تذكرة الفقهاء - ج ٩

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ٩

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-008-0
الصفحات: ٥٠١

وقول أبي حنيفة فيه قوّة.

مسألة ٢٢٧ : إذا انتقض العهد ، جاز قصد بلدهم وتبييتهم والإغارة عليهم في بلادهم‌ إن علموا أنّ ما أتوا به ناقض للعهد. وإن لم يعلموا ، فكذلك الحكم ، أو لا يقاتلون إلاّ بعد الإنذار للشافعيّة وجهان (١).

والأولى أنّه إذا لم يعلموا أنّه خيانة ، لا ينتقض العهد إلاّ إذا كان المأتيّ به ممّا لا يشكّ في مضادّته للهدنة ، كالقتال.

فأمّا من دخل دارا بأمان أو مهادنة ، فلا يغتال وإن انتقض عهده ، بل يبلغ المأمن.

ولو (٢) نقض السوقة العهد ولم يعلم الرئيس والأشراف بذلك ، احتمل النقض في حقّ السوقة ، وعدمه ، لأنّه لا اعتبار بعقدهم فكذا بنقضهم.

وللشافعيّة وجهان (٣).

ولو نقض الرئيس وامتنع الأتباع وأنكروا ، ففي الانتقاض في حقّهم للشافعي قولان ، أحدهما : الانتقاض ، لأنّه لم يبق العهد في حقّ المتبوع فلا يبقى في حقّ التابع (٤).

هذا حكم نقض عهد (٥) الهدنة ، وأمّا نقض الذمّة : فنقضه من البعض ليس بنقض من الباقين ، وقد سلف الفرق.

والمعتبر في إبلاغ الكافر المأمن أن يمنعه من المسلمين ويلحقه بأوّل بلاد الكفر (٦) ، ولا يلزم إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك إلاّ أن يكون بين‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٦٠ ، روضة الطالبين ٧ : ٥٢٢.

(٢) في « ق » : « وإن » بدل « ولو ».

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٦٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٥٢٣.

(٥) كلمة « عهد » لم ترد في « ق ، ك‍ ».

(٦) في « ق » : الكفّار.

٣٨١

أوّل بلاد الكفر وبلده الذي يسكنه بلد للمسلمين يحتاج إلى المرور عليه.

وإذا هادنه الإمام مدّة لضعف وخوف ثمّ زال الخوف وقوي المسلمون ، وجب البقاء عليه ، لقوله تعالى ( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ) (١) وإن كانت المدّة عشر سنين.

ويجب على الذين هادنّاهم الكفّ عن قبيح القول والعمل في حقّ المسلمين وبذل الجميل منهما. ولو كانوا يكرمون المسلمين فصاروا يهينونهم ، أو يضيفون الرسل ويصلونهم فصاروا يقطعونهم ، أو يعظّمون كتاب الإمام فصاروا يستخفّون ، أو نقصوا عمّا كانوا يخاطبونه به ، سألهم الإمام عن سبب فعلهم ، فإن اعتذروا بما يجوز قبول مثله ، قبله ، وإن لم يذكروا عذرا ، أمرهم بالرجوع إلى عادتهم ، فإن امتنعوا ، أعلمهم بنقض الهدنة ونقضها ، عند الشافعيّة (٢).

وسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنتقض به الهدنة كالذمّة ، عند الشافعي (٣) ، خلافا لأبي حنيفة فيهما (٤).

مسألة ٢٢٨ : لو كان تحت كافر عشر زوجات فأسلمن وهاجرن وجاء الزوج يطلبهنّ ، أمر باختيار أربع منهنّ ، ويعطى مهورهنّ ، سواء اختار الأكثر مهرا أو الأقلّ ، وسواء اختار من دفع إليهنّ المهر أو بعضه أو من لم يدفع إليهنّ ، فإذا اختار من لم يدفع إليهنّ شيئا ، لم يرجع بشي‌ء.

ولو جاءت مستولدة ، فهي كالأمة.

__________________

(١) التوبة : ٤.

(٢) الحاوي الكبير ١٤ : ٣٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٦٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

(٣ و ٤) الحاوي الكبير ١٤ : ٣٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٦٣.

٣٨٢

وأمّا المكاتبة : فإن اقتضى الحال عتقها ، فكذلك ، وتبطل الكتابة ، وإلاّ فهي على كتابتها. فإن أدّت مال الكتابة ، عتقت بالكتابة. قال الشافعي : وللسيّد الولاء (١). فإن عجزت ورقّت ، حسب ما أخذ من مال الكتابة بعد إسلامها من ضمانها ، ولا يحسب منه ما أخذ قبل الإسلام.

