بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

على جزء من هذا الجسم الخشبي لا يتصف الجسم بتمامه بأنه أحمر ، فكذلك العامود الزماني الطويل حاله حال الجسم ، فلا يتصف بتمامه بالمقتلية ، وإنما الذي يتصف بالمقتلية ذلك الجزء وتلك اللحظة التي وقع فيها الحدث ، وتلك اللحظة قد زالت وانقضت بعد زوال المبدأ.

ولكن هذا الاعتراض غير صحيح ، للفرق بين الواحد المتصل العرضي الأجزاء والواحد المتصل التدريجي الأجزاء ، فإن الواحد المتصل إذا كان عرضي الأجزاء كالجسم مثلا ، فحمرة الجزء لا تكون حمرة لذلك الواحد الاتصالي ، لأن وجود الجزء ليس هو تمام وجود الواحد الاتصالي ، بل هو جزء وجوده ، فتكون نسبة الحمرة إلى المركب مجازية ، وأمّا الواحد الاتصالي التدريجي من قبيل عامود الزمان ، فتمام وجوده في تلك اللحظة هو ذلك الجزء ، فدائما وجوده بوجود جزئه ، فإذا اتصف هذا الجزء الزماني بالمقتلية فقد اتصف ذلك العامود الزماني بالمقتلية أيضا لأن وجوده بتمامه في هذه الحال هو وجود هذا الجزء ، وعلى هذا ، فكلام المحقق العراقي يبقى على وجاهته من أن الزمان واحد بالزمان فيكون باقيا حتى بعد انقضاء المبدأ.

وقد يعترض هذا الكلام شبهة ، وهي أنه يلزم القائل بالأعم ، الالتزام بصحة إطلاق اسم الزمان على الزمان إلى ما لا نهاية ، فيصح أن تقول ، الآن هو مقتل زكريا (ع) ، لأن اللحظة التي قتل فيها هي متصلة بما بعدها وهكذا ، فعامود زماني واحد ، فالذات لم تنقض بعد بل هي محفوظة ، ولكن المبدأ انقضى وهو قتله ، فهل يلتزم أحد بصحة إطلاق مقتله على الزمان الحاضر!.

وجواب ذلك ، أن المناط في بقاء الذات هو النظر العرفي لا النظر الفلسفي ، والعرف يقطّع عامود الزمان إلى أشهر وأيام وسنين ، ويرى أن كل قطعة قطعة لها شخصية وذاتية مستقلة عن ذاتية القطعة الأخرى ، فبعد فرض مرور يوم على مقتل زكريا ، يرى العرف بأن تلك القطعة قد انقضت وزالت الذات ، إذن فيوم مقتله ما دام موجودا فالذات موجودة ، وإن انقضى القتل كما لو كان القتل في الساعة الأولى ، وإذا انقضى يوم مقتله فالعرف يرى أنها ذات

١٢١

أخرى غير الذات الأولى ، باعتبار التقطيع في الزمان.

ويتحصل من هذا جواب صحيح بالنسبة إلى أسماء الزمان ، وهو أن المناط في بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ ، هو النظر العرفي ، والعرف يرى أن تمام النهار موجود واحد تدريجي ، فإذا اتصف هذا الواحد في أوله بحدث وصدق عليه مقتل وانقضى عنه المبدأ ، حينئذ أمكن وقوع النزاع بين الأعمي والمتلبسي ، في أنه هل يصح أن يطلق عليه مقتل بعد تلك اللحظة قبل انقضاء النهار أو لا يصح ذلك؟. هذا نزاع معقول.

١٢٢

المقدمة الثانية

الكلام في هذه المقدمة يدور حول كلمة الحال ، حيث قيل في عنوان المسألة ، بأن المشتق هل هو موضوع لخصوص المتلبس بالحال أو للأعم ، فكأن الحال كلمة تدل على الزمان ، فتوهّم بأن المتلبّسي يقول بأن الزمان مأخوذ في مدلول المشتق ، ولكن المحققين المتأخرين أوضحوا أنّ هذا اشتباه فلا ينبغي أن يدّعى أنّ الزمان مأخوذ في مفهوم اسم الفاعل والمفعول ونحو ذلك من الأوصاف الاشتقاقية والأسماء الوصفية ، لوضوح أن حال هذا الإسم ، كحال سائر الأسماء الأخرى ، كأسماء الجوامد والمصادر ، التي لم يؤخذ في مفهومها الزمان ، فمفهوم الإنسان أو مفهوم العلم ، لم يؤخذ فيه الزمان ، وإنما هو موضوع لذات تلك الماهية التي تقع في الزمان ، وكذلك أيضا مدلول كلمة عالم ، لم يؤخذ فيه الزمان ،

