بحوث في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

وبهذا يثبت أن النفس قادرة على لحاظين بل لحاظات في عرض واحد لأن النفس أعطت هذا الثوب للكثير بما هو كثير وإلّا لما توحّد وأصبح واحدا بهذا الإعطاء ، ويستحيل أن لا تلاحظه عند الإعطاء ، إذن فقد لاحظت الكثير بما هو كثير وهذا معنى صدور لحاظات استقلالية ومتعددة من النفس في وقت واحد.

النقض الثاني :

وننقض على الميرزا بالقضايا التصديقية ، من قبيل الوجود والعدم لا يجتمعان ، فإن النفس حينما تصدر الحكم لا بدّ وأن تلحظ الموضوع والمحمول ، وإلّا لاستحال إصداره ، وحينئذ ، نسأل الميرزا ، أن النفس حينما تلاحظ الموضوع والمحمول فهل تلاحظهما بلحاظ واحد أو بلحاظين مستقلين؟. فإن قال بالأول فهذا معناه أن الموضوع والمحمول أصبحا شيئا واحدا مركبا وحينئذ يستحيل أن تنعقد جملة تامة لأنها إنما تنعقد بطرفين لا بطرف واحد ، وإن قال بالثاني إذن فقد ثبت إمكان تعدد اللحاظ في آن صدور الحكم من النفس.

وأمّا حلا ، فهذا يرجع إلى بحث فلسفي ، ولكن نقول على نحو الإجمال ، أن النفس ليست بسيطة بذاك المعنى الذي يطبق عليه قانون أن الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد ، بل إن النفس لها حيثيات متعددة ، وبلحاظ هذه الحيثيات يمكن أن يصدر منها لحاظات متعددة حتى بقطع النظر عن القوى والآلات.

الوجه الثاني :

ما ذكره المحقق الأصفهاني (١) (قده) وتوضيحه موقوف على بيان أمرين :

__________________

(١) نهاية الدراية / الأصفهاني : ج ١ ص ٨٨ ـ ٨٩.

١٠١

الأمر الأول :

أن وجود اللفظ هو وجود لماهيتين ، وجود حقيقي لماهية اللفظ ، ووجود تنزيلي لماهية المعنى ، لأن اللفظ اعتبر وجودا للمعنى ، إذن فما هو وجود تنزيلي لماهية المعنى عين ما هو وجود حقيقي لماهية اللفظ ، فبين الوجودين عينيّة ، وعلى هذا فتعدد أحدهما يساوق تعدد الآخر لا محالة ، ووحدة أحدهما كذلك تساوق وحدة الآخر.

الأمر الثاني :

أن الوجود والإيجاد شيء واحد ، فتعدد الإيجاد ووحدته ، يساوق تعدد الوجود ووحدته.

وإذا تم هذان الأمران نقول : أن الاستعمال هو عبارة عن إيجاد وجود تنزيلي للمعنى ، فإذا أردنا استعمال اللفظ في المعنيين ، إذن فهناك استعمالان ، أي إيجادان تنزيليان ، وبمقتضى الأمر الثاني من أن الإيجاد عين الوجود وتعدده هو تعدده ، فهناك إذن وجودان تنزيليان ، وبالتالي هناك وجودان حقيقيان بمقتضى الأمر الأول ، حيث قلنا ، أن الوجود الحقيقي للفظ هو عين الوجود التنزيلي ، فإذن نحتاج إلى وجودين حقيقيين للفظ ، والحال أنه ليس هناك إلّا وجود حقيقي واحد للفظ ، وعلى هذا يستحيل استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى.

وهذا الكلام لا محصل له ، إذ لو فرضنا أن الاستعمال هو إيجاد تنزيلي والإيجاد عين الوجود وتعدده هو تعدده ، لكن ما هو معنى الإيجاد التنزيلي؟. الإيجاد التنزيلي بحسب الحقيقة هو إيجاد التنزيل وإن نسب إلى الغير مسامحة ، فالإيجاد التنزيلي للمعنى هو إيجاد تنزيل اللفظ منزلة المعنى والإيجادان التنزيليان هما إيجادان لتنزيلين ، ولا محذور في تعدد التنزيل مع وحدة المنزّل ، فينزل اللفظ الواحد في عرض واحد ، تارة منزلة العبد ، وأخرى منزلة السيد ، إذن فتعدد التنزيل لا ينافي وحدة المنزّل.

١٠٢

الوجه الثالث :

ما ذكره صاحب الكفاية (١) (قده) ، وتوضيحه ، أن الاستعمال هو عبارة عن إراءة المعنى باللفظ ، بحيث أن لحاظ اللفظ يكون لحاظا آليا مرآتيا ، ولحاظ المعنى لحاظا استقلاليا ، تماما كمن يرى الصورة في المرآة فهو لا يرى المرآة بما هي هي ، وإنما يراها فانية وآلة للصورة ، وهو يرى الصورة ويلحظها لحظا استقلاليا ، وكذلك الحال في باب الاستعمال ، فاللفظ بالنسبة للمعنى هو كالمرآة بالنسبة للصورة فيكون اللفظ فانيا في المعنى على حدّ فناء المرآة في ذيها.

وبناء على هذا ، فاستحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واضحة ، لأن اللفظ بعد فنائه في هذا المعنى لا يعقل أن يفنى في المعنى الآخر وفي عرض واحد ، إذ معنى فنائه أنه في عالم التصور قد استهلك في جنب هذا المعنى ، ومعه لا يعقل أن يستهلك في نفس الوقت في جنب معنى آخر.

وهذا البيان تعرض له السيد الأستاذ قائلا (٢) ، بأن هذا مبني على المشهور في الوضع ، فإذا قيل بأن الوضع عبارة عن الاعتبار والتنزيل ، فكأن اللفظ أفني في المعنى ، وحينئذ يتم هذا البيان وأما إذا قلنا بأن الوضع عبارة عن التعهد بأنه متى ما أتى باللفظ يجعله علامة على هذا المعنى المخصوص فليس بابه باب الإفناء فلا يتم البيان المذكور.