مسألة ٢٢٩ : لو عقدنا الهدنة بشرط أن يردّوا من جاءهم منّا مرتدّا ويسلّموه إلينا ، وجب عليهم الوفاء بما التزموه ، فإن امتنعوا ، كانوا ناقضين للعهد.

وإن عقدنا بشرط أن لا يردّوا من جاءهم ، ففي الجواز إشكال.

وللشافعي قولان :

أشهرهما : الجواز ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش (٢).

والثاني : المنع ، لإعلاء الإسلام ، وإقامة حكم المرتدّين [ عليه ] (٣) (٤).

وقال بعضهم : هذا الشرط يصحّ في حقّ الرجال دون النساء كما لو شرط ردّ من جاءنا مسلما ، لأنّ الإبضاع يحتاط لها ، ويحرم على الكافر من المرتدّة ما يحرم على المسلم (٥).

فإن أوجبنا الردّ ، فالذي عليهم التمكين والتخلية دون التسليم.

__________________

(١) الحاوي الكبير ١٤ : ٣٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٧٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٥٣٠.

(٢) المغازي ـ للواقدي ـ ٢ : ٦١١ ، السيرة النبويّة ـ لابن هشام ـ ٣ : ٣٣٢ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٤ : ١٤٧ ، صحيح البخاري ٣ : ٢٤٢ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤١١ ـ ١٧٨٤.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجريّة : حكمهم. وما أثبتناه من المصادر.

(٤ و ٥) الحاوي الكبير ١٤ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٧٥ ، روضة الطالبين ٧ : ٥٣٠.

٣٨٣

وكذا الحكم لو جرت المهادنة مطلقا من غير تعرّض لردّ من ارتدّ بالنفي والإثبات.

وحيث لا يجب عليهم التمكين ولا التسليم فعليهم مهر من ارتدّ من نساء المسلمين ، وقيمة من ارتدّ من رقيقهم ، ولا يلزمهم غرم من ارتدّ من الرجال الأحرار.

ولو عاد المرتدّون إلينا ، لم نردّ المهر ، ورددنا القيمة ، لأن الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم والنساء لا يصرن زوجات.

وحيث يجب التمكين دون التسليم فمكّنوا ، فلا غرم عليهم سواء وصلنا إلى المطلوبين أو لم نصل. وحيث يجب التسليم فنطالبهم به عند الإمكان.

فإن فات التسليم بالموت ، فعليهم الغرم.

وإن هربوا نظر إن هربوا قبل القدرة على التسليم ، فلا يغرمون ، أو بعدها ، فيغرمون.

ولو هاجرت إلينا امرأة منهم مسلمة وطلبها زوجها وجاءتهم امرأة منّا مرتدّة ، لا نغرم لزوج المسلمة المهر ، ولكن نقول له : واحدة بواحدة ، ونجعل المهرين قصاصا ، ويدفع الإمام المهر إلى زوج المرتدّة ، ويكتب إلى زعيمهم ليدفع مهرها إلى زوج المهاجرة المسلمة.

هذا إن تساوى القدران ، ولو كان مهر المهاجرة أكثر ، صرفنا مقدار مهر المرتدّة منه إلى زوجها والباقي إلى زوج المهاجرة. وإن كان مهر المرتدّة أكثر ، صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلى زوجها والباقي إلى زوج المرتدّة.

٣٨٤

وبهذه المقاصّة فسّر أكثر الشافعيّة (١) قوله تعالى ( وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ‌ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) (٢).

ولو قال زوج المسلمة : لا ذنب لي في التحاق المرتدّة بدار المهادنين فلم منعتموني حقّي ، قلنا : ليس لك حقّ على قياس أعواض المتلفات ، وإنّما نغرم لك بحكم المهادنة ، وأهل المهادنة في موجب المهادنة كالشخص الواحد.

البحث السابع : في الحكم بين المعاهدين والمهادنين.

مسألة ٢٣٠ : إذا تحاكم إلينا أهل الذمّة بعضهم مع بعض ، تخيّر الحاكم‌ بين الحكم بينهم على مقتضى حكم الإسلام وبين الإعراض عنهم ـ وبه قال مالك (٣) ـ لقوله تعالى ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (٤).

ولقول الباقر عليه‌السلام : « إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم » (٥).