وتوضيح ذلك أن مفاد كلمة عالم ، هو عبارة عن مفهوم تركيبي وهو «شيء له التلبس بالعلم». ومن الواضح أن الزمان غير مأخوذ في المفردات هذه الجملة ، لأن مفرداتها منها ما هو أسماء جوامد من قبيل «شيء» ، ومنها ما هو مصادر من قبيل ، «له التلبس والعلم» ، ومن المعلوم أن الزمان غير مأخوذ في أسماء الجوامد ولا في المصادر ، إذن الزمان غير مدلول عليه أصلا في جملة «شيء له التلبس بالعلم» ، ومدلول عالم ليس إلّا مدلول هذه الجملة بنحو اللّف والاندماج وليس الزمان مأخوذ فيه ، بل المشتق موضوع لشيء له

١٢٣

التلبس بالمبدإ. إذن المشتق يدل على المتلبس من دون دلالة له على الزمان ، ولكن هل أن المشتق يدل على المتلبس مطلقا ، أو يدل على المتلبس المقارن مع النطق ، أو أنه يدل على المتلبس المقارن مع الحكم والجري؟. ففي المسألة ثلاث احتمالات :

الاحتمال الأول : أن يكون المشتق موضوعا للذات المتلبسة بالمبدإ ، دون أن يقيد هذا التلبس بأي قيد من المقارنة مع النطق ، ومن المقارنة مع الحكم والجري.

الاحتمال الثاني : أن يكون المشتق موضوعا للذات المتلبسة بالمبدإ ، لكن لا مطلق التلبس ، بل لحصة خاصة من المتلبس ، وهو المتلبس المقيد تلبّسه بالمقارنة مع النطق ، وهذا لا يعني أخذ زمان النطق في مفهوم المشتق ، بل أخذ نفس النطق في مفهوم المشتق الذي هو أمر وحادث زماني لا نفس الزمان.

الاحتمال الثالث : أن يكون المشتق موضوعا للذات المتلبسة بالمبدإ التي يكون تلبّسها مقارنا مع الجري والحكم لا مع النطق ، بل مع الحكم بالمحمول على الموضوع ، لا مع النطق بالمحمول والموضوع ، إذ قد يختلف الحكم مع النطق ، فحينما أقول الآن «زيد ضارب بالأمس» ، فهنا التّلبس المقارن للنطق غير موجود ، لكن التلبس المقارن للحكم موجود ، لأن زيدا بالأمس كان متلبّسا بالعلم واليوم ليس متلبسا به.

والفارق بين هذه الاحتمالات يظهر في مقام الاستظهار من الخطاب ، فإذا قال «زيد عالم» ، فلا إشكال في أننا نفهم من ذلك أن زيدا عالم الآن ، ومنشأ هذا الفهم يختلف باختلاف هذه الاحتمالات ، فعلى الاحتمال الثاني يكون كلمة عالم بنفسها دالة بالدلالة الوضعية على أن زيدا متلبس في زمان النطق ، وعلى الاحتمال الثالث فكلمة عالم تدل على أن التلبس موجود حين الحكم ، أما أن الحكم متى يكون موجودا في زمان النطق أو قبله أو بعده فهذا مما لا تدل عليه الكلمة ، بل هذا يستفاد من إطلاق العبارة حيث لم يعين زمانا

١٢٤

ما ، فينصرف الأمر إلى الزمان الفعلي ، فهذه تكون دلالة إطلاقية ، وعلى الاحتمال الأول فكلمة عالم ليس لها دلالة أصلا على التلبس في ظرف الحكم فضلا عن ظرف النطق ، بل كلا هذين الأمرين يستفاد من دال آخر ، فالدال على التلبس في ظرف الحكم هو ظهور الجملة في الاتحاد والهوهوية بين المحمول والموضوع ، فإن هذا الظهور في الاتحاد معناه أن زيدا عين عالم ، وعالم هو الذات التي لها التلبس ، إذن فهذه العينية لا تصدق إلّا حينما يكون زيد في ظرف العينية والجري متلبسا ، فيكون إثبات التلبس في ظرف الجري بظهور القضية الحملية في الهوهوية ، لا بظهور كلمة المشتق نفسها ، وأمّا ظهور هذا التلبس أنه موجود في نفس زمان النطق ، أو قبله أو بعده ، فهذا يستفاد من الإطلاق فحيث أطلق كلامه ، ولا يعلم هل أن حكمه بالمحمول على الموضوع كان بلحاظ زمان النطق أو بلحاظ زمان سابق أو لاحق ، وحيث لم ينصب قرينة معينة فينصرف حكمه إلى الزمان الحاضر.

