بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

الجهة الرابعة

تصوير ثمرة النزاع

ذكر في المقام عدة ثمرات للنزاع بين الصحيحي والأعمي ، وسوف نذكرها مع مناقشتها.

الثمرة الأولى :

ذكر في هذه الثمرة إجراء البراءة على القول بالأعم ، فيما إذا شك في جزئية شيء ، من قبيل السورة ، ولم يقم دليل اجتهادي على الجزئية ، ولا على عدمها ، وأمّا على القول بالصحيح ، فتجري أصالة الاشتغال.

وتصوير هذه الثمرة يتم ببيان مقدمتين.

المقدمة الأولى :

أن يدّعى بأن القول بالوضع للأعم ، يستلزم كون الجامع جامعا تركيبا بناء على ما ادعاه (١) صاحب الكفاية ، من عدم تعقل الجامع البسيط على الأعم ، وأن القول بالوضع للصحيح ، يستلزم كون الجامع جامعا بسيطا ، بناء على ما ادعاه صاحب الكفاية أيضا ، من استحالة الجامع التركيبي على الصحيح ، فكأن القول بالوضع للأعم ، ملازم للقول بكون الجامع تركيبيا ، والقول بالوضع للصحيح ، ملازم لكون الجامع عنوانا بسيطا.

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٦٢ ـ ٦٣.

٤١

المقدمة الثانية :

أنه فيما إذا شك (١) في وجوب السورة مثلا وعدم وجوبها ، فإن كان الواجب جامعا تركيبيا ، بمعنى أن المركب بنفس أجزائه ، كان معروضا على الوجوب ، والوجوب جعل على الأجزاء بنفسها ، إذن فيكون المقام ، من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لأن انبساط الوجوب على الأجزاء الأخرى ، غير السورة ، ولنفرضها ـ تسعة ـ ، هذا معلوم ، وانبساط الوجوب على العاشر وهو السورة ، مشكوك ، فتجري البراءة عن وجوب العاشر ، بناء على الانحلال في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأمّا إذا كان الواجب جامعا بسيطا ، من قبيل عنوان اللاهوت ، الذي استكشف ببرهان أن الواحد لا يصدر إلّا من واحد ، إذن معروض الوجوب إنما هو هذا العنوان البسيط ، ولا شك فيما هو معروض الوجوب ، وإنما الشك في أن هذا العنوان البسيط المعلوم وجوبه ، ما هو محصله في الخارج؟. فهل يحصل خارجا بتسعة أجزاء ، أو يحصل بعشرة ، فتجري أصالة الاشتغال.

وبمجموع هاتين المقدمتين ، عندئذ ، يدّعى ، بأن الثمرة هي جريان البراءة على القول بالأعم ، لأن الجامع تركيبي فيكون الشك شكا في أصل الوجوب ، وجريان الاشتغال على القول بالصحيح ، لأن الجامع بسيط ، فيكون الشك شكا في المحصّل لا في أصل الوجوب.

وكلتا المقدمتين محل إشكال ، أمّا المقدمة الأولى ، وهي أن القول بالوضع للأعم ، يساوق كون الجامع تركيبيا ، والوضع للصحيح ، يساوق كون الجامع بسيطا ، الأمر ليس كذلك ، لما بينّاه سابقا ، من أن الجامع التركيبي معقول على كلا القولين ، كما بيّنا ، أيضا أنه ، لو تعقلنا الجامع البسيط ، على

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٦٦ ـ ٦٧.

٤٢

القول للصحيح ، يمكن أن نتعقله أيضا على القول بالأعم ، لكن بتبديله من القضية التنجيزية ، إلى القضية المهملة ، إذن فالجامع التركيبي ، والجامع البسيط ، كلاهما معقول على الأعمي والصحيحي ، فلا ملازمة في المقام ، وبهذا يتبين بطلان المقدمة الأولى.

وأما المقدمة الثانية ، فقد استشكل فيها المحقق الخراساني (١) قائلا ، بأن البراءة تجري على كلا التقديرين ، سواء كان الجامع تركيبيا ، أو بسيطا ، فإذا كان تركيبيا تجري البراءة كما هو واضح ، وإذا كان بسيطا ، فأيضا تجري البراءة بتوضيح ، أن الجامع البسيط على نحوين ، فتارة يكون الجامع البسيط موجودا بوجود طولي مغاير لوجود الأجزاء ، من قبيل وجود القتل والموت المغاير لوجود الضرب ، وتارة أخرى يكون الجامع البسيط موجودا بنفس وجود الأجزاء ، بحيث يحمل عليها بالحمل الشائع ، لكونه منتزعا عنها ، والعنوان الانتزاعي موجود بوجود منشأ انتزاعه. وحينئذ يقال بأن الجامع البسيط إن كان من قبيل الأول فالشك يكون شكا في المحصّل ، فتجري أصالة الاشتغال ، وإن كان الجامع من قبيل الثاني ، فبحسب الحقيقة ، ينبسط الوجوب على الأجزاء ، باعتبار أن هذا الجامع ، وجوده هو عين وجود الأجزاء ، فيكون الشك شكا في سعة دائرة هذا الوجوب المنبسط وضيقه ، وحيث أن الأجزاء مرددة بين الأقل والأكثر ، فيكون وجود هذا الواجب ، مرددا بين الوسيع والضيق ، فيكون الشك في أصل الواجب ، لا في المحصّل ، فتجري أصالة البراءة ، وبهذا تبيّن أنه يمكن جريان البراءة حتى إذا كان الجامع بسيطا فيما إذا كان بالنحو الثاني.

