بحوث في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٦

في هذا البلد أو لسبب وآخر ، غير مربوط بباب الصوم والصلاة ، فبعد هذا يصح منه الصوم.

وأمّا إذا أخذنا بالفرضية الثانية ، وهي فرضية ، أن مناط الإتمام والصيام ليس الإقامة ، بمعنى الحب ، وإنما هو قصد الإقامة ، بمعنى التصميم والالتزام ، ولو مكرها على البقاء عشرة أيام ، فعلى ما ذكرناه من أن الإنسان مسلّط على أفعاله وتروكه ، يمكن أن يختار أحد المتساويين على الآخر جزافا ، من دون مرجّح ، وهنا ، أيضا ، اتخذ جزافا قرار البقاء عشرة أيام ، فيلحقه الحكم بالإتمام والصيام ، فإذا كان المناط هو اتخاذ القرار بالبقاء عشرة أيام ، فحينئذ ، الإشكال السابق ، ينحل ، باعتبار أن الالتزام والتعهد ، فعل من أفعال النفس ، وليس صفة من قبيل الحب والبغض ، فكما أن الأفعال الخارجية من أفعال النفس وتحت سلطانها ، فكذلك الالتزام والتّعهد من مقدمات الفعل ، ونسبتها إلى النفس ، نسبة الفعل إلى الفاعل ، إذن يمكن أن ينشأ هذا الفعل لمصلحة في نفسه ، فإذا قيل لك خذ الدينار في مقابل الالتزام بمطلب ، فقد نشأ الالتزام لمصلحة في نفس الالتزام ، بل ذكرنا أن الالتزام ، وكل فعل واقع تحت سلطان النفس ، لا يحتاج إيقاعه إلى وجود مصلحة ، ويمكن للنفس أن ترجح جزافا ، أحد المتساويين على الآخر ممّا هو واقع تحت سلطانها ، إذن فلا يقع الإشكال من هذه الناحية.

نعم يقع إشكال ، من ناحية أخرى ، وهو أن الالتزام بالبقاء عشرة أيام ، هل يتأتى بشكل جدّي وحقيقي من هذا المسافر ، الذي غرضه تصحيح الصوم؟.

قد يقال بأنه لا يتأتى هذا الالتزام بصورة جدية ، وذلك لأن هذا المسافر يعلم أنه بعد يومين ، إذا صحّ صومه ، لا يبقى له أي داع لهذا الالتزام ، ولعلّه يفضيه شوقه إلى أهله ، أن يرجع إلى بلده ، ولا يبقى مسافرا ، إذن مع التفاته إلى أن هذا الالتزام سوف لن يبقى له ضمان لبقائه تحت يده فيما بعد ، فكيف يمكن الالتزام الآن جدّيا بالبقاء عشرة أيام ، إذن الالتزامات من الإنسان

١٠١

العاقل ، إذا كان متعلقها متأخرا ، فلا تتأتى بشكل جدّي ، إلّا إذا كان الإنسان ضامنا لبقاء هذا الالتزام إلى الآخر بحسب تصوره ، وإن كان قد يحصل له بداء ، ولكن إذا كان يعلم أن الشوق إلى أهله ، يدفعه إلى نقض الالتزام لو استراح من الصوم ، إذن فكيف يتأتى منه مثل ذلك الالتزام!. فالإشكال يقع من هذه الناحية.

وإذا أخذنا الفرضية الثالثة وهي الفرضية الصحيحة ، وهي أن مناط الإتمام والصيام ، ليس هو القصد ، لا بمعنى الحب ، ولا بمعنى الالتزام ، بل هو العلم والاطمئنان بالمكث عشرة أيام ، وإن لم يكن هناك حب ولا التزام ، بل غلبة وقهر ، كما إذا حمل إلى بلد قهرا وفرض عليه القيام هناك ، وليس من قبله حب بالمكث عشرة أيام ولا التزام وتصميم على البقاء عشرة أيام ، ولكن يعلم ، أن هذا قدّر له تقديرا ، فمثل هذا الشخص حكمه الصّيام والإتمام ، فميزان الحكم الشرعي إنما هو العلم والاطمئنان.

وبناء على هذه الفرضية الثالثة ، أيضا يأتي إشكال شبيه بالإشكال الوارد على الفرضية الثانية ، إذ قد يقال ، بأن هذا الشخص كيف يتأتى له العلم مع أنه ملتفت ، إلى أن القرار المتخذ بشأنه سوف يزول بعد عدة أيام ، فكيف يعلم بالبقاء عشرة أيام؟. إذن فيرد هذا الإشكال ، على الفرضية الثالثة كما أورد على الفرضية الثانية ، فلا بدّ من تخلص من هذا الإشكال ، ولا بدّ من تعليق على هذا الإشكال.

١٠٢

التخلص من الإشكال

ذكرنا أن هذا المسافر ، له غرض شخصي ، في تصحيح صومه ، وتصحيح صومه ، قائم بالقصد ، بمعنى الحب على الفرضية الأولى ، أو بالقصد ، بمعنى الالتزام على الفرضية الثانية ، أو بالقصد ، بمعنى العلم على الفرضية الثالثة ، وعلى كل هذه التقادير الثلاثة ، تصحيح الصوم ، قائم بالقصد ، لا بالمقصود ، وهنا لا يمكن أن ينشأ هذا القصد بلحاظ هذا الفرض.

