بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

الوجه الرابع :

أن يقال ، بأن كلمة «يعيد» في مقام الطلب ، مستعملة في مدلولها التصوري ، وهو النسبة الصدورية ، وليس لها مدلول التزامي تصوري ، وهو النسبة الإرسالية ، وليس هناك أيضا قصد الحكاية أصلا ، لا بنحو الكناية ، ولا بنحو التصريح على ما هو الوجه الأول ، والثاني ، وإنّما المدلول التصديقي لهذه الجملة ، هو الطلب ، وإرادة هذه النسبة الصدورية.

وبناء على هذا الوجه ، لا يتم شيء من الخصوصيات ، من أجل تعيّن الوجوب ، في مقابل الاستحباب ، إلّا إذا تمّ ذاك الإطلاق ، الذي نقلناه في بحث مادة الأمر للمحقق العراقي وغيره ، وهو حمل الإرادة على الفرد الشديد ، فإذا تمّ ذاك الإطلاق الحكمي الفلسفي ، يقال في المقام ، بأنّ كلمة «يعيد» مدلولها التصديقي ، هو الإرادة ، وهذه الإرادة ، أمرها دائر بين الإرادة الشديدة ، والإرادة الضعيفة ، وحيث أنّ الإرادة الشديدة ، كلها إرادة ، وأمّا الضعيفة فليست كلها إرادة ، فضعف الإرادة ليس إرادة.

إذن فيتعين بمقتضى مقدمات الحكمة ، الحمل على الإرادة الشديدة ، إلّا أنّ هذا البيان كما ذكرنا سابقا ، لا محصّل له.

وعليه ، فلا يوجد في هذا الوجه ، نكتة ، تقتضي تعيين الوجوب ، في مقابل الاستحباب.

هذا حاصل الكلام في المقام الثاني ، وهو إفادة الوجوب على الوجوه الأربعة التي هي تخريجات ، لدلالة الجملة الخبرية على الطلب.

أمّا ما هو الأقرب من هذه الوجوه الأربعة ، فالأقرب هو الوجه الأول ، لو لم يكن هناك قرينة خاصة على واحد من هذه التخريجات ، وذلك بمقتضى الصناعة الأوليّة ، بأن يتحفّظ على المدلول التصوري للجملة الخبرية ، وعلى مدلولها التصديقي ، فتحمل على قصد الحكاية عن نفس المدلول التصوري ، لا عن لازمه وملازمه بنحو الكناية ، بل عن نفس المدلول التصوري ، أعني عن

١٤١

نفس الإعادة ونفس صدور الفعل ، وغاية الأمر ، أن يقيّد إطلاق المادة في المقام ، بالفاعل الذي يكون عمله مطابقا للموازين الشرعية.

فالوجه الأول هو المتعيّن في مقابل غيره من الوجوه ، وذلك ، لأن الوجوه الثلاثة الأخرى ، تقتضي رفع اليد عن أصل المدلول التصديقي للخطاب ، وحمله على مدلول تصديقي آخر ، بينما الوجه الأول ، يتحفّظ فيه على أصل الظهور في المدلول التصديقي ، وإنما يقتضي تقييد إطلاق المادة فقط ، ومن المعلوم أنه كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل الظهور في المدلول ، وحمله على معنى آخر ، وبين التحفّظ على ذلك المدلول مع تقييد إطلاق المادة ، تعيّن الثاني في مقابل الأول.

إذن فمقتضى الصناعة ، إذا لم يكن هناك قرينة خاصة على أحد الوجوه الثلاثة ، هو تعيّن الوجه الأول في مقابل الوجوه الأخرى. وبعد بيان تخريج دلالة الجمل الخبرية على الطلب ومن ثمّ تخريج دلالتها على الوجوب بقي هنا تنبيهان.

التنبيه الأول

الجملة الخبرية إذا دخل عليها لام الأمر («ليغتسل») فإنه لا إشكال في دلالتها على الطلب ، والظاهر أن لام الأمر ، يوجب في المقام قلب النسبة ، من النسبة الصدورية ، إلى النسبة الإرسالية ، فيقلب فعل المضارع من جملة خبرية ، إلى جملة ، من قبيل «افعل» فيجعل مدلول فعل المضارع بعد دخول نسبة إرسالية إيقاعية عليه بالنحو الذي شرحنا به ، كمدلول صيغة «افعل».

وبناء على هذا ، يأتي فيه كل ما تقدم في صيغة «افعل» ، ويثبت دلالته على الوجوب بنفس الوجوه التي تقدمت لإثبات دلالة صيغة «افعل» على الوجوب.

التنبيه الثاني

وهو أن الجمل التي تستعمل في مقام إبراز إرادة المولى ، إذا ثبت في

١٤٢

بعضها أنها موضوعة للدلالة على الوجوب ، فلا كلام في دلالتها على الوجوب ، وأمّا إذا لم يثبت فيها أنها موضوعة لغة للدلالة على الوجوب ، فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام.

