بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

وضعوا اللفظ بإزاء الأعم من مخترعهم ، وهذا ما إدّعاه المحقق الأصفهاني (١) ، حيث قال ، بأن سيرتهم على الوضع للأعم ، لكن لا بلحاظ الأجزاء بل بلحاظ الشرائط ، فمن يخترع دواء مركبا من عشرة مواد نباتية ، وتأثيره في الجسم يتوقف على استعماله في وقت مخصوص وعلى شرائط معينة ، يضع اللفظ بإزاء المستجمع للأجزاء منه ، وأما الشرائط الدخيلة في فعلية التأثير ، فهي خارجة عن المسمّى ، فهو أعميّ بلحاظ الشرائط ، وإن كان صحيحيا بلحاظ الأجزاء ، والشارع أيضا لم يتخطّ هذه السيرة.

والجواب مضافا إلى ما تقدم ، أن هنا مطلبين : مطلب هو الدواء باعتباره عينا خارجية مستخرجة من المواد النباتية ولها شرائطها من اللون والطعم وغير ذلك ، فهذه شرائط لنفس الدواء يأخذها المخترع في التسمية.

ومطلب آخر هو شرائط استعمال الدواء من كونه في وقت مخصوص وبعد طعام مخصوص ، وهذه الشرائط لا يأخذها المخترع في التسمية.

وفي محل الكلام ، الشارع الأقدس دواؤه هو الصلاة ، فنسبة الطهارة والاستقبال إلى الصلاة هي نسبة المواد النباتية إلى الدواء ، فالطهارة والاستقبال داخلة فيما هو مخترع للشارع ، فهي مأخوذة في المسمّى ، وليس حالها حال تلك الشرائط التي أشير إليها ، فهذا الدليل لا محصّل له.

الدليل الرابع :

هو الاستدلال بالتبادر ، فإذا أطلق لفظ الصلاة ولم يكن هناك قرينة على الوضع لخصوص الصحيح فالمتبادر هو الأعم ، والتبادر علامة الحقيقة ، والجواب أنه لو سلم هذا التبادر في مورد عدم وجود القرينة ، فغاية ما يكشف عنه ذلك ، هو الوضع في عصر التبادر ، لا في عصر سابق على التبادر.

وتوضيح ذلك : أن التبادر الذي يدعيه الأعمي ، إمّا أن يقصد به التبادر

__________________

(١) نهاية الدراية / الأصفهاني : ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١.

٦١

في زماننا هذا ، وإمّا أن يقصد به التبادر في عصر صحابة الرسول.

فإن كان يقصد بالتبادر الثاني ، فهذا ممّا لا سبيل إلى معرفته ، لأنه خاص بالصدر الأول ، وإن كان يقصد بالتبادر الأول ، فهذا لو سلّم ، فغاية ما يكشف عنه إنما هو الوضع للأعم في زماننا هذا ، ولا يكشف عن الوضع للأعم من أول الأمر ، فلعلّ ألفاظ العبادات كانت موضوعة للصحيح من أول الأمر ، ثم إن المتشرعة بكثرة استعمالهم في الأعم نقلت الألفاظ من الصحيح إلى الأعم ، فمع هذا الاحتمال لا يكشف هذا التبادر عن كون هذا الوضع موجودا من أول الأمر.

فإن قلت بأننا نثبت بالتبادر الحقيقة والوضع في زماننا هذا ، وبأصالة عدم النقل نثبت أن هذا الوضع كان ثابتا من أول الأمر فيثبت المطلوب.

قلت بأن أصالة عدم النقل إنما تجري فيما إذا لم نحرز وجود ملاك صالح للنقل في نفسه ، وأمّا مع إحراز هذا الملاك فلا تجري أصالة عدم النقل ، وفي المقام ، الأمر كذلك ، فإن لفظة الصلاة ، إن كانت موضوعة من أول الأمر للأعم ، فهذا هو المطلوب ، وإن فرض أنها كانت موضوعة من أول الأمر للصحيح ، فقد فرض وجود ملاك جزمي للنقل إلى الأعم ، وهو كثرة استعمالات المتشرعة للفظ الصلاة في الجامع الأعمي ، وفي مثل ذلك لا تجري أصالة عدم النقل ، لأنها أصل عقلائي ، وبناء العقلاء عليها ، فيما إذا لم يحرز الملاك الصالح للنقل ، وفي المقام ، الملاك موجود وهو كثرة الاستعمال في الأعم.

إذن فأدلة القائل بالأعمي ، كأدلة القائل بالصحيح ، كتلك الاستفادة من الروايات ، كل ذلك مما لا يمكن المساعدة عليه.

