تذكرة الفقهاء - ج ٩

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ٩

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-008-0
الصفحات: ٥٠١

وبعد موته فلان ، جاز ، وانتقلت الخلافة إليهم على ما رتّب.

ولو مات الأوّل في حياة الخليفة ، فالخلافة بعده للثاني. ولو مات الأوّل والثاني في حياته ، [ فهي ] (١) للثالث على خلاف ، لأنّ المفهوم من اللفظ جعل الثاني خليفة بعد خلافة الأوّل (٢).

ولو مات الخليفة والثلاثة أحياء وصارت الخلافة إلى الأوّل فأراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين ، فالظاهر من مذهب الشافعي جوازه ، لأنّه إذا انتهت الخلافة إليه ، صار أملك بها ويوصلها إلى من شاء ، بخلاف ما إذا مات ولم يعهد بها إلى أحد ، ليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ، ويقدّم عهد الأوّل على اختيارهم.

وليس لأهل الشورى أن يعيّنوا واحدا منهم في حياة الخليفة إلاّ أن يأذن لهم في ذلك ، فإن خافوا انتشار الأمر بعده ، استأذنوه ، فإن أذن ، فعلوا.

وأنّه يجوز للخليفة أن ينصّ على من يختار الخليفة بعده ، كما يجوز له أن يعهد إلى غيره حتى لا يصحّ إلاّ اختيار من نصّ عليه ، كما لا يصحّ إلاّ تقليد من عهد إليه ، لأنّهما من حقوق خلافته.

وإذا عهد بالخلافة إلى غيره ، فالعهد موقوف على قبول المولّى (٣). واختلفوا في وقت القبول.

فقيل : بعد موت المولّي ، لأنّه وقت نظره وقيامه بالأمور (٤).

والأصحّ عندهم : أنّ وقته ما بين عهد المولّي وموته (٥).

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجريّة : فهو. وما أثبتناه أنسب بسياق العبارة.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٥.

(٣ ـ ٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ـ ٧٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦‌

٤٠١

وقيل : إذا امتنع المولى من القبول فيبايع غيره ، فكأنّه لا تولية (١).

وكذا إذا جعل الأمر شورى فترك القوم الاختيار ، لا يجبرون عليه ، فكأنّه ما جعل الأمر إليهم (٢).

الأمر الثالث : القهر والاستيلاء. فإذا مات الإمام فتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير استخلاف وبيعة ، وقهر الناس بشوكته وجنوده ، انعقدت الخلافة ، لانتظام الشمل بما فعل (٣).

ولو لم يكن مستجمعا للشرائط بل كان فاسقا أو جاهلا ، فللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : أنّ الحكم كذلك وإن كان عاصيا بما فعل (٤).

وهذا من أغرب الأشياء إيجاب المعصية (٥) ، فهذا كلّه ساقط عندنا ، لأنّا قد بيّنّا أنّ الإمامة لا تثبت إلاّ بالنصّ ، لوجوب العصمة ، وأنّ البيعة لا تصلح للتعيين. قال الله تعالى ( ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (٦) والأمر الثالث أبلغ في المنع والبطلان.

مسألة ٢٣٨ : تجب طاعة الإمام عندنا وعند كلّ أحد أوجب نصب الإمام ما لم يخالف المشروع‌ ـ وهذا القيد يفتقر إليه غيرنا حيث جوّزوا إمامة الفاسق ـ لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٧).

وقال عليه‌السلام : « من نزع يده من طاعة إمامه فإنّه يأتي يوم القيامة ولا حجّة‌

__________________

(١ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٦.

(٥) كذا في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجريّة.

(٦) القصص : ٦٨.

(٧) النساء : ٥٩.

٤٠٢

له » (١).

ولا فرق عندهم بين أن يكون عادلا أو جائرا (٢).

ولا يجوز عندهم نصب إمامين في وقت واحد ، لما فيه من اختلاف الرأي وتفرّق الشمل (٣).

وجوّز أبو إسحاق من الشافعيّة نصب إمامين في إقليمين ، لأنّه قد يحدث في أحد الإقليمين ما يحتاج إلى نظر الإمام ويفوت المقصود بسبب البعد (٤).

فإن عقدت البيعة لرجلين معا ، فالبيعتان باطلتان. وإن ترتّبتا ، فالثانية باطلة. وينظر إن جهل الثاني ومن بايعه تقدم بيعة الأوّل ، لم يعزّر ، وإلاّ عزّر (٥).

ولما روي من قوله عليه‌السلام : « إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الأخير منهما » (٦).

وتأوّله بعضهم بما إذا أصرّ ولم يبايع الأوّل ، فإنّه يكون باغيا يقاتل (٧).

وقال بعضهم : لا تطيعوه ولا تقبلوا قوله ، فيكون كمن مات أو قتل (٨).

