم نقصد من بيان الوجهين التحميل على الميرزا ، بحيث يكون ملتزما بالوجهين ، بل قصدنا بيان واقع المطلب ، والتفرقة بين المقام ، وبين مقام المزاحمة بأحد الوجهين ، سواء التزم بهما الميرزا أم لم يلتزم.

__________________

(١) المصدر السابق ١٥٠ ـ ١٥١.

١٦٧

التقريب الثاني

أن يقال ، بأنه لو سلّم أن إطلاق المادة ساقط ، باعتبار البرهان العقلي ، القائم على استحالة الشمول للحصة غير الاختيارية ، لا بلحاظ المحمول الأول ، ولا بلحاظ المحمول الثاني ، لكن ما هو مدرك عدم السقوط؟. أليس مدرك عدم السقوط ، هو التمسك بإطلاق الهيئة في المقام؟. حيث يقال ، بأن إطلاق المادة بعد سقوطه واختصاص المادة بالحصة الاختيارية ، يتمسّك حينئذ بإطلاق الهيئة ، لإثبات أنّ الوجوب ثابت على كل حال ، سوءا أوتي بالحصة غير الاختيارية ، أو لم يؤت بها؟.

نعم لو كان إطلاق المادة ثابتا ، لما أمكن التمسك بإطلاق الهيئة ، إذ لو كان إطلاق المادة ثابتا وكانت الحصة غير الاختيارية مصداقا للواجب ، لما أمكن التمسك بإطلاق الهيئة ، أي الوجوب ، لفرض وقوع الحصة غير الاختيارية ، إذ كيف يعقل ثبوت الوجوب ، مع وقوع المادة والمتعلّق خارجا؟.

لكن بعد فرض سقوط إطلاق المادة وأنها قيّدت بخصوص الحصة الاختيارية ، حينئذ يتمسك بإطلاق الهيئة أي الوجوب ويقال ، إن وجوب الحصة الاختيارية ثابت ، سواء أوتي بالحصة غير الاختيارية أو لم يؤت بها.

إذن فمدرك عدم السقوط ، هو التمسك بإطلاق الهيئة.

ولكن صاحب هذا البيان يريد أن يقول ، بأنه لا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة.

وحاصل هذا المطلب أنه في خطاب «اغسل» كان يوجد إطلاقان ، إطلاق في الهيئة في مفاد الهيئة ، وهو الوجوب ، وإطلاق في المادة ، ومقتضى إطلاق الهيئة ، الذي هو إطلاق الوجوب ، أنّ الوجوب ثابت على كل حال ، سواء وقع الغسل خارجا أو لم يقع ، ومقتضى إطلاق المادة في نفسه ، أنّ متعلّق الوجوب هو مطلق الغسل ، سواء كان اختياريا أو غير اختياري.

١٦٨

ومن الواضح أنّ المادة هنا ، بعد وقوعها مع الهيئة في دليل واحد لا في دليلين ، تقيّد إطلاق الهيئة إذ لا معنى لأن يقول ، صلّ حتى لو صلّيت ـ فإن الوجوب مقيّد لا محالة بعدم وقوع متعلقه خارجا ، لأن وقوع المتعلّق خارجا ، يوجب سقوط الوجوب واضمحلال التكليف.

إذن لا يعقل أن يكون الوجوب ثابتا مع وقوع متعلّقه خارجا وحينئذ فكلّ ما شملته المادة من الحصص خرج عن إطلاق الهيئة ، وكلّما اتسعت المادة تضيقت الهيئة ، وهذا معناه أن إطلاق المادة مقيّد لإطلاق الهيئة ، وحيث أن إطلاق المادة متصل مع إطلاق الهيئة لا منفصل عنه لوقوعها معها في دليل واحد ، إذن فإطلاق المادة يوجب عدم انعقاد الإطلاق في الهيئة رأسا ، باعتبار إطلاق المادة مقيّد متصل مع الهيئة ، فبمقدار ما تتسع له المادة بحسب إطلاقها لم ينعقد إطلاق في الهيئة رأسا باعتبار إطلاق المادة قرينة متصلة.