والتحقيق أن برهان المحقق الخراساني غير مربوط بباب الوضع ، بل هو مربوط بتشخيص معنى الاستعمال ، وفي هذا المقام ، قد يقال.

إن حقيقة الاستعمال هو الإفنائية والمرآتية ، وقد يقال ، إنه العلامية ، فهنا احتمالان ، أحدهما ، أن يكون الاستعمال بابه باب المرآة وذيها ، فاللفظ

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

١٠٣

مرآة والمعنى ذو المرآة ، والآخر ، أن يكون باب الاستعمال باب العلامة وذيها ، من قبيل العامود على رأس الفرسخ.

وحينئذ ، كلا الاحتمالين معقول على جميع المباني في الوضع ، فيمكن لصاحب التعهد أو لصاحب الاعتبار ، أن يختار الاحتمال الأول ، أو الاحتمال الثاني ، وحيث أنه لا برهان على أن يكون الاستعمال متعينا في باب المرآة ، كما أنه لا برهان أيضا على تعيّنه في باب العلامة ، فحينئذ لا يتم برهان صاحب الكفاية ، حيث يجاب ، بأن ما ذهب إليه إنما يتم لو اتبع المستعمل طريقة الاستعمال المرآتي ، وأما إذا اتبع طريقة الاستعمال العلامي ، فلا بأس أن يجعل اللفظ علامة على شيئين سواء كان بانيا في الوضع على التعهد أو الاعتبار.

نعم حيث أن المرآتية في الاستعمال هي الغالب ، وهي المنصرف من الاستعمال بحسب المحاورات العرفية ، ولهذا يكون ذلك هو النكتة العرفية في استظهار أن لا يكون اللفظ مستعملا في أكثر من معنى ، وهناك من اضطره القول بأن استعمال اللفظ في أكثر من معنى هو على خلاف الظهور العرفي ، لأخذ قيد الوحدة في المعنى الموضوع له.

وقد عرفت أن المناط في ذلك ، هو أن الآلية في الاستعمال هي على طبق الظهور العرفي ، ومع الآلية لا تعدّد في المعنى المستعمل فيه.

إذن فبحسب الحقيقة ، استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى أمر معقول ثبوتا ، على أن يكون بنحو العلامية ، لا بنحو المرآتية ، لكن حيث أن ظاهر الاستعمال عرفا هو المرآتية ، لهذا يصير فهم معنيين واستعمال اللفظ في معنيين على خلاف الظهور العرفي للدليل. وعليه لا يصح استعمال اللفظ في أكثر من معنى ثبوتا وإثباتا.

١٠٤

المشتق

والتحقيق أنه لا إشكال في صحة استعمال المشتق وإطلاقه على المتلبس حقيقة ، كما لا إشكال في صحة إطلاقه على المنقضي عنه المبدأ ، وعلى الذي لم يتلبس بعد بالمبدإ ، إلّا أن إطلاقه على من لم يتلبس بعد بالمبدإ ، لا إشكال في كونه مجازيا ، وإنما الكلام في إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ ، فهل هو صحيح على نحو الحقيقة ، أو على نحو المجاز؟. فالقائل بالوضع لخصوص المتلبس ، يذهب إلى المجاز والقائل بالوضع للأعم (١) من المتلبس وممّن انقضى عنه المبدأ يذهب إلى الحقيقة ، فالاختلاف في تشخيص سعة دائرة الموضوع له ، وضيقه ، والأقوال في المسألة متعددة ، فهناك قول ، بالوضع لخصوص المتلبس مطلقا ، وقول ثاني بالوضع للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ مطلقا ، وقول ثالث بالتفصيل ، بين بعض المشتقات ، والبعض الآخر ، فبعضها موضوع لخصوص المتلبس ، وبعضها موضوع للجامع الأعم ، وتوضيح الحال في هذا النزاع يتوقف على تقديم مقدمات.

__________________

(١) وبناء على الوضع للأعم يصبح اطلاقه على من لم يتلبس بعد ، حقيقة أيضا ، المقرر

١٠٥

المقدمة الأولى

والكلام في هذه المقدمة يدور حول ثلاث دوائر من الأسماء ، وهذه الدوائر ، بعضها أعم من البعض الآخر.

الدائرة الأولى : هي دائرة الأوصاف الاشتقاقية ، من قبيل اسم الفاعل واسم المفعول واسم المكان واسم الزمان.

الدائرة الثانية : أوسع من الأولى ، وهي دائرة مطلق الأسماء الاشتقاقية أوصافا كانت أو غير أوصاف ، وهذه الدائرة تشمل المصادر ، فإنها من المشتقات ولكنها ليست أوصافا ، فلا توصف الذات بالمصدر.

الدائرة الثالثة : أوسع من الثانية ، وهي دائرة مطلق الأسماء ، اشتقاقية كانت أو جوامد.

ومقدمة لتحرير محل النزاع من هذه الدوائر ، لا بدّ من تشخيص الملاك ، والضابط الفنّي للنزاع ، بحيث متى ما وجد هذا الضابط ، جرى البحث بين الأعمي والقائل بالوضع لخصوص المتلبس ، ومتى ما فقد ، استحال جريان هذا النزاع.

وفي هذا المقام ، قال الأعلام أن الضابط الفني لجريان النزاع ، هو عبارة عن مجموع ركنين ، بحيث إذا فقد أحد الركنين استحال النزاع ، وهذان الركنان هما :

١٠٦

الركن الأول :

أن يكون الإسم ممّا يحمل على الذات ، وتوصف به الذات ، لأن الأسماء على قسمين قسم يحمل على الذات ، من قبيل اسم الفاعل ، فيقال «زيد ضارب» ، وقسم آخر ، لا يحمل على الذات ، من قبيل «ضرب» ، فلا يقال «زيد ضرب». إلّا مسامحة ، فما كان من الأسماء لا يحمل على الذات لا يعقل فيه النزاع ، وذلك لأنه أصلا لا يحمل على الذات ليقع الكلام في أنه حقيقة في الذات المتلبسة أو في الأعم من المتلبسة والمنقضى عنها المبدأ ، وإنما الكلام في الأسماء التي تحمل على الذات ، فيقع النزاع فيها ، في أنها حقيقة في الذات المتلبسة أو في الأعم؟.