ولو عرف سبق أحدهما ولم يتعيّن ، أو لم يعلم أوقعا معا أو على التعاقب ، فالحكم كالجمعتين.

__________________

(١) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٥ ، وفي مسند أحمد ٢ : ٢٢٣ ـ ٥٦٤٣ ، و ٢٢٩ ـ ٥٦٨٥ نحوه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧.

(٣) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٥ ـ ٧٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧.

(٦) صحيح مسلم ٣ : ١٤٨٠ ـ ١٨٥٣ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ١٥٦ ، سنن البيهقي ٨ : ١٤٤ بتفاوت يسير.

(٧ و ٨) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٦.

٤٠٣

ولو سبق أحدهما على التعيين واشتبه السابق ، وقف الأمر إلى أن ينكشف الحال ، فإن طالت المدّة أو لم يمكن الانتظار ، قال بعض الشافعيّة : تبطل البيعتان ، وتستأنف بيعة أحدهما (١). وفي جواز العدول إلى غيرهما خلاف (٢).

وذكر أنّه لو ادّعى كلّ منهما أنّه الأسبق ، لم تسمع الدعوى ولم يحلف [ الآخر ] (٣) لأنّ الحقّ يتعلّق بجميع المسلمين. وأنّه لو قطعا التنازع وسلّم أحدهما [ الأمر ] (٤) إلى الآخر ، لم تستقرّ الإمامة له ، بل لا بدّ من بيّنة تشهد بتقدّم بيعته. وأنّه لو أقرّ أحدهما للآخر بتقدّم بيعته ، خرج منها المقرّ ، ولا بدّ من البيّنة ليستقرّ الأمر للآخر ، فإن شهد له المقرّ مع آخر ، قبلت شهادته إن كان يدّعي اشتباه الأمر قبل الإقرار ، وإن كان يدّعي التقدّم ، لم تسمع ، لما في القولين من التكاذب (٥).

وإذا ثبتت الإمامة بالقهر والغلبة فجاء آخر فقهره ، انعزل ، وصار القاهر إماما.

ولا يجوز خلع الإمام بلا سبب ولو خلعوه ، لم ينفذ ، لأنّ الآراء تتغيّر ، فلا نأمن تكرّر التولية والعزل ، وفي ذلك سقوط الهيبة والوقع من القلب.

ولو عزل الإمام نفسه ، نظر إن عزل للعجز عن القيام بأمور المسلمين من‌

__________________

(١) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧.

(٣ و ٤) أضفناها من المصدر.

(٥) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧.

٤٠٤

هرم أو مرض ، انعزل عندهم. ثمّ إن ولّى غيره ، انعقدت الإمامة لمن ولاّه ، وإلاّ بايع الناس غيره.

وإن عزل نفسه من غير عذر ، ففي انعزاله وجهان :

أحدهما : ينعزل ، ولا يكلّف أن يترك مصلحة نفسه محافظة على مصلحة غيره ، وصار كما لو لم يجب إلى المبايعة ابتداء.

والثاني : المنع ، لما روي أنّ أبا بكر قال : أقيلوني (١). ولو تمكّن من عزل نفسه ، لما طلب الإقالة (٢).

وقال بعضهم : للإمام أن يعزل وليّ العهد ، لأنّ الخلافة لم تنتقل إليه ، فلا يخشى من تبديله الفساد والفتنة (٣).

وقال بعضهم : ليس له ذلك ما لم يتغيّر حاله وإن جاز له عزل من استنابه في إشغاله في الحال ، لأنّه يستنيبه لنفسه ، واستخلاف وليّ العهد يتعلّق بالمسلمين عامّة ، فصار كأهل البيعة يبايعون ، ولا يعزلون من بايعوه (٤).

مسألة ٢٣٩ : الإمام عندنا لا يتحقّق منه صدور الفسق ، لأنّه واجب العصمة من أوّل عمره إلى آخره.

أمّا من لم يشترط عصمته ، فالأظهر عند الشافعيّة منهم : أنّ الإمام لا ينعزل بالفسق ، لأنّهم يجوزون إمامة الفاسق (٥) ، فإذا كان لا يمنع الفسق من الابتداء فأولى أن لا يمنع من الاستدامة. ولا ينعزل بالإغماء ، لأنّه‌

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ : ١٦٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٦ ـ ٧٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٨.

(٤) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ١١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٣.

٤٠٥

متوقّع الزوال.

قالوا : وينعزل بالمرض الذي ينسيه العلوم ، وبالجنون (١).

وقال بعضهم : لو كان الجنون منقطعا وكان زمان الإفاقة أكثر وتمكّن معه من القيام بالأمور ، لم ينعزل. وينعزل بالعمى والصمم والخرس ، ولا ينعزل بثقل السمع وتمتمة اللسان (٢).

وبينهم خلاف في أنّهم هل يمنعان ابتداء التولية؟ وفي أنّ قطع إحدى اليدين أو الرّجلين هل يؤثّر في الدوام (٣).

