بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

بداع آخر ، إذ أن حملها على داع آخر ، يحتاج إلى قرينة خاصة ، وما لم تقم تلك القرينة الخاصة ، فالظهور الأولي يقتضي الحمل على الإرادة ، فيصير مدلول العبارة التصديقي ، هو الإرادة ، لكن وقع الكلام في منشأ هذا الظهور ، فكيف نشأ هذا الظهور ، مع أن صيغة «افعل» مستعملة في معناها الحقيقي ، وهو النسبة الإرسالية ، فلما ذا يكون لها ظهور في أنها مستعملة بداعي الإرادة لا بسائر الدواعي الأخرى؟.

صاحب (١) الكفاية (قده) فسّر منشأ هذه الدلالة ، على سليقته ، حيث يمكن أن يقال ، بأن الوضع قد قيّد في المقام ، فوضع لفظ صيغة «افعل» للنسبة الإرسالية مقيّد بأن يكون الاستعمال ، بداعي الإرادة مثلا أو بغيره من الدواعي ، فيؤخذ هذا الداعي قيدا في نفس الوضع ، لا في المعنى الموضوع له ، حيث أن المعنى الموضوع له واحد في سائر الموارد وهو النسبة الإرسالية.

وهذه المحاولة تقدّم نظيرها منه ، في بحث المعاني الحرفية ، حيث ادّعى ، بأن اللحاظ الآلي لم يؤخذ في المعنى الموضوع له ، ولكنّه أخذ في نفس الوضع ، وقد تقدم البرهان على بطلانه في بحث الوضع والمعاني الحرفية ، حيث ذكرنا أن الوضع ليس من المجعولات الاعتبارية ، على حد المجعولات الشرعية الصالحة لأن تؤخذ مقيدة بقيد من القيود الواقعية ، فمحاولته لا ترجع إلى محصل ، بل يمكن أن يبين هذا الظهور بتعبير آخر ، وهو أن صيغة افعل لها دلالتان تصوريتان ، دلالة تصورية على النسبة الإرسالية ، ودلالة تصورية التزامية على الإرادة ، من باب الملازمة بين الإرسال والإرادة ، وحينئذ ، لو فرض ، أنّ المدلول التصديقي لصيغة «افعل» كان هو الإرادة ، إذن فقد تطابق المدلول التصديقي مع كلا المدلولين التصوريين لأنّ الصيغة دلّت تصورا على مفهوم الإرادة ودلّت تصديقا على واقع الإرادة ،

__________________

(١) كفاية الأصول ، مشكيني ج ١ ص ١٠٢.

١٢١

فالسنخيّة بين المدلول التصديقي والمدلول التصوري ، محفوظة في المقام ، وهي الأصل العرفي الارتكازي العام.

وأمّا إذا فرض أن المدلول التصديقي ، كان عبارة عن التسخير تارة ، وعن التعجيز أخرى ، إذن ، لم يحصل هناك تسانخ بين المدلول التصديقي والمدلول التصوري لأنّ الصيغة تدل تصورا على الإرسال الناشئ من الإرادة ، وتصديقا لا تدل على الإرادة ، وإنما تدل على التعجيز مثلا ، فلم يكن هناك سنخية ، بين المدلولين ، فأصالة السنخية والتطابق التي هي أصل عرفي عقلائي عام ، تكون بنفسها منشأ لنكتة ظهور الخطاب في أنه بداعي الإرادة لا بداع آخر.

وإن شئتم قلتم بتعبير آخر ، أن سائر الدواعي الأخرى غير الإرادة بحسب الحقيقة ، تفترض قبلها إرادة ، وهذا بخلاف الإرادة فإنها لا تفترض قبلها تسخيرا ولا تعجيزا فإن من يستعمل صيغة «افعل» بداعي الإرادة ، ليس له أي نظر إلى التعجيز والتسخير ، وأمّا من يستعملها بداعي التعجيز أو التسخير مثلا ، فلا يتحقق التعجيز ولا التسخير إلّا بافتراض الإرادة ، لأن من يريد شيئا ، حتى يظهر للآخر عجزه ، يحتاج إلى فرض الإرادة ، ولو ادعاء وعناية ، بينما داعي الإرادة ، لا يحتاج إلى الدواعي الأخرى ، ولو عناية وادعاء.

فمن هنا كان طبع المطلب يقتضي تعيّن داعي الإرادة ، وحمل الصيغة على داعي الإرادة ، حيث أن داعي غير الإرادة بنفسه يحتاج إلى عناية ومئونة زائدة ، وهي فرض إرادة أولا ، ثم التحول منها إلى بقية الدواعي ، وهذه المئونة الزائدة ، منفية بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

إذن نخلص مما تقدّم ، بخمس حيثيات لصيغة افعل : اتضح أنّ للصيغة مدلولين تصوريين ، مدلول تصوري مطابقي ، هو النسبة الإرسالية ، ومدلول تصوري بالملازمة ، هو عبارة عن الإرادة ، لأن الإرسال ملازم للإرادة فيكون الدال على أحد المتلازمين تصورا دالا أيضا تصورا بالدلالة التصورية الالتزامية على ملزومه ، ثم إنّ وراء هاتين الدلالتين ، دلالة تصديقية ، بمعنى كون الصيغة