وأمّا التحقيق في المقدمة الثانية ، هو أن يقال بأن الجامع ، إذا كان تركيبيا فلا إشكال في أن الشك في جزئية شيء يكون مجرى للبراءة ، لدوران الأمر الواجب بين الأقل والأكثر كما ذكر ، وأمّا إذا كان الجامع بسيطا فحينئذ

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٦٨.

٤٣

يختلف الحال باختلاف سنخ هذا الجامع البسيط ، فإن الجامع البسيط يكون على خمسة أنحاء :

النحو الأول :

أن يكون الجامع البسيط مشككا ، بنحو يكون له مراتب من الشدة والضعف ، فإذا علمنا بأن المراتب الضعيفة تتحقق بتسعة أجزاء ، وأن المراتب الشديدة لا تتحقق إلّا بعشرة أجزاء ، وشكّ بأن الغرض هل تعلّق بمطلق هذا الجامع البسيط ، أو بمرتبته الشديدة ، ففي مثل ذلك ، يدخل المقام في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأن تعلّق التكليف بأصل الجامع معلوم ، وأمّا تعلقه بالمرتبة الشديدة التي لا توجد إلّا بضم الجزء العاشر فغير معلوم ، فيكون الشك شكا في أصل الواجب ، فتجري البراءة عن وجوب المرتبة الشديدة ، من دون فرق بين أن يكون هذا الجامع المشكك مسبّبا عن الأجزاء في طولها ، أو منطبقا عليها أو موجودا بوجودها ، فإنه لا يفرّق في ذلك ، في جريان البراءة ، كما فرّق صاحب الكفاية (قده).

النحو الثاني :

أن يكون الجامع البسيط غير مشكك ، ويكون مسبّبا عن الأجزاء ، بمعنى أنه موجود بوجود مغاير لوجود الأجزاء ، ففي هذا النحو ، لا إشكال في حريان أصالة الاشتغال ، لأن الوجوب تعلق بالمسبّب لا بالسبب ، ودوران الأمر بين الأقل والأكثر إنما هو في جانب السبب لا المسبب ، فيكون الشك في المحصّل ، فتجري أصالة الاشتغال.

النحو الثالث :

أن يكون الجامع البسيط غير مشكّك ، وموجودا بعين وجود الأجزاء ويحمل عليها بالحمل الشائع ، لا أنه موجود بوجود طولي مغاير لها ، بل ينتزع منها ، بلحاظ حيثية خارجية عرضية ، كعنوان المؤلم ، فإنه عنوان بسيط منتزع عن نفس الضربات ويصح حمله عليها بالحمل الشائع ، فيقال ، «هذا الضرب

٤٤

مؤلم» ، وهذا العنوان منتزع بلحاظ جهة وجودية خارجية ، وهي حيثية قيام الألم في نفس المضروب ، فحينئذ ، إذا أوجب الشارع إيلام زيد ، وتردّد أمر إيلامه بين تسعة ضربات ، أو عشرة ضربات ، ففي مثل ذلك ، تجري أصالة الاشتغال ، وإن كان الجامع موجودا بعين وجود الضرب ، لكن مع هذا يمكن القول بأن التسعة معلومة الوجوب ، والضربة العاشرة مشكوكة ، فتجري أصالة البراءة عن وجوبها ، لأن هذا العنوان البسيط ، لمّا كان منتزعا عن الضرب بلحاظ حيثية وجودية خارجية ، فتكون هذه الحيثية تحت العهدة ، والمكلف لا يخرج عن العهدة إلّا إذا أحرز وجود هذه الحيثية ، ومن المعلوم أنه بالتسعة لا يحرز وجود تلك الحيثية الخارجية ، ومنه يعرف ، أن ما ذكره صاحب الكفاية ، من أن الجامع البسيط إذا كان منتزعا عن نفس الأجزاء ، وموجودا بوجودها ، يكون الشك في الجزء الزائد مجرى لأصالة البراءة ، غير تام في مثل هذا الجامع البسيط ، لأن تلك الحيثية الخارجية تحت العهدة بحكم العقل كما عرفت ، فما لم يحرز العقل وجودها ، لا يمكن الاكتفاء بالمأتي ، وهو تسع ضربات كما في المثال.

النحو الرابع :

أن يكون الجامع البسيط غير مشكك ، وموجودا بعين وجود الأجزاء ، ولكنه ليس منتزعا عنها بلحاظ جهة عرضية ، بل هو منتزع عن مرتبة ذات الأجزاء ، بحيث أنه ذاتي لهذه الأجزاء ، وتكون نسبته إليها كنسبة الإنسان إلى زيد ، ففي مثل ذلك ، يتم ما أفاده صاحب الكفاية (١) ، من أنه يكون مجرى للبراءة ، وذلك لأن هذه الماهية البسيطة التي تعلّق بها الوجوب ، وإن كان الشك فيها بين الأقل والأكثر غير متصور لأن البسيط لا يعقل فيه الأقل والأكثر ، إلّا أنه من المعلوم أن تمام الماهيّات إنما تؤخذ محطا للوجوب بما هي فانية في معنوناتها الذاتية وفي وجوداتها الخارجية ، والمفروض أن هذا

__________________

(١) حقائق الأصول ـ الحكيم ج ١ ص ٥٨.

