بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

الناحية الثانية

الناحية الثانية ، وهي تأسيس الأصل بلحاظ المسألة الفقهية ، فالكلام فيها يقع في جهتين ، فتارة بلحاظ جريان الأصل الموضوعي ، وأخرى بلحاظ جريان الأصل الحكمي.

الجهة الأولى :

قد يقال في هذه الجهة بجريان الاستصحاب فيما إذا وقع المستصحب موضوعا لأثر شرعي ، كما لو فرض أن زيدا كان متلبسا بالعلم ثم انقضى عنه المبدأ ، فيقال بأن زيدا كان يعلم بكونه عالما ، ويشك في بقاء عالميته ، فيستصحب بقاء هذا العنوان وهو عنوان «عالم» ، وهذا الاستصحاب يسمّى بالاستصحاب في الشبهة المفهومية ، لأن مفهوم «عالم» مجمل ، ومردّد بين خصوص المتلبّس أو الأعم من المتلبّس وممّن انقضى عنه المبدأ ، فالشبهة والإجمال إنما هو في المفهوم والعنوان ، ولهذا يسمّى الاستصحاب بالاستصحاب في الشبهة المفهومية.

والتحقيق ، هو عدم جريان الاستصحاب ، وتوضيح ذلك أن في المقام أمور ثلاثة.

الأمر الأول : مقطوع الارتفاع وهو التلبس بالمبدإ فإن زيدا يقطع بارتفاع تلبسه بالعلم وفعليته.

١٤١

الأمر الثاني : مقطوع البقاء وهو الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه التلبس ، وهو كون زيد ممّن علم.

الأمر الثالث : مشكوك البقاء ، فهو ليس معلوم الارتفاع ولا معلوم البقاء ، وهو مدلول كلمة «عالم» ، فلا يدرى هل أنها تدل على مقطوع الارتفاع ، أو على مقطوع البقاء ، فمن هنا يشك في مدلولها بما هو مدلول ، فهل هو باق أو مرتفع ، فإن كان المدلول هو الأول فهو معلوم الارتفاع ، وإن كان هو الثاني فهو معلوم البقاء ، وحيث لا يدرى هل هو الأول أو الثاني إذن فالمدلول مشكوك البقاء.

وإجراء الاستصحاب في هذه الأمور متعذر ، أما إجراؤه في الأمر الأول وهو التلبس الفعلي فهو غير ممكن ، لوضوح أن التلبس الفعلي مقطوع الارتفاع ، إذ لا شك ببقاء العلم مع القطع بارتفاعه ، وأما إجراؤه في الأمر الثاني وهو الجامع فهو أيضا متعذر لأن الجامع مقطوع البقاء ، إذ لا شك بالبقاء ليجري الاستصحاب.

وأما الأمر الثالث ، فقد يتوهم بأنه مجرى للاستصحاب ، فيقال ، بأن مدلول اللفظ ، إن كان هو المتلبّس فهو مرتفع ، وإن كان الأعم فهو باق ، إذن فيشك في بقاء المدلول وارتفاعه ، فيجري الاستصحاب في مدلول اللفظ.

لكن هذا غير صحيح ، لأن الشك وإن كان فيما هو مدلول اللفظ ، لكن المدلول بهذا العنوان ليس موضوعا للحكم الشرعي ، فإن الحكم ليس مترتبا على عنوان مدلول اللفظ بحيث لو لم يكن هناك لفظ لتعطلت الأحكام الشرعية ، بل الحكم متوقف على واقع مدلول اللفظ وما هو بالحمل الشائع مدلول اللفظ ، يعني على المتلبس أو على الأعم ، فعنوان مدلول اللفظ ليس دخيلا في الحكم الشرعي أصلا ، لأن الأحكام تابعة لموضوعاتها الواقعية بقطع النظر عن كونها مدلولة للفظ ، نعم دلالة اللفظ طريق إلى تشخيص ما هو

١٤٢

الموضوع وما هو المعنى لا أنها قيدا في الموضوع ودخيلة في ترتب الحكم الشرعي على موضوعه.

إذن فلا مجرى للاستصحاب في المقام ، وفيه يتعذر إجراء الاستصحاب الموضوعي.

الجهة الثانية

والكلام في هذه الجهة يدور حول تشخيص الأصل الحكمي.

وفي تشخيص هذا الأصل ، تارة نفرض أن التكليف قد تعلق بصرف الوجود كما إذا قال «أكرم عالما» ، وأخرى نفرض أن التكليف قد تعلق بمطلق الوجود ، كما إذا قال «أكرم كل عالم» ، فهنا فرضيتان.

الفرضية الأولى :

فيما إذا تعلق التكليف بصرف الوجود ، يقع الكلام في مقام الامتثال ، فهل يجزي إكرام الذي كان متلبسا بالعلم وانقضى عنه المبدأ ، أو لا بدّ من إكرام من هو متلبس بالعلم بالفعل؟ ، فبحسب الحقيقة الأمر هو من باب الدوران بين التعيين والتخيير في الشبهة الحكمية ، لأن الوجوب هنا دائر بين أن يكون وجوبا تخييريا ، بين من انقضى عنه العلم ، وبين الذي لا يزال لديه علم ، أو يكون وجوبا تعيينيا مخصوصا بخصوص الذي لا يزال لديه علم ، فالأمر دائر بين التخيير والتعيين ، وفي مثل ذلك يتعين القول بأصالة البراءة عن التعيين.