أمّا على الفرضية الأولى ، فلما ذكرناه ، من أن الحب ، لا ينشأ من ملاك في نفسه.

وأمّا على الفرضية الثانية فإن الالتزام ، وإن كان يمكن أن ينشأ من مصلحة في نفسه ، لأنه فعل تحت السلطنة ، لكن يوجد إشكال آخر ، وهو أن الالتزام والتعهد ، لا يمكن أن يتحقق من العاقل تحققا جبريا ، مع التفاته أنه لا ضمان لهذا التعهد إلى ما بعد إتمام صومه ، ومثل ذلك يقال بناء على الفرضية الثالثة.

إذن فلا بدّ في مثل هذا الفرض ، من إيجاد مصلحة في المقصود.

وذلك لأن الفرض ، وهو تصحيح الصوم ، يتوقف على القصد ، والقصد يتوقف على وجود مصلحة في المقصود ، فلا بدّ للمكلف ، من أن يسبب إلى قيام مصلحة في المقصود ، حيث يجعل المقصود بذاته ، ذا مصلحة ، لكي

١٠٣

يتحقق القصد بأحد المعاني الثلاثة ، ولكي يترتب على ذلك تصحيح الصوم ، وجعل المقصود ذا مصلحة ، يمكن أن يكون بأنحاء ، فإمّا أن ينذر مثلا إقامة عشرة أيام ، وإمّا أن يعلن عن تعهده بالبقاء عشرة أيام ، بحيث يكون الإعلان بنفسه ، موجبا لوجود مصلحة في وفائه ووقوفه عند كلامه.

إذن لا بدّ وأن يوجد نكتة قائمة بنفس المقصود ، لكي تحقق بذلك القصد ، بأحد المعاني الثلاثة ، استطراقا إلى تحصيل الغرض ، وهو تحصيل الصوم ، وأمّا إذا بقي ذات المقصود ، بلا نكتة ، فلا يمكن في المقام ، نشوء القصد بأحد المعاني الثلاثة.

المورد الثاني

ومن جملة الفروع المشابهة لما تقدم في المورد الأول ، إن كثيرا ما يريد الإنسان ، أن يتوضأ قبل وقت الظهر ، أو قبل وقت المغرب ، لأجل صلاة الظهر أو المغرب ، ففي المقام كلام مشهوري بعدم صحة الوضوء لصاحبة الوقت ، لأنها لم تتصف بعد بالوجوب ، فلا بدّ من الإتيان بالوضوء بقصد امتثال أمر آخر ، كالأمر بالوضوء ، على نحو الاستحباب ، لأنه مستحب في نفسه ، أو لقراءة القرآن ، أو للزيارة ، وغير ذلك من الأوامر الاستحبابية.

وكلام المشهور هذا ، عليه إيرادان ، إيراد بلحاظ البناء ، وإيراد بلحاظ المبنى.

الإيراد البنائي

إن تلقين المكلّف ، بأن يتوضأ بقصد الأمر الاستحبابي لقراءة القرآن على طهور ، لا يغير من الواقع شيئا ، فإن هذا المكلّف ، بحسب الحقيقة ، ليس له إرادة ، لامتثال الأمر الاستحبابي ، بحيث لو لا صلاة الظهر التي لم يأت وقتها بعد ، لا يفكر في أن يقرأ القرآن ، وليس للأمر الاستحبابي بقراءة القرآن ، أي باعثية ومحركية له ، ومجرد التلفظ بذلك ، لا يحدث محركية للأمر الاستحبابي بقراءة القرآن على طهور ، إذن فهو بحسب طبعه ، ليس له أي غرض بقراءة

١٠٤

القرآن على طهور ، وإنّما تمام همّه وغرضه ، أن يوجد وضوءا صحيحا ، مقدمة لصلاة الظهر قبل مجيء وقتها ، وتصحيح الوضوء بحسب الكلام المشهوري ، إنّما يتمّ على أن امتثال الأمر الاستحبابي ، ولا يتوقف على المقصود ، يعني على أن تقع القراءة خارجا ، فلو فرض أنه توضأ بقصد التوصل لقراءة القرآن ، ولم يقرأ ، فوضوؤه صحيح في المقام ، لأن هذا الوضوء ، وقع على وجه عبادي ، باعتبار أن قصد التوصل إلى المطلوب النفسي ، هو أحد أنحاء القصد العبادي ، فإذن قد وقع الوضوء على وجه عبادي ، وعدم القراءة بعده ، لا تضر بعباديته ، فوضوؤه صحيح وعبادي ، سواء وقعت القراءة بعد ذلك ، أو لم تقع ، وهذا معناه ، أن تصحيح الوضوء ، يتوقف على قصد القراءة ، لا على القراءة ، من قبيل ما كان في محل الكلام ، في المورد الأول ، حيث كان الصوم يتوقف على قصد الإقامة ، لا على الإقامة خارجا ، إذن فالقراءة ليست داخلة في نظر المكلّف ، وإنما تمام غرضه ، قائم بقصد الامتثال ، لا بالقراءة ، فيرد نفس الإشكال السابق في الصوم ، وهو أن الغرض ، وهو تصحيح الوضوء ، كيف نشأ من قصد القراءة ، مع أن الغرض قائم بالقصد ، لا بالمقصود ، والمقصود ليس له دخل في تصحيح الوضوء ، بوجه من الوجوه؟.