وبعد أن قام البرهان العقلي الموجود في تقريرات (١) الميرزا على أن إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية ساقط ، وهذا يعتبر مقيّد لإطلاق المادة ، فإن فرضناه مقيّدا متصلا ، بحيث يكون بديهيا فهو قرينة متصلة ، نسبته إلى إطلاق المادة ، نسبة إطلاق المادة إلى إطلاق الهيئة ، فهو مقيّد للمقيّد ، وحينئذ بمقدار ما يهدم المقيّد يبقى إطلاق الهيئة على حاله ، وأمّا إذا فرض أن برهان الميرزا برهانا عقليا منفصلا ، وقرينة منفصلة ، فهذا معناه ، أن إطلاق المادة قد انعقد بالفعل ، حيث لم يتصل به قرينة ، وبما أن المادة متصلة مع الهيئة ، إذن فهي تهدم ظهور الهيئة وإطلاقها من الأساس ، فلم يتولد للهيئة إطلاق من أول الأمر ، لاتصالها بالمادة الهادمة ، وإن وجد فيما بعد المقيّد المنفصل للمادة.

وهذا إشكال دقيق مستفاد من بعض تحقيقات المحقق العراقي (٢) «قدس سرّه» في هذه المسألة.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ص ٧٥.

(٢) بدائع الأفكار ج ١ الآملي ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

١٦٩

وهذا الإشكال يرد عليه : حلا ونقصا.

أمّا حلا فيقال : إن المدّعى للقائلين بسقوط إطلاق المادة ، كالميرزا ، هو أن المسقط لإطلاقها قرينة متصلة لا منفصلة ، إذ أن كون المولى في مقام البعث والتحريك مع استحالة البعث نحو غير المقدور يشكّل قرينة متصلة على تقييد إطلاق المادة وهدم أصل ظهورها وتكونها ، وبعد هدم أصل ظهورها ، لا يبقى ما يوجب المنع عن إطلاق الهيئة ، فيبقى إطلاق الهيئة على حاله وهو موجب لعدم السقوط.

وأمّا نقضا فيقال ؛ بأنه لو سلّم بأن المقيّد لإطلاق المادة بالحصة الاختيارية ، كان مقيّدا منفصلا ، حينئذ يرد النقض بسائر الموارد التي تقيّد فيها المادة بقيد منفصل ، من قبيل ما إذا قال ، «صلّ» ثم قيّد المادة فقال «لا صلاة إلّا بطهور» ، فبناء على أن مثل هذه التقييدات زائدة على المسمّى ، فحينئذ ، تأتي نفس الشبهة والإشكال ، وهو هل أن الإتيان بالصلاة الفاقدة للطهور ، مسقط أو غير مسقط؟.

فإن قيل أنّه مسقط ، فهذا خلاف الضرورة ، إذ لا خلاف بأن الإتيان بالصلاة الفاقدة غير مسقط ، وإن قيل أنه غير مسقط ، إذن ، مدرك عدم السقوط هو ، التمسك بإطلاق الهيئة ، «صلّ» الذي يقتضي وجوب الصلاة التامة ، سواء أوتي بالصلاة الناقصة أو لم يؤت بها.

فلو تمّ هذا الإشكال المنقول عن المحقق العراقي ، للزم منه ، عدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة في سائر هذه الموارد ، لأن إطلاق الهيئة في «صل» اقترن بإطلاق المادة وهو الصلاة ، فقيّده ، فلم يبقى للهيئة إطلاق يقتضي الوجوب مع إيقاع الصلاة كيفما اتفق ، وحينما يأتي المقيّد المنفصل ويقيّد إطلاق المادة وهو الصلاة فلا يتولد من جديد إطلاق في الهيئة يقتضي وجوب الصلاة بطهور سواء أتى بصلاة بطهور أو لم يأت لأن إطلاق الهيئة. سقط بموجب الإشكال المذكور ، فأي فرق بين محل الكلام وبين سائر الموارد

١٧٠

التي يرد فيها التقييدات المنفصلة الطارئة على المادة.