وتوضيح ذلك ، أننا تارة نفرض أن الجامع الأعمي مع المتلبس نسبتهما نسبة الأقل والأكثر ، يعني أن الجامع الأعمي محفوظ في ظل المتلبس ، والمتلبس يزيد عليه بزيادة ، بحيث أن النسبة بينهما كالنسبة بين «رقبة» ، ورقبة مؤمنة ، فكما أن أصل «الرقبة» محفوظة في الرقبة المؤمنة مع زيادة خصوصية الإيمان ، فكذلك أصل الجامع الأعمي محفوظ في المتلبّس مع خصوصية زائدة وهي فعلية التلبس ، إذن فالأمر بينهما من باب الأقل والأكثر في عالم

١٤٣

الوجوب والواجب ، لأن الجامع محط للوجوب ، إمّا وحده أو مع ضم خصوصية التلبس ، إذن فوجوب إكرام الجامع معلوم ، وتقيّده بالخصوصية الزائدة مشكوك ، فتجري البراءة عن الزائد.

وتارة أخرى نفرض أن الجامع الأعمي مع المتلبس مفهومان متباينان في عالم المفهومية وإن كان بحسب عالم الصدق بينهما عموم وخصوص مطلق ، فكل منها طارد ومقابل للآخر ولا يكون أحدهما محفوظا في ضمن الآخر ، فالأمر من باب الدوران بين المتباينين بلحاظ عالم عروض الوجوب ، لكن بحسب عالم الكلفة التي هي نتيجة الوجوب ، يكون الأمر دائرا بين الأقل والأكثر ، لان كلفة وجوب الجامع الأعمي أقل من كلفة وجوب خصوص المتلبس. باعتبار أن دائرة صدق الجامع الأعمي وأفراده أوسع من دائرة صدق المتلبس وأفراده ، فيصير الحال من دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الكلفة ، لا في الوجوب ، والمختار في الدوران بين الأقل والأكثر جريان البراءة ، سواء كان الدوران في عالم عروض الوجوب ، أو في عالم الكلفة التي هي نتيجة الوجوب ، إذن فهنا تجري البراءة عن وجوب إكرام خصوص المتلبس وعلى هذا يجتزأ بإكرام الشخص المنقضي عنه المبدأ.

الفرضية الثانية :

وهي فيما إذا تعلق التكليف بمطلق الوجود كما إذا قال «أكرم كل عالم» وانقضى المبدأ عن بعض الأفراد ، فيقع الكلام في تشخيص الأصل الحكمي الجاري في هذه الفرضية ، وقد فصّل صاحب الكافية (١) في هذه الفرضية بين صورتين.

الصورة الأولى ، فيما إذا كان الحكم قد حدث بعد انقضاء المبدأ.

الصورة الثانية ، فيما إذا كان الحكم قد حدث قبل انقضاء المبدأ. ففي

__________________

(١) المشكيني / كفاية الأصول : ج ١ ص ٢١.

١٤٤

الصورة الأولى يكون الشك شكا في حدوث الوجوب بالنسبة لمن انقضى عنه المبدأ ، فتجري البراءة عن الوجوب ، وأما في الصورة الثانية ، فالشك يكون في بقاء الوجوب بعد العلم بتعلقه فيمن انقضى عنه المبدأ ، فيجري استصحاب الوجوب. ولنا تعليقان على هذين المطلبين في كلتا الصورتين.

أما الصورة الأولى وهي فيما إذا كان حدوث الحكم بعد انقراض المبدأ ، فينبغي التفصيل فيها بين حالتين.

الحالة الأولى : أن يكون أصل جعل الوجوب قد حدث بعد انقراض المبدأ ومتأخرا عن الانقضاء ، من قبيل أن نفرض أن زيدا كان متلبسا بالعلم إلى يوم الجمعة ثم زال عنه العلم يوم السبت ، وفي يوم الأحد صدر من المولى جعل وجوب إكرام «العالم» ، فأصل الجعل لم يكن موجودا بل كان متأخرا عن الانقضاء.

الحالة الثانية : أن يكون أصل الجعل موجودا ، ولكن المجعول لم يكن فعليا لتوقفه على شرط ، كما لو فرضنا أن المولى قد جعل من أول الأمر وجوب إكرام «العالم» ، لكن مقيدا بمجيء شهر رمضان ، وقد زال العلم عن زيد قبل مجيء هذا الشهر ، فالوجوب بلحاظ الجعل ثابت من أول الأمر ، ولكن المجعول لم يصبح فعليا إلّا بعد زوال المبدأ عن زيد لأن المجعول منوط بمجيء شهر رمضان وقد زال المبدأ قبل مجيئه.

ففي الحالة الأولى ، الأمر كما ذكر صاحب الكفاية ، فإن الشك شك في أصل الجعل ، فتجري البراءة أو استصحاب عدم الوجوب بالنسبة لمن انقرض عنه المبدأ سابقا على أصل الجعل.