٤٥

العنوان هو عنوان ذاتي لهذه الوجودات المتكثرة ، وعندئذ ، إذا كانت هذه الوجودات مرددة بين الأقل والأكثر ، فيرجع الأمر إلى تردد أمر الواجب وهو الماهية بين الأقل والأكثر فينفى الزائد بالبراءة.

النحو الخامس :

أن يكون الجامع البسيط عنوانا بسيطا اعتباريا ومن المجعولات ، من قبيل عنوان الطهور الذي هو عنوان اعتباري يجعله الشارع ويطبقه على الغسلات الثلاث والمسحات الثلاث ، فيقال لا صلاة إلّا بطهور ، ففي مثل ذلك ، لو تردّد أمر الطهور بين الأقل والأكثر تجري أصالة البراءة ، والسرّ في ذلك ، أن هذا الجامع البسيط لمّا كان أمرا اعتباريا ، فيكون مجرد مشير إلى الواقع ، ففي لسان الدليل ، وإن وقع نفس العنوان البسيط ، وهو طهور ، موضوعا للوجوب ، لكن بحسب التحليل ، ليس عنوان الطهور هو مصب الوجوب ، لأنه اعتباري صرف ، بل مصب الوجوب ، هو الغسلات والمسحات ، فيكون من باب دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فتجري أصالة البراءة عن الزائد.

وحاصل الكلام في الثمرة الأولى ، أنه بناء على الجامع التركيبي ، تجري البراءة دائما ، وأما بناء على الجامع البسيط ففيه تفصيل ، فتجري البراءة في النحو الأول والرابع والخامس ، وأمّا في النحو الثاني والثالث فتجري أصالة الاشتغال.

الثمرة الثانية :

وهذه الثمرة ، ثمرة فقهية ، وهي أن كلا من الصحيحي والأعمي ، يشتركان في جواز التمسك بالإطلاق المقامي لنفي ما يشك في جزئيته وشرطيته ، وأمّا الإطلاق اللفظي ، فالأعمي ، يقول بجواز التمسك به لنفي الجزئية والشرطية ، والصحيحي ، يقول بعدم الجواز في ذلك.

٤٦

ولتوضيح هذه الثمرة ، لا بدّ من التمييز بين الإطلاق اللفظي الإطلاق المقامي فنقول :

إن المولى ، تارة يكون في مقام يحرز منه أنه قد تصدّى فيه لبيان تمام الأجزاء والشرائط المطلوبة ، فحينئذ ، إذا بيّن خمسة أجزاء مثلا وسكت عن السادس ، فهنا يستدل على عدم وجوب الجزء السادس بمثل هذا السكوت ، ويسمّى الاستدلال بهذا ، استدلالا بالإطلاقات المقامية ، فمصب هذا الإطلاق هو مقام المولى لا لفظه ، وهذا المقام يحرز بدليل خاص.

وتارة أخرى يأمر المولى بشيء له حالات ، فعند الشك في إرادة خصوص حالة منها ، يتمسّك بالإطلاق اللفظي الذي يرجع إلى مقدمات الحكمة ، ويثبت بذلك أنه أراد الشيء على الإطلاق ، لا في حالة من حالاته ، ومركز هذا الإطلاق هو اللفظ لا المقام ، وهذا الإطلاق اللفظي ، وإن كان يحتاج إلى كون المولى في مقام البيان على مقتضى الأصل العقلائي ، لكنه لا يحتاج إلى دليل خاص كما كان الإطلاق المقامي يحتاجه.

وإذا اتضح التمايز ، نقول ، إن الصحيحي والأعمي يتفقان على جواز التمسك بالإطلاق المقامي إن وجد ، وأمّا الإطلاق اللفظي فيجوز التمسك به ، بناء على الأعم ، كما إذا شك بأن السورة هي جزء من الصلاة أم ليست بجزء؟. فبناء على الأعمي ، يجوز التمسك بإطلاق لفظ الصلاة ، لأن الصلاة بناء على الأعمي لم يؤخذ في مسمّاها السورة ، بل الأركان الخمسة أو الأجزاء السبعة ، والسورة ليست منها ، فالصلاة تصدق بلا سورة ، وبناء على الصحيحي لا يجوز التمسك بالإطلاق ، لأنّ السورة على تقدير دخلها في الواجب ، تكون داخلة في مسمّى الواجب ، فبدونها لا يكون هناك صلاة. وهذه الثمرة ثمرة صحيحة ، ولكنها فقهية ، وليست أصولية كما هو واضح. هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة.