مسألة ٢٤٠ : يثبت وصف البغي بشرائط ثلاثة :

أحدها : أن يكونوا في كثرة ومنعة لا يمكن كفّهم وتفريق جمعهم‌ إلاّ بإنفاق وتجهيز جيوش وقتال ، فأمّا إن كانوا نفرا يسيرا كالواحد والاثنين والعشرة وكيدها كيد ضعيف. فليسوا أهل بغي (٤) ، وكانوا قطّاع طريق ، ذهب إليه الشيخ في المبسوط (٥) وابن إدريس (٦) ، وهو مذهب الشافعي (٧) لأنّ عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله لمّا جرح عليّا عليه‌السلام ، قال لابنه الحسن عليه‌السلام : « إن برئت رأيت رأيي ، وإن مت فلا تمثلوا به » (٨).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٨.

(٢) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٨.

(٣) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ١٨ ـ ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٨.

(٤) في « ق » : البغي.

(٥) المبسوط ـ للطوسي ـ ٧ : ٢٦٤.

(٦) السرائر : ١٥٨.

(٧) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٢ ، المغني ١٠ : ٤٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٩.

(٨) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٩١ ، المغني ١٠ : ٤٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٩.

٤٠٦

وقال بعض الجمهور : يثبت لهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام (١). وفيه قوّة.

الثاني : أن يخرجوا عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية ، أمّا لو كانوا معه وفي قبضته ، فليسوا أهل بغي (٢) ، لأنّ عليّا عليه‌السلام كان يخطب ، فقال رجل بباب المسجد : لا حكم إلاّ لله ، تعريضا بعليّ عليه‌السلام أنّه حكم في دين الله ، فقال عليّ عليه‌السلام : « كلمة حقّ أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث : أن لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا اسم الله فيها ، ولا نمنعكم الفي‌ء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدؤكم بقتال » (٣) فقوله عليه‌السلام : « ما دامت أيديكم معنا » يعني لستم منفردين.

الثالث : أن يكونوا على المباينة بتأويل سائغ عندهم‌ بأن تقع لهم شبهة تقتضي الخروج على الإمام ، فأمّا إذا لم يكن لهم تأويل سائغ وباينوا ، فهم قطّاع طريق حكمهم حكم المحارب.

والشافعيّة اعتبروا في أهل البغي صفتين :

إحداهما : أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام ، أو منع الحقّ المتوجّه عليهم ، لأنّ من خالف الإمام (٤) من غير تأويل ، كان معاندا ، ومن يتمسّك بالتأويل ، يطلب الحقّ على اعتقاده ، ولا يكون معاندا ، فيثبت له نوع حرمة ، كما في حقّ من خرج على عليّ عليه‌السلام حيث اعتقدوا أنّه يعرف قتلة عثمان ، ويقدر عليهم ولا يقتصّ منهم ، لرضاه‌

__________________

(١) المغني ١٠ : ٤٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٤٩.

(٢) في « ق » : البغي.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ٧٣ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣٥ ، سنن البيهقي ٨ : ١٨٤ ، الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : ٥٨ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٩.

(٤) كلمة « الإمام » لم ترد في « ق ، ك‍ » والعزيز شرح الوجيز.

٤٠٧

بقتله ومواطأتهم إيّاه.

وكذا مانعو أبي بكر عن الزكاة ، حيث قالوا : أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن (١) لنا ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنت لست كذلك.

والتأويل المشروط في أهل البغي إذا كان بطلانه مظنونا ، فهو معتبر. وإن كان بطلانه مقطوعا به ، فوجهان :

أظهرهما : أنّه لا يعتبر ، كتأويل أهل الردّة.

والثاني : يعتبر ، ويكتفى بغلطهم فيه (٢).

قالوا : ولهذا كان معاوية وأصحابه بغاة. واستدلّوا عليه : بقوله عليه‌السلام : « إنّ عمّارا تقتله الفئة الباغية » (٣).

ثمّ قالوا : إن شرطنا في البغي أن يكون بطلان التأويل مظنونا ، كان معاوية [ مبطلا ] (٤) فيما ذهب إليه ظنّا ، وإن شرطنا العلم ، قلنا : إنّ معاوية كان مبطلا قطعا (٥).

وأمّا الخوارج : فهم صنف مشهور من المبتدعة يعتقدون تكفير أصحاب الكبائر واستحقاق الخلود في النار بها ، كشرب الخمر والزنا والقذف ، ويستحلّون دماء المسلمين وأموالهم ، إلاّ من خرج معهم ، وطعنوا في‌

__________________

(١) إشارة إلى الآية ١٠٣ من سورة التوبة.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٨ ـ ٧٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ٢٢٣٦ ـ ٧٣ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ١٤٩ ، ١٥٥ ، ١٥٦ ، و ٣ : ٣٨٦ ، ٣٨٧ ، ٣٩٧ ، سنن البيهقي ٨ : ١٨٩ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٤ : ٨٥ ـ ٣٧٢٠ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١٥ : ٢٩١ ـ ١٩٦٩١ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ : ٢٥٢ ، مسند أحمد ٢ : ٣٥٠ ـ ٦٥٠٢ ، و ٣ : ٤٠٠ ـ ١٠٧٨٢ ، و ٥ : ٢٢١ ـ ١٧٣١٢ ، و ٦ : ٢٨١ ـ ٢١٣٦٦.