وأما في الحالة الثانية ، فقد يقال بإمكان إجراء الاستصحاب التعليقي لإثبات وجوب إكرام من انقضى عنه المبدأ قبل دخول الشهر الذي هو قيد لفعلية المجعول بناء على مسلك صاحب الكفاية. وما نوافق عليه في الجملة في بحث الاستصحاب من جريان الاستصحاب التعليقي ، فإنه يمكن أن يقال

١٤٥

في المقام باستصحاب هذه القضية المشروطة المعلقة ، وهي أنه لو كان قد دخل شهر رمضان قبل زوال المبدأ لوجب إكرام زيد ، فإن هذه القضية بما هي مشروطة ومعلّقة كانت ثابتة في حق زيد عند ما كان متلبسا بالعلم ، وبعد ارتفاع المبدأ عنه يشك بأن هذه القضية المشروطة ، هل ما زالت باقية أو أنها ليست باقية فيجري استصحاب بقاء هذه القضية فيثبت بذلك وجوب إكرام زيد إذا دخل شهر رمضان ، بناء على جريان الاستصحاب التعليقي وإجرائه في القضايا المشروطة كإجرائه في القضايا التنجيزية.

إذن فالصحيح في الحالة الأولى ، هو التفصيل بين هاتين الحالتين ، ففيما إذا كان أصل الجعل متأخرا عن ارتفاع المبدأ لا يجري الاستصحاب في القضية المشروطة ، حيث لا قضية مشروطة لعدم الجعل رأسا ، وأمّا إذا كان أصل الجعل صادرا من أول الأمر. ولكنه بنحو القضية المشروطة المعلقة على دخول شهر رمضان ، فيجري استصحاب الوجوب بنحو القضية المشروطة ولا يصل الأمر إلى أصالة البراءة لحكومة الاستصحاب على أصالة البراءة.

وأمّا الحالة الثانية وهي التي ذكرها صاحب الكفاية (١) حيث يكون ارتفاع المبدأ بعد شمول الحكم وفعليته لزيد ، فهل يجري في حقه استصحاب وجوب الإكرام؟. تمسّك صاحب الكفاية باستصحاب الوجوب ، وهذا الاستصحاب استصحاب تنجيزي لا تعليقي. وقد استشكل السيد الأستاذ (٢) في إجراء هذا الاستصحاب باستشكالين.

الإشكال الأول : أن هذا الاستصحاب استصحاب في الشبهة الحكمية لأن الشك في بقاء الوجوب إنما هو من جهة إجمال المفهوم ، وتردد الحكم المجعول بين أن يكون شاملا لحال الانقضاء أو مخصوصا بحال التلبس ، فالشبهة إذن شبهة حكمية ، والاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية

__________________

(١) المشكيني / كفاية الأصول : ج ١ ص ٢١.

(٢) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٧٠.

١٤٦

كلية ، وإنما يجري في الشبهات الموضوعية على مبناه.

وهذا الاستشكال جوابه مبنائي ، فإن التحقيق يقتضي جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وفاقا لمشهور المحققين ، كما يجري في الشبهات الموضوعية ، فلا مانع من هذه الناحية من إجراء الاستصحاب في الشبهة الحكمية.

الاستشكال الثاني : أنه لو سلمنا بأن الاستصحاب يجري في الشبهة الحكمية ، لكن لا يجري في المقام لعدم إحراز بقاء الموضوع مع أنه يشترط في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ووحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة موضوعا ومحمولا ، وذلك ، لأنه في المقام ، إن كان موضوع الحكم الشرعي في وجوب الإكرام هو المتلبس بالفعل ، إذن فهو مرتفع وغير محفوظ بقاء ، وإن كان هو الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه المبدأ ، إذن فهو باق ومحفوظ بقاء ، إذن فلم نحرز وحدة الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ، فلا يجري الاستصحاب ، ولهذا نلتزم بعدم جريان الاستصحاب الحكمي في تمام الشبهات المفهومية ، لأن الإجمال في المفهوم يوجب عدم إحراز موضوع الحكم بقاء.

ولكن يقال في المقام ، بأن الشبهة المفهومية حقيقة لا تختلف عن سائر الشبهات الحكمية الأخرى ، فهناك إشكال عام أورد على إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وهو مسألة عدم إحراز الموضوع ، فمثلا نشك في بقاء النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال التغير بنفسه ، فهذه شبهة حكمية ، وأشكل على جريان الاستصحاب هنا ، بأن الشك في بقاء الحكم نشأ من ناحية التردد في موضوع الحكم ، فإن كان موضوع الحكم هو الماء المتصف فعلا بالتغير ، إذن فالموضوع غير باق ، لأن هذا الماء غير متصف فعلا بالتغير ، وإن كان الموضوع هو الماء الذي حدث فيه التغير ، فهذا ماء قد حدث فيه التغير ، فالموضوع محفوظ بقاء ، إذن فلم يحرز انحفاظ الموضوع في القضية المتيقنة وفي القضية المشكوكة معا.