١٢٢

كاشفا عن ثبوت فرد من الإرادة في نفس المتكلم ، وهذا الكشف التصديقي ليس مربوطا بباب الوضع ، بل بالظهور الحالي الإطلاقي ، فهذه ثلاث دلالات لصيغة «افعل» ، ثم إنّ الصيغة ، لها دلالة على مفهوم الطلب ، لأن الظاهر عرفا من لفظ الطلب ، هو السعي والتحرك نحو المقصود لا الإرادة ، وحينئذ صيغة «افعل» ، باعتبار دلالتها التصورية الأولى ، وهي دلالتها على النسبة الإرسالية ، تكون دالة تصورا وبالتبع ، على نفس مفهوم الطلب ، لأن الإرسال والدفع مصداق للطلب ، والدال تصورا على المصداق ، دال تصورا وبالتبع على عنوان ذلك المصداق ، من قبيل أن كلمة رمّان ، دالة على رمّان بالمطابقة تصورا ، ودالة تصورا على عنوان الفاكهة ، باعتبار أن الرمّان مصداق للفاكهة ، فكذلك صيغة «افعل» فهي تدل تصورا بالمطابقة على الإرسال والدفع ، فمن هذه الناحية تدل على مفهوم الطلب أيضا ، تصورا ، باعتبار أن الإرسال والدفع ، مصداق لعنوان الطلب ، والدال تصورا على المصداق ، دال كذلك تصورا وبالتبع على عنوان ذلك المصداق ، فهذه دلالة على الطلب تصورية ، في طول الدلالة التصورية على الإرسال والتحريك ، ثم إنه إذا كان لصيغة «افعل» دلالة تصديقية على الإرادة ، بمعنى الكشف عن وجود الإرادة في نفس المتكلم ، إذن فبلحاظ كون الصيغة كاشفة عن الإرادة في نفس المتكلم ، تكون بنفسها مصداقا حقيقيا للطلب من قبل المتكلم ، لأنّ المولى بكشفه عن إرادته ، يسعى إلى تحصيل مقصوده حقيقة ، إذن ، فهذا سعي نحو المقصود حقيقة ، فهو إذن مصداق للطلب حقيقة ، إذن فلصيغة «افعل» مصداقية حقيقية للطلب ، باعتبار حيثية كشفها عن الإرادة ، فهذه حيثيات خمسة في صيغة افعل.

١٢٣

الجهة الثانية

في دلالة الصيغة

هل أن صيغة الأمر تدل على الوجوب ، أو على الجامع بين الوجوب والاستحباب؟.

قلنا أن للصيغة مدلولا تصديقيا ، حيث تدل على الإرادة في نفس المتكلم ، فهل تدل على ذلك بمرتبة الوجوب أو بمرتبة الاستحباب أيضا؟.

تقدم الكلام عن نظير ذلك في مادة الأمر وذكرنا أن المسالك في توجيه دلالة مادة الأمر على الوجوب ثلاثة.

المسلك الأول

هو مسلك الميرزا ، ومضمونه أن الدلالة بحكم العقل (١) ، وهذا المسلك لو تم ، يأتي هنا حرفا بحرف ، إذ يقال ، أنه كلما صدر طلب من المولى ، ولم تقم قرينة على الترخيص في المخالفة ، فالعقل يحكم بالوجوب ، وذلك لا يفرّق ، بين أن يكون الطلب ، صادر بصيغة الأمر ، أو بمادته ، وقد تقدّم الكلام في إبطال هذا المسلك في مادة الأمر.

المسلك الثاني

هو أن نثبت الوجوب بالإطلاق ، إذ يقال بأنّ اللفظ الدال على الطلب أو

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١.

١٢٤

على الشوق والإرادة ، وإن كان وضعا ملائما مع المرتبة الشديدة والضعيفة ، لكن يتعين الحمل على المرتبة الشديدة ، بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فلو فرضنا أن لفظ الإرادة موضوع للجامع ما بين الإرادة الشديدة والخفيفة ، وقال أريد منك كذا ، يتعيّن حمل اللفظ على الإرادة الشديدة بالإطلاق.

بتقريب تقدّم في مادة الأمر ، بدعوى أن الشديد ، أخف مئونة من الضعيف ، وكلّما دار الأمر بين الأشد مئونة ، ولأخف مئونة تعين حمل اللفظ على الأخف وهو المرتبة الأعلائية من الإرادة.

وقد تقدّم ، لما ذا كانت المرتبة الأعلائية أخف مئونة ، مع دفعه فيما سبق ، لكن لو بنينا على هذا المسلك ، وقطعنا النظر عن بطلانه ، فقد يقال ، بعدم جريانه في صيغة «افعل» ، لأن هذا المسلك ، إنما يتأتى تطبيقه على لفظ ، يدل على الإرادة والشوق ونحو ذلك من الأمور القابلة للشدة والضعف ، وحينئذ بالإطلاق ومقدمات الحكمة يتعيّن بأن المقصود هو المرتبة الشديدة من الإرادة والشوق ، وأمّا صيغة «افعل» فمدلولها هو الإرسال والدفع ، ومن المعلوم أن الإرسال والدفع ، لا يختلف شدة وضعفا باختلاف شدة الشوق وضعفه ، فإذا كنت تشتاق جدا بأن يسقط زيد على الأرض تدفعه نحو الأرض ، وإذا كنت تشتاق إلى ذلك ضعيفا ، أيضا تدفعه إلى الأرض ففي كلتا الحالتين ، الدفع محفوظ بنحو واحد ، إذ ليس له مرتبتين ، شديدة وضعيفة ، تبعا لشدّة الشوق وضعفه ، حتى تتعين إحداهما بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهذه الشبهة جوابها واضح في المقام ، وهو أن مجرى الإطلاق في المقام ، لو كان هو المدلول التصوري لصيغة «افعل» ، لكان لهذا الكلام مكان «بأن يقال» أن المدلول التصوري المطابقي للصيغة ، هو الإرسال ، والإرسال ليس له مراتب.