ولأنّهما لا يعتقدان صحّة الحكم ، فأشبها المستأمنين.

وقال المزني : يجب الحكم ـ وللشافعي قولان ـ لقوله تعالى : ( وَأَنِ

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٥٧٦ ، روضة الطالبين ٧ : ٥٣١.

(٢) الممتحنة : ١١.

(٣) أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ ٢ : ٦٢٠ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٨ : ١٠٣.

(٤) المائدة : ٤٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٠٠ ـ ٨٣٩.

٣٨٥

احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (١) والأمر للوجوب.

ولأنّ دفع الظلم عنهم واجب على الإمام ، والحكم بينهم دفع لذلك عنهم ، فلزمهم (٢) كالمسلمين (٣).

وآيتنا أخصّ ، والقياس باطل ، لأنّ المسلمين يعتقدون صحّة الحكم.

ولو تحاكم إلينا ذمّيّ مع مسلم أو مستأمن مع مسلم ، وجب على الحاكم أن يحكم بينهما على ما يقتضيه حكم الإسلام ، لأنّه يجب عليه حفظ المسلم من ظلم الذمّي ، وبالعكس.

ولو تحاكم إلينا مستأمنان حربيّان من غير أهل الذمّة ، لم يجب على الحاكم أن يحكم بينهما إجماعا ، لأنّه لا يجب على الإمام دفع بعضهم عن بعض ، بخلاف أهل الذمّة. ولأنّ أهل الذمّة آكد حرمة ، فإنّهم يسكنون دار الإسلام على التأبيد.

مسألة ٢٣١ : إذا استعدى أحد الخصمين إلى الإمام ، أعداه على الآخر‌ في كلّ موضع يلزم الحاكم الحكم بينهما ، فإذا استدعى خصمه ، وجب عليه الحضور إلى مجلس الحكم ، لأنّ هارون بن حمزة سأل الصادق عليه‌السلام : رجلان من أهل الكتاب نصرانيّان أو يهوديّان كان بينهما خصومة ، فقضى بينهما حاكم من حكّامهما بجوز فأبى الذي قضي عليه أن يقبل ، وسأل أن يردّ إلى حكم المسلمين ، قال : « يردّ إلى حكم المسلمين » (٤).

__________________

(١) المائدة : ٤٩.

(٢) كذا ، والظاهر : فلزمه.

(٣) الحاوي الكبير ١٤ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ، الوجيز ٢ : ١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٨ : ١٠٣ ، الوسيط ٥ : ١٣٨ ـ ١٣٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٤٩٠ ـ ٤٩١ ، المغني ١٠ : ١٩٠ ، التفسير الكبير ١١ : ٢٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ١٨٤.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٢.

٣٨٦

ويجب إذا حكم بينهم أن يحكم بحكم المسلمين ، لقوله تعالى :

( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) (١) وقال تعالى ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) (٢).

ولو جاءت ذمّيّة تستعدي على زوجها الذمّيّ في طلاق أو ظهار أو إيلاء ، تخيّر في الحكم بينهم والردّ إلى أهل نحلتهم ليحكموا بينهم بمذهبهم. فإن حكم بينهم ، حكم بحكم الإسلام ، ويمنعه في الظهار من أن يقربها حتى يكفّر. ولا يجوز له أن يكفّر بالصوم ، لافتقاره إلى نيّة القربة ، ولا بالعتق ، لتوقفه على ملك المسلم ، وهو لا يتحقّق في طرفه إلاّ أن يسلم في يده أو يرثها ، بل بالإطعام.

مسألة ٢٣٢ : يجوز للمسلم أخذ مال من نصرانيّ مضاربة ، ولا يكره ذلك ، لأنّ المسلم لا يتصرّف إلاّ فيما يسوغ.

ويكره للمسلم أن يدفع إلى المشرك مالا مضاربة ، لأنّ الكافر قد يتصرّف بما لا يسوغ في الشرع ، فإن فعل ، صحّ القراض.

وينبغي له إذا دفع إليه المال أن يشترط عليه أن لا يتصرّف إلاّ بما يسوغ في شرعنا ، فإن شرط عليه ذلك فابتاع خمرا أو خنزيرا ، فالشراء باطل ، سواء ابتاعه بعين المال أو في الذمّة ، لأنّه خالف الشرط. ولا يجوز له أن يقبض الثمن ، فإن قبض الثمن ، ضمنه.