ومن هنا كان يحتاج هذا المكلف ، بناء على هذا الكلام المشهوري ، إلى نفس ما احتاج إليه المسافر هناك ، بأن يرغّب نفسه في القراءة حقيقة ، ويوجد في نفسه ، نكتة قائمة بالقراءة ، فيفكّر في ثوابها وما يترتب عليها من القرب نحو المولى تعالى ، وحينئذ ، يحصل له مصلحة وغرض في المقصود ، وهو القراءة ، فيحصل له قصد القراءة ، ويصبح هذا القصد ، محركا له نحو الوضوء ، وحينئذ ، يقع الوضوء على وجه عبادي.

الإيراد المبنائي

وتفصيل المناقشة في أصل مبنى هذا الكلام المشهوري متروك إلى موضوع آخر ، وإجماله ، هو أن الوضوء قبل الوقت ، يصح بقصد التوصل إلى صاحبة الوقت ، أيضا ، بلا حاجة ، إلى أن يحدث في نفسه رغبة في القراءة ،

١٠٥

وذلك لأن وقوع الوضوء عباديا ، يتوقف على ركنين.

الركن الأول ، هو أن يكون الوضوء مطلوبا ، إمّا خطابا وملاكا ، أو ملاكا فقط ، لوضوح أن كل فعل ، إذا لم يكن مطلوبا من قبل المولى ، لا خطابا ولا ملاكا ، فلا معنى للتقرب به نحو المولى.

الركن الثاني ، هو أن يؤتى بالفعل ، بداع من الدواعي التي تعتبر عقلا ، أنها دواع إخلاصيّة للمولى ، وراجعة إلى الاهتمام بشئون المولى.

وكلا هذين الركنين ، موجود في الوضوء ، قبل صلاة الظهر ، إذا أتى به بقصد التوصل إلى هذه الصلاة قبل وقتها.

أما الركن الأول ، وهو كون الوضوء مطلوبا للمولى ، فهو ثابت في المقام ، فإن الطلب المولوي للوضوء ، ثابت لا بلحاظ الأمر الغيري بل بلحاظ الاستحباب النفسي ، بناء على ما هو الصحيح ، من أن الوضوء مطلوب بالطلب النفسي ، مطلقا ، قبل وقت الصلاة ، وبعد وقت الصلاة ، فالركن الأول للعبادية ، محفوظ ، ببركة الأمر الاستحبابي بالوضوء.

وأما الركن الثاني ، وهو أن يؤتى بالوضوء ، بقصد من القصود المعتبرة في نظر العقل قصودا حسنة في مقام العبودية للمولى ، فهذا الركن ، أيضا محفوظ في المقام ، فإنّ من يأتي بإحدى المقدمات ، قبل وجوب ذيها ، تحفظا ، لأجل امتثال أمر المولى في ظرفه ، فإنّ مثل هذا القصد ، يعتبر ناشئا من الإخلاص في مقام العبودية ، ويعتبر قصدا حسنا ، ومظهرا من مظاهر الإخلاص في مقام العبودية.

إذن فقد تمّ كلا الركنين ، مطلوبية الوضوء شرعا ، ببركة الاستحباب ، وكون القصد حسنا عقلا ، بلحاظ ، أن هذا القصد ، إخلاص للمولى في مقام العبودية ، إذن فالوضوء يصح على واقعه ، من دون حاجة إلى صرف المكلّف عن واقع نيته ، إلى نية أخرى ، ولكن لو احتيج إلى هذا الصرف ، فإنه لا يكفي فيه مجرد التلفظ بنية الوضوء ، بقصد قراءة القرآن ، بل لا بدّ من إحداث نكتة ،

١٠٦

تقتضي رغبة حقيقية في القراءة ، لكي يتحقق قصد القراءة ، وبعد هذا ، يقع الوضوء بهذا القصد.

وبهذا انتهى الكلام ، في الفصل الأول ، فيما يتعلق ، بمادة الأمر ، ثم يليه الكلام ، فيما يتعلق بصيغة الأمر.

١٠٧
١٠٨

الفصل الثاني

صيغة الأمر

والكلام في صيغة الأمر يقع في عدة جهات

١٠٩
١١٠

الجهة الأولى

في تشخيص مدلول صيغة الأمر

لا إشكال في أن قوله (صلّ) يدل على الطلب ، ولكن الكلام في كيفية هذه الدلالة.