لكن بحسب الحقيقة ، مجرى الإطلاق ، هو المدلول التصديقي للصيغة الذي هو الكشف عن الإرادة في نفس المتكلم ، فيقال ، بأن هذه الإرادة

١٢٥

المنكشفة تصديقا لصيغة افعل ، هي إمّا شديدة وإمّا ضعيفة ، فبالإطلاق ومقدمات الحكمة يتعين كونها شديدة.

وبتعبير واضح ، قلنا أن لصيغة «افعل» مدلول تصوري مطابقي ، وهو الإرسال ، ومدلول تصوري بالملازمة ، وهو مفهوم الإرادة ، ومدلول تصديقي كاشف عن واقع الإرادة ، وما لا يتصوّر فيه الشدة والضعف ، إنّما هو المدلول التصوري المطابقي ، فلو كان هناك إشكال في عدم تعقّل الشدة والضعف ، فإنما هو في مرتبة المدلول التصوري المطابقي ، إذن ، فهذا المسلك ، لو تمّ هناك في مادة الأمر ، ينطبق هنا في الصيغة ، لكن تقدّم في محله ، أن هذا المسلك في غير محله.

المسلك الثالث

وهو مسلك الوضع ، وأن الصيغة موضوعة للوجوب ، وهذا المطلب قد يشكل عليه هنا ، بعين الإشكال السابق ، فيقال ، بأنه قد يتعقل الوضع للوجوب ، باعتبار أن الوضع للوجوب ، معناه ، التقييد في المعنى الموضوع له ، فيتحصص المعنى الموضوع له إلى حصتين ، حصة تسمّى بالوجوب ، وحصة تسمّى بالاستحباب ، ولكن المعنى الموضوع له ، هو الإرسال والإلقاء ، ليس فيه شدة وضعف ، فكيف يمكن بالوضع تقييد المعنى بالمرتبة الشديدة ، مع أنّ الإرسال على نهج واحد.

وهذا الإشكال ، يمكن أن يجاب عنه بتعبيرات ، من قبيل ، أنّ الإلقاء بما هو إلقاء ، من ناحية نفسه ، وإن كان تصورا لا يتحصص إلى حصتين ، لكنه يتحصص تصورا ، من حيث منشئه ، لأنّ الإلقاء تارة يكون بإرادة إعلائية ، وأخرى يكون بإرادة ضعيفة ، وحينئذ ، الواضع في مقام وضع صيغة «افعل» يمكن أن يضعها لجامع الإلقاء ، ويمكن أن يضعها ، للحصة الخاصة من الإلقاء الناشئ من الإرادة الشديدة ، بحيث تكون الصيغة دالة بالتبع تصورا على تلك الإرادة القوية ، وحينئذ ، بمقتضى التطابق بين المدلول التصوري ، والمدلول التصديقي ، يستكشف أنّ إرادة المتكلم ، إرادة قوية ، وهو معنى الدلالة على

١٢٦

الوجوب ، فهذا الإشكال مندفع بالنسبة لهذا المسلك.

ولكن يمكن تقريب دلالة الصيغة على الوجوب ببيان جديد ، لا يحتاج معه إلى دعوى الوضع ، أو دعوى أخذ الإرادة القوية قيدا في المعنى الموضوع له.

وتوضيح هذا البيان هو : أنّ صيغة «افعل» تدل بالدلالة التصورية على الإلقاء الذي هو أمر تكويني خارجي ، وهذا الإلقاء ، يتصور فيه سدّ تمام أبواب العدم ، بحيث أنّ المكلّف مقهور ، ولا مناص له تكوينا ، عن أن يفعل هذا الفعل الذي ألقي عليه ، وحيث أن صيغة «افعل» استفيد من سياقها ، أنها صادرة في مقام الدفع والتسبيب التشريعي ، فبمقتضى أصالة المطابقة ، بين المدلول التصوري وبين ما هو المتحصّل من ظاهر السياق التصديقي يكون هذا الإلقاء والتسبيب التشريعي من سنخ ذلك الإلقاء التكويني ، بمعنى أنه أيضا ، يستبطن مقهورية المكلّف ، إذ لا مناص له عن التوجه نحو الفعل ، وهذا معنى عدم الإذن في المخالفة ، الذي هو الوجوب.

وهذا يكون وجها ، لكيفية استفادة الوجوب من الصيغة وأمثالها بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، لكن الإطلاق ، بتقريب أصالة المطابقة بين المدلول التصوري ، والمدلول التصديقي ، لا بتقريب آخر.

وعليه فلا ينبغي الإشكال في دلالة صيغة «افعل» على الوجوب ، إمّا بهذا التخريج ، وإمّا بالوضع.