١٤٧

وأجاب الأعلام والسيد الأستاذ (١) على هذا الإشكال بأن الحيثية المحتمل دخلها في الحكم وهي حيثية التغير ، وإن كانت مرتفعة وغير محفوظة في القضية المشكوكة ، لكنها حيثية تعليلة وليست تقيدية ، فقد قسّموا الحيثيات الدخيلة في موضوع الحكم إلى قسمين ، فقسم من الحيثيات دخيل في الموضوع على وجه الركنية بحيث يتعدد الموضوع بتغايرها ، والقسم الثاني حيثيات تعليلية وليست ركنية بحيث لا يتعدد الموضوع بتغايرها ، إذن فالتغير مثلا حيثية تعليلية ولا يتعدد الموضوع بتغايره ، فلهذا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وهذا الكلام يجري حرفا بحرف في الشبهات المفهومية أيضا ، ففي المقام ، التلبّس بالعلم كالتغير ، فكما أن الشك في بقاء النجاسة في الماء المتغير كان ناشئا من تردد الموضوع بين ما هو مرتفع قطعا وبين ما هو باق قطعا ، كذلك الشك في بقاء وجوب الإكرام بعد ارتفاع التلبس الفعلي ، يكون ناشئا من تردد الموضوع بين ما هو مرتفع قطعا وبين ما هو باق قطعا ، لأن الموضوع إن كان هو الجامع فهو باق ، وإن كان هو خصوص المتلبس فهو مرتفع ، إذن فلا بدّ من النظر إلى هذه الخصوصية المرتفعة وهي خصوصية التلبّس ، فإن كانت من الحيثيات التعليلية بنظر العرف بحيث لا يتعدّد الموضوع ولا يتغاير بتغايرها ، إذن فيجري الاستصحاب ولا يقدح زوالها لأن انحفاظ الموضوع إنما هو بالحيثيات التقيدية الركنية كما كان يجري الاستصحاب في نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره ، وإن كانت هذه الخصوصية حيثية تقيدية وركنية فلا يجري الاستصحاب ، سواء كانت الشبهة مفهومية أو حكمية غير مفهومية.

فالمناط إذن في جريان الاستصحاب هو تشخيص الحيثية المرتفعة المحتمل دخلها في موضوع الحكم ، فإن كانت حيثية تعليلية جرى الاستصحاب سواء كانت الشبهة مفهومية أو حكمية غير مفهومية ، وإن كانت

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

١٤٨

حيثية تقيدية لا يجري الاستصحاب الحكمي سواء كانت الشبهة مفهومية أو حكمية غير مفهومية ، فلا نتعقل فرقا بين الشبهة المفهومية الحكمية والشبهة الحكمية غير المفهومية من هذه الناحية ، فالصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) من بقاء وجوب الإكرام بينما السيد الأستاذ (٢) منع من هذا الاستصحاب وأجرى البراءة.

ثم إن في المقام نكتة أخيرة ، وهي أنه لو فرضنا أن المكلف ابتلى بالفرضيتين ، بفرضية التكليف بنحو صرف الوجود ، وفرضية التكليف بنحو مطلق الوجود ، فقيل له في وقت واحد «أكرم عالما وأكرم كل عادل» فيتشكّل حينئذ علم إجمالي بإلزام مردّد ، وذلك لأن المشتق إن كان موضوعا لخصوص المتلبس ، إذن لا يكفي في مقام امتثال خطاب «أكرم عالما» أن يكرم زيدا المنقضي عنه العلم ، وإن كان المشتق موضوعا للأعم ، فيجب عليه أن يكرم خالدا المنقضي عنه مبدأ العدالة ، إذن فهو يعلم إجمالا بأنه إمّا أن لا يجوز له أن يمتثل خطاب «أكرم عالما» بناء على المتلبسي ، وإمّا أنه يجب عليه أن يكرم خالدا بناء على الأعمي ، وحينئذ إن قلنا على المختار بإجراء أصالة البراءة عن التعيين بالنسبة إلى زيد وبإجراء استصحاب بقاء الوجوب بالنسبة إلى خالد ، فالعلم الإجمالي منحل لأن أحد طرفيه مجرى للأصل المثبت للتكليف وهو استصحاب بقاء الوجوب ، والطرف الآخر مجرى للأصل النافي للتكليف وهو أصالة البراءة عن التعيين فيجري كلا الأصلين إذ لا تعارض بينهما ، لأنهما ليسا نافيين معا ، بل أحدهما نافي للتكليف والآخر مثبت له. وأما إذا قلنا بمبنى السيد الأستاذ (٣) بعدم جريان الاستصحاب بل بجريان البراءة ، فحينئذ تتعارض البراءة عن التعيين لغير زيد مع البراءة عن وجوب إكرام خالد ، فيكون العلم الإجمالي منجزا فيما إذا اجتمعت كلتا الفرضيتين في الفقه على مكلف واحد.

__________________

(١) كفاية الأصول / المشكيني : ج ١ ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٣) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

١٤٩

المقام الثاني

الكلام في هذا المقام يدور حول تنقيح الأدلة الواردة في هذا الباب ، حيث أن في المسألة أقوال ثلاثة. فهناك من قال بالوضع لخصوص المتلبس ، ومنهم من ذهب إلى الوضع للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ ، وهناك قول ثالث بالتفصيل ، بين بعض المشتقات وبعضها الآخر ، فبعضها موضوع لخصوص المتلبس ، وبعضها الآخر موضوع للأعم.

وقبل الدخول في الأدلة الواردة في المقام نقول بأن التدبّر في نفس المدّعى كاف للوصول إلى القول لخصوص المتلبس ، وبطلان مقالة الأعمي ، وذلك لأن الأعمي ، لا بدّ له من تصوير جامع معقول ، وقد تقدم في المقدمة الثالثة عدم معقولية الوجوه المذكورة لتصوير الجامع الأعمي إلّا وجهين منها.