والصحيح هو الاحتمال الأول ، وإبطال الاحتمال الثاني يكون بأمرين :

الأمر الأول : لو فرضنا أن التلبس مقيد بالنطق ، إذن يلزم من ذلك ، أن يكون قولنا «زيد عالم بالأمس» مجازا ، لأن زيدا لم يكن متلبسا في زمان النطق ، بل في زمان الجري ، مع أن قولنا زيد عالم بالأمس أو عالم غدا ، لا إشكال في أنه حقيقة.

الأمر الثاني : أنه ما المراد بأخذ النطق قيدا؟. فإن كان المراد هو أخذ مفهوم النطق قيدا ، فهذا واضح البطلان ، لأنه لا يتبادر إلى الذهن من كلمة عالم نفس ما يتبادر إليه من كلمة نطق ، وإن كان المراد هو أخذ واقع النطق قيدا فيلزم من ذلك عدم المعنى للكلمة عند عدم النطق بها إذ حيث لا نطق واقعي ، لا معنى للكلمة ، مع أن كلمة عالم ، لها معنى محفوظ سواء نطق بها إنسان أو لم ينطق بها إنسان.

وأما الاحتمال الثالث ، فإبطاله أيضا يكون بأمرين :

١٢٥

الأمر الأول : سنخ ما أوردناه ثانيا على النطق ، فإن كان المأخوذ قيدا هو مفهوم إصدار الحكم فهذا باطل بالضرورة ، لأن هذا المفهوم لا يتبادر إلى الذهن حين سماع كلمة عالم ، وإن كان المأخوذ قيدا هو واقع إصدار الحكم ، يلزم أن لا يكون لكلمة عالم معنى حينما يؤتى بها مفردة ، لأن واقع الحكم غير ثابت حينئذ ، مع أن كلمة عالم لها معنى سواء كانت مفردة أو كانت في جملة.

الأمر الثاني : هو أن الجري يكون في طول المحمول والموضوع ، فالجري في قولنا «زيد عالم» عبارة عن إثبات هذا لذاك ، فهو في طول هذا وذاك ، فكيف يؤخذ قيدا في أحدهما ، فهذا أمر غير معقول.

وبهذا اتضح أن المشتق بناء على كونه موضوعا لخصوص المتلبس ، هو موضوع لمطلق المتلبس دون قيد النطق ودون قيد الجري ، وبناء على هذا نحتاج إلى ثلاث دوال في قولنا زيد عالم ، الدال لأول كلمة عالم التي تدل على مفهوم التلبس دون نظر لها إلى زيد ، والدال الثاني يدل على أن هذا التلبس محفوظ في ظرف إصدار الحكم ، وهو ظهور الجملة الحملية في الهوهوية ، والدال الثالث يدل على أن ظرف إصدار الحكم هو نفس ظرف النطق وهذا الدال هو الإطلاق وعدم ذكر زمان آخر.

١٢٦

المقدمة الثالثة

في تصوير الجامع

والكلام في هذه المقدمة ، يدور حول تصوير الجامع على القولين ، مقدمة للبحث عمّا وضع اللفظ له ، فعلى المتلبسي ، لا بد من تعقل جامع ، يجمع الأفراد المتلبسة ولا يقبل الانطباق على فرد انقضى عنه المبدأ ، وعلى الأعمي يكون الجامع قابلا للانطباق على المتلبس والمنقضي عنه المبدأ انطباقا حقيقيا ، إذن لا بد من تصوير جامع على القولين بحيث يكون المشتق موضوعا لذلك الجامع.

أمّا الجامع على المتلبسي فلا إشكال في تعقله وتصويره ، لأن مفهوم الذات التي لها التلبس بالعلم ينطبق على المتلبس ولا ينطبق على من انقضى عنه المبدأ ، ولا فرق في ذلك بين القول بأن المشتق مفهوم تركيبي أو مفهوم بسيط ، فبناء على التركيب حيث أن مفهوم المشتق مركب من ذات ونسبة ومبدأ ، فالجامع هو عبارة عن ذات لها التلبس بالعلم ، فإن هذا المفهوم ينطبق على المتلبس بالفعل ولا ينطبق على من انقضى عنه المبدأ ، وبناء على البساطة فإن مفهوم عالم هو نفس المبدأ ونفس الحدث ، أخذ لا بشرط من حيث الحمل ، ولهذا يصح حمله على الذات ، فيكون العلم محفوظا في تمام موارد التلبس وليس محفوظا في المقضي عنه المبدأ.