القسم الأول : ما يكون دالا على الدفع والإرسال والتحريك إمّا بنحو المعنى الحرفي ، أي النسبة الإرسالية ، كما هو الحال في صيغة «افعل» أو في فعل المضارع الداخل عليه لام الأمر ، وإمّا بنحو المعنى الاسمي ، كما في «أدفعك ، وأطلب منك ، وآمرك» ، فإن هذا يدل على الدفع والإرسال بنحو المعنى الاسمي لا بنحو المعنى الحرفي ، لأن كلمة الدفع والطلب والأمر والتحريك بنفسها إرسال ودفع ، فإذا فرض أنه كان يدل على الإرسال والدفع ، بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الاسمي ، أمكن أن يستفاد منه الوجوب بالإطلاق الذي بينّاه بالبيان الأخير في بحث صيغة الأمر ، حيث قلنا أن مقتضى التطابق بين الإرسال الخارجي ، والإرسال التشريعي ، هو أن يكون الإرسال التشريعي أيضا إرسالا حتميا قد سدّ فيه تمام أبواب العدم كما سدّ تمام أبواب العدم في الإرسال الخارجي والإلقاء الخارجي ، فكل ذاك البيان يجري فيما إذا كان الكلام يستفاد منه ، الإرسال والإلقاء ، إما بنحو المعنى الحرفي ، وإمّا بنحو المعنى الاسمي.

القسم الثاني : ما يفرض فيه ، أنّه لا يستفاد منه الإرسال ، لا بنحو المعنى الحرفي ، ولا بنحو المعنى الاسمي ، لكن يكون مضمونه الجعل في العهدة ، فيعتبر أن هذا الفعل في عهدة المكلف ، من قبيل ، «ولله على الناس حجّ البيت ، كتب عليكم الصيام ، كما كتب على الذين من قبلكم» «وعلى فلان أن يتصدق بمد من الطعام» ونحو ذلك مما يرد في الروايات والآيات ، فإنّ هذه ، مضمونها جعل الشيء في العهدة ، وحيث أنّ العهدة من الأوعية والاعتبارات العقلائية ، التي ارتكز عقلائيا ، كونها موضوعا للوجوب واللزوم في باب الضمانات والديون ، فلهذا ينعقد لهذا الكلام ظهور عرفي في أنّ هذه العهدة ، تستتبع إلزاما من قبل المولى بالإتيان بالفعل ، لأن كون مال الغير في عهدته ،

١٤٣

يستتبع إلزامه بدفع مال الغير لأن العهدة وعاء ، وكلّ ما يقع فيه ، يقع موضوعا للإلزام بحسب الارتكاز العقلائي ، فبنكتة ارتكازية كون العهدة موضوعا للإلزام عقلائيا ، فأيّ خطاب مفاده جعل شيء على العهدة ، يستفاد منه أيضا ، إلزام المولى وعدم رضاه بالتخلف ، إلّا إذا قامت قرينة على خلاف ذلك.

القسم الثالث : ما لا يكون فيه شيء من النكتتين ، بمعنى أنّه لا يستفاد منه الإرسال لا بنحو المعنى الحرفي ولا بنحو المعنى الاسمي ، ولا أيضا مفاده جعل الفعل في العهدة ، غاية الأمر أنّه يستفاد منه رغبة المولى من قبيل ، (أحب أن تصنع هكذا) ونحو ذلك من الألفاظ ، فإن قوله ، أحب وأرغب ، لا يدل على الإرسال لا بنحو المعنى الحرفي ولا بنحو المعنى الاسمي ، كما لا يدل أيضا على جعل شيء في العهدة ، فهذا القسم لا دليل على إفادته الوجوب ، فلو ورد في رواية ما يكون بمضمون أرغب وأحب ، فلا دلالة في ذلك على الوجوب أصلا.

هذا هو الضابط الكلي في دلالة تمام الجمل التي تستعمل في الروايات في مقام الطلب ، وبذلك تمّ الكلام في بحث الجملة الخبرية.

١٤٤

الجهة الرابعة

التعبدي والتوصلي

الكلام في التعبّدي والتوصلي ، معقود لتنقيح ما هو الأصل اللفظي وما هو الأصل العملي ، عند الشك في كون الواجب تعبّديا أو توصليا ، وهذا البحث ينقسم إلى أربع مسائل ، باعتبار أن التوصلية لها أربعة معان.

المعنى الأول : التوصلي معناه ، ما يسقط بفعل الغير.

المعنى الثاني : التوصلي معناه ، ما يسقط بالفعل ، الغير الاختياري ، من نفس الإنسان المكلف.

المعنى الثالث : التوصلي معناه ، ما يسقط بالفرد المحرّم.

المعنى الرابع : التوصلي ، وهو المعنى المعروف للتوصلي ، وهو ما لا يحتاج سقوطه إلى قصد القربة ، بل يسقط ولو أتي به لا بداع قربي.

وفي مقابل كل واحد من هذه المعاني الأربعة ، يكون التعبّدي بالمعنى المقابل له لا محالة ، فهناك أربعة معان للتوصلي والتعبدي.

ومع هذا ، يقع الكلام في أربع مسائل ، كل مسألة في تحقيق ما هو الأصل اللفظي والعملي فيما إذا شك في التوصّلية بأحد المعاني الأربعة.