الوجه الأول : أن يقال بدخول فعل الماضي في المشتق ، فضارب يعني من ضرب ، فعنوان «من ضرب» ، ينطبق على المتلبّس وعلى المنقضي عنه المبدأ ، وهذا الوجه هو المختار.

الوجه الثاني : أن يقال بأن الجامع هو الذات الغير متلبسة فعلا بالعدم الأزلي للمبدا.

وبالتأمل في هذين الجامعين ، حيث تنحصر مقالة الأعمي بأحدهما ، يتبين بأن هذه المقالة لا تقبل التصديق فيتعين القول بالوضع لخصوص

١٥٠

المتلبس ، لأن كلا هذين الجامعين مما لا يمكن المساعدة عليه بحسب الوجدان العرفي.

فأمّا الجامع الثاني الذي هو الذات الغير متلبسة فعلا بالعدم الأزلي ، فمن الواضح عدم عرفيته لأنه سنخ مفهوم يحتاج تصوره ثبوتا إلى عناية كبيرة ، فضلا عن أن يكون هو مدلول كلمة «عالم أو ضارب» أو أن يكون هو المعنى الذي وضعه له الواضع واستعمله المستعمل وفهمه السامع إثباتا ، فحينما يقال «زيد عالم» لا يتبادر إلى الذهن العرفي نفي أمر عدمي تفصيلا ولا إجمالا ، بل المتبادر أمر ثبوتي صرف ، فهذا الجامع لا يصلح أن يكون جامعا عرفيا.

وأما الجامع الأول الذي هو عبارة عن أخذ فعل الماضي في المشتق ، وإن لم يكن غريبا في النظر العرفي لكنه يكذب مفهوميته وكونه مدلولا لكلمة عالم ، وذلك لأن هذا الجامع أخذ فيه الفعل الماضي على نحو الركنية فإذا قلنا «زيد عالم» يعني «من علم» ، فيلزم بناء على هذا أن يكون المبدأ حادثا في حق زيد قبل زمان الحكم لكي يصدق الفعل الماضي في زمان الحكم ، وأما إذا كان المبدأ حادثا في آن الحكم ، إذن فهو مفاد فعل المضارع ، وهذا على خلاف الوجدان العرفي ، فإنه شاهد على أنه متى ما صدق فعل المضارع صدق المشتق ، ولا يتوقف صدقه على صدق فعل الماضي ، بينما لو كان فعل الماضي دخيلا في المشتق ، فلا يكفي في صدق اسم الفاعل صدق المضارع ، بل لاحتاج إلى صدق فعل الماضي وإلى حدوث المبدأ آناً (ما) قبل زمان الحكم ، ومن اللوازم المترتبة على إدخال فعل الماضي في المشتق ، أنه في الحالات التي يكون فيها المبدأ آنيا وليس له بقاء أصلا ، من قبيل الضربة الواحدة ، فحينئذ نسأل أنه بلحاظ أيّ زمان وأيّ آن نحكم على زيد بأنه ضارب؟. فهل نحكم عليه بلحاظ آن حدوث المبدأ ، أو بلحاظ الآن الثاني؟. فإن قيل لحاظ آن حدوث المبدأ ، إذن فعل الماضي غير صادق بل الصادق هو فعل المضارع ، وهذا معناه أن فعل الماضي غير دخيل في مفاد المشتق ، وإن قيل بلحاظ الآن الثاني بعد حدوث المبدأ وبحسب الفرض أن المبدأ آني وغير

١٥١

قابل للبقاء والاستقرار ، إذن فعنوان «ضارب» لا يجوز إطلاقه حقيقة على الذات إلّا بعد انقضاء المبدأ ، وهذا القول يرجع بالتحليل إلى أن المشتق حقيقة في المنقضي عنه المبدأ خاصة لا في المتلبس.

واكتشاف مثل هذه اللوازم بالتحليل ، برهان عرفي على أن هذا الجامع لا يصلح أن يكون هو الموضوع له كلمة «المشتق».

إذن فكلا الجامعين اللذين تعقّلناهما ثبوتا بطلا إثباتا ، وتبيّن بالوجدان العرفي وبلوازم المطلب أن العرف يأبى عن كون المشتق أحد الجامعين ، إذن فيبطل الوضع للأعم ويتعين الوضع لخصوص المتلبس ، ومع هذا نذكر إجمالا الوجوه التي تذكر للاستدلال على الأقوال في المسألة.

١٥٢

أدلة الوضع لخصوص المتلبس

الوجه الأول :

استدل على الوضع لخصوص المتلبس بدعوى التبادر ، فإن المتبادر من المشتق هو خصوص المتلبس ، وقد أشكل الأعمّي على هذه الدعوى ، بأن التبادر في المقام لا ينحصر منشؤه بالوضع إذ لعلّه ناشئ من الانصراف بسبب كثرة الاستعمال في المتلبس ، فإن الاستعمال في المتلبّس أكثر منه في المنقضي عنه المبدأ فلعلّ كثرة الاستعمال أوجبت انصرافا. وهذا الانصراف هو منشأ التبادر.