١٢٧

أما الجامع على ، الأعمي ، فتصويره لا يخلو من إشكال وتوضيح ذلك : أنه بناء على البساطة ، فتصوير الجامع غير معقول أصلا ، لانه بناء على هذا المبنى ، فإن مدلول كلمة «عالم» ليس هو الذات ، بل مدلولها نفس الحدث ، وهو العلم ، أخذ لا بشرط ، ومن الواضح أن هذا الحدث غير محفوظ في المنقضي عنه المبدأ ، فكيف يكون جامعا بين المتلبس والمنقضي عنه المبدأ؟. فبناء على البساطة يختص انطباق الجامع على خصوص المتلبس ، لأن الحدث يكون حينئذ متحدا مع الذات المتلبسة ، فيطبّق الجامع عليها ، وأما الذات المنقضي عنها المبدأ فلا اتحاد للحدث معها بوجه ، فلا يمكن انطباقه عليها ، وعلى هذا لا يمكن تصوير الجامع على الأعمي.

وأما بناء على التركيب وأخذ مفهوم الذات حيث يقال ، أن «عالم» عبارة عن ذات لها العلم ، لا عبارة عن نفس العلم ، ففي المقام قد يصوّر الجامع بعدة وجوه :

الوجه الأول :

أن يقال بأن الجامع هو الذات في أحد زمانين ، زمان التلبس ، أو زمان الانقضاء ، فإن لفظة «عالم» ، موضوعة للذات في أحد الزمانين ، أي للذات في الجامع بين زماني التلبس والانقضاء ، فتنطبق الذات على زيد في زمان التلبس كما تنطبق عليه في زمان الانقضاء ، وتصوير هذا الجامع وإن كان في نفسه معقولا ، لكنه كما ترى يشترط أخذ جامع الزمانين في مفهوم المشتق ، وقد تقدم أن الزمان غير مأخوذ في مفهوم المشتق ، فلا يصلح هذا للجامعية.

الوجه الثاني :

أن يقال ، بأن الجامع هو الذات التي يكون تلبسها بالمبدإ ، إما قبل الجري أو حين الجري لا بعد الجري ، فحينما نقول «زيد عالم» فإن كان له تلبس حين الجري ، إذن يكون مصداقا للجامع ، وإن كان له تلبس قبل الجري ، أيضا يكون مصداقا للجامع ، وإذا كان زيد غير متلبس قبل الجري.

١٢٨

ولا حين الجري. ولكن سوف يتلبس بعد الجري ، إذن هذا الإطلاق ليس حقيقيا ، ولا يكون زيدا مصداقا للجامع. وهذا الجامع غير صحيح حيث أخذ فيه التلبس مقيّدا بجامع الجري المقارن والسابق ، وقد تقدم أن الجري غير مأخوذ في التلبس ، فهذا الجامع لا يصلح للجامعية.

الوجه الثالث :

أن يقال ، بأن المشتق مركب من ذات وفعل ماضي ، بحيث أن «عالم» هو من علم ، وضارب هو من «ضرب» ومن المعلوم ، أن «من علم» يصدق على «العالم» بالفعل ، ويصدق على من تلبّس بالعلم وانقضى عنه المبدأ ، وبهذا نحصل على جامع أعمي غير مأخوذ فيه الزمان قيدا ، بناء على عدم أخذ الزمان في مدلول الفعل ولا الجري أيضا ، بل هو مفهوم إفرادي في نفسه ، وهذا الوجه من الوجوه المعقولة في تصوير الجامع ، والقول بلزوم دخول مدلول فعل الماضي في المشتق ، هو باطل مردود ، لأنه إن أريد به دخوله بما هو نسبة تامة يصح السكوت عليها ، فبطلانه واضح ، وإلّا لانقلب المشتق إلى جملة تامة يصح السكوت عليها ، مع أنه ليس كذلك ، ولكن ليس مقصودنا من دخول الفعل الماضي في المشتق كون النسبة التامة داخلة فيه ، بل مقصودنا من قبيل أخذ الفعل الماضي مدخولا لأداة الشرط ، ففي قولك «إذا جاء زيد» فهنا مفاد الفعل في نفسه نسبة تامة ، ولكن بعد أخذه قيدا ومدخولا لأداة الشرط أصبح نسبة ناقصة ، فدخول الفعل الماضي في المشتق إنما هو بنحو القيدية وهذا أمر معقول ولا بداهة تقتضي البطلان.