فكان يقال أولا بنحو الكلام الساذج ، أن صيغة افعل موضوعة للطلب ، ولا ينبغي أن يكون المقصود من ذلك ، ما هو ظاهر لفظه ، بحيث أنّ صيغة «افعل» تكون موضوعة لمفهوم الطلب ، على حدّ موضوعية لفظ الطلب لمفهوم الطلب ، لأن مفهوم الطلب مفهوم اسمي ، وليس من المفاهيم المرادفة مع صيغة «افعل» ولأن صيغة «افعل» ، موضوعة لمعنى حرفي ، كما هو الحال في الهيئات.

إذن ، فلا بدّ وأن يكون المقصود ، من كون صيغة «افعل» موضوعة للطلب ، أي أنها موضوعة بنحو تفيد الطلب ، وإن لم يكن الموضوع له ابتداء هو مفهوم الطلب ، كما ينبغي منذ البدء ، استبعاد ما أفاده السيد الأستاذ ، من أن صيغة «افعل» ، موضوعة لإبراز اعتبار (١) نفساني ، وهو اعتبار الفعل على ذمّة (٢) المكلف ، لأن ما أفاده ، مبني على جعل الدلالة التصديقية ، هي الدلالة الوضعية.

__________________

(١) محاضرات فياض ج ٢ ص ١٢٣.

(٢) أجود التقريرات ـ هامش ـ الخوئي ص ٩٦.

١١١

ومن الواضح أن صيغة افعل لها دلالتان :

أ ـ دلالة تصورية محفوظة ، سواء صدرت من العاقل ، أو من غيره ، من الجاد ، أو من الهازل ، فإنها دلالة تصورية ، تنتقش تصورا في الأذهان.

ب ـ ودلالة تصديقية ، بمعنى أنها تكشف ، عن أنّ هناك شيئا في نفس المتكلم ، نسمّيه بالدلالة التصديقية ، سواء عبّرنا عنه بالاعتبار ، أو عبّرنا عنه بالإرادة ، أو بأي عبارة أخرى.

ونحن الآن في مقام التفتيش عمّا هو المدلول له وضعا.

والدلالة الوضعية ، كما سبق في بحث الوضع ، هي عبارة ، عن الدلالة التصورية ، فإن الوضع لا ينتج أكثر من ذلك ، بينما الدلالة التصديقية هي عبارة عن ظهور سياقي حالي زائد على الدلالة التصورية ، ولها ملاك آخر ، غير الوضع ، ولذلك لا يصح أن نحشر الدلالة التصديقية ، عند ما يكون البحث عن المعنى الموضوع له صيغة «افعل» وتشخيصه ، وإنما الكلام عن الدلالة التصديقية ، يأتي متأخرا عن هذا ، وإنما وقع السيد الخوئي «قده» في ذلك ، لأنه التزم في باب الوضع ، بأن الوضع هو التعهّد ، وهذا الالتزام اقتضى منه الالتزام ، بكون الدلالة الوضعية ، هي الدلالة التصديقية كما تقدم ، ولهذا صار يفتّش عن مدلول تصديقي لصيغة «افعل» ، بينما نحن نفتش عن المدلول الوضعي لصيغة «افعل» ، والذي تدل عليه دلالة تصورية.

ولإيضاح ذلك ، نذكر مقدمة ، ملخصا عمّا أوضحناه في بحث الجمل الفعلية ، حتى نصل إلى صيغة «افعل» ، وقد ذكرنا هناك ، أن الجملة الفعلية (ضرب ويضرب) تدل على النسبة الصدورية بين الفعل والفاعل ، بالنحو الذي يناسب فاعلية ذلك الفاعل مع ذلك الفعل ، فكل من يسمع جملة ، «ضرب زيد أو يضرب زيد» ، يتبادر إلى ذهنه هذه النسبة الصدورية ، بين الضرب والفاعل ، وإن كان لا يمكن القول بأنّ هذه النسبة الصدورية ، هي تمام مفاد «ضرب زيد» ، وقد برهنّا هناك على ذلك ، بمجموع أمرين.

١١٢

أ ـ الأمر الأول ، هو أن جملة «ضرب زيد» ، لا إشكال في دلالتها ، على النسبة التامة ، فهي جملة تامة يصحّ السكوت عليها.

ب ـ الأمر الثاني من البرهان ، هو أن النسبة الصدورية ، بين الفعل والفاعل ، أو بين «الضرب والضارب» ، نسبة حقيقية خارجية ، موطنها ووعاؤها الخارج هو عالم الحقيقة ، لا عالم اللحاظ والتصور ، وقد برهنّا في أبحاث الوضع ، وأبحاث المعاني الحرفية ، بأن كل نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، يستحيل أن تكون نسبة تامة في عالم الذهن ، بل يجب أن تكون نسبة ناقصة تحليلية في عالم الذهن ، كما برهنا على ذلك هناك ، وبعد أخذ هذين الأمرين ، يتبرهن أن جملة ، «ضرب زيد» ، لا يمكن أن يكون مفادها محضا. هو النسبة الصدورية بين الفعل والفاعل ، لأن هذه الجملة ، تدل على النسبة التامة بلا إشكال ، بينما النسبة الصدورية بين الفعل والفاعل ، لا يعقل أن تكون نسبة تامة ، لأنها نسبة خارجية ، وكل نسبة ، يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، حينما تنتقل إلى الذهن ، يجب أن تكون نسبة ناقصة تحليلية ، ولا يمكن أن تكون نسبة تامة ، إذن فلا يمكن ، أن تكون هذه النسبة ، هي مفاد «ضرب زيد» ولهذا اخترنا ، أن تكون هذه الجملة ، مشتملة على نسبتين.