وما يمكن أن يقال في المقام ، هو الرجوع إلى مسألة الحقيقة الشرعية ، لنرى هل أن ألفاظ العبادات كانت موجودة قبل الشارع ، والشارع استعملها في المعاني التي كانت موجودة قبله كما استقربنا ذلك ، فهو لم يأت بشيء جديد ،

٦٢

إن على صعيد اللفظ ، وإن على صعيد المعنى ، وإنما جرى على طبق استعمال عرفي موجود في البيئة التي عاشها ، فإن بنينا على هذا فلا ينبغي الإشكال ، بأن أسماء العبادات أسامي للأعم لا لخصوص الصحيح ، إذ لا معنى لأن يقال ، بأن لفظ الصلاة حينئذ كان موضوعا لخصوص الصحيح الذي سوف يجيء به الشارع فيما بعد ، والمفروض أن الشارع لم يحدث وضعا جديدا وإنما استعمل لفظ الصلاة في معناه العرفي الذي كان أهل العبادات السابقة يستعملونه فيه ، فلا معنى لأن يقال ، بأن اللفظ موضوع للصحيح الشرعي الواجد لتمام الأجزاء والشرائط بل لا بدّ من القول ، بأن لفظ الصلاة موضوع في البيئة العربية قبل الإسلام لجامع مرن قابل للسعة والضيق بحيث يكون منطبقا على الأشكال المختلقة للعبادة ، سواء الشكل الإسلامي أو الأشكال السابقة للعبادة ، وهذا معنى الجامع الأعميّ فيتعين القول بالوضع للأعم.

وأمّا إذا قلنا بأن الشارع قد حصل منه وضع جديد ، وأن هذا الوضع كان وضعا تعيّنيا ، فالأمر أيضا كذلك ، فإن الظاهر حينئذ ، أن اللفظ موضوع للأعم ، لأن ملاك الوضع التعيّني هو كثرة الاستعمال ، ومن يتتبع كلمات الشارع واستعمالاته ، يرى أن الاستعمال في الأعم كثيرا جدا بل لا يكاد يوجد استعمال في الصحيح حتى في مورد إرادة الصحيح ، فاللفظ مستعمل في الجامع الأعمي ، ويراد منه الصحيح ، باعتبار أنه أحد مصاديق الأعمي ، ولا نريد بالوضع للأعم إلّا هذا المعنى.

وأما إذا قلنا بالوضع التعييني فإثبات أن الشارع هل وضع لخصوص الصحيح أو للأعم فهذا في غاية الإشكال ، حيث لا طريق لإثبات أحد الأمرين ، ولكن هذا الاحتمال أضعف الاحتمالات كما بيّنا سابقا في بحث الحقيقة الشرعية.

وعلى هذا ، فالظاهر كون أسماء العبادات أسام للأعم.

وبهذا ينتهي الكلام في بحث الصحيح والأعم في العبادات ، ويليه البحث في المعاملات.

٦٣
٦٤

الصحيح والأعم في المعاملات

والكلام في ذلك يقع في عدة جهات :

٦٥
٦٦

الجهة الأولى

إن الصحة في باب العبادات ، لم تكن إلّا صحة شرعية ، ولكن في باب المعاملات ، الصحة صحتان ، شرعية وعقلائية ، لأن المعاملات كما أن للشارع فيها أحكاما ، فكذلك للعقلاء فيها أحكام ، فالصحة العقلائية تكون في مقابل الفساد عقلائيا ، والصحة الشرعية تكون في مقابل الفساد شرعيا.

ومن هنا يقع النزاع بين الصحيحي والأعمي في المعاملات ، فيما هو المأخوذ ، فهل هو الصحة الشرعية ، أو الصحة العقلائية!.

ذهب السيد الأستاذ (١) إلى أن النزاع ، إنما يكون في الصحة العقلائية ، بحيث أن الصحيحي يدعي بأن الصحة العقلائية مأخوذة في البيع ، والأعمي يدّعي بأن لفظ البيع موضوع للأعم من الصحيح العقلائي والفاسد العقلائي ، وأما الصحة الشرعية فلا ينبغي الإشكال عند الاثنين معا ، في أنها غير مأخوذة وليست محلا للنزاع ، لأنها لو كانت مأخوذة ، للزم أن يكون معنى أدلة الإمضاء «أحلّ الله البيع» تصحيح الصحيح وهذا لغو من الكلام.

وهذا الكلام غريب ، لأنه ما هو المراد بالصحة الشرعية التي أفيد ، بأنه لا يعقل أخذها في مدلول لفظ البيع؟.

