بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

إذن فالمشتق والمصدر يحتويان على مفهوم واحد ، ولكن هذا المفهوم الواحد ، حيث أن وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فتارة يلحظ بما هو ظهور لموضوعه ، فيكون عين موضوعه ، فيصح حمله على الذات ، وأخرى يلحظ بما هو ظهور لنفسه مقابل موضوعه لا بما هو ظهور لموضوعه به ، فحينئذ يكون أمرا مغايرا للذات ، فلا يصح حمله على الذات.

هذا ما أفاده المحقق النائيني في توضيح معنى «اللابشرطية» و «الشرطلائية» ولكن السيد الأستاذ (١) لم يقبل بهذا الكلام واعترض عليه بعدة اعتراضات.

الاعتراض الأول :

أنه كيف يتعقل تصوّر مفهوم وحداني يكون تارة وبلحاظ قابلا للحمل على الذات ، وتارة وبلحاظ آخر غير قابل للحمل على الذات ، مع وحدته مفهوما وذاتا ، فإن هذا المفهوم الوحداني ، إمّا أن يكون وجوده عين وجود الذات ، وإمّا أن يكون وجوده مغايرا مع الذات بحسب الواقع والخارج ، فإن كان عينه صح حمله على الإطلاق ، وإن كان مغايرا مع الذات لا يصح حمله على الإطلاق ، فلا يعقل أن تحتفظ بمفهوم وحداني ، بحيث بلحاظ يقبل الحمل ، وبآخر لا يقبله ، بل لا بدّ من الالتزام بأن ما يقبل الحمل مفهوم مغاير ذاتا مع مفهوم ما لا يقبل الحمل ، ففي المقام ، مفهومان متغايران ذاتا ، فمفهوم المشتق («عالم») مغاير ذاتا مع مفهوم المصدر («علم») ، فإن مفهوم المصدر هو الحدث ، والحدث وجوده مغاير لوجود الذات ، ومفهوم المشتق أخذ فيه الشيء ، فعالم هو شيء له العلم ، وبهذا الاعتبار صح حمله على الذات ، فإن صحة حمل عالم على الذات ، إنما هو باعتبار مفهوم مغاير ذاتا مع مفهوم «علم» ، حيث طعّم فيه الذات والشيء ، فيقال ، بأن مفهوم «عالم» هو شيء له العلم ، فبهذا التطعيم ، صار هناك تغاير ذاتي بين «عالم وعلم» ، وأمّا لو فرض عدم هذا التطعيم في مفهوم «عالم» ، وأن المفهوم واحد ومحفوظ بداته في

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٢٠١

المصدر والمشتق ، إذن لا يتعقل كونه ممّا يحمل تارة وممّا لا يحمل أخرى.

وهذا الاعتراض لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن أصحابه مضطرون أخيرا إلى الاعتراف بإمكان تصوير مفهوم واحد محفوظ في كلتا الحالتين ، ويصح حمله تارة وبلحاظ ، ولا يصح حمله تارة أخرى وبلحاظ آخر ، هذا المطلب ممّا يضطرهم أخيرا للاعتراف بإمكانه ووقوعه ، وذلك : بإن ننقل الكلام من المشتقات ومصادرها الحقيقية إلى المشتقات ومصادرها الجعلية فنأتي إلى نفس «مفهوم شيء» الذي طعّم به المشتق ، فقالوا بأن «عالم» إنما صح حمله على الذات ، لأنه طعّم بالشيء ، فكأن مدلول «عالم» شيء له الحدث لا ذات الحدث ، فنقول بأن «شيء» ، بنفسه مشتق له مصدر جعلي ، وهو «الشيئية» ، فيقال مثلا ـ «شيء وشيئية» و «ذات وذاتية» و «إنسان وإنسانية» ـ ، ولا إشكال بإن شيء يحمل على زيد فيقال «زيد شيء» ، ولكن الشيئية لا تحمل على زيد فلا يقال «زيد شيئية» ، إذن «فشيء» الذي هو مشتق يصح حمله على الذات ، وشيئية التي هي المصدر الجعلي لشيء ، لا يصح حملها على الذات ، وحينئذ نسأل أصحاب الاعتراض ، بأن «شيء وشيئية» ، هل كلاهما يحتفظان بمفهوم واحد؟. أو أن «شيء» طعّم بشيء آخر وراء الشيئية؟.

فإن قيل بأن «شيء مع الشيئية» ، «كعالم» مع «علم» ، فكما أن «عالم» طعّم بمعنى إضافي زائد على العلم وهو شيء ، فكذلك شيء طعّم بمعنى آخر زائد على الشيئية! ، إذن فما هو هذا المعنى الزائد؟. فهل هو نفس مفهوم الشيء؟. إذن ، فالكلام في نفس الشيء لأنه شيء له الشيئية ، وهذا غير معقول ، لأن معناه أخذ العرض في موضوعه ، فلا بدّ من فرض شيء أعم من الشيئية حتى يطعّم به مفهوم «شيء» ، ولا يتصور ما هو أعم من مفهوم شيئية ، إذن فكون شيء مطعّم بمفهوم ، بحيث تكون نسبته إلى الشيئية نسبة الشيء إلى العلم ، فهذا غير معقول ، وإذا لم يكن هناك تطعيم ، إذن فقد ثبت أن الشيء والشيئية لهما مفهوم وحداني محفوظ في شيء وشيئية معا ، ومع هذا يصح حمل شيء على الذات ولا يصح حمل الشيئية عليها.