وقد يعترض هذا الجامع شبهة وهي ، أن «قائم» لو كان معناه «من قام» إذن لكان من الخطأ أن نقول زيد قائم غدا ، إذ يصير معناه ، زيد قام غدا ، ومن المعلوم أن «قام» ، لا يمكن تقيّده بالغد ، لاستدعائه حينئذ وقوع الضرب سابقا ولا حقا وهو باطل ، ولكن هذه الشبهة مبنية على أن يكون قيد الغد قيدا لمادة الفعل الماضي المأخوذ مستترا في المشتق ، فإن ذلك حينئذ يكون أمرا غلطا ، ولكن لا ينحصر الأمر بذلك ، فإن هذا القيد ليس قيدا لمادة الفعل الماضي ،

١٢٩

بل هو قيد للنسبة الحملية بين الموضوع والمحمول ، أي بين «زيد» ، وبين الذات التي هي «قامت» ، لأن الذات مأخوذة في المشتق ، حيث أننا في مقام التركيب لا البساطة ، فزيد قائم ، يعني «زيد» شيء صدر منه القيام فهنا نسبة حملية ، بين شيء. الذي أخذ في طرف المشتق ، وبين «زيد» الذي أخذ في طرف الموضوع ، والتعبير بالفعل الماضي المستتر في المشتق ، إنما هو باعتبار كون القيام صادرا قبل هذه النسبة الحملية ، فقيد الغد يكون قيدا للنسبة الحملية لا للقيام الذي هو مادة الفعل الماضي ، وأحيانا تكون كلمة «غدا» قيدا في نسبة ناقصة قائمة في نفس المشتق كما إذا دخلت على المشتق المبدوء «بأل» الموصولة كما في قولك «الشفيع غدا محمد (ص) ، فهنا كلمة غدا ، ليست قيدا لمادة «شفع» ، بل هي قيد لنسبة قائمة في كلمة الشفيع ، لأن ، «أل» ، هنا موصولة ، بمعنى الذي ، «وشفيع» مشتق أخذ فيه الذات ، فيرجع قولك إلى «الذي» هو ذات «شفعت» ، وهنا يوجد نسبة بين («الذي») وهو مفاد («أل») وبين الذات التي هي مفاد المشتق وهذه النسبة نسبة ناقصة وهي التي تقيد بكلمة غدا ، إذن فهذا القيد لا يرجع إلى الفعل الماضي ، بل إمّا أن يرجع إلى النسبة الحملية التامة كما في قولنا «زيد قائم غدا» وإما إلى النسبة الناقصة بين الموصول والذات الاشتقاقية كما في قولنا «الشفيع غدا محمد (ص)» ، إذن فلا إشكال على هذا الوجه.

الوجه الرابع :

ما ذكره السيد الأستاذ (١) حيث قال بأن الجامع عبارة عن انتقاض عدم المبدأ بوجود المبدأ ، وهذا الانتقاض أمر محفوظ في المتلبس وفي المنقضي عنه المبدأ ، فإن المتلبس ، من الواضح أن عدمه قد انتقض بالوجود كما أن المنقضي عنه المبدأ أيضا قد انقضى وانقرض بالوجود ، إذن فانتقاض عدم المبدأ بالوجود حالة محفوظة في المتلبس وفيمن انقضى عنه المبدأ.

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٦٥.