فإن كان المراد هو عنوان الصحة الشرعية ، بحيث يكون لفظ البيع معناه

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٩٣ ـ ١٩٤ ـ ١٩٦.

٦٧

الصحيح شرعا ، ويكون هناك ترادف بين لفظ البيع وبين الصحيح شرعا ، فهذا لا يعقل أن يكون مأخوذا موضوعا في دليل الإمضاء ، لأن مرجع دليل الإمضاء حينئذ ، إلى أن الله صحّح الشيء الصحيح وهذا لغو ، ولكن كما لا يعقل أخذ الصحة بهذا المعنى في موضوع أدلة الإمضاء في باب المعاملات ، كذلك لا يعقل أخذ الصحة بهذا المعنى في موضوع أدلة الأوامر في باب العبادات ، ففي باب العبادات لا يعقل أن يكون موضوع الأمر هو الصلاة الصحيحة بما هي صحيحة ، لأن الصحيح معناه المطابق للأمر ، إذن فليس مراد الصحيحي من أخذ الصحة ، هو عنوان الصحة الشرعية ومفهومها في مدلول اللفظ ، بل مراده شيء آخر.

وإن كان المراد هو واقع الصحيح ، بمعنى واقع الأجزاء والشرائط التي لها دخل في المطلب ، فلا إشكال في المقام ، فلو فرض بأن المؤثر في باب البيع هو عبارة عن التمليك بعوض ، المشتمل على اللفظ الصادر من البائع البالغ بلا إكراه ، ومع الموالاة بين الإيجاب والقبول وغير ذلك من الشرائط ، فحينئذ يكون معنى أخذ الصحة الشرعية هو أخذ واقع هذه الأجزاء والشرائط في المسمّى ، فأيّ إشكال؟. بأن يكون معنى البيع في دليل الإمضاء «أحلّ الله التمليك بعوض الذي يقترن باللفظ وتحفظ فيه الموالاة ويكون صادرا بلا إكراه من البائع» ، فلا لغو في المقام بل هو مطلب صحيح. إذن فلا يكون أخذ الصحة الشرعية بهذا المعنى في المسمّى منشأ للإشكال في أدلة الإمضاء في المعاملات كما لم يكن منشأ للإشكال في أدلة الأوامر في باب العبادات. إذن فلا وجه لدعوى أن النزاع في باب المعاملات منحصر في خصوص الصحة العقلائية ، بل كما يجري في الصحة العقلائية أيضا يجري في الصحة الشرعية ، فيمكن تصوير النزاع بين الصحيحي والأعمي في باب المعاملات بحيث أن الصحيحي يقول بأن المولى وضع لفظ البيع للتمليك بعوض الذي فيه لفظ وموالاة وعدم إكراه ، والأعمي يقول بأن المولى وضع لفظ البيع للتمليك بعوض ، سواء وجد اللفظ والموالاة وغير ذلك أم لم يوجد ، فعلى كلا القولين دليل الإمضاء معقول.

٦٨

الجهة الثانية

والكلام في هذه الجهة ، يدور حول مبنى النزاع في المعاملات ، فهل أن النزاع مبني على وضع ألفاظ المعاملات للأسباب أو على وضعها للمسبّبات؟.

ذهب المشهور إلى أن النزاع بين الصحيحي والأعمي في باب المعاملات مبني على وضع الفاظها للأسباب ، لأن السبب باعتباره مركبا من أجزاء ، ومقيدا بشرائط ، فيتصف بالتمامية والنقصان ، وبالتالي يتصف بالصحة والفساد ، فلذلك يمكن وقوع النزاع ، بحيث أن الصحيحي يدعي بأن لفظ البيع موضوع للإنشاء المستجمع لتمام الأجزاء والشرائط ، والأعمي يدعي بأن لفظ البيع موضوع للجامع بين الواجد والفاقد.

وأمّا على القول بوضع ألفاظ المعاملات للمسبّبات ، فلا معنى لوقوع النزاع ، لأن المسبّب هو نتيجة المعاملة ، فهو التمليك بعوض في البيع ، وتمليك المنفعة في الإجارة ، وتمليك العين مجانا في الهبة ، وهذه أمور بسيطة لا تقبل التمامية والنقصان ، وإنما تقبل الوجود والعدم ، فتارة تكون موجودة ، إذا تم السبب بكل أجزائه وشرائطه ، وأخرى معدومة ، إذا فقد السبب بعض أجزائه وشرائطه ، فالمسبّب هو وجود الملكية في البيع ، والحرية في العتق ، والفراق في الطلاق ، وهذه الأمور هي روح الصحة وعينها ، فلا معنى لأن تتصف بالصحة تارة والفساد أخرى ، فالنزاع بناء على وضع ألفاظ المعاملات للمسبّبات لا معنى له ، وإنما يتعقل النزاع بناء على وضعها للأسباب.