٢٠٢

وفي المقام أيضا يمكن أن يجري نفس الكلام ، فكما أن شيء وشيئية لهما مفهوم واحد محفوظ ويصح حمل أحدهما على الذات بلحاظ ولا يصح بلحاظ آخر ، ولا يعقل التطعيم فيهما ، فليقل في «عالم» و «علم» أن لهما مفهوما واحدا محفوظا ، ولكن هذا المفهوم الواحد ، تارة يلحظ بنحو لحاظ شيء ، فيصح حمله ، وأخرى يلحظ بنحو لحاظ شيئية فلا يصح حمله. وسرّ ذلك ، هو أن يفرض أن مفهومين موجودان بوجود واحد ، فمثلا بحسب الخارج «علم مع الذات» يفرض أنهما موجودان بوجود واحد في الخارج ، ولكن هذا الوجود الواحد الذي هو مظهر لكلتا الماهيتين ولوجود كلا المفهومين يمكن بحسب عالم التحليل والاعتبار ، أن يحلّل إلى جزءين ، فتكون حصة من هذا الوجود مظهرا لماهية «زيد» ، وحصة أخرى من هذا الوجود مظهرا آخرا لماهية «العلم» ، وهذا التحليل ليس له مطابق في الخارج من قبيل تحليل الماهية إلى الجنس والفصل ، ولهذا كان الجنس والفصل تحليليين لا خارجيين ، ولكن في عالم الخارج لا يوجد إلّا مفهوم واتحد ، ووجود واحد ، وهو الإنسانية. وحينئذ ، في مقام حمل مفهوم «علم» على الذات» ، إن لوحظ عالم الخارج الذي هو عالم وحدة المفهومين وجودا ، إذن فيصح حمل أحدهما على الآخر ، فيقال «زيد عالم» ، لأن «عالم» عبارة عن العلم المنظور إليه بحسب طبعه الخارجي عند الميرزا قدس‌سره وهو موجود بعين وجود الموضوع ، وإن لوحظ عالم التحليل ، إذن فهناك مغايرة بين «العلم» والذات ، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر ، لأن كلمة «علم» عند الميرزا موضوعة للحدث المنظور إليه بحسب عالم التحليل بما هو له حصة من الوجود مغايرة للحصة الأخرى ، ولهذا قال الميرزا (١) ، بأن هذا بنفسه يحتاج إلى عناية ملاحظته «بشرط لا» من حيث الحمل ، وهذا بخلاف كلمة «عالم» فإنها موضوعة لنفس الحدث الملحوظ بحسب طبعه الخارجي ، وهو بهذا الطبع ، وجوده في نفسه ، عين وجوده في موضوعه.

__________________

(١) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٤٩ ـ ٥٠ ـ ٥٩ ـ ٦٠.

٢٠٣

إذن يمكن تعقل إمكان انحفاظ مفهوم وحداني تارة وبلحاظ يصح حمله على الذات ، وتارة أخرى وبلحاظ آخر لا يصح حمله على الذات ، فإن لوحظ حسب طبعه يصح حمله ، لأنه موجود بعين وجود الذات خارجا ، وإن لوحظ بعناية عالم التحليل ، لا يصح حمله ، لأن في عالم التحليل يحلل هذا الوجود الواحد إلى حصتين من الوجود ، إحداهما مباينة للأخرى ، وحينئذ لا يصح الحمل ، مضافا إلى أن البرهان قائم على الالتزام بانحفاظ مفهوم وحداني في «شيء وشيئية» بحيث أن هذا المفهوم الوحداني ، تارة وبلحاظ يصح حمله ، وتارة أخرى وبلحاظ آخر لا يصح حمله بحسب عالم الخارج وعالم التحليل.

الاعتراض الثاني :

وهو أن ما قاله المحقق النائيني (١) من أن وجود العرض في نفسه هو عين وجوده لموضوعه ، إن تمّ ، فإنما يصح في الأعراض الحقيقية من قبيل البياض والسواد ، ولا يصح في الأعراض الانتزاعية والمفاهيم الانتزاعية التي تنتزع من الماهيات والأشياء من قبيل الزوجية والإمكان والوجوب ، فإن المفاهيم الانتزاعية ليس لها وجود في الخارج ، حتى يقال ، بأن وجودها في نفسها عين وجودها في موضوعاتها ، بل هذه المفاهيم الانتزاعية وجودها في نفسها غير ثابت أصلا.

وهذا الاعتراض لو تمّ ، لكان هدما لمبنى المعارضة أنفسهم ، لأنه بعد إبطال كلام الميرزا يقولون بأن مفهوم المشتق ليس متحدا مع مفهوم المصدر ، بل هما مفهومان متباينان ، ولهذا لم يصح حمل أحدهما وصح حمل الآخر ، فصح حمل مفهوم «عالم» على الذات بملاك أن «عالم شيء له العلم» ، وحينئذ يقال بأن «شيء» بنفسه مفهوم انتزاعي ، فإذا لم يتصور نحو من الاتحاد بين المفاهيم الانتزاعية ومناشئ انتزاعها ، إذن فكيف صح حمل سائر الأعراض على الذات بإدخال مفهوم الشيء الذي هو بنفسه مفهوم انتزاعي في المقام؟.

__________________

(١) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٥٩ ـ ٦٠.

٢٠٤

فإن قيل ، بأن المفاهيم الانتزاعية متحدة في الثبوت مع مناشئ انتزاعها وموجودة بوجود هذه المناشئ ، كما أن الأعراض موجودة بوجود موضوعاتها ، إذن فقد ارتفع الاعتراض ، لأنه كما أن العرض الحقيقي وجوده عين وجود الموضوع ، كذلك المفهوم الانتزاعي موجود بوجود منشأ الانتزاع ، ويكون متحدا معه فيحمل عليه.

وإن قيل بأن المفاهيم الانتزاعية ليست متحدة بنحو من الاتحاد مع مناشئ انتزاعها ، فهذا معناه ، أن مفهوم الشيء الذي هو ملاك صحة حمل سائر المصادر على الذات ، لا يصح حمله على الذات ، لأن مفهوم شيء بنفسه مفهوم انتزاعي ، فلو لم يكن هناك وحدة بين العنوان الانتزاعي ومنشأ انتزاعه فكيف صح الحمل!. فهذا الاعتراض الثاني أيضا غير صحيح.