١٣٠

ولكن هذا الكلام ، يحتاج إلى تدقيق ، لأن الكلام إنما هو بناء على التركيب لا البساطة وعلى هذا فالمشتق ذات لها هذه الصفة وهي انتقاض العدم بالوجود ، وحينئذ نقول ، أن هذه الصفة بأي نحو تضاف إلى الذات وكيف توصف بها الذات؟. فهل توصف الذات بها على فرض الوصف الاشتقاقي كأن نقول «الضارب هو الذات المنتقض عدم ضربها بالوجود». إذن عاد الإشكال مرة أخرى ، لأنه هل المراد بالمنتقض المتلبس بالانتقاض فعلا!. إذن اختص بخصوص المتلبس ، لأن المنقضي عنه المبدأ ، عدم الضرب فيه ، غير منتقض بالضرب فعلا ، وإن أريد به الأعم من المتلبس بالانتقاض وممّن انقضى عنه الانتقاض ، إذن رجعنا إلى تصوير هذا الجامع الأعم ، لأن الكلام في تصوير هذا الجامع الأعم ، إذن لا يمكن أن نضيف هذه الصفة إلى الذات بالوصف الاشتقاقي لكن هل تضاف هذه الصفة إلى الذات بصيغة الفعل الماضي كأن نقول «ذات انتقض عدم الضرب فيها بالضرب؟». إذن رجعنا إلى الوجه الثالث من هذه الوجوه. وأيضا هل تضاف هذه الصفة إلى الذات بالمعنى الحرفي كأن نقول «ذات لها الانتقاض أو ذو انتقاض» فإن حرف «اللام» و «ذو» مفادهما النسبة والمعنى الحرفي ، ومن الواضح أن ظاهر ذلك ، هو الفعلية ، فإن ظاهر النسبة هو فعلية الانتقاض لا الأعم من الانتقاض السابق واللاحق ، إلّا أن يقال ، بأن لها انتقاض في أحد الزمانين ، فيرجع ذلك إلى الوجه الأول من هذه الوجوه ، فهذا الجامع لا يمكن تصحيحه.

الوجه الخامس :

ما ذكره السيد الأستاذ (١) أيضا ، حيث قال ، بأنه لو أعوذتنا الجوامع كلها ، فلنقل بأن الجامع بين المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ ، هو عنوان أحدهما ، وهذا عنوان انتزاعي ولا مانع من ذلك ، فكلمة «ضارب» موضوع لأحدهما ، للمتلبس أو للمنقضي عنه المبدأ.

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٥١.

١٣١

وهذا الجامع غير صحيح ، لا لأنه جامع انتزاعي بل لخصوصية فيه ، وهي عنوان أحدهما ، فإن هذا العنوان غير قابل للإطلاق الشمولي ، بل إطلاقه دائما يكون إطلاقا بدليا ، فإذا قيل أكرم أحدهما ، فمعناه أنه يريد إكرام هذا أو ذاك ، لا أنه يريد إكرامهما معا بعرض واحد ، فلو كان مفهوم عالم يساوق مفهوم أحدهما ، لكان إطلاقه بدليا ، ولما أمكن أن يقال «أكرم كل عالم» ، بحيث يراد به الشمول للمتلبس وللمنقضي عنه المبدأ معا ، مع أنه لا إشكال بأن المفهوم الاشتقاقي وهو «عالم» ، ممّا يقبل الإطلاق الشمولي.

الوجه السادس :

بأن يقال ، بأن الجامع هو الذات الغير متلبسة فعلا بالعدم الأزلي للمبدا ، وهذا العنوان يصدق على المتلبس بالعلم فعلا. وعلى المتلبس بالعلم سابقا ، فإن الذات المتلبسة بالعلم فعلا يصدق عليها أنها ذات غير متلبسة فعلا بالعدم الأزلي للمبدا ، كما أن الذات المتلبسة بالعلم سابقا لا حاضرا ، عدم العلم فيها حاضرا ليس أزليا ، بل عدم حادث ، فيصدق عليها أنها ذات غير متلبسة بالعدم الأزلي للمبدا أيضا ، وأمّا الذات التي لا علم لها حاضرا ولا ماضيا ولكن سوف تصبح عالمة غدا ، فهذه ذات متلبسة بالعدم الأزلي للمبدا ، فهذا العنوان ينطبق على المتلبس وعلى من انقضى عنه التلبس ولا ينطبق على من سوف يتلبس فيما بعد.

وهذا الجامع معقول لكنه ليس عرفيا لأن العرف لا يفهم كلمة «عالم» عن طريق العدم ، لأن هذا الجامع يفترض أن كلمة عالم ، هي الذات الغير متلبسة بالعدم الأزلي للعلم ، فكأنه يفهم العلم عن طريق العدم ، فابتداء ، يفهم العدم ، ومنه ينتقل إلى الوجود ، وهذا تعقيد لا يلتفت إليه العقل العرفي حينما ينتقل ذهنه إلى معنى المشتق.

١٣٢

محل النزاع

والكلام في محل النزاع يقع في مقامين :

المقام الأول : في تأسيس الأصل العملي الذي يرجع إليه حيث لا دليل على أحد الأقوال في المسألة.

