تذكرة الفقهاء - ج ٩

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ٩

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-008-0
الصفحات: ٥٠١

مائة وتسعة وتسعين من أبطال الكفّار ، فإن راعينا صورة العدد ، لم يجز ، وإلاّ جاز.

ويجوز للنساء الفرار ، لأنّهنّ لسن من أهل فرض الجهاد ، وكذا الصبي والمجنون. ويأثم السكران.

ولو قصد الكفّار بلدا فتحصّن أهله إلى تحصيل نجدة وقوّة ، لم يأثموا ، إنّما الإثم على من ولّى بعد اللقاء.

الحالة الثانية : أن يترك لا بنيّة الهرب ، بل يتحرّف للقتال.

قال الله تعالى ( إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ) (١).

والمتحرّف للقتال هو الذي ينصرف ليكمن في موضع ثمّ يهجم ، أو يكون في مضيق فيتحرّف حتى يتبعه العدوّ إلى موضع واسع ليسهل القتال فيه ، أو يرى الصواب في التحوّل من الواسع إلى الضيق ، أو لينحرف عن مقابلة الشمس أو الريح ، أو يرتفع عن هابط ، أو يمضي إلى موارد المياه من المواضع المعطشة ، أو ليستند إلى جبل ، أو شبهه.

الحالة الثالثة : أن يتحيّز إلى فئة ، وهو الذي ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة ليستنجد بها في القتال.

ولا فرق بين أن تكون الطائفة قليلة أو كثيرة ، للعموم ، ولا بين أن تكون المسافة قصيرة أو طويلة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : أنّه يجب أن تكون المسافة قصيرة ليتصور الاستنجاد بها في هذا القتال وإتمامه (٢).

وهل يجب عليه تحقيق (٣) ما عزم عليه بالقتال مع الفئة التي تحيّز‌

__________________

(١) الأنفال : ١٦.

(٢) الوجيز ٢ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٣ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٨.

(٣) في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجريّة : تحقّق. والصحيح ما أثبتناه.

٦١

إليها؟ للشافعيّة وجهان :

أصحّهما عندهم : لا ، لأنّ العزم عليه رخّص له [ في ] (١) الانصراف ، فلا حجر عليه بعد ذلك ، والجهاد لا يجب قضاؤه ، ولا فرق بين أن يخاف عجز المسلمين أو لا.

والثاني : نعم ، لدلالة الآية على العزم على القتال ، والرخصة منوطة بالعزم ، ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزم (٢).

وقال بعض الشافعيّة : إنّما يجوز التحيّز إلى فئة إذا استشعر المتحرّف عجزا محوجا إلى الاستنجاد لضعف جند الإسلام ، فإن لم يكن كذلك ، فلا (٣). والعموم يخالفه.

وقال بعضهم : لا يجوز الانصراف من صفّ القتال إن كان فيه انكسار المسلمين ، فإن لم يكن ، جاز التحيّز للمتحرّف للقتال والمتحيز إلى فئة (٤).

إذا عرفت هذا ، فالاستثناء إنّما هو حالة القدرة والتمكّن من القتال ، فينحصر الاستثناء فيهما ، أمّا العاجز بمرض أو عدم سلاح فله أن ينصرف بكلّ حال.

ولو أمكنه الرمي بالحجارة ، احتمل وجوب الثبات.

وللشافعيّة وجهان (٥).

والمتحيّز إلى فئة بعيدة لا يشارك الغانمين في غنيمة فارق قبل‌

__________________

(١) أثبتناها من العزيز شرح الوجيز.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٨.

(٤) الوجيز ٢ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٨.

٦٢

اغتنامها ، ولو فارق بعد غنيمة البعض ، شارك فيه دون الباقي.

أمّا لو تحيّز إلى فئة قريبة ، فإنّه يشارك الغانمين في المغنوم بعد مفارقته ـ وهو أحد وجهي الشافعي (١) ـ لأنّه لا يفوّت نصرته والاستنجاد به ، فهو كالسريّة يشارك جند الإمام فيما يغنمون ، وإنّما يسقط الانهزام الحقّ إذا اتّفق قبل القسمة ، أمّا إذا غنموا شيئا واقتسموه ثمّ انهزم بعضهم ، لم يسترد منه ما أخذ.

مسألة ٢٨ : ينبغي للإمام أن يوصي الأمير المنفذ مع الجيش بتقوى الله تعالى والرفق بالمسلمين.

قال الصادق عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ، ثمّ يقول : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيّا ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجرا إلاّ أن تضطرّوا إليها ، وأيّما رجل من أدنى المسلمين وأفضلهم نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله ، فإن تبعكم فأخوكم في دينكم ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه ، ثمّ استعينوا بالله عليه » (٢).