الاعتراض الثالث :

أن يقال بأن ما ادعي في كلمات المحقق النائيني من أن الحدث ، باعتبار كونه عرضا ، يكون وجوده في نفسه ، عين وجوده لموضوعه ، وبهذا يكون مندكا فيه ، فيصح حمله عليه ، لو تم هذا الكلام في العرض مع موضوعه الحقيقي ، فلا يسري ذلك إلى اسم المكان والزمان ، وتوضيح ذلك ، أن المشتق تارة يحمل على ذات ، نسبتها إلى الحدث نسبة الموضوع إلى عرضه ، فيقال «زيد عالم» ، وأخرى يحمل المشتق على ذات ، ليست نسبتها إلى الحدث نسبة الموضوع إلى العرض ، بل نسبة الظرف إلى مظروفه ، فيقال «كربلاء مقتل الحسين (ع)» «ويوم عاشوراء» مقتل سيد الشهداء (ع) فهنا مقتل ، حمّل مكان القتل أو زمان القتل ، ونسبة القتل إلى المكان أو إلى الزمان ، ليس كنسبة العلم إلى «زيد» ، حتى يقال باندكاكه فيه وفنائه المصحّح للحمل ، إذن فكيف صحّ حمل اسم المكان واسم الزمان على الذات ، مع أنه ليس نسبة المبدأ إلى الزمان أو المكان ، نسبة العرض إلى محله؟. فلا بدّ من الالتزام حينئذ ، بأن مقتل يختلف مفهوما عن قتل لأنه لو كان عين القتل لما صحّ حمله على الزمان والمكان ، بل هو مطعّم بمفهوم زائد على القتل وهو

٢٠٥

مفهوم الشيء ، شيء وقع فيه القتل مثلا ، أو شيء له ظرفيه القتل مكانا أو زمانا ، وبذلك يثبت أن مفهوم المشتق مغاير لمفهوم المصدر.

وهذا الاعتراض يمكن رده من قبل النائيني ، وذلك بدعوى إضافية ، وهي أن المبدأ في مقتل ، ليس هو ذات القتل ، بل محلية القتل.

وتوضيح ذلك ، أن صاحب الكفاية والمعارضة في المقام ، اختاروا سابقا أن جملة من المشتقات ، قد طعّمت مبادئها بمعنى الحرفة والصناعة فقيل مثلا أن «صائغ» مبدؤه الصياغة لا بمعنى حدث الصياغة ، بل بمعنى حرفة الصياغة ، فكلمة صائغ تطلق على المحترف للصياغة ، وإن لم يكن مشغولا بها فعلا ، فهذا استعمال في المتلبس لا في المنقضي عنه المبدأ. لأن المبدأ أخذ بنحو واسع وهو حرفة الصياغة لا نفس الصياغة ، ونفس هذه المئونة يمكن ادعاؤها في المقام ، بأن مقتل عين القتل لكن القتل الذي هو المبدأ ، لم يرد به نفس عملية القتل بل محلية القتل وظرفيته ، ومن الواضح أن نفس القتل ليس من عوارض المكان والزمان ولكن محلية القتل ووعائيته. أمر قائم بالمكان والزمان ، فهي من شئون المكان والزمان ، ونسبتها إلى المكان والزمان نسبة العرض إلى موضوعه ، وهذه الوعائية والمحلية ، وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها ، فتكون مندكة فيه ويصح حملها على الذات ، فيقال هذا المكان مقتل ، وهذا الزمان مقتل.

إذن يمكن دفع هذا الاعتراض من قبل المحقق النائيني (قده) بدعوى أن المبدأ في أسماء الزمان والمكان طعّم بالوعائية والظرفية كما ادعى في «صائغ» أن مبدأه طعم بالحرفة والصناعة.

الاعتراض الرابع :

إن الميرزا ذكر في مقام تبرير حمل المشتق على الذات ، أن المشتق وإن كان هو نفس العرض ، ولكن حيث أن العرض وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، ولهذا إذا لوحظ العرض على مقتضى طبعه ، يكون موجودا في

٢٠٦

نفسه ، ويكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره ، فيصح حمله على الموضوع ، وهنا نقول أنه يوجد عبارتان متغايرتان ، فتارة يقال أن العرض وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وأخرى يقال أن العرض وجوده في نفسه عين وجود موضوعه ، فأي هذين المطلبين هو مقصود الميرزا؟.

فإن كان مقصوده هو أن وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فهذا معناه ، أن هذا الوجود بنفسه حاضر للموضوع ، فهو بهذا الوجود الواحد مضاف بإضافتين ، مضاف إلى ماهية البياض ، فيقال هذا الوجود وجود للبياض ، ومضاف إلى الموضوع بإضافة العرضية ، باعتبار كونه عرضا للموضوع ومرتبطا به ، وهذا المعنى لا يصحح الحمل ، لأن كون وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، معناه ، أن الوجود الذي هو طرف الإضافة إلى ماهية البياض ، عين الوجود الذي هو طرف الإضافة إلى الموضوع ، ولكن مع هذا ، المغايرة محفوظة ، بين وجود العرض ووجود الموضوع ، لأن وجود العرض غير وجود الموضوع فكيف يصح حمل الوجود العرضي على الموضوع؟. وممّا يبرهن على ذلك أن نفس هذه العبارة صادقة في المعلول مع العلة ، كما أنها صادقة في العرض مع الموضوع ، فكما أن العرض وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، كذلك المعلول الحقيقي مع علته الحقيقية ، وجوده في نفسه عين وجوده لعلته ، بمعنى أن هناك وجودا واحدا ، وهذا الوجود الواحد هو طرف الإضافة إلى ماهية المعلول وهو حاضر بذاته للعلة ، ولهذا نقول بأن وجود المعلول في نفسه عين وجوده لعلّته ، وبذلك يقال بأن وجود المعلول أحد مراتب علم الباري تعالى ، فإن أنزل مراتب علمه تعالى هو نفس الوجود الخارجي للمعلولات الربانية ، لأن وجوداتها في أنفسها عين حضورها لعلتها ، وحضورها لعلتها عبارة أخرى عن علم العلة بها ، لأن العلم هو حضور المعلوم لدى العالم. إذن فهذه العبارة وهي أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه متحققة أيضا في المعلول مع العلة ، فإن وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، ومع هذا لا يصح توصيف العلة بالمعلول ، ولهذا اختار صاحب الأسفار ، حينما أراد أن يعرّف «حلول العرض في