وإن لم يشترط عليه ذلك بل دفع المال إليه مطلقا فابتاع ما لا يجوز ابتياعه ، فالبيع باطل ، فإن دفع الثمن ، فعليه الضمان أيضا ، لأنّه ابتاع ما ليس بمباح عندنا.

وإطلاق العقد يقتضي أن يبتاع لربّ المال ما يملكه ربّ المال ،

__________________

(١) المائدة : ٤٢.

(٢) المائدة : ٤٩.

٣٨٧

فإذا (١) خالف ، ضمن.

فإن باع المضارب ونضّ المال ، فإن علم ربّ المال أنّه تصرّف في محظور ، أو خالط محظورا ، لم يجز له قبضه ، كما لو اختلطت أخته بأجنبيّات ، وإن علم أنّه عين المباح ، قبضه ، وإن شكّ ، جاز على كراهة.

ولو أكرى نفسه من ذمّيّ ، فإن كانت الإجارة في الذمّة ، صحّ ، لأنّ الحقّ ثابت في ذمّته. وإن كانت معيّنة ، فإن استأجره ليخدمه شهرا أو يبني له شهرا ، صحّ أيضا. وتكون أوقات العبادة مستثناة منها.

مسألة ٢٣٣ : لو فعل الذمّيّ ما لا يجوز في شرع الإسلام ولا في شرعهم‌ ـ كالزنا واللواط والسرقة والقتل والقطع ـ كان الحكم في ذلك كالحكم بين المسلمين في إقامة الحدود ، لأنّهم عقدوا الذمّة بشرط أن يجرى عليهم أحكام المسلمين.

وإن كان ما يجوز في شرعهم ـ كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح المحارم ـ لم يتعرّض لهم ما لم يظهروه ، لأنّا نقرّهم عليه ، وترك التعرّض لهم فيه ، لأنّهم عقدوا الذمّة وبذلوا الجزية على هذا. فإن أظهروا ذلك وأعلنوه ، منعهم الإمام وأدّبهم على إظهاره.

قال الشيخ : وقد روى أصحابنا أنّه يقيم عليهم الحدّ بذلك ، وهو الصحيح (٢).

ولو جاء نصرانيّ باع من مسلم خمرا أو اشترى منه خمرا ، أبطلناه بكلّ حال تقابضا أو لا ، ورددنا الثمن إلى المشتري. فإن كان مسلما ، استرجع الثمن ، وأرقنا الخمر ، لأنّا لا نقضي على المسلم بردّ الخمر ، وجاز إراقتها ، لأنّ الذمّيّ عصى بإخراجها إلى المسلم ، فيعاقب بإراقتها عليه. وإن‌

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : فإن.

(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٦١.

٣٨٨

كان المشتري المشرك ، رددنا إليه الثمن ، ولا نأمر الذمّيّ بردّ الخمر ، بل يريقها ، لأنّها ليست كمال الذمّيّ.

ونمنع المشرك من شراء المصاحف إعزازا للقرآن ، فإن اشترى ، لم يصح البيع.

وقال بعض الشافعيّة : يملكه ويلزم البيع (١).

والأوّل أنسب بإعظام القرآن.

قال الشيخ : وكذا حكم الدفاتر التي فيها أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثار السلف وأقاويلهم ـ والأقوى عندي الكراهة ـ أمّا كتب النحو واللغة والشعر وباقي الأدب : فإنّ شراءها جائز لهم ، إذ لا حرمة لها (٢).

مسألة ٢٣٤ : لو أوصى مسلم لذمّي بعبد مسلم ، لم تصحّ الوصيّة ، لأنّ المشرك لا يملك المسلم.

وقال بعض الناس (٣) : تصحّ الوصيّة ، وتلزم برفع اليد عنه ، كما لو ابتاعه.

فعلى هذا لو أسلم وقبل الوصيّة ، صحّ ، وملكه بعد موت الموصي.

وعلى الأوّل لا يملكه وإن أسلم في حياة الموصي ، لأنّ الوصيّة وقعت في الأصل باطلة.

ولو كان العبد مشركا فأسلم العبد قبل موت الموصي ثمّ مات ، فقبله الموصى له ، لم يملكه ، لأنّ الاعتبار في الوصيّة حال اللزوم ، وهي حالة الوفاة.

وعلى القول الثاني يملكه ويرفع يده عنه.