(٤) أضفناها من المصدر.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٩.

٤٠٨

عليّ عليه‌السلام وعثمان ، ولا يجتمعون معهم في الجمعات والجماعات.

وللشافعيّة خلاف في تكفيرهم (١).

وهل حكمهم إذا لم يكفّروهم حكم أهل البغي ، أو حكم أهل الردّة؟ الأصحّ عندهم : الثاني (٢) ، وعلى هذا تنفذ أحكامهم ، بخلاف أحكام البغاة.

وأكثر الشافعيّة : [ على ] (٣) أنّه إن أظهر قوم رأي الخوارج وتجنّبوا الجماعات وكفّروا الإمام ومن معه ، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الإمام ، فلا يقتلون ولا يقاتلون (٤) ، لقول عليّ عليه‌السلام للخارجيّ : « لكم علينا ثلاث : أن لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفي‌ء ما دامت أيديكم معنا ، ولا نبدؤكم بقتال » (٥).

ثمّ إنّهم إن صرّحوا بسبّ الإمام أو غيره من أهل العدل ، عزّروا ، وإن عرّضوا ، فوجهان (٦).

وعندنا : أنّ الخوارج كفّار وأنّ من سبّ الإمام وجب قتله.

ولو بعث الإمام إليهم واليا فقتلوه ، فعليهم القصاص.

وهل يتحتّم قتل قاتله ، كقاطع الطريق ، لأنّه شهر السلاح ، أو لا ، لأنّه لا يقصد إخافة الطريق؟ للشافعيّة أقوال ثلاثة (٧) ، أحدها : فيه وجهان (٨).

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٢.

(٣) أضفناها لأجل السياق.

(٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٩ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٢.

(٥) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٤٠٦ ، الهامش (٣).

(٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٩ ـ ٨٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٢.

(٧) كلمة « ثلاثة » لم ترد في « ق ، ك‍ ».

(٨) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٢.

٤٠٩

الصفة الثانية : أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الإمام في ردّهم إلى الطاعة‌ إلى كلفة ببذل مال وإعداد رجال ونصب قتال (١).

وشرط جماعة من الشافعيّة في الشوكة أن ينفردوا ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء. وربما قالوا : ينبغي أن يكونوا بحيث لا يحيط بهم أجناد الإمام (٢).

والمحقّقون لم يعتبروا ذلك ، بل اعتبروا استعصاءهم وخروجهم عن قبضة الإمام حتى لو تمكّنوا من المقاومة ـ مع كونهم محفوفين بجند الإمام ـ قاوموهم (٣).

وهل يشترط أن يكون بينهم إمام منصوب أو منتصب؟ قولان : الأكثر على المنع ـ وهو قول أكثر الشافعيّة (٤) ـ لأنّه ثبت لأهل الجمل وأهل النهروان حكم البغاة ولم يكن فيما بينهم إمام.

وقال بعضهم : يعتبر في أهل البغي وراء ما سبق أمران : أن يمتنعوا من حكم الإمام ، وأن يظهروا لأنفسهم حكما. ولا يعتبر أن يكون عددهم عدد أجناد الإمام ، بل يكفي أن يتوقّعوا الظفر (٥).

مسألة ٢٤١ : كلّ من خرج على إمام عادل ثبتت إمامته بالنصّ عندنا ، والاختيار عند العامّة وجب قتاله إجماعا ، وإنّما يجب قتاله بعد البعث إليه والسؤال عن سبب خروجه وإيضاح ما عرض له من الشبهة وحلّها له وكشف الصواب إلاّ أن يخاف كلبهم ولا يمكنه ذلك في حقّهم ، أمّا‌

__________________

(١ ـ ٣) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٢.

(٤) الحاوي الكبير ١٣ : ١٠٢ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨١ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨١ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٣.

٤١٠

إذا أمكنه تعريفهم ، وجب عليه أن يعرّفهم.

فإذا عرّفهم ، فإن رجعوا ، فلا بحث ، وإن لم يرجعوا ، قاتلهم ، لأنّ الله تعالى أمر بالصلح ، فقال ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) (١) قبل الأمر بالقتال.

ولأنّ الغرض كفّهم ودفع شرّهم ، فإذا أمكن بمجرّد القول ، لم يعدل إلى القتل ، وإذا أمكن بالإثخان ، لم يعدل إلى التذفيف ، فإن التحم القتال واشتدّ الحرب ، خرج الأمر عن الضبط.