نسبة ناقصة هي مفاد هيئة الفعل ، «ضرب» ، وهي عبارة عن النسبة الصدورية ، أي أن هيئة الفعل ، «ضرب» تدل على «ضرب» خاص ، متحصّص ، بكونه صادرا من ذات ما ، وهذه النسبة الصدورية المتحصّصة ، نسمّيها ، بالنسبة التحليلية الناقصة.

ونسبة تامة ، وهي مفاد هيئة الجملة ، أي هيئة «ضرب زيد» ، فإنها تدل على النسبة التامة ، وقد قلنا في بحث المعاني الحرفية ، أن حقيقة النسبة التامة ، هي تلك النسبة التي موطنها الأصلي هو عالم الذهن ، وعالم اللحاظ ، لا أنها تستورد من الخارج ، وقد سميّناها بالنسبة التصادقية ، أي نسبة التصادق ، بين مفهومين ، في مقام ملاحظتهما فانيين في عالم الواقع وعالم الخارج.

١١٣

إذن فمفاد هيئة «ضرب زيد» ، هو النسبة التصادقية ، بين الذات التي وقعت طرفا للنسبة الناقصة ، وبين زيد ، فكأن «ضرب زيد» ، يرجع إلى قولنا ، أن الذات التي وقع منها الضرب ، هي زيد ، وهناك نسبة صدورية ناقصة ، هي مفاد هيئة «ضرب» ، وهذه النسبة ، أحد طرفيها ، هو الضرب ، والطرف الآخر ، هو الذات المبهمة ، وهذا الإبهام ، عبارة عن القيد لها ، ثم يأتي بعد ذلك ، هيئة الجملة التي مفادها ، هو النسبة التامة التصادقية ، بين تلك الذات المبهمة ، وبين زيد ، فإذا كانت تلك الذات المبهمة هي زيد ، إذن فقد حصل التصادق بين تلك الذات المبهمة ، وبين زيد ، وبذلك حصلت النسبة التامة.

وبعد هذه المقدمة ، ندخل فيما هو المقصود في المقام ، وهو مفاد ، اضرب زيدا ، أو اضرب يا زيد ، وهنا أيضا يوجد نسبتان لا محالة ، نسبة ناقصة ، ونسبة تامة. النسبة الناقصة ، هي مدلول هيئة «افعل» ، على حدّ النسبة الناقصة ، التي هي مدلول هيئة «ضرب» و «يضرب» ، والنسبة التامة ، هي مدلول هيئة الجملة ، «اضرب أنت» مع تقدير الفاعل لا محالة ، إذ أن فعل الأمر ، هو أيضا ، بحاجة إلى فاعل ، ويتشكّل من هذا الفاعل ، وجملة «افعل أنت» ، جملة فعليّة لها هيئة وهذه الهيئة ، موضوعة للنسبة التامة.

والآن نريد أن تعرف ، ما هو الفرق بين ، «افعل» وبين «فعل» ، فهل الفرق في جانب النسبة الناقصة ، أو في جانب النسبة التامة.

طبعا لو كانت النسبة الناقصة هنا ، هي عين النسبة الناقصة هناك ، والنسبة التامة هنا ، هي عين النسبة التامة هناك دون إدخال أي تعديل ، إذن لما كان هناك فرق بين «فعل» و «افعل» ، بينما الفرق ثابت بالوجدان ، إذن فلا بدّ وأن يكون قد أدخل تعديل ، إمّا في طرف النسبة التامة ، التي هي مفاد هيئة الجملة ، وإما في مفاد النسبة الناقصة ، التي هي مدلول هيئة الفعل.

من هنا كان أمامنا بدوا احتمالان.

١ ـ الاحتمال الأول ، أن يكون الفرق ، بلحاظ النسبة التامة ، بمعنى أنّ

١١٤

هيئة «افعل» ، موضوعة ، بقطع النظر عن جملتها ، أيضا للنسبة الصدورية ، بنحو النسبة الناقصة التحليلية ، كما أن هيئة «فعل» ، بقطع النظر عن جملتها وعن فاعلها ، موضوعة للنسبة الناقصة التحليلية ، فمن هذه الناحية ، لا فرق بين مفاد «فعل زيد» أو «افعل يا زيد» وإنما الفرق بينهما في النسبة التصادقية التامة ، التي هي مفاد الجملة ، فإن النسبة التصادقية في «فعل زيد» مرجعها إلى التصادق ، بين الذات المبهمة ، التي أخذت طرفا للنسبة الناقصة في ، «ضرب» وبين «زيد» ، كأنه يقول ، إن ذاك هو هذا «ضرب» ، وقد قلنا سابقا في بحث المعاني الحرفية ، إن التصادق بين مفهومين في عالم اللحاظ ، لا بدّ وأن يكون ، بلحاظ فنائهما لا بما هما في الذهن ، إذ من الواضح ، أنه بما هما في الذهن وعالم اللحاظ ، هما متغايران ، إذن فلا بدّ من ملاحظة المفني فيه ، وهذا المفني فيه.