وأجاب عن ذلك صاحب الكفاية (١) ، بأن الاستعمال في حالات انقضاء المبدأ عن الذات ، أكثر منه في حالات التلبس ، فكيف يدّعى أن كثرة الاستعمال في المتلبس هي التي أوجبت الانصراف والتبادر.

وأشكل على صاحب الكفاية ، بأنه بين محذورين ، فإمّا أن يعترف بأن الاستعمال في المتلبس أكثر منه في المنقضي ، وإمّا أن يعترف بأن الاستعمال في المنقضي أكثر منه في المتلبس ، فإن قال بالأول ، إذن تمّ الإشكال ، وهو أن هذا التبادر تبادر انصرافي ناشئ من كثرة الاستعمال في المتلبّس ، وإن قال بالثاني إذن لزمه إشكال آخر ، وهو أنه كيف يكون الاستعمال في المنقضي أكثر

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ١١٢ ـ ١١٣.

١٥٣

منه في المتلبّس مع أن صاحب الكفاية (١) يدّعي الوضع لخصوص المتلبس ، فإن كون الاستعمال في المنقضي أكثر ، معناه أن الحاجة الاستعمالية في المنقضي أكثر منها في المتلبس ، والأوضاع تابعة للحاجات ، فيناسب ذلك كون الوضع للأعم لا لخصوص المتلبس.

وحاول صاحب الكفاية أن يتخلص من كلا المحذورين حيث قال بأن الملاحظ إن أكثر الاستعمالات الواقعة للمشتق قد صدرت بعد انقضاء المبدأ عن الذات ، وهذه الاستعمالات قابلة لأن تكون مستعملة في المتلبس إذا كان الحكم والجري بلحاظ حال التلبس ، وقابلة أيضا لأن تكون مستعملة في المنقضي إذا كان الجري بلحاظ زمان الانقضاء ، وحينئذ إن قلنا بالوضع لخصوص المتلبس ، فلا بدّ وأن تكون موضوعة لخصوص المتلبس ، وأن يكون الجري بلحاظ حال التلبس ، وذلك تمسكا بأصالة الحقيقة ، إذ لو كان الجري بلحاظ حال الانقضاء لكان مجازا ، فبأصالة الحقيقة تعيّن وجه هذه الاستعمالات الكثيرة بأنها تستعمل في المتلبس وبلحاظ حال التلبس ، إذن فمسألة كون الوضع لخصوص المتلبس لا يناسب كون الاستعمالات في المنقضي أكثر منها في المتلبس واضحة ، إذ بناء على المتلبسي ، الاستعمال فيه أكثر لأن هذه الاستعمالات المجملة الوجه يؤول أمرها إلى استعمالات في المتلبس ببركة أصالة الحقيقة فلا يلزم من المتلبسي أن يكون الاستعمال في غير الموضوع له أكثر شيوعا من الاستعمال في الموضوع له.

وأما بناء على الوضع للأعم ، فلا تجري أصالة الحقيقة لأن زمان الجري والحكم ، سواء كان بلحاظ حال التلبس ، أو بلحاظ حال ما بعد التلبس ، هو على أي حال حقيقة ، بل تجري أصالة الإطلاق التي توجب أن يكون زمان الجري هو زمان النطق ، فإن مقتضى الإطلاق وعدم تعيين الزمان هو أن يكون زمان النطق هو زمان الجري ، وزمان النطق هو زمان الانقضاء ، لأن هذه

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ١١١ ـ ١١٢.

١٥٤

الاستعمالات صدرت في زمان الانقضاء ، فيكون زمان الانقضاء هو زمان الجري ، وهذا معناه ، أنها مستعملة في المنقضي عنه المبدأ لا في المتلبس ، إذن فدعوى أن تبادر المتلبس ينشأ من كثرة الاستعمال والانصراف لا من الوضع ممنوعة ، إذ بناء على الأعم تكون الاستعمالات ، استعمالات في المنقضي ، بمقتضى أصالة الإطلاق ، وبهذا يندفع كلا المحذورين.

ولكن ما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) ، من أن كثرة الاستعمال ، بناء على الأعم ، تكون في المنقضي ببركة أصالة الإطلاق غير صحيح ، وذلك لأن الجمل على قسمين.

القسم الأول : تطبيقية ، وهي أن يكون هناك ذات مشخّصة ، ثم يطبّق عليها عنوان المشتق من قبيل زيد عالم.

القسم الثاني : غير تطبيقية ، وهي ، ما إذا لم يلحظ ذات معينة ، ليطبق عليها ذات المشتق من قبيل أكرم العالم.

ففي القسم الثاني إذا ورد المشتق في جملة غير تطبيقية ، فإن المستعمل لم يلحظ ذاتا معينة أجرى عليها المشتق ، ليقال ، بأن مقتضى الإطلاق ، أن زمان الجري هو زمان النطق ، وزمن النطق كان بعد الانقضاء ، فيكون الاستعمال حينئذ في المنقضي ، بل الأمر ليس كذلك.

وأما في القسم الأول فيما إذا كانت الجمل تطبيقية ، فإن هذه الجمل ، إمّا أن تكون إسنادية أو حملية.

فإن كانت إسنادية من قبيل «أكرمني عالم» ، فمن الواضح أن مقتضى الإطلاق ، هو أن الجري والتطبيق إنما هو بلحاظ صدور الإكرام عن الذات ، لا بلحاظ زمن النطق ليقال أن زمن النطق قد انقضى فيه المبدأ ، فيكون مستعملا في المنقضي.