الركن الثاني :

إمكان بقاء الذات عقلا بعد فرض ارتفاع المبدأ.

وتوضيح ذلك : أن الإسم الذي يحمل على الذات لا بد فيه من لحاظ حيثية مصححة للحمل ، وهي التي يعبر عنها بالمبدإ ، فباعتبار حيثية المبدأ وقيام المبدأ بالذات ، يحمل هذا الإسم على الذات.

وهنا يقال بأن هذه الحيثية ، تارة يفرض ارتفاعها مع انحفاظ الذات عقلا ، كما هو الحال في ضارب ، فإن حيثية الضرب ترتفع مع أن الذات وهي «زيد» باقية على حالها ، وتارة أخرى يفرض أن هذه الحيثية ، متى ما ارتفعت يستحيل بقاء الذات بعدها ، بل لا يمكن ارتفاعها مع بقاء الذات ، كما هو الحال فيما لو كانت الحيثية ذاتية «في كتاب الكليات» ، فمن الواضح حينئذ أنه بارتفاعها ترتفع الذات ، لأنها إن كانت نوعا فهي تمام الذات ، وإن كانت فصلا أو جنسا فهي جزء الذات ، فبارتفاعها ترتفع الذات ، مثلا عنوان الحيوان ينطبق على الذات ، فيقال هذا حيوان ، والمصحح لهذا الحمل هو الحيوانية ، لكن لا يمكن فرض زوال الحيوانية مع بقاء ذات الحيوان ، وكذلك عنوان الشجر والحجر ونحو ذلك ، ففي المقام لا يمكن فرض بقاء الذات مع ارتفاع هذه

١٠٧

الحيثية ، ومن هنا يقال ، بأن النزاع في أنه موضوع لخصوص الذات المتلبسة أو للأعم ، إنما هو في الأوصاف التي يعقل فيها بقاء الذات بعد ارتفاع المبدأ ، فيقال أن هذه الذات الباقية بعد ارتفاع المبدأ ، هل يطلق عليها اسم الضارب ، أو لا يطلق عليها اسم الضارب ، وأمّا إذا فرض أن الذات بنفسها ترتفع عقلا كلما ارتفع المبدأ فحينئذ ، لا ذات باقية ليقع النزاع في أنه هل يطلق عليها الإسم أو لا يطلق عليها الإسم ، فمن هنا جعلوا الركن الثاني في ملاك النزاع هو إمكان بقاء الذات بعد ارتفاع المبدأ والحيثية المصححة للحمل.

ولكن ما أفادوه وقع موردا للإشكال أيضا في كلماتهم ، حيث أرادوا بهذا الضابط أن يخرجوا بالركن الأول ، المصادر المزيد منها فضلا عن المجردة ، حيث لا تحمل على الذات ، فلا يتعقل فيها النزاع ، وأرادوا أن يخرجوا بالركن الثاني ، ما كانت مبادئه ذاتية للذات كالشجر والحيوان ، ففي مثل ذلك لا يجري النزاع ، فهنا وقعوا في إشكال حيث تخيّل أن الركن الثاني غير محفوظ في المشتقات التي مبادئها عرضية لا ذاتية ، لكنها لازمة ، كما هو الحال في الواجب والممكن ، فيقال ، أن الواجب مبدؤه الوجوب ، والوجوب لازم للذات ، وليس ذاتيا ، بل هو عرضي لازم ، يستحيل ارتفاعه مع بقاء الذات ، وكذلك الحال في الإمكان ، بالنسبة للإنسان ، فهو حيثية عرضية لازمة للإنسان ، وليست ذاتية ، فيستحيل بقاء الذات مع زوالها ، فمن هنا اضطر السيد الأستاذ (١) في مقام دفع هذا الإشكال ، إلى القول بأن هذه المشتقات التي تكون مبادئها عرضية ولازمة للذات أن هذا أمر اتفاقي وليس دائميا ، لأن الوضع في الهيئات الاشتقاقية وضع نوعي لنوع هيئة فاعل ، وليس وضعا شخصيا لكل اسم فاعل ، «فواجب» هيئتها بشخصها لم توضع ليقع فيها الإشكال ، وهو أن هيئة واجب لا يجري فيها النزاع لأن المبدأ ملازم للذات ويستحيل ارتفاعه مع بقائها ، بل الموضوع طبيعي هيئة فاعل ، سواء كانت مادته وجوب أو ضرب ، ومن المعلوم أن هذه الهيئة الكلية قابلة لأن يزول

__________________

(١) محاضرات فياض / ج ١ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

١٠٨

المبدأ مع انحفاظ الذات ولو بلحاظ بعض مصاديقها ، بلحاظ «ضارب» لا بلحاظ «واجب» وهذا يكفي لتعقل النزاع.