تارة ، يكون هو عالم الخارج ، كما في قولنا «ضرب زيد» ، فالنسبة التصادقية هنا ، بين المفهومين في عالم الخارج والتحقق ، بين الذات المبهمة في «ضرب» وبين «زيد» بلحاظ عالم الخارج.

وتارة أخرى يكون المفني فيه ، أي النسبة التصادقية ، بلحاظ عالم آخر ، غير عالم الخارج ، من قبيل عالم الاستفهام ، في قولنا. «هل زيد ضارب» أو عالم الترجّي أو التمني ، فإنه هنا ، يدل على النسبة التصادقية التامة ، لكن لا بلحاظ عالم الخارج ، بل بلحاظ عالم الطلب ، الذي هو من قبيل عالم الاستفهام ، وعالم التمني والترجّي وغيره من العوالم ، فالذات التي تضرب هي «زيد» لكن بلحاظ العالم الطلبي ، لا بلحاظ عالم الخارج ، وعلى هذا الأساس ، ففي هذا الاحتمال ، النسبة الناقصة في «فعل ، وافعل» واحدة ، والنسبة التامة التصادقية تكون في «فعل زيد» مبنية بلحاظ عالم الخارج ، وفي «افعل يا زيد» مبنية بلحاظ عالم الطلب.

وهذا الاحتمال للفرق غير صحيح ، وذلك ، لأن لازمه أن لا يكون هناك فرق بين «افعل» و «فعل» بقطع النظر عن طرو الجملة عليه ، لأن الفرق ما بين

١١٥

«فعل زيد» و «افعل يا زيد» نشأ بلحاظ النسبة التصادقية ، التي هي مفاد الجملة التامة ، إذن معنى هذا ، أنه لو قطعنا النظر عن النسبة التصادقية ، وعن مفاد الجملة التامة ، ونظرنا إلى الفعل ، بما هو هو ، لا بما هو جزء من جملة ، حينئذ لا يبقى فرق فيما بينهما ، لأننا إذا نظرنا إلى الفعل بما هو هو ، لا يبقى عندنا إلّا النسبة الناقصة ، والمفروض أن النسبة الناقصة فيهما على حد سواء ، مع أن الوجدان اللغوي قاض ، أن الفرق بينهما محفوظ حتى لو نظر إليه بما هو هو ، بقطع النظر عن كونهما جزءين من جملتين ، بداهة وجود الفرق بين فعل الماضي ، وفعل الأمر بما هما هما ، وهذا دليل ، على أن الفرق بينهما ، لم ينشأ فقط محضا ، من طرف النسبة التصادقية ، التي هي من تبعات هيئة الجملة ، بل لا بدّ من فرض فرق بينهما ، بلحاظ النسبة الناقصة التي هي مفاد هيئة الفعل ، إذن فهذا الاحتمال لا يمكن المساعدة عليه.

٢ ـ الاحتمال الثاني :

أن يكون الفرق بلحاظ النسبة الناقصة ، التي هي مدلول هيئة الفعل ، فهيئة «ضرب» أو «يضرب» موضوعة للنسبة الناقصة ، التي هي النسبة الصدورية ، أي صدور الفعل من الفاعل ، بنحو المعنى الحرفي ، لأن صدور الفعل من الفاعل يوجد ربطا مخصوصا ونسبة مخصوصة بينهما ، وهذا الربط ، من النسب الناقصة ، باعتبار أن موطنه الأصلي ، هو عالم الخارج ، وأمّا هيئة «افعل» ، فمفادها نسبة ناقصة أخرى ، أيضا موطنها الأصلي ، هو عالم الخارج ، وهي النسبة الإرسالية ، أو الإلقائية ، أو الدفعية.

وتوضيح ذلك.

أنّه لا إشكال ، في أنه من الممكن ، أن نتصور بحسب عالم التكوين ، إلقاء عين على عين ، كإلقاء زيد على الأرض ، وهذا فرد حقيقي من الإلقاء ، وهناك فرد آخر عنائي من الإلقاء أيضا ، بحسب عالم التكوين ، وهو إلقاء زيد على العمل ، لا على العين ، كما إذا ألقيت بزيد على الكتاب ، بقصد أن تجبره على المطالعة ، فتقول ألقيناه على المطالعة ، ودفعناه نحو المطالعة ، وهذا