ويجاب ثالثا :

بأنّ هذه الإشكال ، أساسا ، مبني على أن إطلاق الهيئة يقيّد بإطلاق المادة ، بمعنى ، أن الوجوب يقيّد بعدم الإتيان بالمتعلق خارجا ، كما إذا قال «صلّ إذا لم يكن هناك صلاة» ، وهكذا ، بينما هذا التقييد أساسا غير صحيح ، فإن مفاد الهيئة وهو الوجوب لا يقيّد بعدم الإتيان بالمادة كما حققنا ذلك مفصلا في بحث الترتب والتزاحم ، ومنشأ تخيّل أن مفاد الهيئة يقيّد بمفاد المادة هو دعوى ، أنّ الوجوب ، أليس يسقط بعد الإتيان بالمتعلق «صلّ أو اغسل» ، خارجا؟. ومعنى سقوط الوجوب أنه مقيّد بعدم وقوع المادة «الغسل أو الصلاة». مع أن سقوط الوجوب مع الإتيان المتعلق ووقوع المادة معناه سقوط فاعليته ، لا سقوط فعليته ولا سقوط الخطاب ، وإلّا فإن خطاب «صلّ» ، هو «صلّ» تعلق بصرف الوجود ، الجامع بين الأفراد فلو فرض أنّ المكلف أتى بصرف الوجود خارجا في ضمن أحد الأفراد ، حينئذ يسقط الخطاب خطاب «صلّ» عن الفاعلية والمحركية عقلا ، لأنه يحرك نحو صرف الوجود ، الجامع بين الأفراد العرضية والطولية ، بينما صرف الوجود تحقق خارجا ، فلا معنى لأن يؤتى بصرف الوجود خارجا ، لأن الخطاب «صلّ» ، يبقى بلا أثر ، لا أن مفاده ، وهو الوجوب ، مقيّد بعدم وقوع المادة «الصلاة» خارجا ، على حد تقييده بسائر الشرائط والخصوصيات. فبناء على هذا فلا يكون إطلاق المادة مقيّدا لإطلاق الهيئة أصلا ، حتى يتأتى الإشكال وإنّما متى ما ثبت الامتثال ، يسقط الوجوب عن الفاعلية والمحركية ومتى ما لم يكن هناك امتثال فالوجوب باق على الفاعلية.

وحينئذ إذا تقيد إطلاق المادة بالحصة الاختيارية ، وصدر من المكلف حصة غير اختيارية ، فالوجوب هنا يبقى على إطلاقه ، ولم يسقط عن الفعلية ولا عن الفاعلية ، أمّا أنه لم يسقط عن الفعلية فواضح ، وأمّا عن الفاعلية لم يسقط ، فلأنه لا امتثال في المقام ، إذن فيبقى الوجوب محركا ، فالإشكال ،

١٧١

كان مبنيا على تقييد إطلاق الهيئة بإطلاق المادة ، وهو ما لا نقبله ، وإنّما إطلاق الهيئة ثابت على كل حالة غاية الأمر أن إطلاق المادة يوجب سقوطه عن الفاعلية لا سقوطه عن الفعلية وتفصيل الكلام في المباني في بحث الترتب إن شاء المولى.

ويجاب رابعا :

بأنه لو سلم بأن إطلاق الهيئة ، يكون مقيّدا ، لكن من قال ، بأنه مقيّد مثلا بعدم وقوع الصلاة بعنوان أنها صلاة ، بل هو مقيّد بعدم امتثاله ، كأنه قال «صلّ ما لم تمتثل» ، فهناك قيد واحد عقلي عام ، وهو قيد عدم الامتثال الذي يقيّد به إطلاق الهيئة ولو ببرهان استحالة بقاء الوجوب بعد امتثاله ، فحينئذ ، إطلاق الهيئة يقيّد بعدم الامتثال ، وإطلاق المادة يحقق الامتثال ، فيقول هذا امتثال ، فيكون خارجا عن إطلاق الهيئة باعتبار أنه امتثال ، فلو قيّد إطلاق المادة بقيد ولو منفصل ، بخصوص الحصة الاختيارية وأسقطه عن الحجية فيثبت أنّ الحصة غير الاختيارية ، ليست امتثالا ، إذن فهي ليست خارجة عن إطلاق الهيئة ، فيتمسّك بإطلاق الهيئة بالنسبة للمكلّف الذي أتى بالحصة غير الاختيارية ، فلا يكون ممتثلا.