١٤٥

المسألة الأولى

وهي فيما إذا شك في كون واجب توصليا أو تعبديا بالمعنى الأول ، أي ما يسقط بفعل الغير ، كما لو فرض أنه ثبت وجوب قضاء ما فات الميت على ابنه الأكبر ، وشكّ في أنه هل يسقط الوجوب بفعل الغير ، أو لا يسقط بفعل الغير ، وكذلك في سائر الموارد التي تكون من هذا القبيل.

والكلام في ذلك يقع في مقامين ، تارة في تأسيس الأصل اللفظي ، وأخرى في تأسيس الأصلي العملي ...

المقام الأول

أما المقام الأول ، وهو في تأسيس الأصل اللفظي ، أي أنه ما هو مقتضى القاعدة بلحاظ الدليل الاجتهادي الدال على وجوب ذلك الفعل.

وهنا ذكر السيد الخوئي (١) ، أن مقتضى القاعدة بلحاظ الدليل الاجتهادي ، هو عدم السقوط بفعل الغير. يعني كونه تعبديا ، ولا يسقط بفعل الغير.

وتوضيح ذلك بحسب ما أفاده هو : أن الشك في المقام لا يرجع إلى الشك في سعة دائرة الواجب وضيقه ، وإنما الشك في سعة دائرة الوجوب

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٤٢.

١٤٦

وضيقه ، لأنه لو فرض هنا ، أن الواجب كان يسقط بفعل الغير ، فليس معنى هذا ، أن دائرة الواجب تكون وسيعة ، بحيث يكون الواجب هو الأعم من فعله وفعل غيره ، لوضوح أن هذا الأمر غير معقول ثبوتا ، إذ لا يعقل ثبوتا أن يكون الواجب على زيد ، هو الجامع والأعم من فعله وفعل عمرو ، فإن فعل عمرو ، ليس تحت سلطان زيد ، حتى يكون الواجب على زيد هو الجامع الأعم من فعله وفعل عمرو ، بل الواجب هو فعل زيد بالخصوص بلا إشكال ، وليس أمره دائرا بين الأخص والأعم ، وإنما الشك في أن وجوب هذا الفعل من زيد ، هل هو مقيّد بعدم صدور الفعل من عمرو ، أو ليس مقيّدا بذلك ، فالشك في تقييد الوجوب وإطلاقه ، لا في أخصّية الواجب وأعميته ، فالشك ليس في دائرة الواجب ، أي في مدلول المادة ، بل في دائرة الوجوب ، أي في مدلول الهيئة ، فالسقوط بفعل الغير معناه أن الوجوب مقيد بعدم فعل الغير ، وعدم السقوط بفعل الغير معناه أن الوجوب مطلق وثابت ، سواء فعل الغير أم لم يفعل.

وعليه فالشك في السقوط بفعل الغير يرجع إلى الشك في أن الوجوب مطلق أو مقيّد ، ومن المعلوم أن مقتضى القاعدة ، هو إطلاقه ، ببركة مقدمات الحكمة ، فبجريان الإطلاق ومقدمات الحكمة ، في مدلول الهيئة وحينئذ يثبت أن الوجوب مطلق وثابت ، سواء فعل الغير أو لم يفعل ، وهذا معناه عدم السقوط بفعل الغير. وما أفاده لا يمكن المساعدة عليه صغرى وكبرى.

أمّا صغرى ، فلأنّ ما ذكره من أن الواجب يستحيل أن يكون هو الجامع بين فعل نفسه وفعل غيره ، بدعوى أن فعل الغير ليس تحت سلطان المكلف ، فهذا البيان ممنوع صغرى ، باعتبار أن فعل الغير ينقسم إلى قسمين.

فعل الغير التسبيبي ، وفعل الغير الأجنبي.

نعم فعل الغير الأجنبي ، ليس تحت اختيار نفس المكلف.

ولكن فعل الغير التسبيبي يكون تحت القدرة ، بحيث يكون تحت القدرة ، تسبيب هذا الشخص إليه ، إما تسبيبا إلجائيا أو تسبيبا بمعنى قدح

١٤٧

الداعي فيما إذا فرض أن كان قادرا على قدح الداعي في نفس الآخر ، فمثل هذه الحصة التسبيبية تكون تحت القدرة ، ولهذا يمكن الأمر بها مباشرة ، بأن يؤمر الأب بصلاة ابنه ، باعتبار أن صلاة ابنه أمر مقدور له تسبيبا ، فالحصة التسبيبية من فعل الغير ، أمر تحت السلطان ، فيعقل تعلّق التكليف والوجوب الجمع ، بين فعل نفس المكلف والحصة التسبيبية من فعل الغير ، هذا الإشكال الصغروي.

وأمّا الإشكال الكبروي ، فهو أنه ، لو فرض أن فعل الغير لم يكن مقدورا للمكلّف.

إلّا أن السيد الخوئي (١) سوف يأتي منه في المسألة الثانية والثالثة أنه يمكن التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، باعتبار أن الجامع بينهما مقدور ، وأيّ فرق بين الفعل ، الغير الاختياري للمكلّف ، والفعل الذي يصدر من الغير ، فإن الفعل الغير الاختياري للمكلف ، نسبته إلى قدرته ، نسبة فعل الغير إلى قدرته ، إذ كلاهما ليس تحت سلطانه ، فإذا تصورنا إمكان تعلق التكليف بالجامع بين الفعل الاختياري لزيد ، والفعل الغير الاختياري له ، بدعوى أن الجامع بين المقدور وغير المقدور ، مقدور ، إذن فيمكن أن نتصور تعلّق التكليف بالجامع بين فعل زيد وفعل عمرو ، لأن الجامع بينهما مقدور لزيد ، ولو في ضمن فعل نفسه.