٦٩

والسيد الأستاذ ، ناقش في المشهور ، بناء منه على إنكار المسبّب ، إلّا بالمعنى الذي اختاره ، حيث ذكر (١) أن لكل من السبب والمسبّب معنيين.

فتارة يكون معنى السبب ، هو الإنشاء الصادر من المكلّف ، ومعنى المسبّب ، هو حكم العقلاء ، أو حكم الشارع بالتمليك بعوض.

وأخرى يكون معنى السبب ، هو المبرز للإنشاء سواء كان قولا كما في العقد ، أو فعلا كما في المعاطاة ، ومعنى المسبّب ليس هو حكم العقلاء أو حكم الشارع ، بل هو الاعتبار النفساني الشخصي القائم في نفس البائع ، فالبائع حينما يبيع الكتاب من زيد بدرهم ، فهو يعتبر زيدا مالكا للكتاب في مقابل تملكه الدرهم.

فأما المعنى الأول للسبب والمسبّب ، فهو غير وارد في المقام ، إذ أن المسبّب بهذا المعنى ، هو فعل للشارع أو للعقلاء ، وليس فعلا للبائع ، فلا يحتمل أن يقال ، بأن لفظ البيع موضوع للمسبّب ، إذ لا إشكال في أنه موضوع لما يكون فعلا من أفعال البائع ، ولهذا ينسب إليه ، فيقال «باع زيد» ، فلو كان موضوعا للمسبّب بالمعنى الأول ، لكان خلافا للوجدان.

وأما السبب والمسبّب بلحاظ المعنى الثاني ، فكلاهما يتصف بالصحة والفساد ، لأن السبب عبارة عن الإنشاء المبرز قولا أو فعلا ، فهو يتصف بالصحة والفساد ، والمسبّب عبارة عن الاعتبار النفساني وهذا الاعتبار إن كان قد صدر من البائع بلا إكراه وأبرز بلفظ دال عليه ، حكم بصحته ، وإن كان قد صدر ممّن ليس له اعتبار ، حكم بفساده.

إذن فالنزاع بين الصحيحي والأعمي ، كما يجري بناء على أن أسماء المعاملات موضوعة للأسباب ، فكذلك يجري النزاع بناء على أنها موضوعة للمسبّبات.

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٨٨ ـ ١٩٠ ـ ١٩٤.

٧٠

وما أفاده «مدّ ظله» ، بناء على المعنى الثاني الذي اختاره صحيح ، ولكن من المعلوم ، أن المشهور ليس مرادهم المعنى الثاني ، بل مرادهم المعنى الأول ، ومن ثمّ قالوا بأن المسبّب لا يتصف بالصحة والفساد ، لأن التمليك بعوض ، هو روح الصحة ولا معنى لأن يكون فاسدا.

وأمّا ما أورده على المعنى الأول ، فجوابه ، أن يقال : أن المسبّب بالمعنى الأول ، وإن كان فعلا مباشريا للشارع ، ولكنه فعل تسبيبي للبائع ، فالبائع بحسب الحقيقة ينسب إليه فعلان ، فعل مباشري وهو الإنشاء ، وفعل تسبيبي وهو التمليك بعوض ، وإن شئت قلت ، بأن نتيجة المعاملة لها فاعلان ، فاعل تسبيبي وهو البائع ، وفاعل مباشري وهو الشارع ، تماما كالإحراق الذي هو فعل مباشري للنار ، وفعل تسبيبي لملقي الورقة ، والفعل التسبيبي هو مقصود ضمنا في مقام إنشاء المعاملة ، فإن المقصود ضمنا من كل معاملة ، هو التسبب إلى النتيجة ، وهذا مطلب دقيق ، إذ قد يتخيّل في بادئ الأمر أن تمام ما يوقع البائع والمشتري ، إنما هو اللفظ والاعتبار ، فينشئ أحدهما «بعت» والآخر «قبلت» وفي عالم الجعل والاعتبار ، البائع يعتبر المشتري مالكا للكتاب بدرهم ، والمشتري يعتبر البائع مالكا للدرهم في مقابل الكتاب ، مع أن القضية ليست كذلك ، فإن هذا الاعتبار وإن كان موجودا في نفس البائع ونفس المشتري ، ولكنه موجود وجودا استطراقيا للتسبب به إلى اعتبار قانون من قبل الشارع الإلهي أو العقلائي ، وذلك لأنه إن أريد بهذا الاعتبار النفساني ، مجرد التوصل إلى النتيجة التكوينية ، وهي كون الكتاب تحت يد المشتري ، والدرهم تحت يد البائع ، فهذا لا يتوقف على الاعتبار ، بل بمجرد التوافق والتراضي بين الطرفين ، يمكن التوصل إلى هذه النتيجة ، فالاعتبار يكون لغوا ، إذن فالمقصود بالاعتبار ، إيجاد الإلزام من الطرفين ، بحيث أن البائع يكون ملزما بمطلب ، والمشتري يكون ملزما بمطلب آخر ، والإلزام مرجعه إلى قانون أسبق فوق إرادة الطرفين مجعول من قبل الشارع الإلهي ، أو الشارع العقلائي ، فالاعتبار هنا إنما هو استطراق إلى تطبيق قانون ملزم ، لا بدّ