٤٧

تحقيق الحال في أن ألفاظ العبادات

موضوعة للصحيح أو للأعم؟

اختار السيد الأستاذ (١). كون الفاظ العبادات ، موضوعة للأعم ، فالصلاة موضوعة للأركان بنحو الجامع اللّابشرط ، وقال في مقام تقريب ذلك ، أن أسماء العبادات موضوعة على يد الشارع ، فهو المرجع في تشخيص المسمّى ، ويرجع في هذه المسألة إلى الروايات الواردة في هذا المقام ، والمتحصّل من هذه الروايات الواردة في أجزاء الصلاة وشرائطها ، هو أن المعنى الموضوع له هو الأركان ، لأن جملة من الروايات قد دلت على دخل جملة من الأجزاء ، وقد أحصي ذلك في أربعة أركان ، التكبير ، والركوع ، والسجود ، والطهارة ، أمّا التكبير ، فبلحاظ أنه افتتاح الصلاة كما ورد ، ومن هنا ، لو أخل المكلف بالتكبير ولو نسيانا ، تكون صلاته باطلة ، وإن لم يصرح بذلك في حديث «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» لأن فرض معنى هذا الحديث ، وجود الصلاة ، فيقال حينئذ لا تعدها ، وأمّا من لم يكبّر ، فهو لم يدخل في صلاة أصلا ، فلذلك لم يذكر التكبير في الحديث ، وأمّا مقوّمية الركوع والسجود والطهور فيما ورد ، من أن الصلاة ثلثها الركوع ، وثلثها السجود ، وثلثها الطهور ، ثم أنه وإن كان للشيء ثلاثة أثلاث فقط ، لكن لا بدّ

__________________

(١) محاضرات فياض ج ١ ص ١٦٣ ـ ١٦٨ ـ ١٦٩.

٤٨

من إدخال تكبيرة الإحرام أيضا في الصلاة ، للروايات ، فالمتحصّل أن الصلاة عبارة عن هذه الأركان الأربعة ، فلفظة الصلاة موضوعة للأعم ، وهي هذه الأركان الأربعة ، فمتى ما حفظت وإن اختلفت بقية الأجزاء ، تكون صلاة ، ومتى ما اختل واحد من هذه الأربعة ، وإن وجدت بقية الأجزاء فلا تكون صلاة. وهذا الذي ذكره السيد الأستاذ ينحل إلى جهتين :

الجهة الأولى :

سلبية ، وهي أن غير هذه الأمور الأربعة ليس دخيلا في مفهوم الصلاة ومسمّاها.

الجهة الثانية :

إيجابية ، وهي أن هذه الأمور الأربعة دخيلة في مفهوم الصلاة ومسمّاها.

أما الجهة السلبية ، فهي موضع الخلاف بينه وبين القائلين بالصحيح ، لأنه في الجهة الإيجابية يتفق معهم حيث أنهم يقولون بدخول هذه الأمور الأربعة في مسمّى الصلاة ، وزيادة على ذلك يقولون بدخول غير هذه الأربعة في مسمّى الصلاة. فما إدّعاه من كون لفظ الصلاة وأمثالها من الفاظ العبادات موضوعا للأعم ، مرهون بإثبات الجهة السلبية من كلامه ، مع أنه ليس في كلامه ما يدل على أن غير هذه الأربعة غير دخيل في مسمى الصلاة ، وغاية ما يمكن أن يتوهم الاستدلال به لذلك ، أحد وجوه ثلاثة :

الوجه الأول :

أن يقال بأن غير هذه الأمور الأربعة ليس ركنا ، بمعنى أن الإخلال بها سهوا لا يبطل الصلاة ، فهو ليس دخيلا في المسمّى ، بحيث أنه لا صلاة بدونه ، وإلّا لما كانت الصلاة بدونه سهوا ، صلاة ، مع أنها صلاة ، فيعرف من ذلك أنه غير دخيل في المسمّى.

ولكن هذا الوجه غير تام لما بيّناه في تصوير الجامع على الصحيحي ،

٤٩

من أن الصحيحي ، يدّعي جامعا صحيحيا ، بحيث يكون كل جزء دخيلا في المسمّى في حال التذكر وغير دخيل في حال النسيان ، فكون بعض الأجزاء تصح الصلاة بدونها من الناسي ، لا يدل على عدم مدخليته في حال التذكر ، فهنا مسألتان :

مسألة فقهية :

وهي أن الصلاة بلا تشهد مثلا من ناسيه صحيحة ، والقائل بالصحيح لا يستشكل في كونها صلاة.

ومسألة أصولية :

وهي أن الجزء ، بمقدار ما يكون دخيلا في الصحة حال التذكر ، هل يكون دخيلا في المسمّى ، أو لا يكون دخيلا في المسمى! ، وهذه المسألة ، لا معنى لإثباتها في المسألة الأولى.

الوجه الثاني :

أنه باستقراء الروايات ، يرى أن هناك نصا على دخل هذه الأمور الأربعة في المسمّى ، ولا نص على دخل غيرها ، فبذلك يستكشف عدم دخول غيرها ، وهذا الوجه غير صحيح أيضا ، لأنه موقوف على أمور ، أقلها أنه يمكن كون غرض الشارع قد تعلق ببيان تمام ما له دخل في المسمّى ، وهذا غير محرز ، وإنما المحرز كون غرضه قد تعلق ببيان تمام ما له دخل في الواجب ، وهذا قد بيّنه في صحيحة حمّاد بن عيسى ، ولعل التسليم والتشهد وأمثالهما من الأجزاء الغير ركنية دخيل في المسمّى ، لكن لم يبيّنه الشارع لعدم تعلق الغرض به.

الوجه الثالث :

الاستدلال برواية الصلاة ، ثلثها الركوع ، وثلثها السجود ، وثلثها الطّهور ، فإن هذه الرواية تنفي دخول غير هذه الثلاثة ، لأن الشيء الواحد لا يكون له أكثر من ثلاثة أثلاث ، ولو جمدنا على هذه الرواية لقلنا بعدم دخول تكبيرة الإحرام أيضا ، إلّا أن روايات التكبير تقيّد هذه الرواية ، فإطلاق هذه الرواية

٥٠

بالنسبة لبقية الأجزاء ما عدا التكبير ، ينتج أن الأربعة دخيلة وغيرها غير دخيل.