وبهذا يتضح أن السقوط بفعل الغير ، يمكن أن يكون بسبب سعة دائرة الواجب ، بحيث يرجع الشك في السقوط بفعل الغير ، إلى الشك في دائرة الواجب ضيقا وسعة ، إذ يعقل ثبوتا أن يكون الأمر متعلقا في حق زيد ، بالجامع بين فعله وفعل غيره ، إمّا على الإطلاق ، أو فعل غيره التسبيبي ، أي الحصة التسبيبية من فعل غيره.

إذن عند ما نشك في أن الواجب يسقط بفعل الغير أو لا يسقط بفعل

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

١٤٨

الغير ، فلا تنحصر صيغة هذا الشك ، في سعة الوجوب وضيقه ، بل يمكن أن يرجع هذا الشك إلى أنّ الواجب ، هل هو الحصة الخاصة ، وهو فعل زيد ، أو هو الجامع بين فعله وفعل غيره ، فإذا تعقلنا هذا ثبوتا ، حينئذ ، لا بدّ من الرجوع إلى ظهور المادة في دليل صلّ مثلا ، لا إلى ظهور الهيئة لنرى ظهور المادة ما ذا يقتضي ، فهل أن ظهور المادة يقتضي الإطلاق وكون الواجب هو الجامع بين فعل زيد وفعل غيره أو أن الواجب هو خصوص الحصة الخاصة الصادرة من زيد ومقتضى إطلاق المادة أن الواجب هو الجامع. إذن فمقتضى القاعدة هو السقوط بفعل الغير ، لأنه يكون مصداقا للواجب الذي هو الجامع ، وإن كان ظهور المادة يقتضي كون الواجب هو الحصة الخاصة المتشخصة بفعل زيد بالخصوص ، إذن فمقتضى القاعدة هو عدم السقوط بفعل الغير ، لأنه ليس مصداقا للواجب.

وحينئذ مقتضى إطلاق الوجوب ، هو أن هذه الحصة الخاصة واجبة على كل حال ، سواء أتى بها الغير أو لم يأت بها ، فلا بدّ إذن من صرف عنان الكلام إلى تشخيص ما هو ظهور المادة ، ولا يكفي التمسك بإطلاق الهيئة.

بناء على هذا ، يوجد عندنا أمران ، أحدهما ، أن يكون الفعل صادرا من المكلف ومستندا إليه ، وثانيهما ، أن يكون الفعل الصادر عنه والمستند إليه ، صادر منه بالمباشرة.

أمّا الأمر الأول ، وهو كون الفعل مستندا إليه ومعلولا له عرفا ، فهذا لا إشكال في كونه مستفادا من المادة ، فإن المستفاد من قوله «صلّ يا زيد» دفعه وإرساله نحو الفعل بحيث يكون الفعل فعلا له وصادرا منه ومنسوبا إليه ، إذ لا تنطبق الصلاة في قوله «صلّ يا زيد» على صلاة عمرو ، لأن الاستناد والمنشئية التي هي النسبة الصدورية ، كما أنها ملحوظة في فعل الماضي والمضارع ، أيضا هي ملحوظة في فعل الأمر مع إلباسه ثوب النسبة الإرسالية.

إذن فمقتضى ظهور المادة ، بناء على انحفاظ النسبة الصدورية لصيغة الأمر مع لبسها ثوب النسبة الإرسالية ، هو أن المادة ليس لها إطلاق يشمل

١٤٩

الفعل الأجنبي للغير هذا بالنسبة إلى الأمر الأول.

ثم إن هذا الفعل الصادر من زيد ، على قسمين ، فتارة يكون صادرا منه بالمباشرة ، وأخرى يكون صادرا منه بالتسبيب ، والنسبة الصدورية محفوظة في كليهما ، حتى في الفعل الصادر بالتسبيب ، ويصدق فيه فعل الماضي ، فضلا عن فعل الأمر ، فلو فرض أن إنسانا تصدّى إلى غسل المسجد ، لكن لا بنفسه ، بل بالتسبيب ، فيصدق فيه أنه غسل المسجد ، باعتبار انحفاظ النسبة الصدورية في المقام.

وحينئذ هل مقتضى ظهور المادة ، هو الاختصار على الحصة المباشرية ، أو يشمل الحصة التسبيبية؟.

فيه تفصيل ، وحاصله ، أن المادة وهي الحدث والفعل ، تارة تكون نسبته إلى الفاعل المأمور نسبة الفعل إلى الفاعل فقط ، وأخرى تكون نسبة العرض إلى محله ، ومثاله ، تارة تقول «يا زيد اغسل المسجد» وأخرى «يا زيد اشرب الماء» ففي المثال الأول نسبة الغسل إلى زيد نسبة الفعل إلى الفاعل ، لا نسبة العرض إلى محله ، لأن الغسل محله المسجد ، وفي المثال الثاني ، الشرب له نسبتان إلى زيد ، إحداهما نسبة الفعل إلى فاعله ، والأخرى نسبة الشرب إلى الشارب يعني نسبة الصفة إلى المحل بحيث هو يشرب لا غيره.