٧١

من افتراضه في المرتبة السابقة ، وإلّا لكان الاعتبار لغوا صرف.

إذن إنما يؤتى بهذا الاعتبار وبهذه المعاملة استطراقا للتسبّب إلى النتيجة وهي حكم الشارع الإلهي ، أو الشارع العقلائي بالتمليك بعوض ، وبهذا يظهر أن للبائع فعلين فعل مباشري وهو الإنشاء ، أو الاعتبار ، وفعل تسبيبي قصد التسبب إليه بالاعتبار.

إذن بناء على هذا ، يعقل النزاع في المسبّبات في المعنى الأول ، فكما يعقل أن يكون لفظ البيع موضوعا للأسباب ، كذلك يعقل أن يكون موضوعا للمسببات ، لأن المسبّبات وإن كانت بمنظار ، فعلا للشارع ، ولكنها بمنظار آخر فعل تسبيبي للبائع ، فتصح دعوى ، أنّ لفظ البيع موضوع للمسبّب ، وبذلك يصح كلام المشهور ، وهو أن ألفاظ المعاملات إن كانت موضوعة للأسباب ، فالنزاع معقول ، وإن كانت موضوعة للمسبّبات بالمعنى الأول بالنحو الذي شرحناه فالنزاع بين الصحيحي والأعمي لا محصّل له ، وبهذا انتهى الكلام في الجهة الثانية.

٧٢

الجهة الثالثة

تقدم في بحث العبادات ، أنه بناء على الصحيحي ، لا يمكن التمسك بإطلاق الخطاب «صلّ» عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته لنفي الجزئية أو الشرطية ، إذ يكون الخطاب مجملا ، ويحتمل عدم انطباق عنوان الصلاة على فاقد السورة ، فكيف يتمسك بالإطلاق لنفي جزئيتها ، وهذا بخلافه على الأعمي فإنه بعد انحفاظ الأركان المقوّمة للمسمّى ، إذا شك في جزئية شيء ، يتمسك بالإطلاق لنفي جزئيته.

وهذا الكلام بعينه يجري في باب المعاملات ، فإن قيل بأن أسماء المعاملات موضوعة للصحيح وأريد بالصحة ، الشرعية منها ، فيكون لفظ البيع موضوعا مثلا للإنشاء المستجمع لتمام الأجزاء والشرائط الدخيلة في الأثر شرعا ، فعلى هذا يكون الخطاب مجملا ، وعند الشك في جزئية شيء أو شرطيته شرعا ، لا يمكن التمسك بإطلاق دليل الإمضاء لإثبات صحة هذا البيع ، إذ لم يحرز انطباق عنوان الصحيح الشرعي على فاقد الخصوصية.

وأمّا بناء على القول بالصحيح العقلائي ، فحينئذ هذا الذي يشك في دخله ، إن كان يشك في دخله في الصحة العقلائية رأسا ، بحيث يحتمل إن بدونه لا تصح المعاملة عقلائيا ، فأيضا ، لا يمكن التمسك بالإطلاق ، لأن مدلول لفظ البيع هو الصحيح العقلائي ولم يحرز انطباقه على فاقد الخصوصية ، وأمّا إذا أحرز عدم دخله في الصحة العقلائية ، واحتمل دخله في

٧٣

الصحة الشرعية ، من قبيل كون الإنشاء لفظيا ، فهنا يمكن التمسك بالإطلاق ، لأن عنوان البيع منطبق على هذه المعاملة تعيّنا ، لانحفاظ الصحة العقلائية فيها ، وإنما الشك في صحتها شرعا ، فيتمسك بالإطلاق لإثبات صحتها شرعا.