المقام الثاني : في تنقيح الأدلة التي استدل بها على الوضع لخصوص المتلبس تارة وعلى الوضع للأعم أخرى.

١٣٣
١٣٤

المقام الأول

والكلام في المقام الأول يقع في ناحيتين :

الناحية الأولى : في تأسيس الأصل العملي بلحاظ ما هو المبحوث عنه في علم الأصول ، بحيث يمكن تنقيح قول الأعمي أو قول المتلبسي من خلال هذا الأصل.

الناحية الثانية : في تأسيس الأصل العملي بلحاظ ما هو المبحوث عنه في الفقه وبلحاظ الوظيفة العملية للمكلف.

١٣٥
١٣٦

الناحية الأولى

أما في الناحية الأولى ، وهي تأسيس الأصل بلحاظ المسألة الأصولية ، فقد يتخيل إمكان إجراء الأصل ، لإثبات مرام القائل بالأعم ، وذلك باستصحاب عدم ملاحظة الخصوصية ، كأن يقال أن الواضع عند ما أراد أن يضع لفظ المشتق ، أخذ الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه المبدأ بلا إشكال ، وإنما الإشكال في أن هذا الجامع هل أخذ فيه خصوصية فعلية التلبس أو لم تؤخذ فيه هذه الخصوصية؟. ومن المعلوم أن هذه الخصوصية ، حادث وجودي زائد ، مسبوق بالعدم ، فيجري استصحاب عدم لحاظ هذه الخصوصية ، وبذلك يثبت الوضع للأعم.

ولكن هذا التوهم باطل لوجوه.

الوجه الأول :

إن هذا التوهم ، وهو إجراء استصحاب عدم لحاظ الخصوصية ، لو تمّ ، فإنما يتم فيما إذا كان هناك مفهوم واحد متعيّن ، ودار الأمر بين مطلقه ومقيده ، كأن نعلم بأن لفظة إنسان موضوعة للحيوان الناطق ، ولكن لا ندري هل هي موضوعة للحيوان الناطق على الإطلاق ، أو للحيوان الناطق العادل ، ففي مثل ذلك ، المفهوم الواحد منحفظ ، والشك في الخصوصية الزائدة ، فيجري استصحاب عدم ملاحظة الخصوصية الزائدة ، وهي العدالة في المثال.

١٣٧

وأما إذا فرض أن الأمر دائر بين مفهومين متباينين ، ولكن أحدهما أوسع صدقا من الآخر في عالم الصدق ، فمثلا لا ندري هل أن كلمة «إنسان» ، موضوعة للحيوان الناطق ، أو للشاعر ، فالحيوان الناطق مع الشاعر مفهومان متباينان ، وإن كان أحدهما أوسع صدقا من الآخر ، فإن الشاعر لا يكون شاعرا ، إلّا بعد أن يكون إنسانا ، وعند ذلك ، أخذ هذا المفهوم مشكوك ، وأخذ ذاك المفهوم مشكوك ، فالأمر دائر بين لحاظين لأمرين متباينين ، لا بين الأقل والأكثر كما هو الحال في الغرض السابق ، وعندئذ ، فاستصحاب عدم ملاحظة الشاعر يعارض باستصحاب عدم ملاحظة الناطق.

والمقام في بحث المشتق من هذا القبيل ، فلا يوجد في المقام مفهوم واحد ملحوظ على كل حال ، ويدور الأمر بين مطلقه ومقيّده ، بل في المقام مفهومان متباينان ، أحدهما المتلبس بالمبدإ ، والآخر مفهوم الذات مع الفعل الماضي ، على ما تقدم ، ومن المعلوم أن الذات المقيدة بمفاد فعل الماضي ، مع الذات المقيدة بفعلية التلبّس ، مفهومان متباينان في عالم المفهومية ، فليست النسبة بينهما نسبة الأقل والأكثر ، حتى يقال بأن الأقل متيقن والزائد مشكوك ، إذن فلا معنى لإجراء استصحاب عدم ملاحظة الخصوصية ، لأن الأمر دائر بين المتباينين في عالم المفهومية ، وإن كان بينهما عموم وخصوص مطلق في عالم الصدق.

الوجه الثاني :

أنه لم سلّمنا بأن في المقام يوجد مفهوم واحد ملحوظ ، إمّا بمطلقه ، وإمّا بمقيّده ، ولكن استصحاب عدم الخصوصية ، إنما يكون له صورة ، بناء على أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب ، ولكن على مبنى التضاد ومبنى تقابل العدم والملكة ، فإن هذا الكلام لا يجري في المقام.