وهذا الوجه غير صحيح أيضا ، وذلك لأنه بالدليل الخارجي الذي دلّ على دخول التكبير ، ينثلم هذا الحصر ، لأن هذا الحصر ليس كالمطلقات ، بحيث لو ثبت خروج فرد من تحت الإطلاق ، يتمسك به بالنسبة للباقي ، لأن الحصر هنا ثبت بعنوان الثلثية ، ومن المعلوم أن هذا العنوان ينثلم بمجرد فرض رابع ، سواء فرض خامس أو لم يفرض ، وحينئذ في مقام الجمع بين هذه الرواية وبين ما دل على دخول التكبير ، لا بدّ من حمل الرواية على أن المراد من الثلث ، الثلث بلحاظ المعنى ، يعني أنه في قوة الثلث من حيث شدة اهتمام المولى به ، كما يقال أن سورة التوحيد ثلث القرآن ، وسورة الفاتحة ثلث القرآن.

وعلى هذا لا تبقى دلالة على الحصر أصلا ، لأنه لا منافاة بين كون كل واحد من الثلاثة بمثابة الثلث ، وبين وجود أجزاء أخرى ، كما كان ذلك بالنسبة لسورة الفاتحة والتوحيد ، فالجهة السلبية في كلام السيد الأستاذ لا دليل عليها.

وأما الجهة الإيجابية

وهي أن الركوع والسجود والطهور وتكبيرة الإحرام ، مقومات للمسمّى فإننا نقول : أمّا مقومية الثلاثة الأولى ، فقد استفادها من الرواية المتقدمة ، ويرد على هذه الاستفادة ، أن كلمة الصلاة في هذه الرواية إمّا أن يراد منها المسمّى ، وإمّا المعنى الموضوع له لفظ الصلاة ، فإن استظهر الأول فالرواية تكون دليلا على مدخلية الركوع والسجود والطهارة في المأمور به ، ولا تدل على مقوّمية هذه الأمور للمسمّى الذي هو محل الكلام ، وإن استظهر الثاني ، فحينئذ تكون الرواية دالة على مدخلية هذه الأمور في المسمّى.

لكن ننقض على السيد الخوئي ، بما ورد «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فإنه كما تحمل الصلاة في الرواية المثلثة على المسمّى ، فلا بدّ أن تحمل الصلاة في قوله «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» على ذلك أيضا.

٥١

وعليه فتكون فاتحة الكتاب داخلة في مسمّى الصلاة ، وكونها لا تدخل في الصلاة أحيانا ، كما في الأخرس والناسي لا يوجب تقييدا في قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فبعد تقييد هذا الإطلاق ، يثبت أن الصلاة من غير الأخرس والناسي متقومة بفاتحة الكتاب ، وقد بينّا سابقا أن الجامع على الصحيحي ، يمكن أن يكون الجزء دخيلا فيه بلحاظ حال ، ولا يكون دخيلا بلحاظ حال أخرى ، وحينئذ لا بدّ من الالتزام ، بكون فاتحة الكتاب دخيلة في مسمّى الصلاة ، بلحاظ الشخص المختار لا الناسي والأخرس ، مع أن السيد الخوئي لا يلتزم بذلك.

وأما تكبيرة الإحرام ، فقد استدل على أنها دخيلة في المسمّى ، بما دلّ على أن افتتاح الصلاة التكبير ، وهذا يدل على مدخلية تكبيرة الإحرام في المسمّى ، ولكن الروايات الواردة في تكبيرة الإحرام ، لا تصلح للدلالة على ذلك ، ويمكن تقسيم هذه الروايات إلى عدة طوائف.

الطائفة الأولى :

ما كان من قبيل رواية زرارة ، حيث قال : «أدنى ما يجزي من التكبير في التوجه تكبيرة واحدة» ومن المعلوم أن المقصود من الإجزاء هنا ، الإجزاء بلحاظ امتثال الأمر لا بلحاظ المسمّى ، فلا تدل الرواية على كون التكبير مقوما للمسمّى ، وإنما تدل على أنه لو أتى من غير تكبير ، لا يجزي ذلك في مقام امتثال الأمر.

الطائفة الثانية :

ما دل على أن التكبير أنف الصلاة ، من قبيل رواية السكوني عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عن رسول الله (ص) في حديث قال : «ولكل شيء أنف وأنف الصلاة التكبير» وهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات مدخلية التكبير في المسمّى ، لا سندا ولا دلالة ، أمّا سندا ، فلأن السكوني يروي عن النوفلي ومحمد بن سعيد ، وكلاهما لم يثبت توثيقه ، وأمّا

٥٢

دلالة ، فلأن أنف الشيء ، ليس مقوما للشيء بحسب النظر العرفي.

الطائفة الثالثة :

ما دل على أن التكبير مفتاح الصلاة ، من قبيل رواية ناصح المؤذن عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال : «فإن مفتاح الصلاة التكبير» ، وهذا لا يمكن الاعتماد عليه ، لا سندا ولا دلالة ، أمّا سندا ، فلعدم توثيق ناصح المؤذن ، وأما دلالة فلأن مفتاح الشيء بحسب الفهم العرفي لا يلزم أن يكون دخيلا في حقيقة الشيء ومسمّاه ، فهذا التعبير كما يتناسب مع الجزء الداخل كذلك يتناسب مع الجزء الخارج.