وأمّا بناء على أن لفظ البيع موضوع لمطلق الإنشاء ، سواء كان صحيحا عقلائيا أو شرعا أو كان غير صحيح عقلائيا أو شرعا. فيجوز التمسك بالإطلاق ، لنفي ما يحتمل دخله ، سواء كان يحتمل دخله عقلائيا أو شرعيا ، لأن عنوان البيع محرز الانطباق على المعاملة المخصوصة ، فيثبت بإطلاق دليل الإمضاء صحة البيع.

وهذا الكلام صحيح ، ولكن غاية ما يقال في المقام كما في الكفاية (١) أنه بناء على الصحيحي حيث يمتنع التمسك بالإطلاق اللفظي يمكن له أن يتمسك بالإطلاق المقامي ، وهذا الكلام سوف يأتي تحقيقه في الجهة الخامسة ، ولكن الكلام هنا في الإطلاق اللفظي وفي هذا المقام حال الصحيحي والأعمي في هذه الجهة هو حالهما في العبادات بدون أدنى فرق.

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٨٤.

٧٤

الجهة الرابعة

وهذه الجهة معقودة لبيان كلام مشهور ، ذكره الأعاظم ، ومنهم المحقق النائيني (قده) حيث (١) قالوا بأنه بناء على الأعمّي ، عند الشك في الجزئية أو الشرطية ، إنما يمكن التمسك بإطلاق دليل الإمضاء ، لنفي هذه الجزئية والشرطية ، فيما إذا كان موضوع البيع في الدليل هو السبب ، وأما إذا كان موضوع الإمضاء هو المسبّب فلا يمكن التمسك بإطلاق هذا الدليل لإثبات أن السبب واسع بحيث ينطبق على فاقد الخصوصية أيضا. وحاصل ما ذكروه في توضيح ذلك هو : أن للمولى مقامين.

فتارة يكون في مقام إمضاء السبب وهو الإنشاء ، وأخرى يكون في مقام إمضاء المسبّب وهو النتيجة.

فإذا كان في المقام الأول فحينئذ بناء على الأعمّي ، يتمسك بإطلاق دليل الإمضاء ، لإثبات أن كل سبب صحيح وكل إنشاء صحيح ، لأن لفظ البيع موضوع على الأعمّي لمطلق الإنشاء ، وقد أحلّ الله البيع فقد أحلّ مطلق الإنشاء ، إذن فيتمسك بإطلاقه لإثبات نفوذ تمام الأسباب.

وأما إذا كان المولى في المقام الثاني ، فحينئذ ، يكون دليل الإمضاء وهو «أحلّ الله البيع» ، غير ناظر إلى الأسباب وبأي شيء تتحقق النتيجة من المعاطاة

__________________

(١) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٣٨ ـ ٣٩.

٧٥

أو باللفظ أو بالإكراه أو بطيب النفس ، بل هو ناظر إلى أصل النتيجة ، وإلى إمضاء تمليك المال بعوض مالي مثلا ، في مقابل عدم إمضاء تمليك البضع بالمال ، وليس ناظرا إلى إمضاء الأسباب.

إذن بناء على الأعمّي في المقام الأول ، يمكن أن نتمسك بإطلاق دليل الإمضاء لإثبات نفوذ تمام الأسباب ، وإن نفينا الجزئية أو الشرطية لمشكوكها ، وأما في المقام الثاني ، فلا معنى للتمسك بإطلاق دليل الإمضاء لنفي الجزئية أو الشرطية ، لأنه ناظر إلى المسبّب وليس ناظرا إلى السبب.

ولكن السيد الأستاذ (١) استشكل في هذا المطلب ، وادّعى بأن دليل الإمضاء سواء كان منصبا على السبب أو على المسبّب يمكن التمسك بإطلاقه ، لإثبات صحة البيع بجميع أفراده من المعاطاة والمكره وغير ذلك ، فإن كان منصبا على السبب فهذا متفق عليه وأما إذا كان منصبا على المسبّب ، فالمسبّب عندهم هو عبارة عن الإمضاء العقلائي والتمليك العقلائي ، وعلى هذا يوجد إمضاء شرعي تعلق بالإمضاء العقلائي المسمّى بالمسبّب ، وحينئذ يقال ، بأن الإمضاء العقلائي ينحل إلى أفراد متعددة بعدد الأسباب ، فإن العقلاء أمضوا الإنشاء اللفظي والإنشاء المعاطاتي وأمضوا الإنشاء من البالغ ومن الصغير وهكذا ، فهناك إمضاءات عديدة بعدد الأسباب ، فإذا تصدّى الشارع إلى إمضاء المسبّب ، بمعنى أنه أمضى الإمضاء العقلائي ، فحيث أن هناك إمضاءات عقلائية كثيرة فلا مناص ينحل الإمضاء الشرعي إلى إمضاءات شرعية كثيرة بعدد الإمضاءات العقلائية ، فيثبت بإطلاق دليل الإمضاء أن المولى قد أمضى تمام هذه الأحكام العقلائية ، ولم يفرق بين أن يكون دليل الإمضاء جاريا على السبب أو على المسبّب وعدم الفرق هذا يرجع إلى أنه كما أن السبب له أفراد عديدة أيضا المسبّب الذي هو الإمضاء العقلائي له أفراد عديدة بعدد أسبابه ، فبمقتضى الإطلاق يثبت إمضاء تمام هذه الأسباب وتمام هذه المسبّبات.