والتحقيق أن هذا الإشكال نشأ من عدم تحديد معنى الركن الثاني وهو إمكان بقاء الذات مع زوال المبدأ وعدم استحالة بقاء الذات مع زوال المبدأ ، فقد وقع خلط بين الاستحالة الفلسفية ، والاستحالة المنطقية ، ومقصودنا من الاستحالة ، الفلسفية ، هو ما يحكم العقل باستحالته ، باعتبار برهان أو بداهة ، دون أن يكون ذلك من باب التناقض ، فمثلا يستحيل فلسفيا انفصال العلة عن معلولها ، فلا يصح القول بأن النار موجودة ، ولكن الحرارة غير موجودة ، باعتبار ما ثبت بالبرهان من أن النار علة للحرارة ، والعلة يستحيل فلسفيا انفصالها عن معلولها ، ولا يستحيل ذلك منطقيا من باب التناقض ، إذ لا تناقض في قولنا النار موجودة ، ولكن الحرارة غير موجودة ، ومقصودنا من الاستحالة المنطقية ، هو ما يحكم العقل باستحالته من باب التناقض ، مثلا أن يكون «زيد» «لا زيد» ، فهذا مستحيل منطقيا باعتبار التناقض ، وحينئذ نقول ، أن استحالة التفكيك بين المبدأ والذات لها نحوان.

فتارة تكون استحالة منطقية من باب التناقض كما هو الحال فيما إذا كان المبدأ ذاتيا ، سواء كان جنسا أو نوعا أو فصلا ، فإن فرض زواله مع فرض بقاء الذات تناقض ، إذ زوال الحيوانية مع بقاء الحيوان ، وزوال الشجرية مع بقاء الشجر ، هذا مستحيل منطقيا لأنه تناقض.

وأخرى تكون استحالة فلسفية لا منطقية ، كما هو الحال فيما إذا كان المبدأ لازما للذات ، فإن فرض زواله مع بقاء الذات ليس تناقضا ، بل مستحيل عقليا فلسفيا ، ففي قولنا ، «الله واجب» يستحيل أن يرتفع الوجوب مع بقاء الذات ، لأنه لازم لها ولكن هذه الاستحالة فلسفية لا منطقية ، إذ لا تناقض في قولنا ، الذات ثابتة ، ولكن الوجوب غير ثابت ، لأن أحدهما غير الآخر.

وإذا اتضح ذلك نقول ، بأن الركن الثاني الذي به يتم ملاك النزاع ، هو أن لا يكون ارتفاع المبدأ مع بقاء الذات مستحيلا استحالة منطقية ، وحينئذ

١٠٩

يندفع الإشكال ، لأن المبدأ إن كان ذاتيا من قبيل الأجناس والفصول والأنواع ، فاستحالة ارتفاعه مع بقاء الذات ، استحالة منطقية ، فمن التناقض أن نقول ، الحيوان موجود والحيوانية مرتفعة ، فلا يجري النزاع في الأوصاف التي تكون مبادئها ذاتية ، لأن استحالة الانفكاك استحالة منطقية قائمة على أساس التناقض ، وأمّا إذا كان المبدأ عرضيا ، فهو وإن كان لازما من قبيل الوجوب الذي يستحيل انفكاكه عن الذات ، لكن ليس من باب التناقض ، بل من باب الاستحالة العقلية الفلسفية ، فحينئذ ، لا مانع من جريان النزاع ، لأن استحالة الانفكاك ليس فيها تناقض ، ولهذا فالأحسن أن يعبّر عن الركن الثاني بهذا التعبير ، وهو أن يقال ، بأن الركن الثاني ، هو أن يكون المبدأ غير الذات ومغايرا للذات ، لأنه متى ما كان المبدأ عين الذات حينئذ ، تكون استحالة ارتفاعه مع بقاء الذات استحالة منطقية على أساس التناقض لأنه عينه فكيف نقول ذاك مرتفع وهذا باق ، ومتى ما كان المبدأ غير الذات حينئذ يمكن منطقيا فرض ارتفاعه مع بقاء الذات وإن كان مستحيلا فلسفيا لكن ليس فيه تناقض ، وحينئذ ، يمكن جريان النزاع لأن النزاع في المقام هو في الوضع وفي أن لفظ المشتق موضوع للأعم أو لخصوص المتلبس ، ومن المعلوم أن الغرض من دعوى الأعمي هو التوصل إلى استعمال اللفظ فيه وليس غرضه توسعة دائرة الوجود الخارجي للذات المنقضي عنها المبدأ ، بل غرضه توسعة دائرة الاستعمال ، بحيث يمكن أن يستعمل اللفظ في الذات المنقضي عنها المبدأ ، ومن الواضح أن استعمال اللفظ في معنى يتوقف على إمكان تصوره لا على إمكان وجوده خارجا ، وعلى هذا ففي موارد كون المبادئ مغايرة مع الذات ولكنها ملازمة لها من قبيل الإمكان والوجوب ، فهذه مبادئ ملازمة للذات ، بحيث يستحيل خارجا وجود الذات مع ارتفاع المبدأ ، بل ارتفاعه يساوق ارتفاع الذات ، ولكن بحسب عالم التصور يمكن تصور الذات المنقضي عنها المبدأ ، فتصور الذات المنقضي عنها الإمكان أو الوجوب بمكان من الإمكان ، وعلى هذا فالاستعمال ممكن ، وإذا كان ممكنا فسعة الوضع وجريان النزاع أمر معقول.

١١٠

وأما إذا كانت المبادئ عين الذات ، من قبيل الإنسانية والإنسان ، فلا يمكن تصوير مطلب الأعمي ، فلا يقال بأن المشتق موضوع للأعم من الإنسان المتلبس بالإنسانية بالفعل والإنسان المقضي عنه الإنسانية ، لأن هذا غير معقول تصورا ، لأنه بمجرد أن نفرض الذات ، وهو الإنسان ، فقد فرضت فعلية التلبس بالمبدإ ، لأن المبدأ محتوى في الذات ، فكيف يمكن للأعمي أن يجمع بين تصور الإنسان ولا تصور الإنسان ، وهذا بخلاف ما إذا لم تكن استحالة الانفكاك منطقية ، فإن فرض الذات فارغة عن مبدئها معقول حينئذ ، وإن لم يكن واقعا خارجا ، بل يستحيل وقوعه ، فإن تحديد معاني الألفاظ لا يتوقف على وقوعها في الخارج بالفعل ، فمثل هذا يصح إطلاق المشتق عليه حتى بناء على الوضع لخصوص المتلبّس.