وأمّا لو كان إطلاق المادة محفوظا ، فلو أتى بالحصة غير الاختيارية يكون قد امتثل ، بمعنى أنه يكون قد أتى بالمتعلق ، فهذا القيد العقلي العام ، قيد ثابت بلحاظ الهيئة ، فهو على كل حال لا يختلف زيادة ونقيصة باختلاف سقوط إطلاق المادة أو بقاء إطلاقها.

فهذا الإشكال ، ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وقد اتضح أنه عند الشك بالسقوط بالحصة غير الاختيارية ، أنّ مقتضى الأصل اللفظي ، هو السقوط ، لأنّ إطلاق المادة معقول ويمكن التمسك به ، ومقتضى إطلاق المادة هو تعلّق الوجوب بالجامع بين الاختياري وغير الاختياري ، هذا هو المقام الأول وهو مقتضى الأصل اللفظي في المسألة الثانية.

١٧٢

المقام الثاني :

مقتضى الأصلى العملي في المسألة الثانية وتحقيقه ، هو نفس التحقيق السابق ، في الأصل العملي في المسألة السابقة ، فإن قيل بإمكان تعلق الوجوب بالجامع بين الحصة الاختيارية والحصة غير الاختيارية ، إذن فالشك في المقام ، يكون داخلا في الأقل والأكثر الارتباطيين ، باعتبار أنه يعلم بوجوب الجامع بين الحصتين ولا يعلم بوجوب الزائد على ذلك ، فيدخل في الأقل والأكثر الارتباطيين وفيه تجري البراءة.

ولو فرض بأن الوجوب ، علم تعلقه بخصوص الحصة الاختيارية ، وشك في أن الوجوب هل هو مقيّد بعدم الحصة غير الاختيارية أو لا؟ ، فهنا إن كان الشك في تقييده على نحو الشرط المتأخر ، بمعنى أن ثبوت الوجوب لخصوص الحصة الاختيارية منوط من أول الأمر بعدم وقوع الحصة غير الاختيارية إلى الأخير ، إذن فلو وقعت الحصة غير الاختيارية في الأثناء ، يكون ذلك موجبا للشك في أصل الوجوب ، وحينئذ ، لا مجال لاستصحاب الوجوب ولا لأصالة الاشتغال ، بل تجري البراءة ، لأنه شك في أصل الوجوب.

وأما إذا كان الشك في تقييده على نحو الشرط والقيد المقارن ، إذن فهذا الوجوب من أول الأمر كان ثابتا على كل حال ، لأنه لم يكن هناك مسقط ، وبعد أن تقع الحصة غير الاختيارية في الأثناء ، يشك في أنّ ذاك الوجوب هل سقط أو لم يسقط؟. فإن قبل بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية فهو ، وإن قيل بعدم جريانه ، تصل النوبة إلى البراءة والاشتغال ، وحينئذ إن كانت المسقطية المحتملة من باب المسقطية بالتعذر ، بمعنى أنّ الغرض محبوب للمولى ، لكنّه متعذر ، فحينئذ ، يصير الشك من باب الشك في القدرة ، فتجري أصالة الاشتغال ، وإن كانت المسقطية المحتملة ، من باب إخراج الغرض عن كونه غرضا ومحبوبا للمولى بحيث أنه لم يبق محبوبا للمولى ، إذن فتجري البراءة كما تقدم تفصيله في المسألة السابقة.

١٧٣

تذنيب

انقدح بما قلناه أن البراءة تجري في أكثر الغروض ، نعم في بعضها تجري أصالة الاشتغال.

ونريد أن نبّه هنا أن الغروض الفقهية المتعارفة التي تدخل في المسألة الأولى ، أو في المسألة الثانية ، هي دائما ، داخلة في موارد جريان البراءة لا الاشتغال ، خلافا للأعلام الذين بنوا في أمثالها على جريان أصالة الاشتغال ، من باب الشك في المسقط.