في القسم الأول الذي هو من قبيل «يا زيد اغسل المسجد» ، مقتضى الإطلاق في المادة هو الشمول للحصة المباشرية وللحصة التسبيبية معا ، لأن غاية ما تقتضيه المادة في «اغسل» هو النسبة الصدورية وهذه النسبة محفوظة في الحصة المباشرية والحصة التسبيبية.

وأما في القسم الثاني ، في مثل «اشرب يا زيد» فلو أن زيدا سبّب في أن عمروا هو بنفسه يشرب ، فهذا ليس مصداقا للمادة في المقام ، لوضوح أن الشرب هنا له نسبتان إلى زيد ، إحداهما نسبة الفعل إلى الفاعل ، وهذه محفوظة حتى في شرب عمرو ، فإن شرب عمرو هو فعل زيد لأن زيدا هو

١٥٠

أدخل الماء في جوف عمرو فشرب عمرو هو فعل زيد لكن ليس هو شرب زيد ، يعني أن هذا الشرب ليس واجدا للنسبة الثانية ، وهي نسبة العرض إلى محله ، وبذلك لا يكون للمادة إطلاق في مثل هذا الشرب ، نعم لو فرض أن زيدا أجبر عمروا على أن يشربه الماء فهذا مصداق للمادة لأنه واجد لكلتا النسبتين في المقام.

وعليه فيتحصّل من ذلك ، أن مقتضى القاعدة بلحاظ الدليل الاجتهادي ، هو عدم السقوط بفعل الغير الأجنبي المحض ، لأن فعل الغير الأجنبي المحض ليس فيه نسبة صدورية مع أن هذه النسبة محفوظة في المادة التي تعلق بها الأمر ، وليس لهذه المادة التي تعلّق بها الأمر إطلاق لفرض عدم كون الفعل صادرا من المكلف رأسا ، فمقتضى القاعدة هنا هو عدم السقوط.

وأما بالنسبة إلى فعل الغير الذي يكون موجودا تسبيبيا بالنسبة إلى المكلّف ، فإن كان للمادة بحسب مدلولها العرفي نسبة صدورية فقط إلى الفاعل ، فلا بأس بدعوى إطلاقها لهذه الحصة التسبيبية ، ومقتضى القاعدة حينئذ هو السقوط بفعل الغير التسبيبي ، لأنه مصداق للواجب ، وإذا كان للمادة بحسب مدلولها العرفي نسبتان صدورية ومحلية ، فحينئذ لو سبّب في أن تقع المادة من الغير على الغير ، فلا يكون هذا مصداقا للواجب ، ومقتضى القاعدة حينئذ عدم السقوط.

المقام الثاني : في تأسيس الأصل العملي

وهو أنه لو فرض عدم وجود إطلاق في الدليل الاجتهادي بلحاظ المادة والهيئة ، بأن كان الدليل لبيا مثلا ، كالإجماع ، وانتهت النوبة إلى الأصل العملي ، فالمعروف أنه لا بدّ من الاحتياط ، فيما إذا شكّ في السقوط بفعل الغير ، فلا يجوز الاكتفاء بفعل الغير ، بل لا بدّ من إتيان المكلف نفسه بالفعل ، ويقرّب الاحتياط بوجهين :

الوجه الأول : إجراء استصحاب بقاء الوجوب ، لأن الوجوب قبل فعل

١٥١

الغير كان ثابتا ، ويشكّ في بقائه ، فيستصحب بقاؤه.

الوجه الثاني : بناء على منع جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، أو بقطع النظر عن الاستصحاب ، يقال هنا ، بأصالة الاشتغال ، لأنّ المورد من موارد الشك في سقوط التكليف ، وإذا كان المورد كذلك فيكون مجرى لأصالة الاشتغال ، لأن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فما لم يحصل الجزم بفراغ الذمة ، تجري أصالة الاشتغال.

١٥٢

التحقيق في المقام

وتحقيق الكلام في المقام ، هو أنّ الشك في السقوط بفعل الغير على نحوين ، حيث ذكرنا في المقام الأول ، أنه يعقل ثبوتا تعلّق الوجوب بالجامع ، بين فعل المكلّف وفعل الغير ، خصوصا الفعل التسبيبي من الغير الذي يكون ناشئا من المكلّف ، فالشك في السقوط بفعل الغير له نحوان معقولان ثبوتا.

النحو الأول : أن يكون مرجعه إلى الشك في دائرة الواجب ، بحيث لا يعلم أن الواجب ، هل هو خصوص الفعل المباشري ، أو هو الجامع بين الفعل المباشري والتسبيبي ، فيكون مرجع الشك في السقوط بفعل الغير ، إلى الشك في الأقل والأكثر في دائرة الواجب ، لأنّ الجامع معلوم الوجوب ، وقيد المباشرية يشكّ في أخذه وعدم أخذه فتجري البراءة ، كما هو الحال في سائر موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ، ولا مجال حينئذ لإجراء الاستصحاب ، ولا لإجراء أصالة الاشتغال ، هذا فيما إذا كان الشك يرجع إلى الشك في سعة دائرة الواجب وضيقه.