وتوضيح ذلك أن الإطلاق والتقييد فيه ثلاثة مباني.

المبنى الأول : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب

١٣٨

والعدم والوجود ، فالتقييد أمر وجودي ، والإطلاق أمر عدمي ، وهو عدم لحاظ القيد.

المبنى الثاني : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد ، تقابل التضاد ، فكلاهما أمر وجودي ، من قبيل السواد والبياض ، فالتقييد هو لحاظ القيد ، والإطلاق هو لحاظ عدم القيد.

المبنى الثالث : أن يكون التقابل بينهما ، تقابل العدم والملكة ، فالإطلاق هو عدم التقييد ، لكن في الموضع القابل.

والمبنى الأول هو المختار ، والثاني هو ظاهر كلام السيد الأستاذ (١) ، والثالث هو مبنى المحقق النائيني (٢) (قده).

وهذا الوجه ، وهو إجراء استصحاب عدم لحاظ الخصوصية لإثبات الإطلاق ، إنما يتعقل على المبنى الأول ، حيث أن الإطلاق أمر عدمي وهو عدم لحاظ القيد ، فاستصحاب عدم لحاظ الخصوصية يثبت الإطلاق.

وأما على المبنى الثاني ، فالإطلاق والتقييد أمران وجوديان متضادان ، وكل منهما مسبوق بالعدم ، فكما يجري استصحاب عدم لحاظ القيد ، كذلك يجري استصحاب عدم لحاظ الإطلاق ، وكل من الاستصحابين لا يثبت الآخر ، فاستصحاب عدم لحاظ القيد لا يثبت الإطلاق. واستصحاب عدم لحاظ الإطلاق لا يثبت التقييد ، لأن نفي أحد الضدين بالأصل لا يثبت الضد

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ١٧٣ على تفصيل بين مقامي الإثبات والثبوت ، ومبنى السيد الخوئي على تقابل التضاد بين الإطلاق والتقييد ، إنما هو في المقام الثبوت دون الإثبات. المقرّر.

(٢) فوائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٨٢. على تفصيل عند المحقق النائيني ، بين الانقسامات الأولية العارضة وبين الانقسامات الثانوية العارضة على الموضوع بعد تعلق الحكم به ، وتقابل الوجود والعدم بين الإطلاق والتقييد عنده ، إنما يكون في الانقسامات والقيود الثانوية دون الأولية. المقرّر.

١٣٩

الآخر إلّا بالملازمة العقلية وبناء على الأصل المثبت ، فلا يجري أيّ واحد من الاستصحابين ، وكذلك الأمر بناء على المبنى الثالث ، فإن الإطلاق أمر عدمي مطعّم بالملكة ، وحيث أنه كذلك ، فلا يمكن استصحابه بلحاظ عدم الخصوصية ، لأن استصحاب عدم لحاظ الخصوصية لا يثبت ذلك العدم الخاص المطعّم بالملكة إلّا بالملازمة العقلية وبناء على الأصل المثبت. إذن فاستصحاب عدم لحاظ الخصوصية إنما يثبت به الإطلاق لو كان الإطلاق أمر عدميا صرفا.

الوجه الثالث :

أنه لو بنينا على أن الإطلاق مجرد أمر عدمي ، فيجري استصحاب عدم لحاظ الخصوصية ، ولكن هذا الاستصحاب ليس له أثر عملي ، فلا يعقل جريانه ، لأن المستصحب ، وهو عدم لحاظ الخصوصية ، لا يمكن أن نثبت به الحكم الشرعي ، وهو الحجية ، إلّا بتوسط لازم عقلي ، وهو توسط الظهور ، فإنه بالإطلاق في عالم لحاظ الواضع ، نريد أن نثبت سعة دائرة ظهور المشتق في الأعم ، وهذا الظهور من اللوازم العقلية المترتبة على سعة دائرة لحاظ الواضع ، والحجية حكم شرعي لهذا اللازم العقلي ، فباستصحاب عدم لحاظ الخصوصية ، لا يمكن أن نثبت الحجية إلّا بتوسط لازم عقلي ، وهو دائرة الظهور ، فيكون الأصل مثبتا من هذه الناحية ، إذن فلا يجري هذا الاستصحاب ، وعلى هذا لا يوجد أصل عملي ينقح المدّعى في المسألة الأصولية.

١٤٠