وينبغي أن يوصيه بأن لا يحملهم على مهلكة ولا يكلّفهم نقب حصن يخاف من سقوطه عليهم ولا دخول مطمورة يخشى من موتهم تحتها ، فإن فعل شيئا من ذلك ، فقد أساء ، وليستغفر الله تعالى.

ولا يجب عليه عقل ولا دية ولا كفّارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته ، لأنّه فعله باختياره ومعرفته ، فلا يكون ضامنا.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٩.

(٢) الكافي ٥ : ٢٧ ـ ٢٨ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٣٨ ـ ٢٣١.

٦٣

مسألة ٢٩ : لا يجوز قتل صبيان الكفّار ونسائهم إذا لم يقاتلوا ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان (١).

والمجنون كالصبي ، والخنثى المشكل كالمرأة. فإن قاتلوا ، جاز قتلهم مع الضرورة لا بدونها.

ولو أسر منهم مراهق وجهل بلوغه ، كشف عن مؤتزره ، فإن لم ينبت ، فحكمه حكم الصبيان ، وإن أنبت ، حكم ببلوغه ، وبه قال الشافعي (٢) ، خلافا لأبي حنيفة (٣).

وهل هو بلوغ أو دليل؟ الأقرب : الثاني. وللشافعي وجهان (٤).

ولو قال الأسير : استعجلت الشعر بالدواء ، بني على القولين ، فإن قلنا : إنّه عين البلوغ ، فلا عبرة بما يقوله ، وهو بالغ ، وإن قلنا : إنّه دليل ـ وهو الأظهر ـ صدّق بيمينه ويحكم بالصّغر.

وفي اليمين إشكال ، لأنّ تحليف من يدّعي الصّغر بعيد.

وقال بعض الشافعيّة : إنّ اليمين استظهار واحتياط لا أنّها واجبة (٥).

وقال الباقون : لا بدّ من اليمين ، لأنّ الدليل الظاهر قائم ، فلا يترك بمجرّد قول المأسور (٦).

والاعتماد من شعر العانة على الخشن دون الضعيف الذي لا يحوج‌

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٧٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٦٤ ـ ٢٥ ، سنن البيهقي ٩ : ٧٧ ، الموطأ ٢ : ٤٤٧ ـ ٩.

(٢) الوجيز ٢ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٤.

(٣) المبسوط ـ للسرخسي ـ ١٠ : ٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٤.

(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٤.

٦٤

إلى الحلق.

ويحتمل عندي أنّ شعر الإبط الخشن والوجه يلحقان بشعر العانة.

ونبات الشارب كاللحية ، ولا أثر لاخضرار الشارب.

مسألة ٣٠ : الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي وقتال ، جاز قتله إجماعا. وكذا إن كان فيه قتال ولا رأي له ، أو كان له رأي ولا قتال فيه ، لأن دريد [ بن ] (١) الصمّة قتل يوم حنين (٢) ، وكان له مائة وخمسون سنة ، وكان له معرفة بالحرب ، وكان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرّفهم كيفيّة القتال ، فقتله المسلمون ، ولم ينكر عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وإن لم يكن له رأي ولا قتال ، لم يجز قتله عندنا ـ وبه قال أبو حنيفة ومالك والثوري والليث والأوزاعي وأبو ثور (٤) ـ لما رواه العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « لا تقتلوا شيخا فانيا » (٥).

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه‌السلام : « .. ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيّا ولا امرأة » (٦).

ولأنّه لا ضرر فيه من حيث المخاصمة ومن حيث المشورة ، فأشبه‌

__________________

(١) أضفناها من المصادر.

(٢) في « ك‍ » والطبعة الحجريّة : بدر. وفي « ق » : خيبر. وما أثبتناه من المصادر.

(٣) المغازي ـ للواقدي ـ ٣ : ٨٨٦ ـ ٨٨٩ و ٩١٤ ـ ٩١٥ ، صحيح البخاري ٥ : ١٩٧ ، صحيح مسلم ٤ : ١٩٤٣ ـ ٢٤٩٨ ، الامّ ٤ : ٢٤٠ و ٢٨٤ ، مختصر المزني : ٢٧٢ ، شرح معاني الآثار ٣ : ٢٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٢٩٢ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٤ ، المغني ١٠ : ٥٣٤ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٤.

(٤) بدائع الصنائع ٧ : ١٠١ ، بداية المجتهد ١ : ٣٨٤ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٣ : ١٦٩ ، المغني ١٠ : ٥٣٢ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٢ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٤ : ١٣.