ولمّا أراد أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قتل (٢) الخوارج ، بعث إليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم فلبس حلّة حسنة ومضى إليهم ، فقال : هذا عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزوج ابنته فاطمة عليها‌السلام ، وقد عرفتم فضله ، فما تنقمون منه؟ قالوا : ثلاثا : إنّه حكّم في دين الله ، وقتل ولم يسب ، فإمّا أن يقتل ويسبي أو لا يقتل ولا يسبي ، إذا حرمت أموالهم حرمت دماؤهم ، والثالث : محا اسمه من الخلافة. فقال ابن عباس : إن خرج عنها رجعتم إليه؟ قالوا : نعم.

قال ابن عباس : أمّا قولكم : حكّم في دين الله تعنون الحكمين بينه وبين معاوية ، وقد حكّم الله في الدين ، فقال ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) (٣) وقال ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٤) فحكم في أرنب قيمته درهم ، فبأن يحكم في هذا الأمر العظيم أولى. فرجعوا عن هذا.

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) كذا ، والظاهر : قتال.

(٣) النساء : ٣٥.

(٤) المائدة : ٩٥.

٤١١

قال : وأمّا قولكم : كيف قتل ولم يسب! فأيّكم لو كان معه فوقع في سهمه عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يصنع وقد قال الله تعالى ( وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (١)؟ قالوا : رجعنا عن هذا.

قال : وقولكم : محا اسمه من الخلافة ، تعنون أنّه لمّا وقعت المواقفة بينه وبين معاوية كتب بينهم : هذا ما واقف عليه أمير المؤمنين عليّ معاوية ، قال له : لو كنت أمير المؤمنين ما نازعناك ، فمحا اسمه ، فقال ابن عباس : إن كان محا اسمه من الخلافة ، فقد محا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمه من النبوّة لمّا قاضى سهيل بن عمرو بالحديبيّة كتب الكتاب علي : هذا ما قاضى عليه رسول الله سهيل بن عمرو ، فقالوا له : لو كنت نبيّا ما خالفناك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : « امحه » فلم يفعل فقال لعليّ : « أرنيه » فأراه إيّاه ، فمحاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإصبعه ، وقال : « ستدعى إلى مثلها » فرجع بعضهم ، وبقي منهم أربعة آلاف لم يرجعوا ، فقاتلهم عليّ عليه‌السلام فقتلهم (٢).

مسألة ٢٤٢ : ويجب قتال أهل البغي على كلّ من ندبه الإمام لقتالهم عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام. والتأخير عن قتالهم كبيرة.

ويجب على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ما لم يستنهضه الإمام على التعيين فيجب عليه ، ولا يكفيه قيام غيره ، كما قلنا في جهاد المشركين.

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ١٣ : ١٠٢ ـ ١٠٤ ، المبسوط ـ للطوسي ـ ٧ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، وانظر : السيرة النبويّة ـ لابن هشام ـ ٣ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، وسنن البيهقي ٧ : ٤٢ ، ودلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٤ : ١٤٦ و ١٤٧ ، وصحيح البخاري ٣ : ٢٤٢ ، و ٤ : ١٢٦ ، ومسند أحمد ٥ : ٣٧٠ ـ ١٨٠٩٥.

٤١٢

والفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين ، تجب مصابرتهم حتى يفيئوا إلى الحقّ ويرجعوا إلى طاعة الإمام أو يقتلوا ، بغير خلاف في ذلك. فإذا رجعوا ، حرم قتالهم ، لقوله تعالى ( حَتّى تَفِي‌ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) (١) وكذا إن ألقوا السلاح وتركوا القتال ، أمّا لو انهزموا ، فإنّه يجب قتالهم إن كان لهم فئة يرجعون إليها.

ولو استعان أهل البغي بنسائهم وصبيانهم وعبيدهم في القتال وقاتلوا معهم أهل العدل ، قوتلوا مع الرجال وإن أتى القتل عليهم ، لأنّ العادل يقصد بقتاله الدفع عن نفسه وماله.

ولو أرادت امرأة أو صبي قتل إنسان ، كان له قتالهما ودفعهما عن نفسه وإن أتى على أنفسهما.

مسألة ٢٤٣ : لو استعان أهل البغي بأهل الحرب وعقدوا لهم ذمّة أو أمانا على هذا ، كان باطلا ، ولا ينعقد لهم أمان ولا ذمّة ، لأنّ من شرط عقد الذمّة والأمان أن لا يجتمعوا على قتال المسلمين ، فحينئذ يقاتل الإمام وأهل العدل المشركين مقبلين ومدبرين ، كالمنفردين عن أهل البغي. وإذا وقعوا في الأسر ، تخيّر الإمام فيهم بين المنّ والفداء والاسترقاق والقتل.