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ١١٢.

١٥٥

وإن كانت حملية من قبيل «زيد عالم» ، فتارة نفرض أن الذات كانت منعدمة حين صدور هذه الجملة وأخرى نفرض أنها موجودة ، فإن كانت منعدمة ، فمن الواضح أن الجري يكون بلحاظ زمن وجود الذات لا زمن النطق ، لأن بلحاظ زمن النطق لا ذات أصلا ، وأما إن كانت الذات موجودة حين صدور هذه الجملة ، فحينئذ مقتضى أصالة الإطلاق هو كون الجري في زمان النطق ، ولكن لا نقول بأن الغالب في زمان النطق هو انقضاء المبدأ ، بل غالبا ما يكون زمان النطق مقارنا مع فعلية التلبس بالمبدإ ، وحينئذ فأين كثرة الاستعمال في المنقضي بناء على الأعم كما ذكر صاحب الكفاية ، فكلامه غير تام.

كما أن الإشكال المذكور على التبادر ، وهو احتمال أن يكون ناشئا من كثرة الاستعمال ، غير ضار في المقام ، لأن معنى حصول التبادر من كثرة الاستعمال ، هو أن العرف نقلوا المشتق من المعنى اللغوي الأعمي ، إلى خصوص المتلبس ، وهو معنى الوضع التعيّني ، وعمل الفقيه هو تشخيص الوضع العرفي لا الوضع اللغوي.

الوجه الثاني :

أن يقال بأن الأوصاف الاشتقاقية لو كانت موضوعة للأعم للزم انتفاء التضاد بين زيد وعالم ، إذ يصح أن يقال عن زيد أنه عالم باعتبار تلبسه بالعلم ، وفي نفس الوقت يصح أن يقال عنه أنه جاهل باعتباره كان متلبسا بالجهل ، ومعنى هذا أنه لا تضاد بين عالم وجاهل حيث وصف بهما شخص واحد في وقت واحد ، مع أن الأوصاف الاشتقاقية المأخوذة من المبادئ المتضادة من قبيل العلم والجهل ، متضادة ، فبهذا يتبين أن المشتق ليس موضوعا للأعم.

وهذا الاستدلال غير تام ، لأنه ، إن أريد بالاستدلال بالتضاد بين عالم وجاهل ، الاستدلال على التضاد بينهما بسبب التضاد بين العلم والجهل ، فهو

١٥٦

غير صحيح ، لأن التضاد بين المبدأين لا يستلزم التضاد بين مدلولي الهيئتين الاشتقاقيتين المأخوذتين من هذين المبدأين ، لأنه بناء على الأعمي يطعّم مفهوم عالم وجاهل بالفعل الماضي فيتحول المفهومان إلى فعلين ماضيين ولا تنافي بين فعلين ماضيين.

وإن أريد بالتضاد بين عالم وجاهل ، القول بأن التضاد بينهما أمر ارتكازي معروف ، فهذا صحيح ، إلّا أن هذا الارتكاز في طول معرفة المعنى ، ولا يكون دليلا على معرفة المعنى ، نعم هو صالح للتنبيه على المعنى في حال الغفلة عنه.

الوجه الثالث :

أنه يصح سلب المشتق عن المنقضي عنه المبدأ ، وصحة السلب علامة على المجاز ، فيثبت بذلك أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس.

وقد أشكل على ذلك ، بأنه إن كان المراد بصحة السلب عن المنقضي عنه المبدأ صحة السلب كلية ، فهذا خلاف الوجدان ، فإن زيدا الذي انقضى عنه العلم لا يصح سلب العالم عنه كلية ، لأنه كان متلبسا بالعلم سابقا فيصدق عليه أنه عالم بعلم سابق ،

وإن كان المراد بصحة السلب ، صحة السلب المقيدة بالفعل ، كما يقال عمّن انقضى عنه العلم أن زيدا ليس بعالم بعلم فعلي ، فهذا صحيح ، إلّا أنّ صحة سلب المقيّد لا تدل على صحة سلب المطلق ليتم الدليل.

ولكن هذا الإشكال ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنه تارة نقيّد الوصف الاشتقاقي ، فنقول «زيد ليس بعالم الآن» ، فتكون كلمة «الآن» قيدا للعالم ، وأخرى ، نقيد المبدأ فنقول «زيد ليس بعالم بالعلم الموجود الآن» فتكون كلمة الآن قيدا للعلم ، ولكن هذا الفرق غير نافع في المقام ، لأنه إن كان الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس بصحة السلب بمثل جملة «زيد ليس بعالم الآن» ، فهذا صحيح ، لأن النزاع بين الأعمي والمتلبسي إنما هو في أنّ زيدا

١٥٧

الذي انقضى عنه المبدأ ، هل يطلق عليه أنه عالم الآن أو لا؟. فإذا صح قولنا «زيد ليس بعالم الآن» فيتعين القول بالوضع لخصوص المتلبس ، وأمّا إذا كان الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس بجملة «زيد ليس بعالم بالعلم الموجود الآن» فقد يكون صحيحا ، لأن هذا ممّا يعترف به الأعمي ، لأنه لا يقول بأنه عالم بعلم فعلي الآن ، بل يقول أنه كان عالما ، وبهذا اللحاظ يصح إطلاق لفظ العالم عليه الآن حقيقة ، فصحة قولنا «زيد ليس بعالم بعلم فعلي الآن» لا تضر الأعمي.