الطائفة الرابعة :

ما دل على حصر افتتاح الصلاة بالتكبير ، من قبيل رواية المجالس ، بسنده إلى أنس عن رسول الله (ص) قال : «الله أكبر ، لا تفتتح الصلاة إلّا بها» والتعويل على هذه الرواية غير ممكن ، لا سندا ، ولا دلالة ، أما سندا ، فلضعف الطريق بعدة من رجاله ، باعتباره نبويا ، وأمّا دلالة ، فباعتبار أن كلمة (لا) هنا إن كانت نافية فحينئذ قد يقال بظهورها في أن ابتداء الصلاة دائما بالتكبير ، وإن كانت ناهية فغاية ما تدل عليه هو الأمر بالتكبير ، أمّا أن التكبير دخيل في المسمّى أو غير دخيل ، فلا تدل الرواية على ذلك.

الطائفة الخامسة :

ما دل على أن الإحرام للصلاة يكون بالتكبير ، من قبيل رواية ابن القدّاح عن أبي عبد الله عن النبي (ص) قال : «افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ومن الواضح أن معنى كون تحريم الصلاة بالتكبير ، أنه بالتكبير يحرم على الإنسان الإتيان بمنافيات الصلاة ، ويدل على ذلك قوله وتحليلها التسليم ، لأنه بالتسليم يحل الصلاة ، ويدل على ذلك قوله (ص) له ذلك ، وأين هذا من كون التكبير دخيلا في المسمّى.

٥٣

الطائفة السادسة :

ما دلّ على أنه لا صلاة بدون افتتاح ، وهذه أقوى الطوائف دلالة ، من قبيل رواية عمّار قال : «سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل سها خلف الإمام فلم يفتتح الصلاة ، قال ، يعيد الصلاة ، ولا صلاة بغير افتتاح».

فقد يقال ، بأن قوله : «لا صلاة بغير افتتاح» يدل على نفي المسمّى بغير افتتاح ، فيكون الافتتاح بالتكبير مقوما للمسمّى. لكن يرد على ذلك :

أولا : إن هذه العبارة ، مقرونة بقوله ، يعيد الصلاة ، وهذا معناه ، أن ما أتى به صلاة ، ولذا فرض الإعادة ، فيكون قد استعمل الصلاة في الصلاة الفاقدة لتكبيرة الإحرام ، وهذا الاستعمال قرينة على أن المراد من النفي في قوله : «لا صلاة بغير افتتاح» ، هو أنه لا صلاة بلحاظ الوظيفة ، لا بلحاظ المسمّى ، ومع التنزل فلا أقل من الإجمال فإن اقتران هذا النفي بهذا الإثبات ، يوجب الصلاة ، واحتمال كونه بلحاظ الوظيفة لا بلحاظ المسمّى. ويرد.

ثانيا : النقض بقوله (ع) «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فأيّ فرق بين قوله ، لا صلاة بغير افتتاح ، وبين قوله لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، فإن استظهرنا من الأولى نفي المسمّى فليستظهر ذلك أيضا من الثانية ، فيدل على دخل فاتحة الكتاب في المسمّى ، وهذا لا يلتزم به السيد الخوئي ، وغاية الفرق بين القول الأول والقول الثاني ، أن الأول يشمل الناسي ، فإن صلاته بلا افتتاح باطلة ، والثاني لا يشمله.

وبما ذكرناه ظهر أنه لا يوجد رواية بعنوان أن الصلاة افتتاحها التكبير ، وإنما مضامينها ما عرفت ، وليس فيها ما يدل على أن التكبير يمتاز عن بقية الأجزاء والشرائط بكونه مقوما للمسمّى.

وبهذا يتبين عدم إمكان إثبات الجهة السلبية والجهة الإيجابية في كلام السيد الخوئي بالروايات ، فما ذكره (مدّ ظله) غير تام.

٥٤

أدلة الوضع لخصوص الصحيح

أهم هذه الأدلة أربعة وكلّها غير تامة :

الدليل الأول :

استدل بالروايات التي ترتب الآثار عليها على عنوان الصلاة من قبيل قولهم ، الصلاة معراج المؤمن ، والصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ، بدعوى أن المحمول في هذه القضايا لا يناسب الصلاة الفاسدة ، وإنما هو محمول لخصوص الصلاة الصحيحة ، ومع هذا رتّب في لسان الدليل هذا الأثر على عنوان الصلاة وطبيعيّها ، فيثبت بذلك أن عنوان الصلاة مختص بالصحيح منها ، إذ لو كانت الصلاة موضوعة للجامع الأعم لما أمكن القول بأنّ الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ، بل لكان ينبغي القول بأن بعض الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر.