وليس لأهل البغي أن يتعرّضوا لهم ـ قاله الشيخ (٢) ـ من حيث إنّهم بذلوا لهم الأمان وإن كان فاسدا ، فلزمهم الكفّ عنهم ، لاعتمادهم على قولهم ، لا من حيث صحّة أمانهم.

فإن استعانوا بأهل الذمّة فعاونوهم وقاتلوا معهم أهل العدل ، راسلهم‌

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ٧ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٤١٣

الإمام وسألهم عن فعلهم ، فإن ادّعوا الشبهة المحتملة بأن يدّعوا الجهل واعتقاد أنّ الطائفة من المسلمين إذا طلبوا المعونة جازت معونتهم ، أو ادّعوا الإكراه على ذلك ، كانت ذمّتهم باقية ، وقبل قولهم ، ولم يكن ذلك نقضا للعهد.

وإن لم يدّعوا شيئا من ذلك ، انتقض عهدهم ، وخرقوا الذمّة ـ وهو أحد قولي الشافعي (١) ـ لأنّهم لو انفردوا وقاتلوا الإمام خرقوا الذمّة ، وانتقض عهدهم ، فكذا إذا قاتلوا مع أهل البغي.

والثاني للشافعي : لا يكون نقضا ، لجهل أهل الذمّة بالمحقّ ، فيكون شبهة (٢).

وليس جيّدا ، لاعتقادهم بطلان الطائفتين.

إذا عرفت هذا ، فإنّه بمجرّد قتالهم مع أهل البغي من غير شبهة يجوز قتلهم مقبلين ومدبرين. ولو أتلفوا أموالا وأنفسا ، ضمنوها عندنا.

وأمّا الشافعي في أحد قوليه : فإنّه لا يجعل القتال نقضا ، فيكون حكمهم حكم أهل البغي في قتالهم مقبلين لا مدبرين (٣).

وأمّا ضمان الأموال : فإنّ أهل الذمّة يضمنونها عنده قولا واحدا (٤). وأمّا أهل البغي : فقولان ، وفرّق بأمرين :

أحدهما : أنّ لأهل البغي شبهة دون أهل الذمّة.

الثاني : أنّا أسقطنا الضمان عن أهل البغي لئلاّ تحصل لهم نفرة عن‌

__________________

(١ و ٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٩٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٨٠.

(٣ و ٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٩٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٨١.

٤١٤

الرجوع إلى الحقّ ، وأمّا أهل الذمّة فلا يتحقّق هذا المعنى فيهم (١).

وأمّا نحن : فلا فرق بينهما في وجوب الضمان عليهما.

وإن استعانوا بالمستأمنين ، انتقض أمانهم ، وصاروا حربا لا أمان لهم. فإن ادّعوا الإكراه ، قبل بالبيّنة لا بمجرّد الدعوى ، بخلاف أهل الذمّة ، لأنّ الذمّة أقوى حكما.

مسألة ٢٤٤ : يجوز للإمام أن يستعين بأهل الذمّة على حرب أهل البغي ، وبه قال أصحاب الرأي (٢).

وقال الشيخ في المبسوط : ليس له ذلك (٣). وهو خلاف ما عليه الأصحاب.

والشافعي خرّج ذلك أيضا ، لأنّ أهل الذمّة يجوّزون قتل أهل البغي مقبلين ومدبرين وذلك لا يجوز (٤).

وهو ممنوع على ما يأتي تفصيله.

أمّا لو استعان من المسلمين بمن يرى قتلهم مقبلين ومدبرين في موضع لا يجوز ذلك ، لم يجز إلاّ بأمرين : أحدهما : فقد من يقوم مقامهم. الثاني : أن يكون مع الإمام قوّة متى علم منهم قتلهم مدبرين كفّهم عنه.

مسألة ٢٤٥ : إذا افترق أهل البغي طائفتين ثمّ اقتتلوا ، فإن كان للإمام قوّة على قهرهما ، فعل ، ولم يكن له معاونة إحداهما على الأخرى ، لأنّ كلّ‌

__________________

(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٩٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٨١ ، المغني ١٠ : ٥٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٦٠.

(٢) المغني ١٠ : ٥٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٦.

(٣) المبسوط ـ للطوسي ـ ٧ : ٢٧٤.

(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٩٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، المغني ١٠ : ٥٥ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٦.

٤١٥

واحدة على خطأ ، والإعانة على الخطأ من غير حاجة خطأ ، بل يقاتلهما معا حتى يعودوا إلى طاعته ، وإن لم يتمكّن من ذلك ، تركهما ، فأيّهما قهرت الأخرى دعاها إلى الطاعة ، فإن أبت ، قاتلهم.

وإن ضعف عنهما وخاف من اجتماعهما عليه ، جاز أن يضمّ إحداهما إليه ويقاتل الأخرى ، ويقصد كسرها ومنعها عن البغي ، لا معاونة من يقاتل معها. وينبغي أن يعاون التي هي إلى الحقّ أقرب.