النحو الثاني : لو فرض العلم بدليل من الخارج ، أنّ الواجب هو خصوص الفعل المباشري ، ولكن وقع الشك في إطلاق الوجوب وتقييده ، ولا يدرى أنّ وجوب هذا الفعل المباشري ، هل يختص بما لم يأت به الغير ، أو أنّ هذا الوجوب مطلق ، سواء أتى الغير أو لم يأت به ، فالشك في نفس الوجوب ، في أنه وجوب مطلق ، سواء أتى الغير بالفعل أو لم يأت به ، إذن فلا

١٥٣

يسقط بفعل الغير ، أو أنه وجوب مقيّد بعدم إتيان الغير بالفعل ، فيسقط الوجوب حينئذ بإتيان الغير بالفعل ، فإذا كان الشك على هذا النحو ، فهنا تفصيل ، وذلك لأنّ تقيّد الوجوب بعدم إتيان الغير ، له صورتان :

الصورة الأولى : أن يكون الوجوب مقيدا بعدم إتيان الغير ، على نحو الشرط المتأخر ، بحيث لو أتى الغير بالفعل ولو بعد سنة مثلا ، فلا وجوب من أول الأمر ، فسقوط وجوب قضاء ما فات الأب على الابن ، من حين وفاة أبيه ، مشروط بعدم إتيان الغير بالصلاة عن الميت إلى الآخر ، فلو أن أجنبيا أتى بالصلاة عن الميت ، ولو بعد سنة مثلا ، فيكشف هذا ، أنه من الأول ، لم يتعلق وجوب بحق الولي ، وهذا معناه ، أنه مشروط بعدم الإتيان بنحو الشرط المتأخر.

الصورة الثانية : أن يكون الوجوب مشروطا بعدم إتيان الغير ، بنحو الشرط المقارن ، بمعنى أنّه ما دام لم يأت الغير بالفعل ، فالوجوب ثابت. فلو أتى الغير بالفعل ، فالوجوب يسقط ، فالوجوب في كل آن ، مشروط بعدم إتيان الغير بالفعل في ذلك الآن ، فما لم يأت الغير فالوجوب ثابت ، وإن أتى الغير به سقط الوجوب.

فإن كان المشكوك من الصورة الأولى ، بحيث يحتمل أن الوجوب مقيد بعدم إتيان الغير ، بنحو الشرط المتأخر ، فهنا ، لو أتى الغير بهذا الفعل ، يكون الوجوب مشكوكا من أول الأمر ، لاحتمال أن الوجوب مشروط بعدم إتيان الغير ولو فيما بعد بنحو الشرط المتأخر ، فبعد إتيان الغير بالفعل ، يشكّ في أنه ، هل حدث وجوب في حق المخاطب من أول الأمر ، أو أنه لم يحدث ، لأن الوجوب إن كان مشروطا بعدم إتيان الغير بالفعل بنحو الشرط المتأخر ، إذن لم يحدث وجوب ، وإن كان الوجوب مطلقا ، إذن فقد حدث وجوب ، فيشك في أصل حدوث الوجوب من أول الأمر ، ومعه ، لا معنى لإجراء استصحاب الوجوب ، ولا لإجراء أصالة الاشتغال في المقام ، أمّا الاستصحاب فإنه فرع ثبوت الوجوب حدوثا ، مع أنه لا يقين بالوجوب حدوثا ،

١٥٤

أمّا أصالة الاشتغال ، فلأنها بملاك أن الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وهنا لا شغل يقيني من أول الأمر ، إذن فتجري البراءة بلا إشكال.

وإن كان الشك في تقيّد الوجوب من الصورة الثانية ، بنحو الشرط المقارن لا بنحو الشرط المتأخر ، بمعنى أن الوجوب ثابت من أول الأمر يقينا ، ولكن يشك بارتفاعه بإتيان الغير بالفعل.

وهنا إن قيل بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، كما هو الصحيح ، حينئذ ، فلا إشكال في تمامية أركان الاستصحاب في المقام ، لأنّ الوجوب معلوم ثبوتا ، ومشكوك بقاء ، فيجري استصحاب بقاء الوجوب بعد إتيان الغير بالفعل ، فيتنجز على المكلف الإتيان به.

وأما إذا قيل بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، أو قطع النظر عن جريان الاستصحاب ، فهل المقام مجرى للبراءة أو للاشتغال؟.

فيه تحقيق وتفصيل ، وحاصله.

أنّ الشك في السقوط بفعل الغير ، يكون بإحدى نكتتين ، فإنّ فعل الغير الذي يشك في كونه مسقطا.

قد تكون مسقطيته بنكتة كونه مستوفيا لغرض المولى ، فلو أمر المولى زيدا بغسل المسجد ، فلعلّ عمروا ، لو غسله ، يسقط الوجوب ، لأنّه بغسل عمرو للمسجد ، يحصل الغرض فتكون المسقطية المحتملة لفعل الغير ، باعتبار استيفائه للغرض.