إلّا أن أصل هذا الاستدلال غير صحيح ، لأن صحة السلب ليس من علامات المجاز ، وقد مرّ بك أن صحة الحمل وصحة السلب من نتائج العلم بالمعنى الموضوع له اللفظ ، ولا تصلح دليلا على الوضع ، نعم هي صالحة للمنبهيّة على المعنى حين الغفلة عنه.

الوجه الرابع :

ما ذكره المحقق النائيني (١) (قده) وهذا الوجه مركب من أمرين.

الأمر الأول : هو دعوى قيام البرهان على بساطة المفاهيم الاشتقاقية ، وأن مفهوم «عالم وضارب» وغيرها هو نفس مفهوم المبدأ ، غايته أن المبدأ لوحظ في جانب المشتق لا بشرط ، وبذلك صحّ حمله على الذات ، بينما لوحظ حمله في المصادر بشرط لا ، ولهذا امتنع حمله على الذات ، فيقال بأن البرهان قائم على أن الأوصاف الاشتقاقية بسيطة ولا تختلف عن المصدر إلّا من حيث اللابشرطية والبشرطلائية.

الأمر الثاني : أنه بناء على بساطة المفهوم الاشتقاقي لا يعقل الوضع للأعم ، إذ لا يتصور جامع أعمي بناء على البساطة. وبهذين الأمرين يتبين أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس.

__________________

(١) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٦١ ـ ٦٢.

١٥٨

أما الأمر الثاني وهو أنه بناء على بساطة المفاهيم الاشتقاقية لا يعقل الجامع الأعمي (١) ، فقد تقدم في مقدمات المسألة صحته (٢).

وأمّا الأمر الأول ، وهو بساطة المفاهيم الاشتقاقية ، بمعنى أن مدلول عالم هو العلم ولكن لا بشرط ، لا يمكن قبوله ، وسيأتي تحقيقه في خاتمة المسألة ، ولهذا فالأحسن تبديل هذا البيان بما ذكرناه في بداية الاستدلال ، بأن يقال ، بناء على البساطة ، فالجامع الأعمي غير معقول ، وبذلك يمتنع القول بالوضع للأعم ، وبناء على التركيب ، فالجامع الأعمي معقول ثبوتا ، ولكنه غير معقول عرفا ، لاستلزامه المحاذير العرفية الوجدانية ، وبذلك يبطل القول بالوضع للأعم على كلا المبنيين ، وبما ذكرناه من أدلة المتلبسي ، يظهر وجه الخلل في أدلة الأعمي بنحو الموجبة الكلية في تمام المشتقات ، نعم هناك بحث معقول في دعوى الأعمية بنحو الموجبة الجزئية ، بأن يقال أن بعض المشتقات موضوعة للأعم ، من قبيل أسماء الحرف والصناعات والآلات وبعض أسماء الأماكن بنحو الموجبة الجزئية.

__________________

(١) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٦٢.

(٢) وقد يظهر من كلام المحقق النائيني عدم الملازمة بين القول بالتركيب والوضع للأعم ابتداء ثم عاد وعدل عن ذلك وأفاد أنه لا يمكن القول بالوضع للأعم مطلقا سواء قلنا بالبساطة أو قلنا بالتركيب. المقرّر.

١٥٩

أدلة الوضع للأعم بنحو الموجبة الجزئية

صار واضحا بطلان الوضع للأعم ، ولكن هناك بعض المشتقات قد يقال بأنها موضوعة للأعم بنحو الموجبة الجزئية من قبيل أسماء الحرف والصناعات «كبقّال وشاعر» ، وأسماء الآلات «كمفتاح» ، وبعض أسماء الأماكن «كمذبح» ، ومثل هذا القول يستحق الانتباه إذ قد يخطر في بادئ الرأي أن أمثال هذه المشتقات قد تستعمل في المنقضي بلا عناية ، فيصح إطلاقها على الذات المنقضي عنها المبدأ ، فمثلا «صائغ» يستعمل فيمن حرفته الصياغة ولو لم يكن متلبسا بها فعلا ، «وشاعر» ، فيمن له موهبة الشعر ، ولو لم ينظم الشعر بالفعل ، «ومذبح» ، في المكان المعد للذبح ولو لم يكن هناك حيوان بالفعل يذبح فيه ، «والمفتاح» يعبّر عنه بالمفتاح ، ولو لم يكن يستعمل بالفعل في الفتح ، وهكذا. فمثل هذه المشتقات يصح إطلاقها على الذات مع عدم التلبس الفعلي بها ، وصحة الإطلاق هذه يحتمل فيها أحد وجوه خمسة فلا بد للقائل بالأعم من إبطال أربعة لإثبات مدّعاه.

الوجه الأول :

وهذا الوجه هو مطلوب القائل بالأعم ، وهو أن صحة الإطلاق مع عدم التلبس الفعلي ناشئ من هيئة المشتق الموضوعة للأعم من المتلبس وممّن انقضى عنه المبدأ.

١٦٠