__________________

(١) أجود التقريرات / الخوئي : ج ١ ص ٤٨ ـ ٤٩ ـ ٥٠.

٧٦

وتحقيق الكلام : أن ما أفاده المحقق والجماعة هو الصحيح ، حيث أننا نرى بالوجدان ، أن هناك فرقا بين أن يكون دليل الإمضاء متعلقا بالسبب ، وبين أن يكون متعلقا بالمسبّب ، ففي الأول يتمسك بإطلاقه وفي الثاني لا معنى للتمسك بهذا الإطلاق. وتوضيح نكتة المطلب بحيث ينحل الإشكال الذي أورده السيد الأستاذ ، يكون بالكلام في مرحلتين :

المرحلة الأولى :

أن نفهم ، معنى إمضاء السبب ، ومعنى إمضاء المسبّب.

المرحلة الثانية :

بعد أن نفهم معنى ذلك ، نرى أنه هل فيه إطلاق أو ليس فيه إطلاق.

أما إمضاء المسبّب ، فليس معناه ما ذكره السيد الأستاذ (١) ، من أنه إمضاء الإمضاءات (٢) العقلائية ، لترتب ذلك على وجود مشرع عقلائي في المرتبة السابقة ، فننقل الكلام إلى هذا المشرّع العقلائي ، فنرى أن العقلاء أنفسهم تارة يمضون السبب وأخرى يمضون المسبّب ، ونسأله ، ما معنى إمضاء المسبّب!. فهل هو بدوره يلتفت إلى جاعل ومشرع قبله؟. وهكذا لا ينتهي الأمر إلى نتيجة.

إذن فليس معنى إمضاء المسبّب ، هو إمضاء الإمضاءات العقلائية ، بل من الواضح ، أن إمضاء المسبّب بلحاظ المشرع الأول ، وهو العرف العقلائي ، أو بلحاظ المشرّع الثاني ، وهو العرف الإلهي ، هو بمعنى واحد وهو إعطاء القدرة على النتيجة ، فالمشرّع إلهيا كان ، أو عقلائيا ، حينما يسنّن جواز التمليك بعوض يقصد بذلك ، أنه أقدر العباد ، ومكّنهم مثلا من أن يملكوا المال بعوض لا أن يملكوا النفس بعوض ، ثم إن القدرة التي أعطيت إن كانت

__________________

(١) أجود التقريرات / الخوئي : ج ١ ص ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٩٠ ـ ١٩١ ـ ١٩٢.

٧٧

من قبل الشارع فالمسبّب شرعي وإن كانت من قبل العقلاء فالمسبّب عقلائي.

وأما إمضاء السبب ، وهو الإنشاء ، فليس معناه إعطاء القدرة عليه ، لأن القدرة عليه موجودة خارجا ، فلا يحتاج إلى إعطاء من قبل المشرع ، وإنما إمضاء السبب معناه جعله صحيحا.

هذا حاصل الكلام في المرحلة الأولى فاتضح بهذا معنى جعل المسبّب ومعنى جعل السبب.

وأمّا الكلام في المرحلة الثانية هو : أنه لو فرضنا أن متعلق دليل الإمضاء هو المسبّب ، فيصير دليل الإمضاء «أحل الله البيع» بقوة قولنا «إني أقدرت العباد من التمليك بعوض» ، وحينئذ ، هذا التمليك ، إذا لوحظ بالنسبة إلى مال واحد ، فهو لا يتعدد ، لأن الشيء الواحد لا يقبل تمليكين بعوض في عرض واحد ، ـ تمليك بالعقد ، وتمليك بالمعاطاة ـ ، ومعنى هذا أن هناك قدرة واحدة على التمليك بعوض مجعولة من قبل الشارع.

نعم هناك قدرات متعددة على الأسباب ، قدرة على أن يملك بعوض بالمعاطاة ، وقدرة على أن يملك بعوض بالعقد ، وهكذا إلى غير ذلك من أفراد الأسباب.