(٥) سنن أبي داود ٣ : ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٢٦١٤ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١٢ : ٣٨٣ ـ ١٤٠٦٤ ، المغني ١٠ : ٥٣٣ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٢.

(٦) الكافي ٥ : ٢٧ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٣٨ ـ ٢٣١.

٦٥

المرأة وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه العلّة فقال : « ما بالها قتلت وهي لا تقاتل » (١).

وقال أحمد : يقتل. وبه قال المزني ـ وللشافعي قولان (٢) ـ لعموم قوله تعالى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (٣) (٤).

وهو مخصوص بالصبي والمرأة إجماعا فكذا بالفاني.

مسألة ٣١ : الرهبان وأصحاب الصوامع يقتلون إن كان لهم قوّة أو رأي أو كانوا شبّانا.

وللشافعي قولان ـ وفي معناهم العميان والزمنى ومقطوعي الأيدي والأرجل ـ أحدهما : الجواز ، كما قلناه ـ وبه قال أحمد والمزني وأبو إسحاق (٥) ـ للعموم (٦).

والثاني : أنّه لا يجوز قتلهم ـ وبه قال أبو حنيفة ومالك (٧) ـ لما روي أنّه عليه‌السلام قال : « لا تقتلوا النساء ولا أصحاب الصوامع » (٨) (٩).

__________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني ١٠ : ٥٣٣ و ٥٣٥ ، والشرح الكبير ١٠ : ٣٩٢.

(٢) الوجيز ٢ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٤ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٠ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٣ ، المغني ١٠ : ٥٣٣ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٢.

(٣) التوبة : ٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٣ ، مختصر المزني : ٢٧٢.

(٦) التوبة : ٥.

(٧) بدائع الصنائع ٧ : ١٠١ ، المدوّنة الكبرى ٢ : ٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٣.

(٨) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١.

(٩) الوجيز ٢ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩١ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٩٣ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٥.

٦٦

ولا فرق بين أن يحضر ذو الرأي من الشيوخ والرهبان في صفّ القتال أو لا يحضر في جواز قتله ، ولا بين أن نجده في بلاده وغازيا في جواز قتله.

وللشافعي قولان في أرباب الحرف والصناعات ، أقواهما : جواز قتلهم ، لأنّ أكثر الناس أصحاب حرف وصناعات (١).

وأمّا الزمنى والعميان والمعرضون عن القتال كالرهبان : فالأقوى عنده ترك قتله (٢).

وفي السوقة للشافعيّة طريقان :

أحدهما : أنّ فيهم قولين ، لأنّهم لا يمارسون القتال ، ولا يتعاطون الأسلحة.

والثاني : أنّهم يقتلون ، لقدرتهم على القتال.

وفرّعوا على القولين : فإن جوّزوا قتلهم ، جوّزوا استرقاقهم وسبي نسائهم وذراريهم واغتنام أموالهم ، وإن منعوه ، ففي استرقاقهم طرق ، أظهرها : أنّهم يرقون بنفس الأسر ، كالنساء والصبيان.

والثاني : أن فيهم قولين كالأسير إذا أسلم قبل الاسترقاق ، ففي قول : لا يسترق (٣). وفي آخر : يتخيّر الإمام بين الاسترقاق والمنّ والفداء.

والثالث : أنّه لا يجوز استرقاقهم بل يتركون ولا يتعرّض لهم (٤).

ولو ترهّبت المرأة ، ففي جواز سبيها عندهم وجهان بناء على القولين‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٢.

(٢) انظر : العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٢.

(٣) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر : يتعيّن رقّه. بدل لا يسترقّ.

(٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٤.

٦٧

في جواز قتل الراهب (١).

ولا يقتل رسول الكافر.

روى العامّة عن ابن مسعود : أنّ رجلين أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولين لمسيلمة ، فقال لهما : « اشهدا أنّي رسول الله » فقالا : نشهد أنّ مسيلمة رسول الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو كنت قاتلا رسولا لضربت عنقكما » (٢).

والفلاّح يقتل ، عندنا ، للعموم ، لأنّه يطلب منه الإسلام ، وبه قال الشافعي (٣) ، خلافا لأحمد (٤).

مسألة ٣٢ : إذا نزل الإمام على بلد ، جاز له محاصرته بمنع السابلة دخولا وخروجا ومحاصرتهم في القلاع والحصون وتشديد الأمر عليهم ، لقوله تعالى ( وَاحْصُرُوهُمْ ) (٥).

وحاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل الطائف شهرا (٦).

ولأنّهم ربما رغبوا في الإسلام وعرفوا محاسنه.