١١٦

الإلقاء والدفع ، إلقاء ودفع تكويني ، ولكنه بحسب الحقيقة هو دفع نحو الكتاب ، لا نحو المطالعة ، إذ أن المطالعة ليست عينا خارجية ، حتى يتأتى الدفع نحوها ، لكنه بالعناية دفع نحو المطالعة ، باعتبار أن الكتاب أداة للمطالعة ، فيصدق على هذا الدفع الخارجي التكويني ، بنحو من العناية ، أنه دفع نحو المطالعة ، ولهذا تقول دفعته نحو المطالعة ، وهذا الدفع ، يولّد نسبة وربطا مخصوصا بين المدفوع والمدفوع إليه ، وهذه النسبة نسمّيها ، بالنسبة الإرسالية أو الدفعية أو التحريكية أو ما شئت فعبّر عن هذه النسبة ، والربط المخصوص ، الحاصل بين شيئين ، بلحاظ دفع أحدهما نحو الآخر ، وهذه النسبة الإرسالية ، هي في مقابل النسبة الصدورية إذ أنه تارة ، «زيد» يطالع في الكتاب حقيقة ، فتصدر منه المطالعة فيكون بينه وبين المطالعة نسبة صدورية ، وأخرى لم تصدر منه المطالعة ، ولكن ألقي ودفع نحو مطالعة الكتاب ، فهنا ، تكون النسبة ، نسبة إرسالية إلقائية ، لكن الإلقاء هنا ، عنائي لا حقيقي ، لأنه لم يلق على المطالعة بل على الكتاب ومع هذا ، يتحصل من هذا الإلقاء ، نسبة إرسالية ، وهي نسبة من النسب الخارجية ، على حد النسبة الصدورية ، وحينئذ يقال ، أن مفاد ، صيغة «افعل» ، هو عبارة عن هذه النسبة الإلقائية الإرسالية ، فإننا تارة ، نريد أن نعبّر عن النسبة الصدورية ، بين زيد ، والمطالعة ، فنقول ، زيد طالع الكتاب ، أو هو ، يطالع الكتاب ، وأخرى ، نريد أن نعبّر عن نسبة ، تحصل بدفع زيد نحو المطالعة ، فنقول ، طالع يا زيد الكتاب ، فمفاد ، «افعل» ، عبارة ، عن نسبة خارجية ناقصة ، وهي النسبة الإرسالية الدفعية ، وحيث أن هذه النسبة الإرسالية ، تكون عادة من لوازم إرادة الشيء ومعلولة لإرادة الشيء ، تكون صيغة «افعل» دالة بالدلالة التصورية الالتزامية على الإرادة ، فحينما تدفع زيدا نحو الكتاب ، دفعك هذا ، إنّما كان ، من أجل أن يقرأ ويستفيد ، فهذه النسبة الإرسالية بحسب العالم الخارجي ، دائما وعادة ، تكون معلولة لإرادة المادة ، وباعتبار هذه الملازمة ، تكون لفظة «افعل» ، دالة بالدلالة المطابقية التصورية بالوضع على النسبة الإرسالية ، ودالة بالدلالة التصورية الالتزامية ، على الإرادة ، كدلالة كلمة الشمس بالمطابقة تصورا على

١١٧

قرص الشمس وبالدلالة التصورية الالتزامية ، على الضوء المنتشر في العالم ، باعتبار ارتكاز الملازمة بين القرص والضوء ، كذلك الحال هنا ، ف «افعل» بحسب الحقيقة لها مدلولان تصوريان ، مدلول تصوري مطابقي ، وهو النسبة الإرسالية ، ومدلول تصوري التزامي ، بمعنى أنه ينتقش في الذهن تصورا ، وهو الإرادة ، ولهذا لو سمعنا كلمة «افعل» من الحجر ، ينتقش في الذهن كلا هذين التصورين ، النسبة الإرسالية ، وإرادة المادة تصورا أيضا ، باعتبار الملازمة النوعية بين هذين المطلبين.

وأمّا الطلب ، فإن قلنا ، بأن الطلب عبارة أخرى عن الإرادة (١) ، كما هو مبنى صاحب الكفاية ، إذن فدلالة صيغة «افعل» على الطلب ، يكون بالدلالة التصورية الالتزامية ، وإذا قلنا بأن الطلب ، شيء وراء الإرادة (٢) ، وهو السعي نحو تحصيل المقصود ، وإلّا مجرد الإرادة والشوق النفساني ، دون التحرك الخارجي نحو المقصود ، لا يصدق عليه طلب ، فحينئذ ، تكون صيغة افعل في المقام ، باعتبار كونها دالة على الإرادة ، وباعتبار كونها واقعة في طريق تحصيل المقصود ، فهي تكون مصداقا للطلب حقيقة ، ويكون عنوان الطلب منطبقا على الصيغة حقيقة ، على حد انطباق العنوان الانتزاعي على منشأ انتزاعه.

ثم إن لصيغة «افعل» وراء مدلوليها التصوريين ، مدلولا تصديقيا ، وهو عبارة عن كشف الصيغة ، عن أن في نفس المتكلم يوجد إرادة ، وهذه الدلالة التصديقية غير مربوطة بالوضع ، كما تقدم في مبحث الوضع ، من أنّ الدلالات التصديقية للألفاظ ، دلالات سياقية ، تنشأ من الظهور الحالي ، ومن السياق ، ولا دخل للوضع فيها ، وأمّا الوضع فإنما هو أساس للدلالات التصورية.

ثم بعد أن اتضح مدلول الصيغة ، نقول ، بأن المعروف بين المحققين

__________________

(١) المشكيني ـ ج ١ ـ ص ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام الآمدي ج ٢ ص ١٣١ ـ ١٣٢.