ولأجل توضيح أن الغروض الفقهية المتعارفة تكون دائما مجرى للبراءة لا الاشتغال ، نأخذ مثالا ، وهو وليّ الميت الذي يعلم بوجوب أداء ما فات وليّه من الصلاة ، ويشك في أن هذا الوجوب هل يسقط بفعل الغير أو لا؟. فلو فرض أنه لا يوجد إطلاق في الدليل اللفظي ، يقتضي السقوط ، أو عدم السقوط ، وانتهى الأمر إلى الأصل العملي ، فإن مقتضى القاعدة في المقام ، هو البراءة ، لا الاشتغال ، وتوضيح ذلك : أن احتمال كون فعل الغير مسقطا للوجوب عن وليّ الميت ، هذا الاحتمال ، مردد بين ثلاث احتمالات.

الأول : أن تكون مسقطية فعل الغير ، بلحاظ كون فعله مستوفيا للملاك ، ومحققا لغرض المولى ، كما كان يحصل بفعله ، لأجل هذا ، يسقط الوجوب عنه.

١٧٤

الثاني : أن تكون مسقطية فعل الغير ، بلحاظ كون فعله موجبا لتعذر الملاك والغرض ، لا لتحصيله ، بمعنى أنّ الغرض لا يحصل بفعل الغير ، ولكنّه يتعذر بحيث لا يمكن بعد ذلك ، تحصيل الغرض وهذا والملاك للمولى ، فيكون فعل الغير موجبا لسقوط الوجوب عن الولي ، من باب التعذّر ، لا من باب الاستيفاء وتحصيل الغرض.

الثالث : أن تكون مسقطيّة فعل الغير ، للوجوب عن ولي الميت ، لا بلحاظ كون فعل الغير مستوفيا للملاك ، ولا بلحاظ كون فعل الغير موجبا لتعذر الملاك ، بل بلحاظ كون فعل الغير موجبا لإخراج الغرض عن كونه غرضا للمولى ، والمحبوب ، عن كونه محبوبا للمولى ، باعتبار أن الغير من أعداء المولى وهو يكره كل فعل يفعله هذا العدو ، وهو لا يرضى من عبيده التشبه بالكفّار وبأعدائه ، فبعد أن صدر الفعل من الغير أعداء المولى ، المولى حينئذ ، لا يرضى بصدوره من عبيده وهذا معنى إخراجه عن كونه محبوبا.

وهذا الاحتمال الثالث ، غير وارد في الشرعيات ، يعني لا يحتمل فيها أن تكون مسقطية فعل الغير من باب أن هذا عدو المولى ويوجب خروج الملاك عن كونه محبوبا للمولى.

وأمّا الأول ، وهو احتمال كون فعل الغير مسقطا للوجوب عن الولي من باب استيفائه الملاك ، وهذا يستلزم ثبوتا ، أن يكون الوجوب على الولي مقيّدا من أول الأمر ، بعدم إتيان الغير ، ولو على نحو الشرط المتأخر ، حيث لا يتعقّل التكليف بالجامع بين فعل نفسه وفعل غيره ، وحينئذ لا بدّ أن يكون التكليف المتوجه إلى الولي مشروطا بعدم إتيان الغير على نحو الشرط المتأخر ، لوضوح أن الغير لو كان يأتي بالفعل ، إذن فالمولى لا يريده بعد ، إذ ليس له إلّا غرض واحد ، وقد استوفاه فعل الغير ، وعلى هذا ، إذا شك في هذه المسقطيّة ، يكون الشك شكا في أصل الوجوب ، بمعنى أن الولي يحتمل أن يكون الوجوب مشروطا من أول الأمر بعدم إتيان الغير ، على نحو الشرط المتأخر ، إذن ففي حالة إتيان الغير يشك في أصل الوجوب من أول الأمر ،

١٧٥

فتجري البراءة بلا إشكال. هذا إذا كان احتمال المسقطية باعتبار الاحتمال الأول ، وهو احتمال كون فعل الغير مستوفيا للملاك.

وأمّا الاحتمال الثاني ، وهو احتمال كون فعل الغير ، مسقطا من باب تعذر الملاك ، وتفويت الغرض ، فهذا التفويت مأذون فيه من قبل الشارع فقهيا لوضوح أن وليّ الميت ، لو كان يعلم مسبقا بأن غيره ، سوف يصلي عن وليّه بعد مدة ، فلا يجب على الوليّ أن يبادر إلى الصلاة عن الميت.