إذن فلا يتعقّل النزاع فيما إذا كان المبدأ عين الذات ، لأنه لا يمكن تعقّل ارتفاع المبدأ مع بقاء الذات في عالم التصور.

وبهذا اتضح ، أن الركن الثاني ، هو أن يكون المبدأ مغايرا للذات ، سواء كان ممكن الانفكاك عنها ، أو غير ممكن الانفكاك.

وبعد هذا ، نأتي إلى الدوائر الثلاث ، لنرى حدود النزاع فيها ، ونبدأ بأوسعها ، وهو مطلق الأسماء المشتقات وغير المشتقات ، فهل يشمل النزاع غير المشتقات من أسماء الجوامد ، أو لا يشملها النزاع.

في هذا المقام فصّل الأعلام في أسماء الجامد بين قسمين :

القسم الأول :

أسماء الجوامد ، التي تكون موضوعة لعناوين ذاتية منتزعة عن مرتبة الذات ، من قبيل الحديد والماء والحيوان والإنسان ونحو ذلك من العناوين الذاتية ، وهذا القسم لا يعقل جريان النزاع فيه لأنه لا يعقل بقاء الذات مع زوال المبدأ ، لأنه عينه ، فالإنسانية عين الإنسان ، فكيف يعقل تصور الذات وانحفاظها مع ارتفاع المبدأ ، فلا يتعقل جريان النزاع في هذا القسم.

١١١

القسم الثاني :

الأسماء الموضوعة لعناوين عرضية منتزعة من أمر خارج عن الذات ، من قبيل عنوان السيف وعنوان الزوج ، فإن عنوان السيف ليس ذاتيا للحديد بل هو منتزع عنه بلحاظ أمر خارجي ، وعنوان الزوج ليس ذاتيا لزيد بل هو منتزع عنه بلحاظ أمر خارجي ، وفي هذا القسم ، يمكن جريان النزاع لأن كلا الركنين موجود في المقام ، فإن السيف والزوج يحمل على الذات ، والمغايرة بين المبدأ والذات موجودة ، فإن الزوجية مغايرة مع ذات زيد ، ومبدأ السيف وهو الحالة المخصوصة في الحديد مغايرة ما ماهية الحديد ، إذن فهذه العناوين العرضية ، يمكن فرض ارتفاع مبادئها مع انحفاظ الذات ، لأنها مغايرة للذات ، وعلى هذا يمكن جريان النزاع في هذا القسم الثاني.

وأما القسم الأول الذي ذهبوا فيه إلى عدم تعقل جريان النزاع لأنه لا يمكن انحفاظ الذات مع زوال المبدأ ، إذ مع زوال مبدأ الشجرية والإنسانية ، لا شجر ولا إنسان ، هنا لا بدّ أن نسأل ، مقدّمة للبحث ، أنه ما المراد بالذات الذي تقولون بأنها لا تنحفظ بعد زوال الشجرية والإنسانية؟. هل المراد من الذات المركب النوعي أو المراد من الذات الجسم؟.

ولتوضيح الفكرة نأخذ السيف كمثال ، ولا بد أن نشرح تصورات الفلاسفة القدماء حتى نفهم كلمات علماء الأصول ، يقولون أن السيف مركب من أربعة أمور :

الأمر الأول هو المادة الصرفة أو القوة الصرفة وهي المسماة بالهيولى.

والأمر الثاني هو الصورة الجسمية التي تلبسها الهيولى فأصبحت بهذه الصورة الجسمية جسما.

والأمر الثالث هو الصورة النوعية ، وهي كون السيف حديدا ، لأن الصورة الجسمية كما هي موجودة في الحديد أيضا هي موجودة في الماء ، فالحديد يختلف عن الماء بالصورة النوعية.

١١٢

والأمر الرابع وهو الحالة المخصوصة التي بها يمتاز السيف عن المنشار مثلا.

ولا إشكال عندهم في جوهرية وذاتية القوة الصرفة ، والصورة الجسمية ، وفي انحفاظ المادة مهما تبدلت الصورة الجسمية فهي محفوظة بإحدى الصور على سبيل البدل ، وأما الصورة النوعية فهي محل الكلام فيما بينهم ، فالمشهور على جوهريتها ، وهناك قول بعرضيتها ، واختلفوا في تبدل الصورة الجسمية تبعا لتبدل الصورة النوعية ، فمنهم من ذهب إلى تبدل الصورة الجسمية لأنها متقومة ومتحصلة بالصورة النوعية ، فإذا صارت الصورة النوعية النباتية ، صورة نوعية خشبية ، تتبدل الصورة الجسمية ، كما إذا تبدلت الصورة النوعية للنخلة ، فأصبحت بعد القطع صورة نوعية خشبية ، ومنهم من ذهب إلى بقاء الصورة الجسمية محفوظة على حالها مهما تبدلت الصورة النوعية.

وأما الحالة المخصوصة التي يمتاز بها السيف مثلا ، فلا إشكال عندهم في كونها عرضا. هذه هي كلمات علماء الأصول تبعا للفلاسفة في هذا المقام.

وعلى ضوء ما تقدم نقول : أنه لا إشكال في أن عنوان الحديد منتزع من الجسم ومحمول عليه بلحاظ الأمر الثالث ، وهو الصورة النوعية («الحديدية») ، فالصورة النوعية نسبتها إلى عنوان الحديد نسبة المبدأ الاشتقاقي ، فهي مبدأ الاشتقاق لاسم الحديد ، وهنا يقال أن هذا المبدأ (الحديدية) حيث أنه ذاتي ، إذن بارتفاعه ترتفع الذات ، فلا يتأتى النزاع ، ليقال هل أن اسم الحديد ينطبق على الذات بعد الانقضاء أو لا ينطبق على الذات بعد الانقضاء.