١٢٧

الجهة الثالثة

دلالة الجمل الخبرية على الطلب والوجوب

لا إشكال في صحة استعمال الجملة الخبرية ، في مقام إفادة الطلب والوجوب ، من قبيل «يعيد» «ويغتسل» ونحو ذلك ، وإنما الكلام في تخريج دلالة هذه الجملة على الطلب ، مع أنها موضوعة للإخبار ، وفي أنّ هذه الدلالة ، هل تقتضي إثبات الطلب الوجوبي ، أو جامع الطلب ، الملائم للاستحباب أيضا ، فالكلام يقع في مقامين.

١٢٨

المقام الأول

دلالة الجملة الخبرية على الطلب وفيه مسلكان

المسلك الأول :

هو ما انعقد عليه مشهور المتأخرين ، كصاحب (١) الكفاية وغيره (٢) ، من أن الجملة الخبرية في كلا الموردين ، الإنشاء والإخبار ، هي مستعملة في المعنى الموضوع له ، وهو النسبة الصدورية (٣) ، فقولنا «يعيد» ، أيضا مستعمل في نفس المدلول التصوري المحفوظ في موارد الإخبار ، وحيث أن دلالة هذه الجملة على الطلب ، خلاف الطبع ، القاضي بدلالتها على الإخبار ، كان لا بدّ من بذل عناية ، فما لم تقم قرينة على هذه العناية ، تحمل الجملة على ما هو مقتضى الطبع ، وهو الإخبار ، والتصديق بالنسبة ، وإذا قامت هذه العناية ، تحمل على إفادة الطلب ، ولكن في كلتا الحالتين ، المدلول التصوري واحد ، وهو النسبة الصدورية ، وفي مقام تصوير كيفية إفادة الطلب بالعناية من هذه الجملة مع التحفظ على مدلولها التصوري وهو النسبة الصدورية ، يوجد عدة وجوه.

__________________

(١) المشكيني ـ ج ١ ص ١٠٤.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام ج ٢ ص ١٣١ الآمدي.

(٣) المشكيني ج ١ ص ١٠٤.

١٢٩

الوجه الأول :

أن يقال بأن كلمة (يعيد) ، الجملة الخبرية ، مدلولها التصوري ، بحسب وضعها وطبعها ، هو النسبة الصدورية ، ومدلولها التصديقي ، بحسب ظهورها السياقي ، هو قصد الحكاية والإخبار عن ثبوت هذه النسبة خارجا.

وحينئذ ، يقال في هذا الوجه ، أنه بالإمكان الالتزام والتحفظ على كلا المدلولين لهذه الجملة في موارد الطلب ، بمعنى أن يفرض أنّ جملة (يعيد) مستعملة في موارد الطلب ، في النسبة الصدورية ، على حدّ استعمالها في سائر الموارد ، وأيضا المدلول التصديقي ، وهو الحكاية والإخبار عن صدور هذه النسبة ، يلتزم به في موارد الطلب ، كما في سائر الموارد ، غاية الأمر أنه يعترض في المقام سؤالان.

الأول ، أنّ هذا الإخبار ، إخبار كاذب ، إذ كيف يكون الإخبار إخبارا ، مع أنه كثيرا ما يتخلف بحسب الخارج ، فلا يعيد صلاته هذا الإنسان!.

والثاني ، أنّ هذا ، إذا كان إخبارا صرفا عن وقوع النسبة خارجا ، فكيف يدل على الطلب؟.

وجواب هذين السؤالين ، نكتة واحدة وهي : أنّ يصار إلى تضييق دائرة الإخبار ، بأن يقال ، أنّ الشارع بقوله ، «يعيد» هو يوجه خطابه لمن كان في مقام الامتثال ، ويخبر عن صدور النسبة من الإنسان ، لا بشكل مطلق وكيفما اتفق ، بل الإنسان الذي هو في مقام الانقياد بهذا القيد ، والذي هو في مقام تطبيق عمله على رأي الشارع ، لا أنّ كلّ إنسان «يعيد» ، وإلّا ، فالإنسان الذي لا يلتزم الشرع ، لعلّه لا يعيد صلاته ، فهو إخبار في وعاء مخصوص بالنسبة إلى شخص مخصوص ، هذا بالنسبة للسؤال الأول.

وأمّا بالنسبة للسؤال الثاني ، أن يقال ، بأنّ دلالة هذه الجملة على الطلب تكون بالدلالة الالتزامية ، حتى مع التحفظ على المدلول التصوري والمدلول التصديقي للجملة الخبرية ، فهذه الجملة تدل على الطلب بالالتزام ، باعتبار ،

١٣٠

أنّ إخبار المولى عن أنّ من يكون عمله مطابقا للقواعد الشرعية ، يعيد ، فهذا إخبار بالدلالة الالتزامية ، عن أنّ القواعد الشرعية ، تأمر بالإعادة فالمولى حينما يخبر ، بأنّ الإنسان الذي يكون عمله مطابقا للقواعد الشرعية «يعيد» ، فهذا إخبار بالمطابقة عن الإعادة ، وإخبار بالالتزام عن أن القواعد الشرعية ، تطلب وتقتضي الإعادة ، وبذلك تكون الجملة الخبرية دالة على الطلب.