١١٨

المتأخرين ، بأن صيغة «افعل» لها معنى واحد ، وهو ما ذكرناه ، خلافا لما كان يتراءى من الأقدمين ، حيث جعلوا لصيغة «افعل» معان متعددة ، في مقابل الطلب ، كالاستهزاء ، والتسخير ، والتعجيز ، وغيره ، بينما المتأخرون ، قالوا بأن للصيغة مدلول تصوري واحد ، وإنّما الفرق في المداليل التصديقية ففرق بين «صلّ» وذق إنك أنت العزيز الكريم ، والفرق في المدلول التصديقي لا في المدلول التصوري ، فهو واحد في الجميع ، لكن الدواعي تختلف ، والسيد الخوئي جريا على مبناه ، لم يوافق هؤلاء ، لأنه بنى على أن المدلول التصديقي هو معنى الصيغة ، وقال ، بأن معنى صيغة «افعل» ، هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف (١) وطلبه منه ، وعلى هذا التزم بمعان عديدة للصيغة ، فتارة تستعمل في الطلب ، وأخرى في الاستهزاء ، وثالثة في التعجيز ، وهكذا ، وهذه معان متباينة ، فلا بدّ من الالتزام بتعدد معاني الصيغة.

وهذه النتيجة التي انساق إليها السيد الخوئي ، في المقام ، لها لازم غريب أيضا مضافا إلى بطلان أصل مبناه ، وهذا اللّازم هو ، أن لا تكون مادة الأمر في موارد التعجيز وغيره من الموارد ، مستعملة في المعنى أصلا ، وتوضيح ذلك :

لو قلت لزيد «طر إلى السماء» ، وكنت تريد بذلك التعجيز ، فتارة ، نفرض أن هذا القول ، مستعمل في النسبة الإرسالية كما يقول المشهور ، غاية الأمر إن استعمال اللفظ في النسبة الإرسالية وفي الدفع نحو السماء تارة يكون بداعي الطلب وأخرى يكون لتنبيهه إلى عجزه عن الطيران إلى السماء. وهذا أمر معقول.

إذن ، فكلمة «طر» قد استعملت في معناها تصورا مادة وهيئة ، وأمّا إذا فرض ، أن كلمة «طر» ، معناها ابتداء ، هو المدلول التصديقي ، وهو في المقام عبارة عن التعجيز ، فبحسب الحقيقة هنا التعجيز لا ربط له بمدلول المادة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي هامش ـ ص ٩٦.

١١٩

وهو الطيران إلى السماء ، لأن التعجيز ، لا يكون تعجيزا بالطيران إلى السماء ، وإنما يكون تعجيزا ، بالأمر بالطيران إلى السماء ، فالتعجيز ، معناه ، إبداء مطلب ، يظهر به عجز زيد ، والمطلب الذي يكون موجبا لظهور العجز ، إنما هو الأمر بالطيران ، لا نفس الطيران ، وكذلك الحال فيما إذا أمر الفقير ، بشراء القصر استهزاء به ، فإن الاستهزاء ، يكون بالأمر بالشراء لا بنفس الشراء ، بل لو اشتراه حقيقة ، لما استهزأ به ، لأنه غني.

وعلى هذا ، لا بدّ في المقام ، من تعطيل مدلول المادة رأسا بأن يقال ، بأن المادة لم تستعمل في معنى ، أو استعملت في معنى ، ولكنه ليس هو متعلق التعجيز ولا هو متعلق الاستهزاء ، فليس الاستهزاء بمدلول المادة ، يعني بشراء القصر ، وليس التعجيز بمدلول المادة أي بالطيران ، وهذا كاشف قطعي ، عن أنّ الاستهزاء والتعجيز وغير ذلك فرع الفراغ عن وجود مدلول محفوظ في سائر الموارد لصيغة افعل ، وهو النسبة الإرسالية الدفعية حتى يتصور ، تارة الطلب ، بهذه النسبة ، وأخرى التعجيز بهذا الإرسال.

فالتعجيز والاستهزاء وغيره ، يحتاج في المرتبة السابقة ، إلى فرض شيء غير مدلول المادة ، فمجرد مدلول المادة وهو الطيران إلى السماء ، ونفس شراء القصر ، لا يكفي في تعقل التعجيز والاستهزاء ، بل لا بدّ من فرض شيء آخر ، وراء المادة.

فالصحيح ما عليه المشهور ، من أن صيغة «افعل» ، لها مدلول واحد محفوظ في سائر الموارد ، وإن اختلفت دواعي الاستعمال.

ثم إن صيغة «افعل» ، حين صدورها ، هي مستعملة في النسبة الإرسالية ، بمقتضى أصالة الحقيقة ، لكن ، هل هي مستعملة بداعي الإرادة ، أو بداعي التعجيز مثلا ، مع عدم وجود قرينة خاصة على شيء من ذلك ، فما هو مقتضى ظهور العبارة؟.

لا إشكال في أن ظاهر العبارة ، هو أن تكون مستعملة بداعي الإرادة ، لا

١٢٠