وكذا يجوز نصب المناجيق على قلاعهم ورمي الأحجار وهدم الحيطان وإن كان فيهم النساء والصبيان ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصب على أهل الطائف منجنيقا وكان فيهم نساء وصبيان. رواه العامّة (٧).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٥.

(٢) مسند أحمد ١ : ٦٤٥ ـ ٣٧٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٤ ، بتفاوت في اللفظ.

(٣ و ٤) المغني ١٠ : ٥٣٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٤.

(٥) التوبة : ٥.

(٦) سنن البيهقي ٩ : ٨٤ ، المراسيل ـ لأبي داود ـ : ١٨٣ ـ ٣١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٦.

(٧) المغازي ـ للواقدي ـ ٣ : ٩٢٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٢٦٦ ، سنن البيهقي ٩ : ٨٤ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٥.

٦٨

ومن طريق الخاصّة : رواية حفص بن غياث ، قال : كتب إليّ بعض إخواني أن أسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن مدينة من مدائن الحرب هل يجوز أن يرسل عليهم الماء أو يحرقون بالنيران أو يرمون بالمنجنيق حتى يقتلوا وفيهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجّار؟ فقال : « يفعل ذلك ، ولا يمسك عنهم لهؤلاء ، ولا دية عليهم ولا كفّارة » (١).

ولأنّه في محلّ الضرورة فكان سائغا.

ونهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل النساء والصبيان (٢) مصروف إلى قتلهم صبرا ، لأنّه عليه‌السلام رماهم بالمنجنيق في الطائف (٣).

ويجوز تخريب حصونهم وبيوتهم ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرّب حصون بني النضير وخيبر وهدم ديارهم (٤).

مسألة ٣٣ : يجوز قتل المشركين كيف اتّفق ، كإلقاء النار إليهم وقذفهم بها ورميهم بالنفط مع الحاجة ، عند أكثر العلماء (٥) ـ خلافا لبعضهم ـ لأنّ أبا بكر أمر بتحريق أهل الردّة ، وفعله خالد بن الوليد بأمره (٦).

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه‌السلام : « يفعل ذلك » لمّا سئل عن‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٤٢ ـ ٢٤٢.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٧٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٦٤ ـ ٢٥ ، سنن البيهقي ٩ : ٧٧ ، الموطأ ٢ : ٤٤٧ ـ ٩.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٦٨ ، الهامش (٧).

(٤) كما في المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ١١.

(٥) المغني ١٠ : ٤٩٤ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٥.

(٦) المغني ١٠ : ٤٩٣ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٩.

٦٩

إحراقهم بالنار (١).

وهل يجوز مع عدم الحاجة؟ ظاهر كلام الشيخ (٢) ـ رحمه‌الله ـ يقتضيه ، لأنّه سبب في هلاكهم ، كالقتل بالسيف.

ومنع بعض (٣) العامّة منه ، لما رواه حمزة الأسلمي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّره على سريّة ، قال : فخرجت فيها ، فقال : « إن أخذتم فلانا فأحرقوه بالنار » فوليت ، فناداني ، فرجعت ، فقال : « إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه ، فإنّه لا يعذّب بالنار إلاّ ربّ النار » (٤).

وهو غير محلّ النزاع ، لأنّه لا يجوز قتل الأسير بغير السيف.

وكذا يجوز تغريقهم بإرسال الماء إليهم (٥) وفتح البثوق عليهم لكن يكره مع القدرة عليهم بغيره.

وهل يجوز إلقاء السمّ في بلادهم؟ منع الشيخ منه (٦) ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يلقى السمّ في بلاد المشركين (٧).

والأقوى : الجواز : ويحمل النهي على الكراهة.

وبالجملة ، يجوز قتالهم بجميع أسباب القتل ، كرمي الحيّات القواتل والعقارب وكلّ ما فيه ضرر.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٤٢ ـ ١٤٢.

(٢) انظر : النهاية : ٢٩٣.

(٣) المغني ١٠ : ٤٩٣ و ٤٩٤ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٩ و ٣٩٠.

(٤) سنن أبي داود ٣ : ٥٤ ـ ٥٥ ـ ٢٦٧٣ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ٢٤٣ ـ ٢٦٤٣ ، المغني ١٠ : ٤٩٤ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٩.

(٥) كلمة « إليهم » لم ترد في « ق ، ك‍ ».

(٦) النهاية : ٢٩٣ ، الجمل والعقود ( ضمن الرسائل العشر ) : ٢٤٣.

(٧) الكافي ٥ : ٢٨ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ١٤٣ ـ ٢٤٤.