٢٠٧

الموضوع» ، بأن العرض ما يكون وجوده في نفسه عين وجوده للآخر على وجه الاتصاف ، فأضاف قيد الاتصاف ، ليخرج المعلول مع العلة ، لأن المعلول مع العلة أيضا ينطبق عليه أن وجوده في نفسه عين وجوده لعلته ، ومع هذا فرّق بين المعلول مع العلة وبين العرض مع الموضوع ، بأنّ العرض مع الموضوع يتصف به الموضوع ، وأمّا المعلول مع العلة لا تتصف بمعلولها.

إذن فمن هنا يظهر أن النكتة المشتركة بين العرض والمعلول ، وهي كون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره ، ممّا لا يصحح الحمل في المقام ، إذ لو صحّ حمل العرض على الموضوع لصحّ حمل المعلول على العلة لانحفاظ نفس النكتة فيه.

وإن كان مقصود الميرزا ، هو أن وجود العرض في نفسه عين وجود الموضوع ، بحيث أن هناك وجودا واحدا ، وهذا الوجود الواحد ، هو وجود لماهية الإنسان ، ووجود لماهية البياض ، ولماهية العلم ولسائر الماهيات العرضية ، وهذه الماهيات بتمامها تظهر في وجود واحد ، وليس كل ماهية منها ، بإزائها وجود مغاير مع الوجود الذي هو بإزاء ماهية الإنسان ، بل وجود واحد تظهر به كل هذه الماهيات ، ولا برهان على استحالة ظهور مفاهيم متعددة بوجود واحد ، بل قد ادعي هذا بالنسبة إلى الصور الذهنية للأعراض مع النفس ، فإن الصور الذهنية للأعراض قائمة في النفس على حد قيام الوجودات الخارجية للأعراض بموضوعاتها الخارجية ، وقد ادعي في الصور الذهنية للأعراض وللمعلومات بالنفس أنها موجودة بعين وجود النفس.

إذن فلا استنكار في هذه الدعوى ، من أن الصور الذهنية القائمة في النفس ليس لها وجود مغاير للنفس ، بل موجودة بعين وجود النفس ، وكذلك الصور الخارجية للأعراض ، وجوداتها عين وجودات موضوعاتها ، وحينما يصبح الجسم أبيضا بعد السواد وأسودا بعد البياض بحيث تختلف أعراضه ، فهذا يرجع إلى تبدل حدود الوجود الواحد ، لا إلى زوال وجود وبقاء وجود ، بل الوجود الواحد تتبدل حدوده كما يقال بناء على أن الصور الذهنية موجودة

٢٠٨

بعين وجود النفس ، لو تصور شيئا ثم تصور شيئا آخر ، بأن هذا تحول في حدود هذا الموجود الواحد ، لا أن هناك وجودين أحدهما ثابت ، اسمه النفس ، والآخر يتغير ، اسمه العرض.

فهذا مطلب لا يوجد برهان على استحالته ، وما يقال من أن العرض مغاير مع الجوهر وجودا وماهية ، لأن العرض وجود رابطي والجوهر وجود نفسي استقلالي ، هذا إنما ينفع في الخطابة ولا برهان عليه في الفلسفة.

ولكن الإلهام الفطري للإنسان العامي ، يقتضي المغايرة في المقام بين الوجودين ، فينسج وراء البياض والحلاوة مثلا وجودا آخرا جوهريا مباينا مع هذه الصفات ، وحينما نتكلم عن «علم وعالم» ونريد أن نعرف لما ذا يصح حمل عالم في اللغة ولا يصح حمل علم ، لا بدّ وأن نحكّم إلهامات هذا الإنسان الفطري ، لأن اللغة إنما هي وليدة هذا الإنسان ، ولا نحكّم الفلاسفة في المقام ، إذ قد يعجزون فلسفيا عن برهان ان وجود العرض مغاير لوجود الموضوع ، ولكن اللغة مربوطة بهذا الفهم الفطري ، إذن فلا بدّ من الالتزام بأن «علم وعالم» مفهومان متغايران عرفا ، إذ لو كان «عالم» عين «علم» ، إذن لما صحّ حمله على الذات بحسب الإلهام الفطري العامي الذي يرى مغايرة بين الجوهر والعرض وجودا ومفهوما.

٢٠٩

التفسير الثالث للقول الثاني

وهذا التفسير ذكره صاحب الكفاية (١) كما هو ظاهر عبارته ، حيث ذكر أن المشتق عنوان بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ.