فإن انهزمت التي قاتلها أو رجعت إلى طاعته ، كفّ عنها ، ولم يجز له قتال الطائفة الأخرى التي ضمّها إليه إلاّ بعد دعائها إلى طاعته ، لأنّ ضمّها إليه يجري مجرى أمانه إيّاها.

مسألة ٢٤٦ : إذا لم يمكن دفع البغاة إلاّ بالقتل ، وجب ، ولا يقاتلون بما يعمّ إتلافه ، كالنار والمنجنيق والتغريق ، لأنّ القصد بقتالهم (١) فلجمعهم ورجوعهم إلى الطاعة ، والنار تهلكهم وتقع على المقاتل وغيره ، ولا يجوز قتل من لا يقاتل.

ولو احتاج أهل العدل إلى ذلك واضطرّوا إليه بأن يكون قد أحاط بهم البغاة من كلّ جانب وخافوا اصطدامهم ، ولا يمكنهم التخلّص إلاّ برمي النار أو المنجنيق ، جاز ذلك. وكذا إن رماهم أهل البغي بالنار أو المنجنيق ، جاز لأهل العدل رميهم به.

إذا عرفت هذا ، فلا إثم على قاتلي أهل البغي إذا لم يندفعوا إلاّ به ، ولا ضمان مال ولا كفّارة ، لأنّه امتثل الأمر بقتل مباح الدم ، لقوله تعالى : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (٢) وإذا لم يضمنوا النفوس فالأموال أولى بعدم الضمان.

__________________

(١) الفلّ : الكسر. وفلّ القوم : هزمهم. لسان العرب ١١ : ٥٣٠ « فلل ».

(٢) الحجرات : ٩.

٤١٦

والقتيل من أهل العدل شهيد ، لأنّه قتل في قتال أمر الله تعالى به ، ولا يغسّل ولا يكفّن ، ويصلّى عليه ، عندنا ، لأنّه شهيد معركة أمر بالقتال فيها ، فأشبه معركة الكفّار.

وقال الأوزاعي وابن المنذر : يغسّل ويصلّى عليه ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالصلاة على من قال : لا إله إلاّ الله (١) (٢).

ونحن نقول بموجبه ، لأنّا نوجب الصلاة على الشهيد ، وليس في الخبر الأمر بالغسل والتكفين.

إذا ثبت هذا ، فإنّ ما يتلفه أهل العدل من أموال أهل البغي حال الحرب غير مضمون ، لأنّه مأمور بالقتال ، فلا يضمن ما يتولّد منه. ولا نعلم فيه خلافا ، لأنّ أبا بكر قال للذين قاتلهم بعد ما تابوا : تدون قتلانا ، ولا ندي قتلاكم (٣).

ولأنّهما فرقتان من المسلمين : محقّة ومبطلة ، فلا تستويان في سقوط الغرم ، كقطّاع الطريق.

وأمّا ما يتلفه أهل العدل من أموال أهل البغي قبل الشروع في القتال أو بعد تقضّي الحرب : فإنّه يكون مضمونا ، لأنّه ليس لأهل العدل ذلك ، فكان إتلافا بغير حق ، فوجب عليهم الضمان.

ويحتمل أن يقال : إن احتاج أهل العدل إلى قتل أو إتلاف مال في تفرّقهم وتبديل كلمتهم ، جاز لهم ذلك ، ولا ضمان.

__________________

(١) سنن الدار قطني ٢ : ٥٦ ـ ٣ و ٤ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ : ٤٤٧ ـ ١٣٦٢٢ ، حلية الأولياء ١٠ : ٣٢٠.

(٢) المغني ١٠ : ٥٧ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٩.

(٣) المغني ١٠ : ٥٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٥٩ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٦.

٤١٧

ولو أتلف أهل البغي مال أهل العدل أو نفسه قبل الشروع في القتال أو بعد تقضّيه ، فإنّه يضمنه إجماعا.

وأمّا ما يتلفه الباغي على العادل من مال ونفس حالة الحرب : فإنّه مضمون عليه عندنا بالغرامة والدية ـ وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي (١) ـ لقوله تعالى ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (٢).

ولأنّها أموال معصومة وأنفس معصومة أتلفت بغير حقّ ولا ضرورة ، فوجب ضمانها ، كالتالف في غير الحرب.

وقال أبو حنيفة وأحمد والشافعي في الثاني : لا يكون مضمونا لا في المال ولا في النفس ، لأنّه لم ينقل عن عليّ عليه‌السلام أنّه ضمّن أحدا من أهل البصرة ولا أهل الشام ما أتلفوه. ولأنّ فيه تنفيرا عن طاعة الإمام ، فأشبه أهل الحرب (٣).