٧٠

مسألة ٣٤ : يكره تبييت العدوّ غارّين ليلا ، وإنّما يلاقون بالنهار ، ولو احتيج إليه فعل ، لما روى العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا طرق العدوّ ليلا لم يغر حتى يصبح (١).

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه‌السلام : « ما بيّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدوّا قطّ ليلا » (٢).

إذا عرفت هذا ، فيستحبّ أن يكون القتال بعد الزوال ، لأنّه ربما يحضر وقت صلاة الظهر فلا يمكنهم أداؤها ، بخلاف العشاءين ، لأنّهم يمتنعون عن القتال بدخول الليل.

قال الصادق عليه‌السلام : « كان علي عليه‌السلام لا يقاتل حتى تزول الشمس » (٣).

ويكره قطع الشجر والنخل. ولو احتاج إليه ، جاز في قول عامّة العلماء (٤) ـ خلافا لأحمد (٥) ـ لقوله تعالى ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) (٦) قال ابن عباس : اللينة : النخلة غير الجعرور (٧).

وما رواه العامّة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع الشجر بالطائف ونخلهم ، وقطع‌

__________________

(١) سنن البيهقي ٩ : ٧٩ ، مسند أحمد ٤ : ٦٦ ـ ١٢٧٢٧.

(٢) التهذيب ٦ : ١٧٤ ـ ٣٤٣.

(٣) الكافي ٥ : ٢٨ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ١٧٣ ـ ٣٤١.

(٤) المغني ١٠ : ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٨ ، بداية المجتهد ١ : ٣٨٦ ، التفريع ١ : ٣٥٧ ، النتف ٢ : ٧١٠ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٣ : ٤٢٠ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٢٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٥٦.

(٥) انظر : المغني ١٠ : ٥٠١ ـ ٥٠٢ ، والشرح الكبير ١٠ : ٣٨٨.

(٦) الحشر : ٥.

(٧) أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ٣ : ٤٢٩ ، تفسير الطبري ٢٨ : ٢٢ ، وفيهما : « العجوة » بدل « الجعرور ».

٧١

النخل بخيبر ، وقطع شجر بني المصطلق وأحرق (١).

وأمّا الكراهة : فلقول الصادق عليه‌السلام ـ في الحسن ـ : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا تقطعوا شجرا إلاّ أن تضطرّوا إليها » (٢).

ولو غلب على الظنّ حصوله للمسلمين ، كره قطعه. وللشافعي قولان (٣).

ولو فتحها قهرا ، لم يجز القطع والتخريب ، لأنّها صارت غنيمة للمسلمين. وكذا لا يجوز لو فتحت صلحا على أن يكون لنا أو لهم.

ولو غنمنا أموالهم وخفنا لحوقهم واستردادهم ، جاز هلاكها.

ويجوز قتل دوابّهم حالة الحرب ، لما فيه من التوصّل إلى قتلهم وهربهم ، ولأنّه يجوز قتل الصبيان والنساء وأسارى المسلمين لو تترّسوا بهم فالدوابّ أولى ، أمّا في غير حال الحرب فلا ينبغي ـ وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور (٤) ـ لما رواه العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه نهى عن قتل شي‌ء من الدوابّ صبرا (٥).

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه‌السلام في وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ولا تعقروا البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله » (٦).

__________________

(١) انظر : سنن البيهقي ٩ : ٨٤ والعزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٢٢ وفيهما بعض المقصود.

(٢) الكافي ٥ : ٣٠ ـ ٩ ، التهذيب ٦ : ١٣٨ ـ ٢٣١.

(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٢٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٥٦ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥١.

(٤) المغني ١٠ : ٤٩٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٢٣.

(٥) صحيح مسلم ٣ : ١٥٤٩ ـ ١٩٥٦ ، و ١٥٥٠ ـ ١٩٥٩ ، سنن البيهقي ٩ : ٨٦ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ : ٤٦ ـ ١٢٤٣٠ ، المغني ١٠ : ٤٩٩ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٢٣.

(٦) الكافي ٥ : ٢٩ ـ ٨ ، التهذيب ٦ : ١٣٨ ـ ٢٣٢.

٧٢

ولأنّه حيوان ذو حرمة ، فلا يجوز قتله لمغايظة الكفّار ، كالنساء والصبيان.

ويجوز عقر (١) الدوابّ للأكل مع الحاجة إن كان لا يتّخذ إلاّ للأكل ، كالدجاج والحمام إجماعا. ولو كان يحتاج إليه للقتال كالخيل ، فكذا مع الحاجة ، خلافا لبعض العامّة (٢).

ولو أذن الإمام في ذبحها ، جاز إجماعا.