وتوضيح هذا التفسير هو أن مرجع «اللابشرطية» و «الشرطلائية» إلى المغايرة الذاتية في المفهوم ، فمفهوم المبدأ مغاير ذاتا مع مفهوم المشتق ، لا انحفاظ مفهوم وحداني فيهما ويكون الفرق باللحاظ والاعتبار ، كما هو الحال في التفسيرين السابقين ، بل يفرض أن مفهوم المصدر مباين سنخا وذاتا مع مفهوم المشتق ، وأن معنى أخذه لا بشرط ، أو أخذه بشرط لا ، هو انتفاء المفهوم الذي هو بطبعه وذاته «لا بشرط» ، أو الذي هو بطبعه وذاته «بشرط لا» ، وهذان المفهومان المتباينان أحدهما بطبعه وذاته لا يأبى عن الحمل وهو معنى اللّابشرطية والمفهوم الآخر هو بطبعه وذاته يأبى عن الحمل وهو معنى الشرطلائية فمفهوم المصدر هو الحدث الذي هو مدلول المادة ، وأما مدلول المشتق فهو عنوان انتزاعي بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ ، فتكون الذات منشأ لانتزاع هذا العنوان ، ويكون المبدأ مصحّحا لهذا الانتزاع ، فهو حيثية تعليلية للانتزاع من الذات ، وليس الحدث والذات والنسبة بينهما دخيلا في مدلول المشتق ، بل مدلوله عنوان بسيط منتزع عن هذا المركب

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٩٦.

٢١٠

الثلاثي في قبال من قال ، بأن مدلوله عنوان انتزاعي مركب ، وبهذا يظهر أن مدلول المصدر بذاته بشرط لا ، لأن مدلوله وهو الحدث مغاير مفهوما ووجودا مع الذات ، ولهذا فهو بطبعه لا يقبل الحمل على الذات ، فلا يقال «زيد علم» ، وهذا هو معنى أخذه بشرط لا.

وأمّا المشتق ، بعد أن كان مدلوله عنوانا بسيطا منتزعا عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدإ ، إذن فهو بطبعه لا يأبى عن الحمل على الذات ، لأنه متحد مع الذات اتحاد العنوان الانتزاعي مع منشأ انتزاعه وجودا ، باعتبار أن هذا العنوان موجود بعين وجود منشأ انتزاعه ، إذن فالمشتق مغاير مفهوما مع المبدأ ، ولا يأبى بطبعه عن الحمل ، وهذا هو معنى أخذه لا بشرط.

وهذا التفسير فيه نظر :

أولا : إن هذا التفسير يفترض وراء المركّب الثلاثي من ـ «زيد والعلم والنسبة بينهما» ـ عنوانا بسيطا منتزعا عن زيد بلحاظ علمه ، وهذا العنوان البسيط هو مدلول كلمة عالم ، وهذا المطلب لا يمكن تعقله ، فبقطع النظر عن باب الألفاظ مع التوجه إلى ذوات المعاني ، لا يوجد في الذهن إلّا صورة للذات والحدث والنسبة ، يعني صورة ذات لها العلم ، ولا يوجد في الذهن معنى ينتزع في طول هذه الصورة بحيث تكون نسبته إلى الذات المتلبسة بالمبدإ ، نسبة العنوان الانتزاعي إلى منشأ انتزاعه ، فتوهم انتزاع عنوان بسيط في طول المركّب الثلاثي ، غير متعقل ، بقطع النظر عن الألفاظ مع التوجه إلى المعاني ، فلا يوجد إلّا هذا المركب الثلاثي.

وحينئذ ، إمّا أن يقال بأن المشتق موضوع لهذا المركب الثلاثي ، وصاحب الكفاية لا يقول بذلك ، وإمّا أن يقال بأن المشتق موضوع لمفهوم بسيط منتزع من هذا المركب وفي طوله ، إذن فهذا المفهوم غير موجود.

وبرهان ذلك هو : أنه لو كان قيام المبدأ بالذات يوجب دائما انتزاع عنوان بسيط من الذات في حال تلبسها بالمبدإ للزم التسلسل في الأمور

٢١١

الانتزاعية ، لأن هذا العنوان البسيط المنتزع ، هو بنفسه حدث من الأحداث ومبدأ من المبادئ ، غايته أنه من المبادئ الانتزاعية ، فإن المبادئ بعضها مبادئ حقيقية وبعضها مبادئ انتزاعية ، إذن فيلزم من ذلك ، انتزاع العقل مفهوما ثالثا في طول ذلك من الذات. بلحاظ تلبسها بنفس هذا العنوان البسيط ، وأيضا ينتزع العقل مفهوما رابعا في طول ذلك ، وهكذا حتى يتسلسل الأمر الانتزاعي.

فإن قيل بأن التسلسل في الأمور الانتزاعية محال ، إذن فهذا تسلسل محال ، وأن قيل أنه ليس بمحال ، إذن فهو على كل حال خلاف الوجدان ، فهو قاض بأن العقل عاجز عن انتزاع مفاهيم إلى غير النهاية.

فهذا منبّه إلى ما هو الثابت وجدانا ، من أنه لا يوجد مفهوم بسيط انتزاعي في طول المركب الثلاثي ، وإنما توهّم ذلك باعتبار الألفاظ ، لأنه وجد لفظ «عالم» وراء لفظ «زيد» ولفظ «علم» فتخيّل أن لفظة «عالم» تدل على مفهوم في طول مفهوم «زيد» ومفهوم «العلم» ، بينما بقطع النظر عن الألفاظ والالتفات إلى المعاني ، لا يوجد إلّا المركب الثلاثي من ـ الذات والحدث والنسبة ـ ، وعلى هذا ، فإن قيل بأن المشتق موضوع للمركّب الثلاثي ، إذن فقد قال بالتركيب ، وإن قيل بإن المشتق موضوع للحدث فقط ، إذن فهذا رجوع إلى كلمات الميرزا ، إلى أن مفهوم المشتق والمصدر واحد سنخا.

ثانيا : إن إشكالات المحقق الشريف كما سوف تأتي ، لو كان لها محصّل وكانت تبرهن على عدم أخذ الذات في المشتق ، فهي تبرهن أيضا على عدم أخذ عنوان بسيط منتزع عن الذات ، لأن هذا العنوان البسيط المنتزع هو في طول الذات لا محالة ، ومتقوم بالذات من باب تقوم العنوان الانتزاعي بمنشإ انتزاعه ، فإذا كان هذا العنوان البسيط المنتزع عن الذات مقوما للمشتق ، فيلزم من ذلك مقوّمية الذات للمشتق بالتبع أيضا ، فترد إشكالات المحقق الشريف في المقام أيضا.