وهذا الاستدلال في المقام غير تام لوجوه نذكر أهمها :

إن هذا الاستدلال إنما يكون لتعيين التخصّص في موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص وتوضيح ذلك :

إننا نعلم من الخارج أن الصلاة الفاسدة خارجة عن موضوع قضية الناهية عن الفحشاء والمنكر ، لأن الصلاة الفاسدة لا تناسب أن تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر ، ويدور الأمر بين أن يكون خروجها تخصّصيا ، بمعنى أنها

٥٥

ليست بصلاة أصلا ، كما هو الحال بناء على الوضع لخصوص الصحيح ، وبين أن يكون خروجها خروجا تخصيصيا ، بمعنى أنها صلاة ولكنها خارجة تخصيصا ، كما هو الحال بناء على الوضع للأعم ، فالأمر دائر بين التخصيص والتخصّص ، والتقييد والتقيد ، فإذا قلنا في هذا المورد بأصالة عدم التخصيص وتعيّن التخصّص ، حينئذ هذا الاستدلال له وجه ، فيقال بأن الصلاة الفاسدة خارجة عن موضوع الناهية عن الفحشاء والمنكر ، وبأصالة عدم التخصيص نثبت أن خروجها تخصّصي لا تخصيصي ، ولكن بناء على أنه في هذا المورد من الدوران ، لا تجري أصالة عدم التخصيص كما هو المعروف والمختار في باب المطلقات ، فعندئذ ، لا يمكننا أن نعيّن أن خروج الصلاة الفاسدة عن إطلاق الخطاب وموضوعه هل هو خروج تخصيصي كما يقول الأعمي ، أو خروج تخصّصي كما يقول الصحيحي ، فالاستدلال غير صحيح.

الدليل الثاني :

هو الاستدلال بالروايات النافية للصلاة بانتفاء بعض الأجزاء ، من قبيل «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، فإن هذا النفي ظاهر في نفي أصل المسمّى فيكون دالّا على دخل الفاتحة في المسمّى ، والحال أن الفاتحة ، ليست من الأركان ، فيثبت بعدم احتمال الفرق ، أن سائر الأجزاء داخلة فيه.

ويرد على هذا الاستدلال اعتراضات منها :

إن كلمة الصلاة في مثل هذه القضية ، إن قلنا بانصرافها إلى الصلاة المأمور بها ، فيصير معنى القضية «لا صلاة مأمور بها إلّا بفاتحة الكتاب» وهذا خارج عن محل الكلام فلا يدل على دخل الفاتحة في المسمّى ، وإنما يدل على دخلها في الأمر ، وإن منعنا من هذا الانصراف ، وحملنا لفظة الصلاة على المسمّى ، فحينئذ ، يقع التعارض بين أمثال «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، وبين أمثال قوله في رواية التثليث ، فإن رواية التثليث تدل على الأعم ، وهذه تدل على الصحيح ، فيقع التعارض ، وكما يمكن الجمع ، بتقديم هذه ، وحمل التثليث هنا على التثليث بلحاظ الأهمية ، كذلك يمكن الجمع بتقديم رواية

٥٦

التثليث ، وحمل هذه على أنه «لا صلاة صحيحة إلّا بفاتحة الكتاب» لا أنه «لا صلاة من حيث المسمّى إلّا بفاتحة الكتاب» ، وفي مقام التكافؤ لا يمكن الاستناد إلى أي دليل منهما.

الدليل الثالث :

هو الاستدلال بسيرة العقلاء المخترعين ، حيث أن ديدنهم فيما إذا اخترعوا شيئا ، وضعوا اللفظ لخصوص الصحيح منه ، والشارع بحكم كونه أحدهم ، فظاهره لم يتخطّ سيرتهم ، فيستكشف إمضاؤه لهذه السيرة العقلائية ووضعه لفظ الصلاة للصحيح من مخترعه.

وهذا الدليل بهذا البيان ، لا محصل له ، وتوضيح ذلك :

إن السيرة العقلائية ، تارة نفرضها مربوطة بالمكلفين أنفسهم من قبيل السيرة على العمل بالخبر الواحد ، ففي مثل هذه السيرة نستكشف إمضاء الشارع لها من عدم ردعه ، لأن الشارع يرى المكلفين خارجا يعملون على طبقها ، فلو لم يكن راضيا بها لوجب عليه ردعهم ، فيستكشف من عدم الردع ، موافقته على هذه السيرة واتحاد ذوقه مع ذوق أصحاب السيرة.

وتارة أخرى نفرض السيرة العقلائية غير مربوطة بالمكلفين وأجنبية عن عالم الامتثال ، من قبيل السيرة المفترضة في الدليل ، فسيرة العقلاء إذا اخترعوا شيئا وضعوا اللفظ لخصوص الصحيح منه ، مثل هذه السيرة أمر أجنبي عن الشرع فليس من الضروري أن يردع الشارع المكلفين ، سواء وافق ذوقه هذه السيرة أو لم يوافقها ، فلا يمكن أن نستكشف من عدم الردع موافقة الشارع لهذه السيرة ، اللهم إلّا أن يرجع ذلك إلى توجيه آخر ويقال بأن الشارع صدر منه وضع ، ووضع لفظ الصلاة للعمل الفلاني ، وتردّد الأمر بحيث كان كلامه مجملا فلم يعلم بأنه وضعه لخصوص الصحيح أو للأعم ، فيقال حينئذ ، بأن انعقاد سيرة العقلاء على الوضع لخصوص الصحيح يوجب انعقاد ظهور في كلام الشارع ، باعتبار أن هذه السيرة من القرائن اللبية التي توجب انعقاد

٥٧

ظهور في كلامه في أنه قد وضع لخصوص الصحيح ، فيرجع بالتالي إلى ظهور كلام الشارع ، ولكن إثبات مثل هذه السيرة بنحو تكون أكيدة ومركوزة في الذهن بشكل توجب قرينة لبيّة متصلة ، هذا دونه خرط القتاد ، فلا يمكن إثبات ذلك عادة ، باعتبار أن هذه السيرة ليست شائعة ذائعة ، بحيث يكون شيوعها موجبا لكونها قرينة لبية توجب ظهورا في اللفظ. فهذا الدليل لا يرجع إلى محصّل.