إذن في المقام ، فعل الغير ، إمّا أن يكون مسقطا ، أو لا يكون مسقطا ، فإن كان مسقطا ، إذن فقد حصل تفويت لغرض المولى ، ولكنه تفويت مأذون فيه ، فلا جناح بعد ذلك أن لا يصلّي عن وليّه ، وإن لم يكن مسقطا ، إذن فغرض المولى يقتضي من الآن الإتيان بالصلاة ، إذن فالوليّ ، يشك في أصل اقتضاء غرض المولى ، لأن غرض المولى المعلوم في المقام ، لا يقتضي المنع عن التفويت الناشئ من فعل الغير ، وإنما يقتضي المنع عن التفويت الناشئ من فعل نفسه ، وهو لا يدري أن التفويت الواقع فعلا ، لو لم يصلّ ، أهو تفويت ناشئ من فعل الغير ، أو تفويت ناشئ من فعل نفسه ، فإن كان التفويت ناشئا من فعل الغير فهو مأذون فيه من قبل الشارع ، بدليل أن الشارع لم يلزم بالصلاة قبل فعل الغير ، وإن كان التفويت ناشئا من فعل نفسه محضا ، إذن فهو غير مأذون فيه ، إذن فالولي يعلم بالتفويت لو ترك الصلاة ، ولكن هل هو تفويت يأذن به غرض المولى ، أو تفويت لا يأذن به غرض المولى ، فيكون الشك شكا في أصل الإذن والمنع ، فتجري البراءة.

نعم لو فرض بأن التزمنا فقهيا وبنينا على سقوط الوجوب عن الولي بفعل الغير ، مع هذا ، كان يجب على الوليّ أن يبادر إلى الصلاة ، لو علم أن الغير يفعله بعد ذلك ، يعني أن المولى لا يرضى بالتفويت الناشئ من فعل الغير بالتعذر ، ولا يرضى بالتفويت الناشئ من فعل نفسه ، فحينئذ ، تجري أصالة الاشتغال ، وذلك للعلم بأن التفويت على الإطلاق غير مأذون فيه من قبل المولى ، فإذا شك في صدور الإذن وعدم صدوره ، تجري أصالة الاشتغال ،

١٧٦

ولكن هذا مجرد فرضية في الفقه ، وقد عرفت أنه في الموارد المتعارفة فقهيا ، تجري أصالة البراءة ، إذ لم يثبت في شيء منها إلزام المولى للمكلّف بالفعل قبل فعل الغير ، لو علم بأنّ الغير سوف يفعل ، وهذا معناه أن التفويت الناشئ بسبب التعذّر ، الحاصل بفعل الغير ، مأذون فيه من قبل المولى ، ومعه تجري البراءة.

إذن في الموارد المتعارفة في الفقه تجري البراءة دائما ، هذا هو الكلام في المسألة الثانية.

١٧٧

المسألة الثالثة من مسائل التعبدي والتوصلي

وهي فيما إذا شك في السقوط بالتوصلية ، بمعنى السقوط بالحصة المحرمة ، وبعبارة أخرى ، هل أنّ الواجب يسقط بالحصة المحرمة أو لا يسقط بها. فلو وجب غسل الثوب. وشكّ في أنه هل يسقط بالغسل الغصبي المحرّم أو لا؟. فالكلام يقع في مقامين.

المقام الأول : في تأسيس الأصل اللفظي.

المقام الثاني : في تأسيس الأصل العملي.

أمّا المقام الأول :

فلو فرض أن الحصة المحرمة كانت محرمة بنفس العنوان الذي وقع واجبا ، دون أن يكون هناك تعدّد في العنوان ، كما لو فرض أن الغسل بماء دجلة كان محرما ، وأصل الغسل كان واجبا ، إذن فهنا الغسل بعنوانه وقع بمطلقه موضوعا ل «اغسل» وبقيده موضوعا ، «للا تغسل» بماء دجلة.

في مثل ذلك ، لا إشكال في أنّ إطلاق المادة في دليل الواجب ، لا يشمل هذه الحصة المحرمة ، سواء قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، أو قلنا بجوازه ، وذلك لأن من يقول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، إنّما يقول ذلك ، فيما إذا كان عندنا عنوانا متغايران ، أحدهما تعلّق به الأمر ، والآخر تعلّق به النهي ، من قبيل ، الصلاة ، والغصب ، لا فيما إذا كان عندنا عنوان ، واحد ،

١٧٨

تعلّق الأمر بمطلقه ، وتعلّق النهي بمقيّده ، فإنه في مثل ذلك ، لا يمكن إطلاق المادة في دليل الواجب ، «اغسل» للغسل المحرّم ، حتى عند القائلين بالجواز. فالمادة تكون مقيّدة لا محالة بالحصة المحلّلة.