ثالثا : لو سلّم أن هذا العنوان البسيط المنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها

٢١٢

بالمبدإ ، هو مدلول المشتق ، ويصح حمله على الذات ، ولكن ما هو ملاك صحة هذا الحمل؟.

فإمّا أن يقال ، بأن العنوان البسيط متحد وجودا مع الذات لأنه أمر انتزاعي ، والأمور الانتزاعية متحدة وجودا مع مناشئ انتزاعها ، فصحّ حمله بملاك الاتحاد.

وإمّا أن يقال ، بأن الأمور الانتزاعية مغايرة وجودا مع مناشئ انتزاعها.

فعلى الأول ، يلزم صحة حمل المبادئ الانتزاعية للمشتقات على الذات ، فيقال مثلا ، الإنسان إمكان ، والأربعة زوجية باعتبار أن الإمكان منتزع من الإنسان ، والزوجية منتزعة من الأربعة ، مع أنه لا إشكال في عدم صحة حملها على الذات.

وعلى الثاني فإن قلتم بأن الزوجية والإمكان والأمور الانتزاعية مغايرة وجودا مع مناشئ انتزاعها إذن فكيف أن هذا العنوان البسيط المنتزع عن الذات كان غير آب عن الحمل على الذات! ، إذن فلا بدّ من إبراز ملاك للحمل. يتعقّل بموجبه حمل هذا العنوان البسيط ، ولا يتعقّل حمل سائر المبادئ الانتزاعية للمصادر ، ولا يكفي دعوى أن المشتق سنخ مفهوم بذاته ، يقبل الحمل لأنه عنوان بسيط انتزاعي ، وإلّا لصحّ حمل المبادئ الانتزاعية أيضا كالإمكان والزوجية على مناشئ انتزاعها ، مع أنه لا يصح حملها بلا إشكال ، فلا بدّ من بيان نكتة تقتضي صحة حمل المشتق على الإطلاق ، وعدم صحة حمل المصدر على الإطلاق ، سواء كان المصدر عرضا حقيقيا كالبياض ، أو أمرا انتزاعيا كالإمكان.

٢١٣

القول الثالث

هو القول بأن المشتق بمادته موضوع لذات الحدث ، وبهيئته موضوع للنسبة من دون أخذ الذات فيه.

وهذا القول هو ظاهر كلمات المحقق العراقي (١) (قده) على ما في تقريرات بحثه ، وخلاصة ما يستفاد منه في مقام الاستدلال على هذا المدّعى ، هو الاستقراء ، بأن يقال ، بأن من يستقرئ الهيئات في اللغة ، يجد أنها موضوعة لمعان حرفية لا اسمية ، سواء هيئة المصدر ، أو هيئة الفعل ، فبهذا الاستقراء يثبت أن هيئة فاعل ليست موضوعة للذات ، وإلّا لكانت مفهوما اسميا ، لأن الذات مفهوم اسمي ، فلا بدّ من فرض كون هيئة فاعل موضوعة للنسبة القائمة بين الذات والمبدأ ، وأمّا الذات فغير مدلول عليها بالهيئة ولا المادة ، لأن المادة تدل على الحدث والهيئة تدل على معنى حرفي ، وهو النسبة ، والذات ليست دخيلة في مدلول الهيئة ولا في مدلول المادة.

وقد أثار (قده) ، مشكلة في المقام ، وهي إنه بناء على عدم أخذ الذات في المشتق ، إذن فكيف يتصور تصحيح الحمل؟. ففي قولك «الضاحك عالم» ليس المراد أن الضحك «علم» ، وإنما المراد ، أن الذات المتصفة بالضحك ذات متصفة بالعلم ، فإذا لم تكن الذات مأخوذة في مدلول عالم ، ولا في مدلول

__________________

(١) بدائع الأفكار / الآملي : ج ١ ص ١٧٠.

٢١٤

ضاحك ، وكان «عالم وضاحك» يدل على الحدث مع النسبة ، إذن يكون مفاد قولك «ضاحك عالم» «العلم ضحك» ، مع أن هذا ليس هو المقصود ، وليس صحيحا في نفسه ، لعدم الاتحاد بين العلم والضحك ، إذن فكيف يمكن حمل المشتق على الذات مع أنه لا اتحاد بينهما؟.

وقد أجاب (قده) على هذا الإشكال بجوابين :

الجواب الأول :

وحاصله ، أن الذات وإن لم تكن مأخوذة في مدلول المشتق ، لكنها مدلول عليها بالدلالة الالتزامية ، لأن هيئة «عالم» ، تدل بالدلالة المطابقية على النسبة ، وحيث أن النسبة لا يعقل تصورها بدون تصور طرفيها بل هي ملازمة مع طرفيها ، فتكون هيئة المشتق لا محالة ، دالة بالالتزام على الذات أيضا ، فالذات مدلول لكلمة «عالم وضاحك» بالدلالة الالتزامية ، وهذا يكفي في تصحيح الحمل.

وهذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه لأمرين :

أولا : من الواضح أن الحمل في قولنا «الضاحك عالم» ، إنما هو بلحاظ المدلول المطابقي للكلمة ، لا بلحاظ المدلول الالتزامي ، وإلّا لجرى نفس الكلام في المصدر أيضا بناء على مختاره هو نفسه وغيره من المحققين ، من أن النسبة الناقصة التقييدية مأخوذة في مفاد المصدر ، إذن أيضا ، يكون لهيئة المصدر دلالة التزامية على الذات ، لأن النسبة لا يتعقّل انفكاكها عن طرفيها ، وعلى هذا ، لو كانت الدلالة الالتزامية كافية في تصحيح الحمل ، إذن لصحّ حمل المصدر على المصدر أيضا ، فيصح أن تقول «الضحك علم». بلحاظ الدلالة الالتزامية ، مع أن هذا غير صحيح بلا إشكال.