ولو عجز المسلمون عن سوقه وأخذه ، جاز ذبحه للانتفاع به مع الحاجة وعدمها.

ولو غنم المسلمون خيل الكفّار ثمّ لحقوا بهم وخافوا استرجاعها ، لم يجز قتلها ولا عقرها ، لما تقدّم ، أمّا لو خافوا حصول قوّة لهم علينا ، جاز عقرها.

وقال أبو حنيفة ومالك : يجوز إتلاف الخيول بكلّ حال مغايظة للكفّار (٣).

مسألة ٣٥ : لو تترّس الكفّار بنسائهم وصبيانهم ، فإن دعت الضرورة إلى الرمي بأن كانت الحرب ملتحمة وخيف لو تركوا لغلبوا ، جاز قتالهم ، ولا يقصد قتل الترس ولا يكفّ عنهم لأجل التّرس.

ولقول الصادق عليه‌السلام : « ولا يمسك عنهم لهؤلاء » لمّا سئل عن قتلهم وفيهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين (٤).

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « غير » بدل « عقر ». وما أثبتناه هو الصحيح.

(٢) المغني ١٠ : ٤٩٩ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٢٣ ، المغني ١٠ : ٤٩٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٨٥.

(٤) التهذيب ٦ : ١٤٢ ـ ٢٤٢.

٧٣

ولأنّ ترك التّرس يؤدّي إلى تعطيل الجهاد ، ولئلاّ يتّخذوا ذلك ذريعة إليه.

وإن لم تكن الضرورة داعية إلى قتلهم بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم ولم تكن الحرب ملتحمة وكان المشركون في حصن متحصّنين أو كانوا من وراء خندق كافّين عن القتال ، فالأقرب : كراهية قتلهم ، للنهي عن قتل النساء والصبيان ، ونحن في غنية عن قتلهم ، وهو أحد قولي الشافعي (١).

والثاني : المنع ، للنهي (٢).

وليس بجيّد ، لأنّه يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم.

ولو تترّسوا بهم وهم في القلعة ، فكذلك. وللشافعي قولان (٣).

أمّا لو تترّسوا بمسلم ، فإن لم تكن الحرب قائمة ، لم يجز الرمي ، وكذا لو أمكنت القدرة عليهم بدون الرمي أو أمن شرّهم ، فلو خالفوا ورموا ، كان الحكم فيه كالحكم في غير هذا المكان : إن كان القتل عمدا ، وجب القود والكفّارة على قاتله ، وإن كان خطأ ، فالدية على عاقلته والكفّارة عليه.

ولو كان حال التحام الحرب ، جاز رميهم ، ويقصد بالرمي المشركين لا المسلمين ، للضرورة إلى ذلك بأن يخاف منهم لو تركوا. ولو لم يخف‌

__________________

(١ و ٢) الوجيز ٢ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٨ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٦.

٧٤

منهم لكن لا يقدر عليهم إلاّ بالرمي ، فالأولى الجواز أيضا ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّ تركهم يفضي إلى تعطيل الجهاد.

وللشافعي قول آخر : إنّه لا يجوز قتلهم إذا لم يمكن ضرب الكفّار إلاّ بضرب المسلم ، سواء خفنا منهم أو لم نخف ، لأنّ غاية ما فيه أنّا نخاف على أنفسنا ، ودم المسلم لا يباح بالخوف ، كما في صورة الإكراه (٢).

وقال الليث والأوزاعي : لا يجوز رميهم مع عدم الخوف ، لقوله تعالى ( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ) (٣) (٤).

قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حقّ (٥).

وفرّق بعض الشافعيّة بين التترّس بمسلم واحد وبين التترّس بطائفة من المسلمين ، لأنه يتساهل في أشخاص من الأسارى ، بخلاف الكلّيّات (٦).

فروع :

أ ـ لو رمى فأصاب مسلما ولم يعلم أنّه مسلم والحرب قائمة ، فلا دية ، لأنّه مأمور بالرمي ، فلا يجامع العقوبة. ولأنّه يؤدّي إلى بطلان الجهاد ،

__________________

(١) مختصر المزني : ٢٧١ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) المغني ١٠ : ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

(٥) المغني ١٠ : ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٥.

٧٥

لجواز أن يكون كلّ واحد يقصده مسلما فيمتنع من الرمي.

ب ـ لو علمه مسلما ورمى قاصدا للمشركين ولم يمكنه التوقّي فأصابه وقتله ، فلا قود عليه إجماعا ، لأنّ القصاص مع تجويز الرمي متنافيان. ولأنّه لم يقصده ، ولا تجب الدية أيضا عندنا ـ وهو أحد قولي الشافعي وقول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد (١) ـ لقوله تعالى : ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) (٢) ولم يذكر الدية ، فلا تكون واجبة.