إذن مفاد دليل الإمضاء ، هو إعطاء قدرة واحدة بالنسبة إلى كل موضوع موضوع ، فيما إذا كان متعلق الدليل هو المسبّب ، وهذه القدرة الواحدة يكفي في صدقها ، أن يكون بعض الأسباب نافذا ، لوضوح ذلك عرفا ووجدانا ، لأن المكلف إذا أقدر على إيجاد المسبّب فهذا لا يدل على أنه قادر عليه بكل سبب.

٧٨

الجهة الخامسة

اتضح ممّا بيناه سابقا ، أنه فيما إذا كانت أسماء المعاملات موضوعة للمسبّبات ، لا يمكن التمسك بإطلاقها اللفظي لتصحيح سائر الأسباب ، كما اتضح أيضا فيما إذا كانت أسماء المعاملات موضوعة لخصوص الصحيح من الأسباب ، عدم إمكان التمسك بإطلاقها اللفظي لإثبات صحة ما يشك في صحته شرعا ، لأن السبب المحتمل عدم صحته ونقصه جزءا أو شرطا ، لا يحرز انطباق عنوان البيع عليه ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لدليل الإمضاء. ومن هنا أريد التعويض عن هذا الإطلاق في هذه الموارد بإطلاق لبّي ، وهذا الإطلاق يمكن تقريبه بنحوين :

النحو الأول :

أن يكون هذا الإطلاق بملاك دلالة الاقتضاء العقلية ، وحفظ كلام الحكيم عن اللغوية.

وتوضيح ذلك أن يقال : أن المولى عند ما قال «أحلّ الله البيع» يعني أحلّ السبب الصحيح شرعا ، يكون كلامه مجملا لأن السبب الصحيح شرعا غير معلوم خارجا ، فلا يدرى حدوده وأجزاؤه وشرائطه ، وحينئذ فلو فرض أن كان غرض المولى إصدار هذا الكلام المجمل على إجماله وإبهامه لكان هذا لغوا ، وبملاك صيانة كلام الحكيم عن اللغوية ولأجل دلالة الاقتضاء العقلية ، يقال

٧٩

بأن المولى أراد بكلامه إمضاء الطريقة العقلائية في بيان الأسباب وتحديدها ، فكأنه ينعقد لكلامه ظهور عرفي في مدلول إضافي ثانوي ، وهو إمضاء طريقة العقلاء والرجوع إليهم في تمييز وتحديد السبب الصحيح ، وحينئذ يتمسك بهذا الإطلاق اللبّي ، لتصحيح تمام ما يشك في صحته إذا كان صحيحا عند العقلاء.

وهذا التقريب يمكن مناقشته ، لأن كلام المولى وإن كان مجملا ، لكنه على إجماله ليس لغوا محضا إذ يفيد في المقام ، تصحيح القدر المتيقن من الأسباب ، إذ أننا نعلم من الخارج صحة البيع اللفظي المشتمل على الإيجاب والقبول والموالاة الصادر من البالغ الراشد الطيب النفس على تقدير حكم الشارع بالصحة ، إذن فلا معنى للقول بأنه لأجل عدم اللغوية نلتزم بإعطاء كلام المولى ، مدلولا إضافيا ، وهو إمضاء الطريقة العقلائية ، بل لا لغوية في كلامه حتى مع عدم إعطائه هذا المدلول الإضافي ، نعم غاية الأمر أنه لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن من الأسباب ، وبهذا ترتفع اللغوية ولا تكون قرينة لإلباس الكلام مدلولا إضافيا. فهذا التقريب للإطلاق اللبي غير تام.

النحو الثاني :

وهو ما يسمّى بالإطلاق المقامي ، بأن يقال ، بأن المولى في مقام بيان ما هو الصحيح عنده ، لأنه لا يشرّع الأحكام لتبقى في ضمير الغيب ، وإنما هو في مقام إيصالها إلى العباد لجريانهم على طبقها ، ويقال بأن المولى بعد فرض أنّ ظاهر حاله هو أنه في مقام بيان ما هو الصحيح عنده ، ونلتفت خارجا ، فنرى أن المولى لم يبين ذلك ، وإنما قال أحلّ الله البيع ، دون التعرض إلى ما هو الصحيح عنده بحدوده وشرائطه ، فيستكشف من ذلك ، بأن مقتضى عدم بيان شيء مخصوص ، هو الحوالة على العرف العقلائي في مقام بيان مرامه وتشخيص ما هو الصحيح عنده.

وهذا التقريب يختلف عن سابقه لأنه لا يدّعى هنا لغوية الخطاب ، وإنما يدّعى ظهور حالي للمولى ، وهو ظهور حاله أنه في مقام بيان ما هو الصحيح

٨٠