ثانيا : لو سلّم أن الدلالة الالتزامية في هيئة المشتق تدل على تصور الذات ، ولكن هل تدل على تصور الذات بنحو الركنية ، أي بنحو تكون الذات هي المقيّد ، أو بنحو تكون هي القيد؟. فإن في المقام صورتين. فتارة نتصور

٢١٥

ذاتا مقيّدة بالعلم ـ ذات لها العلم ولها الضرب ـ ، وأخرى نتصور علما وضربا مستندا إلى الذات ، أي علما للذات ، فيكون العلم هو المقيّد ، والذات هي القيد.

وصحة الحمل في قولنا «العالم ضاحك» ، موقوف على تصور الذات في طرف الموضوع والمحمول. بنحو المقيّد لا بنحو القيد ، بمعنى أن نتصور ذاتا لها العلم ، وذاتا لها الضحك ، حتى يرجع قولنا إلى «ذات لها العلم هي ذات لها الضحك» فيصبح هذا القول أمرا معقولا ، وأمّا إذا أخذت الذات قيدا ، والحدث مقيّدا ، إذن رجع قولنا إلى «علم ذات ضحك ذات» وهذا غير معقول فلا يصح الحمل.

والدلالة الالتزامية على تقدير ثبوتها في المقام ، لا تدل على الصورة الأولى ، فلا تقتضي إعطاء صورة «ذات لها العلم» ، لأن ملاك هذه الدلالة الالتزامية ، إنما هو دعوى ، أن النسبة لا يمكن تعقلها بلا طرفين ، أمّا أنه كيف يتعقّل طرفاها ، وهل يجعل هذا الطرف قيدا وذاك مقيدا أو بالعكس؟ ، فكلاهما معقول ، فيمكن أن يقال ذات لها العلم أو علم له الذات ، إذن فاستفادة الذات بنحو تكون مقيّدا ، وهو ما نسميه بنحو الركنية بحيث تكون هي الركن في جانب المحمول وهي الركن في جانب الموضوع ، فهذا ممّا لا يمكن أن يتحصّل من الدلالة الالتزامية في المقام ، وعليه فتصحيح الحمل بلحاظ استفادة الذات بالدلالة الالتزامية غير صحيح ، وجواب المحقق العراقي على المشكل غير تام.

الجواب الثاني :

وهو دعوى أن النسبة التي هي مدلول المشتق في «عالم» ، لو كانت من قبيل النسب الحلولية والصدورية ، لاستدعت لا محالة ، المغايرة بين المبدأ والذات ، لأن النسبة الحلولية لشيء في شيء ، مساوقة لكونهما شيئين متغايرين ، تقوم بينهما نسبة الحلول ، وكذلك النسبة الصدورية بين شيء وشيء ، فرع مغايرتهما ، فلو كان المأخوذ في هيئة «عالم» هو النسبة الحلولية ،

٢١٦

أو النسبة الصدورية ، إذن لامتنع الحمل ، ولكن هذه النسبة ليست من هذا القبيل ، بل هي النسبة الاتحادية كما عبّر عنها العراقي (قده) بمعنى أن الاتحاد بين «العلم وزيد» تارة يعبّر عنه بمفهوم اسمي ، فيقال ، اتحاد ، وأخرى يعبّر عنه بمعنى حرفي ، فيطلق عليه اسم النسبة الاتحادية. عينا ، كما هو الحال في «ظرفية الرجل في الدار» فتارة يعبّر عنه بمفهوم اسمي ، فيقال ظرفيه ، وأخرى يعبّر عنه بمفهوم حرفي ، فيقال الرجل في الدار. فالاتحاد هنا بين «العلم وزيد» ، تارة يلحظ بنحو المفهوم الاسمي فيعبّر عنه بالاسم ، وأخرى يلحظ بنحو المعنى الحرفي فيعبّر عنه بهيئة «عالم» ، فهيئة «عالم» ، موضوعة للاتحاد بين «العلم وزيد» ، لكن الاتحاد الملحوظ ، بنحو المعنى الحرفي لا بنحو المعنى الاسمي.

وهذا الجواب لا محصّل له ، لأن مجرد وجود دال في الكلام على الاتحاد ، بين المبدأ والذات ، بنحو المعنى الحرفي أو بنحو المعنى الاسمي ، لا يكفي لتصحيح حمل المبدأ على الذات ، فإن الحمل فرع وقوع الاتحاد حقيقة ووجودا بين المبدأ والذات ، لا فرع وجود دال على الاتحاد في الكلام ، فإن مجرد وجود الدال على الاتحاد لا يحقّق ملاك الحمل الذي هو الاتحاد. حقيقة ووجودا. مع فرض تغاير المبدأ والذات مفهوما وخارجا ، فكون مدلول هيئة المشتق عبارة عن النسبة الاتحادية لا يجدي ، إلّا في جعل الاتحاد مدلولا للكلام ، بينما ملاك صحة الحمل ، ليس هو ذلك ، بل هو الاتحاد حقيقة ، فإن كان الاتحاد بين المبدأ والذات موجودا حقيقة ، فالحمل صحيح ، سواء وجد دال على الاتحاد ولو بنحو المعنى الحرفي ، أو لم يوجد ، وإن كان الاتحاد غير ثابت وكان المحمول مغايرا للموضوع مفهوما ووجودا ، فالحمل غير صحيح ، سواء وجد دال على الاتحاد أو لو يوجد ، ففرض كون النسبة المأخوذة في مفاد هيئة «عالم» نسبة اتحادية ، لا يدفع المشكلة ، وهي مشكلة تصحيح الحمل ، بل تبقى واردة على هذا القول ، ولا يمكن دفعها بكلا الجوابين المذكورين.