وحينئذ لو فرض أن وقعت الحصة المحرّمة ، فيشكّ في أنّ الوجوب يسقط ، أو لا يسقط؟.

وهنا نتمسك بإطلاق الهيئة ، أي الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، في إثبات أن وجوب هذه الحصة الخاصة المحلّلة ، هو وجوب مطلّق ثابت على كل حال ، سواء أوتي بالحصة المحرّمة ، أو لم يؤتى بها ، وتكون النتيجة حينئذ عدم السقوط.

وأمّا إذا كانت الحصّة المحرّمة لها عنوان آخر ، من قبيل عنوان «الغصب» كما لو كان «الغسل» بهذا الماء حراما ، من باب أنه غصب ، إذن ، فيدخل في بحث اجتماع الأمر والنهي.

فإن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، فأيضا لا يمكن إطلاق دليل الواجب في المقام لهذه الحصة ، باعتبار امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وعليه تكون النتيجة كالنتيجة السابقة ، وهي التمسك بإطلاق الهيئة.

وأما إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ، فهل يمكن التمسك بإطلاق المادة أو لا يمكن؟؟.

الظاهر من كلمات الميرزا (١) والسيد الخوئي (٢) في هذه المسألة أنّهما بنيا ذلك على مسألة أخرى ، وهي أنه هل يشترط في الواجب أن يكون له حسن فاعلي مضافا إلى حسنه الفعلي ، أو أنه يكفي فيه أن يكون له حسن فعلي؟.

فإن قلنا إنه يشترط في الواجب أن يكون له حسن فاعلي مضافا إلى

__________________

(١) فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ ص ٧٦.

(٢) محاضرات فياض : ج ٢ ص ١٤٨.

١٧٩

حسنه الفعلي ، فهنا لا يعقل وقوع الغسل بالمغصوب مصداقا للواجب ، لأنه وإن كان هو مغاير للحرام ، إلّا أنه هو والحرام موجودان بوجودين بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ جواز اجتماع الأمر والنهي هو تعدّد الحرام والواجب ومغايرة أحدهما للآخر ، ولكنهما موجودان بفاعلية واحدة وبإيجاد واحد ، فيكون فيه قبح فاعلي ، ولا يكون فيه حسن فاعلي.

وأما إذا قلنا بأنه يكفي في تعقل الواجب أن يكون فيه حسن فعلي ، أي أن يكون الفعل من حيث هو حسن ، وإن كان الإيجاد له غير حسن ، إذن فلا بأس بإطلاق المادة في المقام ، لأنّ المادة الواجبة غير المحرمة ، فهذا له حسن فعلي ، وذاك له قبح فعلي.

إلّا أن الميرزا (١) اختار اشتراط الحسن الفاعلي ، والسيد الخوئي (٢) أنكر ذلك الاشتراط.

والصحيح في المقام أنه ، سواء اشترطنا الحسن الفاعلي أو لم نشترط ، فإننا إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي من باب مغايرة الواجب للحرام ، فإننا لا نرى بأسا من التمسك بإطلاق المادة.

أما بناء على عدم اشتراط الحسن الفاعلي ، فأيضا كذلك ، لأنّ القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي ، إذا كان يدّعي تعدّد الحرام مع الواجب وجودا ، فلا بدّ أن يدعي تعدّدهما إيجادا أيضا وفاعلية ، لأنّ تعدّد الفعل مساوق مع تعدّد الفاعلية ، وتعدّد الوجود مساوق مع تعدد الإيجاد.

إذن فالواجب هنا ، حسن فعلا وفاعلية ، والحرام قبيح فعلا وفاعلية ، ولا اجتماع لأحدهما مع الآخر.

إذن فالصحيح ، بناء هذه المسألة على مسألة اجتماع الأمر والنهي.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر.

١٨٠