الدليل الرابع :

هو دعوى التبادر فإن المتبادر من لفظ الصلاة ، هو الصحيح منها ، والتبادر علامة الحقيقة.

وهذا الاستدلال لا محصّل له ، لأن التبادر إنما يكون علامة الحقيقة ، إذا كان تبادرا حاقيا ناشئا من حاق اللفظ لا من القرينة ، وهنا احتمال القرينة موجود ، ولا يمكن رفعه ، لأن القرينة المحتملة هنا هي نفس معهودية الوظيفة الشرعية ، فنفس هذه المعهودية النوعية تكون قرينة عامة توجب انصراف ذهن المتشرعة في زماننا إلى خصوص الصحيح ، ففي الموارد التي يتبادر فيها خصوص الصحيح ، يحتمل أن يكون التبادر ناشئا من معهودية الوظيفة الشرعية ، ومعه لا يكون التبادر علامة على الوضع لخصوص الصحيح.

٥٨

أدلة الوضع للأعم

أهم هذه الأدلة أربعة وكلها غير صحيحة.

الدليل الأول :

هو صحة التقسيم ، فإذا صح تقسيم الصلاة إلى صحيحة وفاسدة ، فهذا يدل على أنها بمعنى الجامع بين الصحيح والفاسد.

وهذا الكلام غير صحيح ، لأن صحة التقسيم تشتمل على أمرين.

الأمر الأول هو أن يوجد للفظ الصلاة معنى جامع أعمي قابل للانقسام ، إلى الصحيح والفاسد ، وهذا أمر وجداني في المقام.

والأمر الثاني. هو أن هذا المعنى الأعمي ، هل هو معنى مجازي للفظ الصلاة ، أو معنى حقيقي للصلاة؟. فإن أريد بالاستدلال بصحة التقسيم ، الاستدلال بالأمر الأول ، فهذا لا يدل على المطلوب ، لأن المعنى الأعمي موجود ، ولكن من قال بأنه معنى حقيقي فلعلّه معنى مجازي ، وإن أريد بالاستدلال على ذلك بمجموع الأمرين فهذا محال ، لأن الأمر الثاني هو عين المتنازع فيه ، فكيف يجعل دليلا على المتنازع فيه!.

الدليل الثاني :

هو الاستشهاد بموارد كثيرة ورد فيها لفظ الصلاة مستعملا في الأعم ،

٥٩

من قبيل ما ورد في روايات كثيرة «أعد الصلاة» والإعادة معناها تكرار الصلاة وهذا اعتراف بأن ما وقع أولا هو صلاة باطلة ، ولهذا أمر بالإعادة ، فمثل هذه الروايات شاهد على أن لفظ الصلاة مستعمل في الأعم.

وهذا الاستدلال غير صحيح ، لأننا في مقام الاستدلال بالاستعمال ، تارة نقطع بأن هذا اللفظ قد استعمل في الأعم ، ونريد أن نستدل بهذا الاستعمال ، على أن اللفظ حقيقة في الأعم ، وهو كما ترى ، لأن الاستعمال في الأعم أعم من الحقيقة والمجاز ، وتارة أخرى نقطع بأن هذا اللفظ قد استعمل في الأعم على وجه الحقيقة ونريد أن نستدل بذلك على أن اللفظ حقيقة في الأعم ، وهذا واضح البطلان لأنه استدلال بالشيء على نفسه ، وجريان أصالة الحقيقة منفي هنا ، لأن أصالة الحقيقة إنما تجري فيما إذا شكّ في المراد لا فيما إذا علم المراد وشكّ في أن الاستعمال حقيقي أو مجازي.

نعم لو فرض استعمال ، وبحسب الوجدان لا يرى فيه عناية أصلا ، وبعد لا يدرى هل أن هذا الاستعمال استعمال في الأعم ، أو في الصحيح ، فحينئذ يبرهن على أنه استعمال في الأعم ، ويقال بأنه لم ير في الوجدان عناية في مثله ، مع أنه استعمال في الأعم ، فهذا يثبت أن الوجدان شاهد على أن الأعم معنى حقيقي ، وهذا أمر معقول ، ويختلف عن الأول ، فإنه في الأول فرض بأن لفظ الصلاة مستعمل في الأعم ، ولكن لا يدرى هل أنه بنحو الحقيقة أو بنحو المجاز ، وفي مثل ذلك لا يمكن أن نثبت الحقيقة بأصالة الحقيقة ، أما هنا فبالوجدان نرى أنه لا عناية في هذا الاستعمال وبنكتته نثبت أن هذا الاستعمال استعمال في الأعم ، ولكن مرجع ذلك إلى المنبّهية لا أكثر ، بمعنى أنه لا بد من العلم الارتكازي في المرتبة السابقة ، بأن لفظ الصلاة موضوع للأعم ومستعمل فيه ، وغاية ما يقال بالمنبهية إلى العلم الارتكازي ، لا أنه بهذا يكتسب علم جديد بدليل جديد ، إذن فهذا المطلب لا يرجع إلى محصّل.

الدليل الثالث :

هو الاستدلال بسيرة المخترعين ، حيث أنّ ديدنهم فيما إذا اخترعوا شيئا

٦٠