ونمنع أنّه عليه‌السلام لم يضمّن فجاز [ أنّه عليه‌السلام ضمّن ] (٤) ولم ينقل ، أو لم يحصل إتلاف مال ، أو جهل المتلف. وعدم الغرم يفضي إلى كثرة الفساد بإتلاف أموال أهل العدل ، مع أنّ الآية ـ وهي قوله تعالى :

__________________

(١) المغني ١٠ : ٥٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٦٠ ، حلية العلماء ٧ : ٦١٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢١ ، الحاوي الكبير ١٣ : ١٠٦ ، الوجيز ٢ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٥ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٤١.

(٢) الشورى : ٤٠.

(٣) بدائع الصنائع ٧ : ١٤١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٢ : ١٧٢ ، المغني ١٠ : ٥٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٦٠ ، الوجيز ٢ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٦ ، حلية العلماء ٧ : ٦١٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢١ ، الحاوي الكبير ١٣ : ١٠٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٥.

(٤) أضفناها لأجل السياق وكما في منتهى المطلب ٢ : ٨٩٦.

٤١٨

( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (١) وقوله تعالى ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (٢) ـ تدلّ على وجوب الضمان.

ولأنّ الضمان يتعلّق بأهل البغي قبل الحرب وبعده ، فكذا حالة الحرب ، لأنّها أكثر الحالات معصية ، فلا تتعقّب سقوط العقاب.

مسألة ٢٤٧ : لو قتل الباغي واحدا من أهل العدل ، وجب عليه القصاص ، لما تقدّم (٣) من الآيات. ولعموم قوله عليه‌السلام : « لو قتله ربيعة ومضر لأقدتهم به » (٤).

وللشافعيّة طريقان ، أظهرهما : طرد القولين في وجوب المال. والثاني : القطع بالمنع ، لأنّ القصاص سقط بالشبهة ، وتأويلهم موجب للشبهة (٥).

وعلى القول بوجوب القصاص لو آل الأمر إلى المال ، فهو في مال الباغي. وعلى القول بعدمه فهل سبيله سبيل دية العمد حتى تجب في مال القاتل ولا تتأجّل ، أو دية شبيه العمد حتى تكون على العاقلة وتتأجّل؟ لهم خلاف (٦).

وتجب الكفّارة على الباغي عندنا وعند الشافعي (٧) على تقدير حكمه [ بوجوب ] (٨) القصاص أو الدية ، وإلاّ فوجهان ، أشبههما عندهم (٩) :

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) الإسراء : ٣٣.

(٣) تقدّم آنفا.

(٤) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة المتوفّرة لدينا.

(٥) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٢٢١ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٥ ، المغني ١٠ : ٥٨ ، الشرح الكبير ١٠ : ٦٠.

(٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٥.

(٧) في « ك‍ » والطبعة الحجريّة : الشافعيّة.

(٨) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجريّة : يوجب. وذلك تصحيف ما أثبتناه.

(٩) أي : الشافعيّة.

٤١٩

المنع ، لأنّ الكفّارة حقّ الله تعالى ، وهو أولى بالتساهل (١).

ولو استولى باغ على أمة أو مستولدة لأهل العدل فوطئها ، فعليه الحدّ ، والولد رقيق بغير نسب.

وفي وجوب المهر مع إكراهها قولان للشافعي (٢).

قال الشيخ : لا خلاف في أنّ الحربيّ إذا أتلف شيئا من أموال المسلمين ونفوسهم ثمّ أسلم ، فإنّه لا يضمن ولا يقاد به (٣).

وأمّا المرتدّ : فإنّه يضمن عندنا ما أتلفه حالة الحرب أو قبلها أو بعدها.

وأمّا الشافعي وأبو حنيفة : فأسقطا ضمان ما يتلفه حالة الحرب من مال ونفس (٤).

وأمّا الذين يخالفون الإمام بتأويل يعتقدونه ولا شوكة لهم ولا امتناع ، لقلّة عددهم ، فإنّه يلزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال إن كان على صورة القتال. وإن لم يكن قتال ، فكذلك عندنا ، خلافا للشافعي في أحد القولين (٥).

وهو غلط ، إذ لا تعجز كلّ شرذمة تريد إتلاف نفس أو مال أن تبدي تأويلا وتفعل من الفساد ما تشاء ، وذلك يفضي إلى إبطال السياسات.

وأمّا الذين لهم كثرة وشوكة ولا تأويل لهم : ففي ضمان ما أتلفوا من المال طريقان للشافعيّة :

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٧ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٧٦.

(٣) المبسوط ـ للطوسي ـ ٧ : ٢٦٧.

(٤) انظر : الوجيز ٢ : ١٦٥ ، والعزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٨ ، وروضة الطالبين ٧ : ٢٧٦ ، والهداية ـ للمرغيناني ـ ٢ : ١٧٧ ، والمغني ١٠ : ٧٠.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٨٨.

٤٢٠