ولكن ما المراد بهذه الذات التي ترتفع بارتفاع المبدأ والصورة النوعية؟. فهل المراد بها المركب الثلاثي من الهيولى ، والصورة الجسمية والصورة النوعية؟. فإن أرادوا بالذات هذا المركب الثلاثي الذي هو نوع

١١٣

حقيقي ، فحينئذ صحّ ما يقال ، بأن الذات ترتفع بارتفاع المبدأ ، لأن المبدأ هنا ، وهو الصورة النوعية ، جزء من هذا المركب ، فإذا ارتفع ، ارتفع المركب لا محالة ، فلا تبقى هذه الذات ، ولكن لا ملزم للنظر إلى هذه الذات المصاغة من المركب الثلاثي ، بل هناك ذات أخرى يمكن تصورها ، وهي المركب الثنائي من القوة الصرفة ومن الصورة الجسمية ، وهذا المركب الثنائي ، هو القدر المشترك بين الحديد والماء والهواء وغير ذلك ، وهو ذات ، ولا إشكال بأنه يحمل عليه عنوان الحديد فيقال هذا الجسم حديد ، أو الجسم تارة حديد وأخرى خشب.

إذن فلنبحث أن ارتفاع الصورة النوعية («الحديدية») هل يوجب ارتفاع هذا المركب الثنائي أو لا يوجب ارتفاعه؟.

أما بناء على ما بيّناه ، من أن الركن الثاني لضابط النزاع هو عبارة عن مغايرة المبدأ مع الذات فمن الواضح أن هذا الركن محفوظ في المقام ، لأن المركب الثنائي هو القوة الصرفة والصورة الجسمية وأمّا الصورة النوعية («الحديدية») أمر زائد على هذا الثنائي ، كما أن الركن الأول محفوظ في المقام كما بيناه ، إذ لا إشكال في أن عنوان الحديد يحمل على الجسم ، وعلى هذا فيعقل جريان النزاع فيه.

وأمّا إذا سلكنا مسلك الأعلام في الركن الثاني وعبّرنا بإمكان الانفكاك بين المبدأ والذات مع عدم التمييز بين الإمكان المنطقي والاستحالة المنطقية وبين الإمكان الفلسفي والاستحالة الفلسفية ، فنتساءل هل أن الصورة النوعية (الحديدية) يمكن انفكاكها عن المركب الثنائي أو لا يمكن ذلك؟. أمّا بحسب النظر الدقّي الفلسفي ففيه بحث.

فمن الفلاسفة من ذهب إلى أن الصورة الجسمية متقومة وجودا بأشخاص الصور النوعية ، فإذا زالت الصورة النوعية زالت معها الصورة الجسمية ، فلا يعقل بقاء الذات بعد ارتفاع المبدأ الذي هو الصورة النوعية ، ومنهم من ذهب بأن الصورة الجسمية متقومة بإحدى الصور النوعية على

١١٤

البدل ، فإذا زالت الصورة النوعية فالصورة الجسمية محفوظة لأن المقوّم لها هو الجامع ، فالذات باقية بعد ارتفاع المبدأ ، وهناك من ذهب إلى أن الصورة الجسمية غير متقومة أصلا بالصور النوعية ، لا بأشخاصها ولا بالجامع وهو مذهب من يقول بعرضية الصور النوعية ، وعلى هذا فالصورة الجسمية محفوظة بشخصها فالذات باقية على حالها ، ولكن بحسب تخيّل الإنسان العرفي النافع في المقام ، لأن البحث بحث لغوي وليس فلسفيا ، فيكفي لتصوير وضع المشتق للأعم بقاء الذات عرفا ، وبهذا يتضح أن الذات المتحصلة من المركب الثنائي محفوظة حتى بعد ارتفاع المبدأ الذي هو الصورة النوعية فيعقل جريان النزاع فيه أيضا.

وقد انقدح ممّا تقدم ، أنه إن أريد بالذات المركب الثلاثي فلا إشكال في ارتفاع الذات بارتفاع المبدأ ، لكن لا ملزم إلى ذلك ، فإن عنوان الحديد يحمل على الجسم الذي هو المركب الثنائي ، فهذه الذات محفوظة على كل حال حتى بعد ارتفاع المبدأ ويكون كلا ركني النزاع تاما فيه ، فالركن الأول تماميته واضحة ، والركن الثاني بصيغتيه المختارة والمشهورة محفوظ في المقام ، إذن فالتفصيل بين العناوين الذاتية من الشجر والحديد ، والعناوين العرضية ، ودعوى أن النزاع لا يتعقل في العناوين الذاتية ويتعقل في غيرها ، فهذا ممّا لا أساس له ، نعم خارجا لم يقع نزاع في العناوين الذاتية ، بل وقع في غيرها ، فهذا يرجع إلى مقام الوقوع لا إلى مقام الثبوت والإمكان ، فبحسب الخارج لم يدّع أحد بأن الحديد موضوع للجسم الذي تلبس بالحديدية ولو آنا ما ، ولو بعد هذا صار نارا بعد تذويبه ، لم يقل أحد بذلك ، فالمقصور قصور إثباتي لا قصور ثبوتي. هذا هو الكلام في الدائرة الواسعة.

الدائرة الثانية :

وهي دائرة المشتقات ، فهل المشتقات بتمامها تدخل في محل الكلام ، أو أن بعضها خارج عن الكلام!.

ومن الواضح أن بعضها خارج ، لعدم وجود الركن الأول فيها من قبيل

١١٥

المصادر وأسماء المصادر والأفعال ، فإنها لا تحمل على الذات ، فلا يتعقل فيها النزاع ، بل يختص النزاع بخصوص الأوصاف الاشتقاقية ، من قبيل اسم الفاعل والمفعول والآلة والصفة المشبهة فإن هذه تحمل على الذات فيجري فيها النزاع.

الدائرة الثالثة :

وهي دائرة الأوصاف الاشتقاقية ، فهل يجري النزاع في تمام الأوصاف الاشتقاقية ، أو أن بعضها خارج عن محل النزاع؟.