والثاني للشافعي وأحمد : تجب الدية ، لقوله تعالى ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ) (٣) (٤).

وآيتنا أخصّ فتقدّم.

وأمّا الكفّارة : فالحقّ وجوبها ، لقوله تعالى ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) (٥) وهو قول الشافعي وأحمد (٦).

وقال أبو حنيفة : لا تجب الكفّارة ، لأنّه كمباح الدم (٧).

ونمنع القياس خصوصا مع معارضة الكتاب.

وللشافعي قول آخر : إنّه إن علمه مسلما ، لزمته الدية وإلاّ فلا ،

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٨٩ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٠١ ، المغني ١٠ : ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٦.

(٢ و ٣) النساء : ٩٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧ ، الحاوي الكبير ١٤ : ١٨٩ ، المغني ١٠ : ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٦.

(٥) النساء : ٩٢.

(٦) مختصر المزني : ٢٧١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٣٩٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٠١ ، المغني ١٠ : ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٦.

(٧) بدائع الصنائع ٧ : ١٠١ ، المغني ١٠ : ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٦.

٧٦

والفرق أنّه إذا علم إسلامه ، أمكنه التوقّي عنه والرمي إلى غيره فغلظ عليه (١).

وقال بعض أصحابه : إن قصده بعينه ، لزمته الدية ، سواء علمه مسلما أو لا ، وإن لم يقصده بعينه بل رمى إلى الصفّ ، لم تلزم (٢).

وقال بعض الشافعيّة : إن علم أنّ هناك مسلما ، وجبت الدية ، سواء قصده بعينه أو لم يقصده ، وإن لم يعلم ، فقولان (٣).

وعن أبي حنيفة : لا دية ولا كفّارة (٤).

ج ـ قالت الشافعيّة : إن قلنا : لا يجوز الرمي فرمى فقتل ، ففي وجوب القصاص طريقان :

أحدهما : أنّه على قولين ، كالمكره إذا قتل.

والثاني : القطع بالوجوب ، كالمضطرّ إذا قتل إنسانا وأكله. ويفارق المكره بأنّه ملجأ إلى القتل ، وهنا بخلافه ، ولأنّ هناك من يحال عليه وهو المكره ، وليس ها هنا غيره (٥).

د ـ لو تترّس الكفّار بذمّي أو مستأمن أو عبد ، فالحكم في جواز الرمي والدية والكفّارة على ما تقدّم ، لكنّ الواجب في العبد القيمة لا الدية.

وقال بعض الشافعيّة : لو تترّس كافر بترس مسلم أو ركب فرسه‌

__________________

(١) مختصر المزني : ٢٧١ ، الوجيز ٢ : ١٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

(٢) الوجيز ٢ : ١٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

(٤) بدائع الصنائع ٧ : ١٠١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٠ ، المغني ١٠ ، ٤٩٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٣٩٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

٧٧

فرمى إليه مسلم فأتلفه ، فإن كان في غير التحام القتال ، فعليه الضمان ، وإن كان في حال الالتحام ، فإن أمكنه أن لا يصيب الترس والفرس فأصابه ، ضمن ، وإن لم يمكنه الدفع إلاّ بإصابته ، فإن جعلناه كالمكره ، لم يضمن ، لأنّ المكره في المال يكون طريقا في الضمان ، وهنا لا ضمان على الحربي حتى يجعل المسلم طريقا ، وإن جعلناه مختارا ، لزمه الضمان (١).

مسألة ٣٦ : إذا حاصر الإمام حصنا ، لم يكن له الانصراف إلاّ بأحد أمور خمسة :

الأوّل : أن يسلموا فيحرزوا بالإسلام دماءهم وأموالهم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها » (٢).

الثاني : أن يبذلوا مالا على الترك ، فإن كان جزية وهم من أهلها ، قبلت منهم ، وإن لم تكن جزية بل كانوا حربيّين ، قبل مع المصلحة ، وإلاّ فلا.

الثالث : أن يفتحه ويملكه‌ ويقهرهم عليه.

الرابع : أن يرى من المصلحة الانصراف إمّا بتضرّر المسلمين بالإقامة أو بحصول اليأس منه ، كما روي أنّ النبي عليه‌السلام حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا ، فقال عليه‌السلام : « إنّا قافلون إن شاء الله غدا » فقال المسلمون : أنرجع ولم نفتحه؟ فقال عليه‌السلام : « اغدوا على القتال » فغدوا عليه فأصابهم الجراح ، فقال‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٤٤٧.