إذن فالجواب على كلا السؤالين ، بنكتة واحدة ، وهي إعمال تضييق دائرة الإخبار ، فالمولى يخبر ، بأنّ من كان في مقام الامتثال والانقياد ، يعيد صلاته ، لا مطلق إنسان يعيد صلاته ، ففاعل «يعيد» هو من كان عمله موافقا للقواعد الشرعية ، ولكي يكون إخبار المولى بالإعادة ، دالا بالالتزام على الطلب ، فهذا ينشأ من ظهور حال المولى ، في أنّه في مقام إعمال المولوية ، لا مقام الحكاية البحتة ، وهذا الظهور ، بنفسه يكون مقيّدا لمن يعيد ، بخصوص الإنسان الذي هو في مقام الامتثال ، وهذه العناية ، وهي تضييق دائرة الإخبار بمن كان في مقام الامتثال ، تحتاج إلى مثل هذه القرينة ، وإلّا ، لو تجرّدت كلمة «يعيد» عن كل قرينة ، لكان مقتضى طبعها الأوّلي هو الإخبار المحض.

إذن وجه العناية ، في حمل الجملة الفعلية على الطلب ، مع أنّ ذلك خلاف الطبع ، القاضي بحملها على غير الطلب ، بل على الإخبار المحض ، العناية ، هي تضييق دائرة الإخبار.

الوجه الثاني :

أن يتحفظ على المدلول التصوري للجملة الخبرية ، ويقال ، بأنّ الجملة مستعملة في النسبة الصدورية ، وأيضا يتحفظ على المدلول التصديقي ، وهو قصد الحكاية ، ولكن يفترض أن قصد الحكاية والإخبار ، لا يكون عن المدلول المطابقي ، وهو النسبة الصدورية ، بل عن ملزوم المدلول المطابقي ، وهو تحريك المولى وطلبه ، وتوضيح ذلك :

إن النسبة الصدورية ، كثيرا ما تنشأ من طلب المولى وتحريكه ، فيصح

١٣١

الإخبار عن الطلب الذي هو الملزوم ، بلسان الإخبار عن اللازم ، وهو ما يعبّر عنه بالكناية ، من قبيل أن تقول ، زيد كثير الرماد ، فتخبر بذلك عن ملزوم كثرة الرماد ، وهو أن زيدا كريم ، فهنا ، المدلول التصوري ، هو النسبة بين المحمول والموضوع ، أو بين الفعل والفاعل ، محفوظ ، وأمّا المدلول التصديقي ، فهو قصد الحكاية ، لا عن النسبة نفسها ، كما في الوجه الأول ، بل قصد الحكاية ، عن ملزوم تلك النسبة ، وهو الطلب.

إذن في هذا الوجه ، لا بدّ من بذل عناية ، لدلالة الجملة الخبرية على الطلب ، وهذه العناية ليست هي التقييد والتضييق ، كما في الوجه السابق ، بل هي الحمل على الكناية ، فإنّ الكناية في نفسها ، نحو عناية ، لأن مقتضى طبع الكلام ، أن يكون التوجه التصديقي نحو المدلول المطابقي ، فجعل المدلول المطابقي جسرا إلى المدلول الالتزامي وإلى الملازم والملزومات الذي هو مفاد الكناية ، هو خلاف الطبع.

الوجه الثالث :

أن يتحفّظ على المدلول التصوري للجملة الخبرية ، وهو النسبة الصدورية ، فهي مستعملة في هذه النسبة ، ولكن تسلخ هذه الجملة عن مدلولها التصديقي ، وهو قصد الإخبار ، فهنا في هذا الوجه ، لا يفترض قصد الحكاية ، لا عن المدلول المطابقي ، ولا عن المدلول الالتزامي ، ولكن يقال أنّ النسبة الصدورية التي هي المدلول المطابقي التصوري ، كثيرا ما تكون في طول النسبة الإرسالية من قبل المولى ، كما تقول دفعته فاندفع ، وأرسلته فذهب ، إذن بعد قيام قرينة دالة على هذه الطولية ، ينعقد للجملة الخبرية (يعيد) دلالة مطابقية تصورية على النسبة الصدورية ، ودلالة تصورية التزامية على النسبة الإرسالية ، فكلمة «يعيد» تدل على نسبتين تصوريتين ، بالدلالة التصورية ، تدل تصورا بالمطابقة على النسبة الصدورية التي هي المعنى الموضوع له ، وتدل بالدلالة الالتزامية التصورية على النسبة الإرسالية التي كانت صيغة «افعل» تدل عليها بالمطابقة ، فإذا أصبح لكلمة «يعيد» دلالة

١٣٢

تصورية التزامية على النسبة الإرسالية ، كشفت عن الطلب ، وعن الإرادة بالنحو المتقدم في صيغة «افعل». وهذا الوجه أيضا مستبطن للعناية ، وهي أن فرض الانتقال تصورا إلى هذا اللازم ، وهو الانتقال تصورا من النسبة الصدورية إلى النسبة الإرسالية ، فإن هذا الانتقال ، لا يكفي فيه مجرد اللفظ ، لوضوح أن النسبة الصدورية كما قد تنشأ من النسبة الإرسالية من قبل المولى ، قد تنشأ من ناحية أخرى من غير ناحية المولى ، فنقل ذهن السامع من النسبة الصدورية إلى النسبة الإرسالية ، يحتاج إلى ضم قرينة على هذا النقل ، ليستعد للانتقال ، وإلّا لو لا القرينة ، فذهن السامع يقف على النسبة الصدورية ، دون أن يتعدّاها إلى النسبة الإرسالية.