فقد ادّعي في بعض كلمات المحقق النائيني (١) ، خروج بعض الأوصاف الاشتقاقية ، عن محل النزاع ، كخروج محل الآلة عن محل النزاع ، فمثلا ، «مفتاح» الذي هو من أسماء الآلة خارج عن محل النزاع ، إذ لا إشكال في عدم أخذ فعلية التلبس فيه لوضوح صحة إطلاقه قبل التلبس فما ظنك به بعد التلبس.

وجوابه واضح ، لأن التلبس إنما هو باعتبار المبدأ ، فإذا فرض أنّ المبدأ هو الفتح ، فهو داخل في محل النزاع ، وإذا فرض أنه هو شأنية الفتح فهو أيضا داخل في محل النزاع ، لأن الآلة قد تفقد شأنية الفتح في زمن ما ، فيقع النزاع في أنه هل يصدق على كونها هكذا ، «مفتاحا» أو لا يصدق ذلك؟.

ومن جملة ما توهّم خروجه عن محل النزاع ، هو أسماء الزمان ، بناء على إشكال الكفاية (٢) ، من أن الذات في أسماء الزمان هي الزمان ، «فمقتل ومضرب» الذات فيه ، هي الزمان ، والمبدأ هو القتل ، والضرب ، ومن المعلوم أنه بانقضاء المبدأ ينقضي الزمان أيضا ، فلا يعقل بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ ليقع الكلام في أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس أو لمن انقضى عنه

__________________

(١) فرائد الأصول / الكاظمي : ج ١ ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ٩٩.

١١٦

المبدأ. وقد تخلّص عن هذا الإشكال بوجوه ، ولعلّ من أضبطها ما ذكره صاحب الكفاية.

الوجه الأول :

ما ذكره صاحب الكفاية (١) ، فقد حاول (قده) ، أن يتخلّص من التوهم المذكور ، ببيان ، وحاصله ، أنه لو سلمنا بأن الذات يستحيل بقاؤها بعد انقضاء المبدأ ، لكن لا مانع من وضع لفظ المقتل «الجامع» بين الذات المتلبسة والذات المنقضي عنها المبدأ ، بل لا مانع من وضع اللفظ لخصوص المستحيل ، إذ ليس المقصود من وضع اللفظ لمعنى ، وجوده في الخارج ، بل تصوره ، والمستحيل ممكن التصور فالاستعمال فيه ممكن ، وعليه فالوضع له بمكان من الإمكان ، إذن فالاستحالة الفلسفية ليست مانعة من الوضع للأعم ، فلو فرضنا أن الذات المنقضي عنها المبدأ مستحيلة فلسفيا ، لكن لا مانع من وضع اللفظ لها ، لأن المقصود من الوضع هو الاستعمال لا الإيجاد خارجا ، والاستعمال موقوف على إمكان التصور ، فلا مانع إذن من الوضع للأعم ، لإمكان تصوّر الموضوع له اللفظ.

ولكن هذا الجواب غير صحيح ، لأن بقاء الذات في أسماء الزمان مع انقضاء المبدأ ليس مستحيلا فلسفيا فحسب ، بل هو مستحيل منطقي ويشتمل على التناقض ، وقد مرّ بك أنه إذا كان بقاء الذات مع ارتفاع المبدأ مشتملا على التناقض ، فيستحيل دخوله في محل النزاع ، لأن نفس مفهوم انقضاء الزمان يشتمل على التجدد الذي هو معنى الزمان ، فإن المبدأ بقطع النظر عن الزمان لا معنى لانقضائه ، فانقضاء المبدأ هو عين انقضاء الزمان ، لا أنه يوجد انقضاءان في المقام ، انقضاء للمبدا ، وانقضاء للزمان ، بل انقضاء المبدأ عبارة عن تجدد زمان آخر ، وإلّا ففي لوح غير زماني وبنظرة لا زمانية ، تكون الحوادث غير منقضية ، بل كلها موجودة ، إذن فانقضاء المبدأ عين انقضاء

__________________

(١) حقائق الأصول / الحكيم : ج ١ ص ١٠٠.

١١٧

الزمان ، لا أنه أمر آخر ملازم لانقضاء الزمان.

إذن ففرض انقضاء المبدأ مع بقاء الزمان تناقض ، لأن معناه ، فرض انقضاء الزمان ولا انقضاء الزمان ، فيكون مستحيلا منطقيا لاشتماله على التناقض. فجواب المحقق الخراساني غير تام.

الوجه الثاني :

ما ذكره جماعة من المحققين ، كالمحقق الأصفهاني (١) والسيد الأستاذ (٢) ، حيث قالوا ، بأن أسماء الزمان هي بنفسها أسماء المكان ، فلا يوجد لاسم الزمان صيغة مستقلة في مقابل اسم المكان ، فمقتل هو اسم الزمان والمكان معا فهو دال على الذات التي تقع ظرفا للقتل ، سواء كان الظرف ظرفا مكانيا ككربلاء ، أو زمانيا كيوم عاشوراء ، وعلى هذا يعقل جريان النزاع في اسم الزمان ، لأن الذات الزمانية وإن كان لا يعقل بقاؤها بعد انقضاء المبدأ ولكن الذات المكانية يعقل بقاؤها بعد انقضائه ، ويكفي في تعقل النزاع تعقل انقضاء المبدأ مع انحفاظ الذات ولو في بعض المصاديق وفي بعض الحالات ، ولا يلزم في تعقل النزاع أن يكون بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ معقولا في تمام الحالات وفي تمام مصاديق المعنى الموضوع له ، إذن فالنزاع متعقّل في أسماء الزمان.