(٢) صحيح البخاري ٩ : ١٣٨ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٥٢٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٢٩٥ ـ ٣٩٢٧ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ـ ٢٩٣٣ ، مسند أحمد ١ : ٢٠ ـ ٦٨.

٧٨

لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّا قافلون غدا » فأعجبهم ، فقفل (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

الخامس : أن ينزلوا على حكم حاكم فيجوز ،

لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فأجابهم عليه‌السلام إلى ذلك (٣).

مسألة ٣٧ : لا يجوز التمثيل بالكفّار ولا الغدر بهم ولا الغلول منهم ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الصادق عليه‌السلام : « لا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تغدروا » (٤).

مسألة ٣٨ : المبارزة مشروعة غير مكروهة ، عند عامّة العلماء (٥) ـ إلاّ الحسن البصري ، فإنّه لم يعرفها وكرهها (٦) ـ لأنّ العامّة رووا أنّ عليّا عليه‌السلام بارز يوم خيبر فقتل مرحبا ، وبارز عمرو بن عبد ودّ يوم الخندق فقتله ، وبارز عليّ عليه‌السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث يوم بدر بإذن النبي عليه‌السلام (٧) ، ولم يزل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبارزون في عصر النبي عليه‌السلام وبعده ولم ينكره أحد ، فكان إجماعا.

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه‌السلام : « دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز ، فأبى أن يبارزه ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما منعك أن تبارزه؟ فقال : كان فارس العرب وخشيت أن يقتلني ، فقال له أمير‌

__________________

(١) فيما عدا المغني : « فضحك » بدل « فقفل ».

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤٠٣ ـ ١٧٧٨ ، مسند أحمد ٢ : ٧٧ ـ ٤٥٧٤ ، المغني ١٠ : ٥٣٦.

(٣) صحيح البخاري ٥ : ١٤٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٨٨ ـ ١٣٨٩ ـ ١٧٦٨ ، مسند أحمد ٣ : ٤٠١ ـ ١٠٧٨٤ و ٤٨٤ ـ ١١٢٨٣ ، و ٧ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ـ ٢٤٥٧٣ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١٤ : ٤٢٥ ـ ١٨٦٧٧ ، المغني ١٠ : ٥٣٧.

(٤) الكافي ٥ : ٢٧ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ١٣٨ ـ ٢٣١.

(٥ ـ ٧) المغني ١٠ : ٣٨٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٣٧.

٧٩

المؤمنين عليه‌السلام : فإنّه بغى عليك ولو بارزته لقتلته ، ولو بغى جبل على جبل لهدّ الباغي » (١).

مسألة ٣٩ : ينبغي للمسلم أن لا يطلب المبارزة إلاّ بإذن الإمام إذا أمكن‌ ـ وبه قال الثوري وإسحاق وأحمد (٢) ـ لأنّ الإمام أعرف بفرسانه وفرسان المشركين ومن يصلح للمبارزة ومن لا يصلح ومن يكون قرنا للكافر ومن لا يكون ، فربما تضرّر المسلمون. بكسر قلوبهم عند عجز صاحبهم ، فينبغي تفويضه إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرتضيه لها ، فيكون أحفظ لقلوب المسلمين وكسر قلوب الكفّار.

ولأنّ عليّا عليه‌السلام وحمزة وعبيدة استأذنوا النبي عليه‌السلام يوم بدر ، رواه العامّة (٣).

ومن طريق الخاصّة : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن المبارزة بين الصفّين بغير إذن الإمام ، قال : « لا بأس بذلك ، ولكن لا يطلب ذلك إلاّ بإذن الإمام » (٤).

ورخّص فيها مطلقا من غير إذن الإمام مالك والشافعي وابن المنذر ، لأنّ أبا قتادة قال : بارزت رجلا يوم خيبر (٥) فقتلته. ولم يعلم أنّه استأذن النبي عليه‌السلام (٦).

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٦٩ ـ ٣٢٤ ، وفي الكافي ٥ : ٣٤ ـ ٣٥ ـ ٢ بتفاوت يسير.

(٢ و ٣) المغني ١٠ : ٣٨٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٣٧.

(٤) التهذيب ٦ : ١٦٩ ـ ٣٢٣.

(٥) في الشرح الكبير : « حنين » بدل « خيبر ».

(٦) المغني ١٠ : ٣٨٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٣٨ ، الوجيز ٢ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٤٠٦ و ٤٠٧ ، حلية العلماء ٧ : ٦٥٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٣٨ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٤ : ١١ ، الجامع لأحكام القرآن ٣ : ٢٥٨.

٨٠