وقد تكون المسقطية المحتملة لفعل الغير بنكتة زوال غرض المولى وانقلاب محبوبه إلى مبغوض له فهو هنا ، لا يريد من عبده الإتيان بالفعل ، بل يكره له ذلك ، من قبيل التشبّه بالكفار ، فإن المولى لا يريد من عبده أن يفعله ، لأنه تشبّه بالكفّار أعداء المولى ، وبذلك فقد يوجب فعل الغير هنا ، خروج المحبوب للمولى عن كونه محبوبا وبذلك تكون المسقطية ، بزوال غرض

١٥٥

المولى وخروج محبوبه عن كونه محبوبا له ، لا باستيفاء المحبوب.

فإن فرض أن مسقطية فعل الغير ، من باب الاستيفاء ، كما هو الغالب ، حينئذ ، إذا شكّ في المسقطية ، تجري أصالة الاشتغال ، كما قال المشهور ، لأن الغرض المولوي معلوم وجدانا ، لكن الشك في استيفائه ، في أن الغرض المولوي ، الذي وقع على عهدة المكلّف ، هل استوفي خارجا بفعل الغير أو لا ، وحينئذ ، هنا ، الشغل اليقيني ، يستدعي الفراغ اليقيني ، ولا تجري البراءة.

وإن فرض أنّ المسقطية ، كانت بملاك زوال غرض المولى بإتيان الغير بالفعل وخروج المحبوب عن كونه محبوبا له ، ففي مثل ذلك ، يكون الشك في أصل الغرض ، والحب المولوي ، فتجري البراءة.

فرفع ما لا يعلمون وأمثاله ، يجري هنا بلا إشكال.

١٥٦

المسألة الثانية

وهي فيما إذا شكّ في كون واجب تعبديا أو توصليا بالمعنى الثاني ، أي ما يسقط بفعل نفس المكلف ، الصادر منه بلا اختيار ، فهل أن مقتضى الأصل ، أن الواجب يسقط بالإتيان بالحصة الغير اختيارية الصادرة من المكلف نفسه أو لا يسقط؟.

والكلام في هذه المسألة أيضا يقع في مقامين ، في تأسيس الأصل اللفظي وفي تأسيس الأصل العملي.

المقام الأول : في تأسيس الأصل اللفظي.

فلو قال المولى «اغسل» فهنا يوجد مادة وهيئة ، فلو فرض أنه ثبت بقرينة كون المادة وهي «الغسل» ، مقيّدة بخصوص الحصة الاختيارية ، إذن يمكن الرجوع إلى إطلاق الهيئة ، لإثبات أنّ وجوب الحصة الاختيارية ثابت على الإطلاق ، سواء أتى المكلف بالحصة الغير اختيارية أو لم يأت بها ، فمقتضى إطلاق الهيئة ، هو عدم سقوط التكليف بالإتيان بالحصة الغير اختيارية من المكلف نفسه.

وأما إذا فرض أنه لم يثبت تقيّد المادة بخصوص الحصة الاختيارية ، وانعقد للمادة إطلاق يشمل الحصة الغير اختيارية أيضا ، بحيث أريد بالمادة بمقتضى إطلاقها ، الجامع بين الحصة الاختيارية والغير اختيارية ، حينئذ ، يثبت

١٥٧

بذلك الإجزاء والسقوط بالحصة الغير اختيارية ، لأن هذا مصداق للواجب الذي هو الجامع ، ولا مجال للتمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم السقوط ، لأن الوجوب الذي هو مفاد الهيئة لا يعقل أن يكون له أثر مع وجود متعلقه خارجا ، والمفروض أن متعلقه هو الجامع ، وقد وجد الجامع ولو في الحصة الغير اختيارية.

وقد استشكل في المقام ، بالتمسك بإطلاق المادة ، بعد الفراغ عن أن المادة («الغسل») مثلا ، فإنها بحسب طبعها الأولي ، ووضعها اللغوي ، لم توضع لخصوص الحصة الاختيارية ، بل وضعت للجامع ، بين الاختياري وغير الاختياري ، فمن ناحية لغوية لا إشكال في قابلية المادة الإطلاق والشمول للحصة غير الاختيارية أيضا ، وإنما وقع الإشكال في إطلاق المادة ، باعتبار محاذير عقلية ثبوتية ، تقتضي تقييد إطلاق المادة ، بخصوص الحصة الاختيارية.

فأول الإشكالات على التمسك بإطلاق المادة ، ما أشار إليه المحقق النائيني قدس‌سره ، وحاصله.

إنّ الأمر في («اغسل») إنما هو بداعي المحركية والباعثية للمكلف نحو المادة ، ومن الواضح ، أن داعي المحركية ، لا يعقل إلّا نحو المقدور (١) ، فلا معنى لتحريك الشخص نحو ما لا يقدر عليه ، فبقرينة عقلية ، وهي استحالة التحريك نحو غير المقدور ، يلتزم بكون المادة المبعوث نحوها هي الحصة الاختيارية بالخصوص.

وهذا الإشكال ، بهذا التقريب جوابه الصحيح هو أن يقال : إنه مع التسليم بأنّ صيغة افعل ، مفادها هو داعي المحركية ، وأنّ هذا الداعي لا يكون إلّا نحو المقدور ، إلّا أن الكلام في المقام إنما هو في أن متعلق الأمر ـ «الغسل» ـ يكون هو الجامع بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية ، بنحو

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ص ٧٥ ـ ٧٦.