وهذا الجواب ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأن أسماء الزمان وأسماء المكان وإن كانت متداخلة ولكن هذا لا يعني أن مقتل له معنى وحداني بوضع واحد ، بل هذا تداخل في اللفظ وليس تداخلا في المعنى ، فليست كلمة مقتل ، هي اسم المكان ، وهي اسم الزمان ، وإنما هذه الكلمة ، صارت اسم مكان بلحاظ معنى ، وصارت اسم زمان بلحاظ معنى آخر ، وذلك لأن مقتل لا بدّ وأن توضع للذات الملحوظة ظرفا للقتل ، وحينئذ نسأل هل أن هذه الذات

__________________

(١) نهاية الدراية / الأصفهاني : ج ١ ص ٩٨ ـ ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) أجود التقريرات / الخوئي : ج ١ ص ٥٦.

١١٨

الملحوظة ظرفا للقتل ، يؤخذ فيها عنوان الظرفية بما هو مفهوم اسمي؟. فعلى هذا يمكن تصوير معنى وحداني جامع ينطبق على الزمان والمكان الظرفي ويتم ما قالوه ، من أن هذا المعنى الجامع يعقل فيه انقضاء المبدأ مع بقاء الذات ، ولو بلحاظ بقاء المكان لا بقاء الزمان.

ولكن من الواضح أن المشتق وهو «مقتل» لم يوضع للذات التي هي ظرف للقتل ، بحيث يكون مفهوم الظرفية بما هو مفهوم اسمي مأخوذا في مفهوم المشتق ، لبداهة أن مفهوم الظرفية كمفهوم الفاعلية والآلية ، تنتزع من المشتقات ، لا أنها مأخوذة في مدلول المشتقات ، ولهذا لا يتبادر إلى الذهن مفهوم الظرفية من لفظ «مقتل» ، بل المتبادر صورة ينتزع منها بعد ذلك مفهوم الظرفية.

إذن مفهوم الظرفية بما هو مفهوم اسمي ، غير مأخوذ في مدلول المشتق ، بل المأخوذ في مدلول المشتق واقع الظرفية لا مفهوم الظرفية ، فمثلا كأن يقال أن كلمة «مقتل» موضوعة لذات ونسبة ظرفية ومبدأ ، وبعد تصوّر. الذات مع النسبة مع المبدأ ، ننتزع مفهوم الظرفية من هذه الصورة ، لا أن هذا المفهوم مدلول لنفس كلمة مقتل ، وفي هذا القول عندنا نسبتان ، نسبة المكان إلى المكين ، ونسبة الزمان إلى ذي الزمان ، وهاتان النسبتان متباينتان فلسفيا ووجدانيا ، أمّا فلسفيا ، فلأن نسبة الشيء إلى مكانه هي عبارة عن مقولة الأين ، ونسبة الزمان إلى ذي الزمان عبارة عن مقولة المتى ، ومن المعلوم فيما بينهم ، أن هذه المقولات العالية متباينة ذاتا ، وأمّا وجدانا فلأننا نتصور واقع احتواء يوم عاشوراء للقتل ونتصور مرة أخرى واقع احتواء كربلاء للقتل ، فهذان احتواء أن متغايران في التصوّر.

فسنخ احتواء المكان للمكين غير سنخ احتواء الزمان لذي الزمان ، إذن فلا جامع بين هاتين النسبتين ولا بد من وضع اللفظ لكلتا النسبتين ، بأن يكون لاسم «مقتل» مدلولان ، أحدهما الذات مع واقع نسبة الزمان إلى القتل ، والآخر الذات المكانية مع واقع نسبة المكان إلى المكين.

١١٩

وحينئذ يقال ، بأن جريان النزاع في اسم مقتل إنما هو بلحاظ أحد مدلوليه ، وهو الذات المكانية مع النسبة المكانية ، لا بلحاظ المدلول الآخر وهو الذات الزمانية مع النسبة الزمانية ، فيبقى الإشكال في أسماء الزمان بلحاظ هذا المدلول على حاله.

وقد انقدح ، أن هنا خلطا بين مفهوم الظرفية وواقع الظرفية ، فلو كان اسم مقتل قد أخذ فيه مفهوم الظرفية بما هو مفهوم اسمي ، حينئذ أمكن تصوير مفهوم واحد يكون جامعا بين الظرف الزماني والظرف المكاني ، ولكن قد عرفت أن مفهوم الظرفية غير مأخوذ في مدلول المشتق ، وإنما المأخوذ واقع النسبة الظرفية ، يعني ـ ذات مع نسبة مع مبدأ ـ ، وأنت خبير بأن واقع النسبة بين المكان وذي المكان مغاير للنسبة بين الزمان وذي الزمان مغايرة ذاتية ، إذن فلا بدّ من افتراض مدلولين لاسم الزمان ، بلحاظ أحدهما يجري النزاع ، ولا يجري النزاع بلحاظ الآخر.

الوجه الثالث :

ما أفاده المحقق العراقي (١) (قده) وهو أن الزمان الذي ينقضي بانقضاء المبدأ إنما هو تلك اللحظة التي وقع فيها القتل ، وهذه اللحظة لا يعقل بقاؤها بعد انقضاء المبدأ ، ولكن هذه اللحظة باعتبار اتصالها مع اللحظات البعدية ، تكون موجودة بوجود وحداني امتدادي ، لأن الاتصال مساوق للوحدة ، وهذا الموجود الوحداني الطويل له بقاء بعد انقضاء المبدأ.

وقد أورد المحقق الأصفهاني (٢) على هذا الكلام ما مضمونه ، أن المتصف بالحدث حقيقة هو تلك اللحظة التي حصل فيها القتل لا هذا الواحد الاتصالي ، ونشبّه ذلك بالأجسام الخارجية ، فكما أن اللحظات واحدة بالاتصال ، كذلك اللوح الخشبي واحد بالاتصال ، فكما أنه إذا وقعت الجمرة

__________________

(١) بدائع الأفكار / الآملي : ج ١ ص ١٦١ ـ ١٦٢.

(٢) نهاية الدراية / ج ١ ص ٩٨ ـ ٩٩ ـ ١٠٠.

١٢٠