الوجه الرابع :

أن يقال كما في الوجه الثالث ، فيتحفظ على المدلول التصوري للجملة الخبرية ، وهو النسبة الصدورية ، وتسلخ هذه الجملة ، عن المدلول التصديقي رأسا ، فتسلخ عن الحكاية والإخبار ، ولكن هنا ، لا يلتزم بالانتقال تصورا ، من النسبة الصدورية ، إلى النسبة الإرسالية ، كما فرض في الوجه الثالث ، بل يدّعى ابتداء ، أنّ هذه النسبة الصدورية ، قابلة لأن يتعلق بها أمران نفسيان ، فتارة المتكلم يخبر عن هذه النسبة ، يعني يصدّق بوجودها ، فيقول ، («زيد يعيد صلاته») إخبارا ، وهنا النسبة الصدورية تعلّق بها أمر نفساني ، وهو التصديق بها وهو الإخبار ، وأخرى ، يتعلق بها أمر نفساني آخر ، وهو طلبها وإرادتها ، فإنّ المولى ، قد يريد هذه النسبة الصدورية ، كما قد يخبر ويصدّق بوقوعها. إذن كلمة يعيد ، قابلة بلحاظ مدلولها التصوري ، لأن تقع متعلقا للتصديق والحكاية ، كما أنها قابلة لأن تقع متعلقا للطلب والإرادة ، بلا حاجة إلى ضم نسبة أخرى إليها ، والانتقال إلى نسبة أخرى.

وبهذا يتبين أنها تارة ، يكون مدلولها التصديقي ، هو التصديق بالنسبة ، فتصير إخبارا ، وأخرى ، يكون مدلولها التصديقي ، هو طلب النسبة الصدورية ، فتكون إنشاء ، والمدلول التصوري فيهما معا واحد ، وهو النسبة

١٣٣

الصدورية ، فهذه النسبة تطاوع كلا الحالتين معا ، فكما تطاوع التصديق ، تطاوع الإرادة والطلب ، وما دامت النسبة الصدورية مطاوعة لكلا الأمرين ، إذن ، فالجملة الدالة عليها ، صالحة لأن تكشف عن هذا تارة ، وعن ذاك أخرى ، وبهذا تتخرج دلالة الجملة الخبرية على الطلب.

لكن هنا يحتاج إلى إعمال رويّة ، لمعرفة ما هي العناية ، إذ قد يتراءى بناء على هذا ، أن لا عناية في حمل «يعيد» على الإنشاء ، فإن المدلول التصوري للجملة ، هو النسبة الصدورية ، وهذه النسبة ، كما قد يتعلق بها التصديق ، أيضا يتعلق بها الطلب ، وكما أنّ التصديق أمر زائد على النسبة الصدورية ، أيضا الطلب أمر زائد على هذه النسبة ، فكلاهما غير النسبة الصدورية ، إذن ، فيحتاج في مقام تحصيل المدلول التصديقي إلى افتراض شيء زائد على النسبة الصدورية يتعلق بها ، وهذا الشيء ، هو إمّا التصديق والعلم بالنسبة ، وأمّا إرادة النسبة ، إذن فهما على عرض واحد ، ولا مئونة في أحدهما أشد من مئونة الآخر.

المسلك الثاني :

هو مسلك السيد الخوئي (١) ، حيث ذهب إلى أن الجملة الخبرية ، إذا استعملت في مقام الطلب ، تكون قد انسلخت عن معناها رأسا ، واستعملت في معنى جديد ، لا بلحاظ المناسبة بين الطلب والنسبة الصدورية ، بل تكون الجملة مستعملة ابتداء في ذلك المعنى الجديد ، وهذا المطلب انساق إليه السيد الخوئي ، بناء على مبناه في مبحث الوضع ، من أن المدلول التصديقي هو المدلول الوضعي ، وعليه فإنّ المدلول التصديقي للجملة الخبرية في موارد الإخبار ، هو قصد الحكاية ، وفي موارد الإنشاء هو الطلب ، والحكاية غير الطلب ، فليس في كلام الموردين معنى وحداني محفوظ ، كما كان ، بناء على مسلك المشهور ، حيث ذهبوا إلى انحفاظ معنى واحد في مقام الإخبار

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٣٥ ـ ١٣٦.

١٣٤

والإنشاء ، وهذا المعنى هو المدلول التصوري ، وهو النسبة الصدورية ، وأمّا بناء على أن المدلول التصديقي ، هو مدلول الجملة وضعا ، إذن فيختلف المعنى المستعمل فيه ، في موارد الإخبار ، عنه في موارد الإنشاء ، وقد استشهد السيد الخوئي لذلك ، بأنّ الجملة الخبرية (١) ، لو كان معناها الخبري ومدلولها الأصلي محفوظا في موارد الطلب ، للزم جواز استعمال كل جملة خبرية في مقام الإنشاء والطلب ، مع أنّ الوجدان قاض ، بأن الجملة الخبرية المتقومة بالفعل الماضي والجملة الاسمية الخبرية ، لا يصح استعمالها في مقام الإنشاء ، فلا يقال : «صلّى» ، في مقام الأمر بالصلاة ، إلّا إذا وقع الفعل الماضي جزاء في الجملة الشرطية ، كقولك إذا قهقه في صلاته أعاد ، وكذلك الجملة الاسمية ، لا تقع في مقام الإنشاء والطلب ، فلو كان المدلول الخبري بما هو هو ، يناسب مع مقام الطلب ، لصحّ استعمال كل جملة خبرية في هذا المقام ، مع أنه لا يصح ، إلّا في الجملة التي قوامها بالفعل المضارع ، أو بالفعل الماضي إذا وقع جزاء من جملة شرطية ، فهذا يدل على أنّ هذا ليس بلحاظ المناسبة ما بين مقام الطلب والمدلول الخبري للجملة.