١٥٨

صرف الوجود ، لا بنحو مطلق الوجود ، بمعنى أن «اغسل» يرجع إلى طلب وتحريك واحد نحو صرف وجود الغسل الجامع بين الغسل الاختياري وغير الاختياري ، لا إلى طلبات متعددة بعدد الأغسال في الخارج ، بحيث يكون للغسل الاختياري طلب ولغير الاختياري طلب أيضا على نحو الانحلال ومطلق الوجود ، بل المدّعى في المقام هو إطلاق المادة بنحو صرف الوجود ، بحيث يكون الطلب واحد ، متعلق بصرف وجود «الغسل» المأخوذ مطلقا من حيث كونه بالاختيار وبغير الاختيار ، وحينئذ ، يقال بأنه لا بد من كون هذا («الصرف») اختياريا ، لأنّ متعلق الباعثية ليس هو الأفراد ، ومن الواضح أن صرف الوجود الجامع بين الاختياري وغير الاختياري اختياري ، لأنه يكفي في القدرة على الجامع الملحوظ بنحو صرف الوجود ، القدرة على أحد أفراده ، إذن فهو اختياري في المقام.

وحاصل الموقف ، أن إطلاق المادة المدّعى ، لو كان إطلاقا انحلاليا بنحو مطلق الوجود ، بحيث يرجع الأمر إلى طلبات متعددة بعدد أفراد الغسل ، إذن يقال بعدم معقولية شموله للحصة غير الاختيارية ، وإلّا للزم التحرك نحو «الغسل» الغير الاختياري ، لكن ليس إطلاق المادة في المقام بنحو مطلق الوجود والانحلال ، وإنما هو بنحو صرف الوجود.

إذن فليس في المقام إلّا طلب وتحريك واحد متعلق بصرف وجود «الغسل» ، وهو الجامع بين الاختياري وغير الاختياري ، وهذا الجامع اختياري ، إذ يكفي في اختياريته كونه مقدورا بلحاظ بعض أفراده.

نعم لو أرجعنا في بحث التخيير العقلي والشرعي ، التخيير العقلي ، إلى التخيير الشرعي ، وقلنا أنّ الأمر المتعلق بصرف الوجود ، يرجع إلى أوامر متعددة بتعدد الأفراد على سبيل البدل ، بحيث يكون أمر بالحصة الغير الاختيارية ، وأمر آخر بالحصة الاختيارية ، غايته أنّهما أمران بدليان ، الإتيان بأحدهما مشروط بترك الآخر ، حينئذ يلزم الإشكال ، لكن هذا الإرجاع على ما حقّقناه في محله ، في غير محله ، بل الأمر بصرف الوجود لا يرجع إلى أوامر

١٥٩

متعددة ومشروطة بعدد الأفراد ، بل هو أمر واحد متعلق بصرف الوجود ، إذن فلا بدّ من اختيارية متعلقه ، ومتعلقه هو صرف الوجود ، وهو اختياري في المقام ، فلا يلزم إشكال من هذه الناحية. ولكن السيد الخوئي «قده» (١) أجاب على كلام الميرزا بوجهين آخرين :

الوجه الأول : لو قيل بأن مفاد صيغة الأمر ، هو المحركية والباعثية ، فما ذهب إليه الميرزا صحيح ، لأن التحريك نحو غير المقدور غير معقول ، ولكن بناء على أن مفاد صيغة الأمر هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف ، إذن أيّ محذور في اعتبار الفعل على ذمته ولو لم يكن اختياريا ، إذ أن الاعتبار سهل المئونة ، وليس في الاعتبار جنبة تحريك حتى يشترط في الفعل كونه اختياريا ، وإنما العقل الحاكم بلزوم الامتثال ، يحكم به على القادر لا محالة ، لا على العاجز.

وهذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن نظر الميرزا ، إلى المدلول التصديقي لصيغة الأمر ، وأنه بداعي البعث والتحريك ، وهذا الداعي يستحيل أن يتوجه من العاقل ، إلّا نحو الحصة الاختيارية ، فنظره إلى المدلول التصديقي للصيغة ، لا إلى المدلول التصوري ، سواء كان المدلول التصديقي عبارة عن الاعتبار ، أو عبارة عن الطلب ، فعلى كل حال هو مطعّم بداعي البعث والتحريك ، لأن العرف يفهم الاعتبار ، اعتبارا بداعي إيجاد الفعل والتسبب إليه خارجا ، فعلى كل حال داعي البعث مستفاد من المدلول التصديقي ، وأمّا النزاع الذي أشار إليه السيد الخوئي «قده» (٢) فإنما هو في المدلول التصوري ، حيث أن المشهور يقولون ، بأنّ المدلول التصوري لصيغة الأمر ، هو النسبة الإرسالية ، والسيد أنكر ذلك وقال بالمدلول التصديقي رأسا ، إذن فأحد المطلبين غير الآخر ، إذ كون الصيغة لها مدلول تصوري ،

__________________

(١) أجود التقريرات الخوئي هامش ص ١٠١.

(٢) أجود التقريرات الخوئي هامش ص ١٠١.

١٦٠