٢١٧

أضف إلى ذلك ، أنه يرد على هذا القول الثالث ، ما أورده المحقق النائيني (١) في القول الأول ، على أخذ النسبة في مدلول المشتق ، بدعوى أن النسبة إذا كانت مأخوذة من دون الذات في مدلول هيئة المشتق فيلزم تقومها بطرف واحد (٢) وهو الحدث ، مع أن النسبة متقومة بطرفين ، فلا يعقل تقومها بطرف واحد ، وهذا الكلام أصلحناه سابقا ، وقلنا ، أنه ينبغي أن يكون مراد الميرزا ، هو أن النسبة في مرحلة مدلول الكلام. يجب أن تكون متقومة بطرفين ، لا في نفس الأمر والواقع ، وإلّا لكان الكلام ناقصا في قولنا «رأيت ضاربا» لأن «ضاربا» دلّت على حدث ونسبة ، ولا دال في الكلام على الذات ، فتكون النسبة متقومة بطرف واحد ، لا في الأمر والواقع ، بل في مرحلة مدلول الكلام ، وهذا يلزم منه نقصان الكلام ، وهو خلاف الوجدان ، لأن «ضاربا» سنخ معنى لا يحتاج إلى متمم لنقصانه. كما هو الحال في «ضرب» ، لأنه يدل على الحدث والنسبة ، ولا يدل على الطرف الآخر للنسبة ، فلهذا يحتاج إلى الفاعل دائما ، فيقال «ضرب زيد» ، وأمّا في قولنا «رأيت ضاربا» فهنا «ضارب» معنى تام في نفسه فلا يتوقف إتمامه إلى ضم شيء إليه ، وهذا معناه أن النسبة إمّا غير مأخوذة أصلا ، وإمّا مأخوذة مع كلا طرفيها ، إذن فالقول الثالث ممّا لا محصّل له.

__________________

(١) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) أجود التقريرات / ج ١ ص ٧٢ هامش ٦٦ ـ ٦٧.

٢١٨

القول الرابع

وهذا القول هو المسمّى بالتركب ، أي بتركب المفهوم الاشتقاقي في مقابل القائلين بالبساطة ، ومفاد هذا القول أن مدلول هيئة المشتق هو النسبة مع الذات ، بمعنى أن «عالم» موضوع لشيء له العلم.

والكلام في هذا القول يقع في مقامين ، فتارة يتكلم في المدّعى ، دليلا وبرهانا على هذا القول ، وأخرى يتكلم في المدّعى ، برهانا على نقض وإبطال هذا القول.

المقام الأول :

وحاصل برهان أصحاب هذا القول هو ، أن مفهوم المشتق لا بد وأن يكون مغايرا لمفهوم المصدر ، ولا يعقل أن يكون مفهوم «عالم» هو عين مفهوم «علم» ، لأن «علم» لا يصح حمله على الذات ، وهو برهان المغايرة ، «وعالم» يصح حمله على الذات وهو برهان الاتحاد ، والمغاير غير المتحد ، فيستحيل أن يكون مفهوم «عالم» و «علم» شيئا واحدا ، وإلّا لاستحال أن يتصف تارة بصحة الحمل ، وأخرى بعدم صحته ، فإذن لا بدّ وأن يكون المصدر وهو «العلم» موضوعا لذات الحدث ، وذات الحدث مغاير وجودا مع زيد ، وهيئة المشتق موضوعة لشيء له الحدث ، والشيء الذي له الحدث هو

٢١٩

عين زيد ، وبهذا يثبت الالتزام بأخذ الشيء في مفهوم «عالم» ، حتى يكون حمله معقولا وصحيحا على «زيد».

وقد انقدح بما ذكرناه في تنقيح تفسير المحقق النائيني للشرطلائية واللابشرطية ، إمكان انحفاظ مفهوم واحد يطرأ عليه لحاظان ، بحيث بأحدهما يصح حمله ، وبالآخر لا يصح ، وقد بيّنا ذلك بمثال الشيء مع الشيئية ، فإن الشيء لا يزيد بشيء على الشيئية أصلا ، ومع هذا يصح حمل الشيء على الذات فيقال «زيد شيء» ولا يصح حمل الشيئية على الذات فلا يقال «زيد شيئية» ، فهذا برهان على تعقل إمكان انحفاظ مفهوم واحد ، بحيث بالمنظار الجمعي هو شيء واحد ، فيصح حمله على الذات ، وبالمنظار التحليلي هو شيئان متغايران ، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر ، فما ذكرناه سابقا يكون إشكالا على برهان أصحاب هذا القول الرابع.

ولكن تحقيق الكلام في هذا المقام هو ، أنه بنظرة دقيقة وواقعية ، قد لا يكون البرهان المقام ، دليلا على القول الرابع تاما في شيء من المشتقات أصلا ، وذلك أن المشتقات المحمولة على الذوات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام.

القسم الأول : هو المشتق الذي يكون مبدؤه أمرا ذاتيا في كتاب الكليّات ، يعني نوعا أو جنسا أو فصلا من قبيل «زيد إنسان» ، فإن الإنسانية التي هي المصدر الجعلي لإنسان ، من الذاتيات في كتاب الكليات ، لأنه نوع لزيد ،

القسم الثاني : هو المشتق الذي يكون مبدؤه ذاتيا في كتاب البرهان. وأمرا لازما للذات. ويكفي نفس وضع الذات لانتزاعه منها بلا حاجة إلى ملاحظة أمر خارجي ، من قبيل «زيد شيء» ، فإن الشيئية التي هي المصدر الجعلي لكلمة «شيء» ، هي ذاتي لزيد في كتاب البرهان.

القسم الثالث : هو المشتق الذي يكون مبدؤه أمرا عرضيا ، بحيث يحتاج

٢٢٠