وهذا الكلام حوله تعليقان.

التعليق الأول : هو ما تقدّم مرارا ، من أنّ المدلول التصديقي للجملة الخبرية ، ليس هو المدلول الوضعي ، وإنما المدلول الوضعي لها ، هو المدلول التصوري ، وهو عبارة عن النسبة التامة التي وضعت لها الجملة الخبرية فانحفاظ معنى وحداني في الجملة الخبرية في موارد الإخبار والطلب ليس معناه ، انحفاظ المدلول التصديقي ، بل انحفاظ المدلول التصوري في كل الموارد ، الإخبار منها ، والإنشاء ، على ما تقدم توضيحه في بحث الوضع.

التعليق الثاني : هو أنّ ما ذكره شاهدا ، على أنه لا شاهد ولا مثال ، لاستعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء والطلب ، في غير الفعل المضارع

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٣٧.

١٣٥

والماضي الواقع جزاء في الجملة الشرطية (١) ، لا يمكن المساعدة عليه.

ذلك ، لأنه ، لا إشكال في وقوع هذا المطلب في الجملة الخبرية ، حتى فيما إذا كان قوامها الفعل الماضي ، من دون وقوعه في الجملة الشرطية ، وهو استعمال شائع في مقام الإنشاء كقولك : «غفر الله لك» ، «ورحمك الله» ، فهذه جملة خبرية قوامها الفعل الماضي ، من دون وقوعه في جملة شرطية ، ومن المعلوم أنه ليس المقصود بهذه الجملة الإخبار ، بل الطلب والسؤال ، ولكن هذا غير مطّرد ، كما هو بالنسبة إلى الفعل المضارع ، فلا معنى لأن يقول المولى لعبده ، «صلّيت» في مقام أمره بالصلاة ، ونكتة المطلب ، هي أن تصدّي المولى للطلب ، وكون نظره نظرا طلبيا ، لا يناسب مع فرض الفراغ عن وقوع الفعل والانتهاء منه في الماضي ، كما هو مفاد الفعل الماضي ، فإن النظر الطلبي نظر ترقبي استدعائي ، وهذا لا يناسب مع النظر إلى الصلاة ، بأنها قد وقعت ومضت ، الذي هو مفاد فعل الماضي ، وهو ببعض المعاني مفاد الجملة الاسمية ، فهذان النظران متنافيان بحسب المناسبات العرفية الارتكازية ، ولهذا لا يصح عرفا أن يتقمّص المولى قميص الطلب وينظر بالنظر الطلبي إلى الصلاة ثم يستعمل الفعل الماضي الذي نظره نظر المضي والانتهاء ، إلّا إذا قلب الماضي إلى شبه مضارع ، من قبيل أن يجعله جزاء في قضية شرطية فيقول ، إذا أعاد صلّى ، فهنا لم يعد الفعل الماضي ماضيا ، لأنه لم يبق متمحضا في المضي والوقوع والانتهاء ، وهذا لا يتناسب مع كونه طلبا واستدعاء. هذه هي النكتة في عدم صحة استعمال الفعل الماضي المتمحّض في الماضوية وما كان من قبيله في مقام الطلب والاستدعاء ، وأمّا مثل غفر الله لك ، ورحمك الله ، فهو حقيقة ، ليس طلبا بالمعنى المتعارف ، وإن كان إنشاء ، ولكن الظاهر أنّ مفاده هو ترقّب وتوقّع أنّ هذا المطلب قد صدر من المولى ، وليس مفاده ، طلب صدوره من المولى كما يقول «يا ربّنا اغفر لفلان» ، وحيث أنّه يتوقّع أن يصدر من المولى ، لا أنه طلب لصدوره فلا يبقى تهافت بينه وبين نظرة الفعل

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٣٧.

١٣٦

الماضي ، الذي مفاده الانتهاء والوقوع في الماضي ، بل هذا التوقع يناسب مع نظرة المضي والانتهاء في الفعل الماضي ، ولهذا اختص استعمال الفعل الماضي ، في مقام الإنشاء والطلب ، فيما إذا كان الطلب يرجع إلى توقع أن يكون قد انتهى المطلب ، ووقع المحبوب من المولى في الماضي.

١٣٧

المقام الثاني

دلالة الجملة الخبرية على الطلب الوجوبي أو على الجامع

تقدم في مقام تخريج دلالة الجملة الخبرية على الطلب أربعة وجوه ، وهنا في هذا المقام الثاني ، لا بدّ من الرجوع إلى هذه الوجوه ، فهل أن كل واحد منها ، يقتضي دلالة الجملة الخبرية على الطلب الوجوبي ، أو على جامع الطلب.

الوجه الأول :

تقدم في هذا الوجه ، التحفظ على المدلول التصوري والتصديقي للجملة الخبرية في مقام الطلب ، دون أدنى تصرف في كلا المدلولين ، فقوله ، «يعيد» ، في مقام الطلب ، هو قاصد به الحكاية عن وقوع الإعادة خارجا ، لكن ممّن هو في مقام الامتثال ، فقوله ، يدل بالمطابقة على الإعادة ، وبالملازمة على طلب الإعادة.

وبناء على هذا الوجه ، الظاهر هو تعيّن الوجوب ، في مقابل الاستحباب ، وذلك ، لأنّ هذا الوجه ، يستبطن عناية ، وهي ، الالتزام بالتقييد في دائرة الفاعل ، صونا لكلام الشارع عن الكذب حينما يخبر بالإعادة خارجا ، فيقيّد الفاعل بالشخص الذي يكون عمله حسب الموازين الشرعية ، وهنا يدور الأمر بين الأقل والأكثر في التقييد ، بين الوجوب والاستحباب لأنه إن كان الطلب طلبا وجوبيا ، إذن فالفاعل يقيّد بمن كان عمله منطبقا على الموازين

١٣٨

الشرعية ، ويكون الإخبار صادقا ، لأنّ من كان عمله منطبقا على الموازين الشرعية «يعيد» ، وأمّا إن كان الطلب طلبا استحبابيا.

إذن ، فحتى من كان عمله مطابقا لتلك الموازين ، قد «لا يعيد» ففعل المستحب وتركه سيّان بالنظر إلى الموازين الشرعية.

إذن إذا كان الطلب استحبابيا ، لا بدّ من تقييد زائد في دائرة الفاعل ، حتى لا يكون الإخبار كاذبا ، بأن يقول ، بأنّ هذا الإخبار عن وقوع الفعل خارجا ، إنما هو في حق من يطبق عمله على القواعد الشرعية بأفضل أنحاء التطبيق ، وهو التطبيق الأعلائي ، وهذا تقييد زائد في دائرة الإخبار ، بمن يكون عمله مطابقا للقواعد الشرعية تطبيقا أعلائيا.

وعلى هذا ، إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر بحسب هذا الوجه ، يتعيّن الأقل في مقام التقييد لأنّ الوجوب ، أقلّ مئونة من الاستحباب ، فيتعين الحمل على الوجوب.

الوجه الثاني :

هو الحمل على الكناية ، باعتبار الاستطراق من أحد المتلازمين إلى ملازمه ، وحيث أن صدور الفعل خارجا ملازم مع طلبه من المولى ، فهو يجعل الصدور ، قنطرة للإخبار عن الطلب من المولى ، من قبيل ، جعل كثرة الرماد قنطرة للإخبار عن كرم زيد.

وبناء على هذا الوجه ، يمكن أن يقال ، بتعيّن الوجوب ، وذلك لأنّ القنطرة ، كلما كانت أقصر ، كانت الدلالة أقوى ، ومن الواضح أن مرتبة التلازم ، بين وقوع الفعل ، وما بين الطلب الوجوبي ، أوضح ارتكازا وعرفا ، من مرتبة التلازم ، بين وقوع الفعل ، والطلب الاستحبابي المقرون بالترخيص بالترك ، خصوصا مع كثرة تخلّف المكلّف عن الإتيان بالمستحب ، مع عدم شيوع ترك الواجب ، وشيوع كثرة المستحب خارجا ، وهذا لا يخدم الملازمة بين الطلب الاستحبابي ووقوع المادة ، بل لا ملازمة هنا بلحاظ شيوع تخلف

١٣٩

المستحب خارجا مع وجود الاستحباب.

وحينئذ تنصرف الكناية إلى ما هو الأشد والأوضح لزوما ، بحسب الارتكاز العرفي والمتشرعي ، ويكون كناية عن الوجوب لا عن الاستحباب.

الوجه الثالث :

كان يقتضي فرض مدلولين تصوريين طوليين حرفيين لكلمة «يعيد».

المدلول الأول ، هو النسبة الصدورية تصورا ، دلّت عليه كلمة «بعيد» بالمطابقة تصورا.

والمدلول الثاني ، هو النسبة الإرسالية تصورا ، دلّت عليه الكلمة ، بالملازمة ، تصورا. ثم من هذه النسبة الإرسالية ، ينقدح وجه إفادة الطلب والإرادة بالنحو الذي بينّاه في صيغة افعل.

وبناء على هذا الوجه أيضا ، الظاهر تعيّن الوجوب ، وذلك بالنحو الذي بيّناه في صيغة «افعل» حتى لو لم نقل بالوضع ، بدعوى أن مقتضى التطابق بين الإرسال التكويني ، المدلول عليه باللفظ تصورا ، وبين التسبيب التشريعي ، المدلول عليه بالصيغة تشريعا ، هو أنه كما أن الإرسال التكويني مقتضاه أنه لا مناص للعبد من التوجه نحو الفعل ، أيضا ، التسبيب التشريعي ، مقتضاه أنّه لا مناص للعبد من التوجه نحو الفعل ، وهو معنى عدم الترخيص في الترك.

هذا البيان الذي بيناه في صيغة «افعل» بنفسه يجري هنا في الجملة الخبرية ، بعد فرض أن الجملة الخبرية تدل بالدلالة الالتزامية التصورية على النسبة الإرسالية ، غاية الأمر ، أن النسبة الإرسالية ، مدلول مطابقي تصوري لصيغة «افعل» ومدلول التزامي تصوري للجملة الخبرية.

وعلى أيّ حال ، ملاك الدلالة على الوجوب واحد فيهما ، فأيضا بناء على هذا الوجه يتعين الوجوب.

١٤٠