ولو أوصى الذمّي ببناء كنيسة أو بيعة أو موضع عبادة لهم ، لم تصحّ ،

__________________

(١) الوجيز ١ : ١٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧ ، حلية العلماء ٤ : ١١٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٧٤ ، المجموع ٩ : ٣٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ١١.

(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٦٢.

(٣) كما في المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٦٢ ، وانظر : الحاوي الكبير ١٤ : ٣٩٣ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧ ، وروضة الطالبين ٣ : ١١.

٣٨٩

لأنّها في معصية.

وكذا لو أوصى أن يستأجر خدما للبيعة والكنيسة ، أو يعمل صلبانا ، أو يشتري مصباحا أو يشتري أرضا فيوقف عليها.

ولو أوصى الذمّيّ ببناء كنيسة تنزلها المارّة من أهل الذمّة أو من غيرهم ، أو وقفها على قوم يسكنونها ، أو جعل أجرتها للنصارى ، جازت الوصيّة ، لأنّ نزولهم ليس بمعصية ، إلاّ أن تبنى لصلواتهم.

وكذا لو أوصى للرهبان بشي‌ء ، صحّت الوصيّة ، لجواز صدقة التطوّع عليهم.

ولو أوصى أن يكون لنزول المارّة للصلاة فيه ، قيل : تبطل الوصيّة في الصلاة ، وتصحّ ( في نزول ) (١) المارّة ، فتبنى كنيسة بنصف الثلث لنزول المارّة خاصّة ، فإن لم يمكن ذلك ، بطلت الوصيّة (٢).

وقيل : تبنى الكنيسة بالثلث ، وتكون لنزول المارّة ، ويمنعون من الاجتماع للصلاة فيها (٣).

ولو أوصى بشي‌ء تكتب به التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو غير ذلك من الكتب القديمة ، بطلت الوصيّة ، لأنّها كتب محرّفة مبدّلة منسوخة.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من داره فوجد في يد عمر صحيفة ، فقال :

« ما هي؟ » فقال : من التوراة ، فغضب عليه ورماها من يده ، وقال : « لو كان موسى أو عيسى حيّين لما وسعهما إلاّ اتّباعي » (٤).

إذا ثبت (٥) هذا ، فإنّه يكره للمسلم اجرة رمّ ما يستهدم من الكنائس والبيع من بناء ونجارة وغير ذلك ، وليس محرّما.

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : لنزول.

(٢ و ٣) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٣ : ٣٥٥ باختصار.

(٥) في « ق » : « عرفت » بدل « ثبت ».

٣٩٠

الفصل السادس : في قتال أهل البغي‌

الأصل في ذلك قول الله تعالى ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي‌ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ) (١).

قيل : وردت في طائفتين من الأنصار وقع بينهم [ قتال ] (٢) فلمّا نزلت ، قرأها عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقلعوا. وليس فيها تعرّض للخروج والبغي على الإمام ، ولكن إذا أمرنا بقتال طائفة بغت على طائفة أخرى ، فلأن نقاتل الذين بغوا على الإمام إلى أن يفيئوا إلى أمر الله أولى (٣).

والمراد بالباغي في عرف الفقهاء : المخالف للإمام العادل ، الخارج عن طاعته بالامتناع عن أداء ما وجب عليه بالشرائط الآتية. وسمّي باغيا إمّا لتجاوزه الحدّ المرسوم له ، والبغي : مجاوزة الحدّ.

وقيل : لأنّه ظالم بذلك ، والبغي : الظلم. قال الله تعالى ( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ) (٤) أي : ظلم (٥).

وقيل : لطلبه الاستعلاء على الإمام ، من قولهم : بغى الشي‌ء ، أي : طلبه (٦).

مسألة ٢٣٥ : قتال أهل البغي واجب بالنصّ والإجماع.

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) أضفناها من المصدر.

(٣) كما في العزيز شرح الوجيز ١١ : ٦٩ ـ ٧٠.

(٤) الحجّ : ٦٠.

(٥ و ٦) كما في العزيز شرح الوجيز ١١ : ٦٩.

٣٩١

قال الله تعالى ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (١).

وروى العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من حمل علينا السلاح فليس منّا » (٢).

ومن طريق الخاصّة : قول علي عليه‌السلام : « القتال قتالان : قتال لأهل الشرك لا ينفر عنهم حتى يسلموا أو يؤدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقتال لأهل الزيغ لا ينفر عنهم حتى يفيئوا إلى أمر الله أو يقتلوا » (٣).

ولا خلاف بين المسلمين كافّة في وجوب جهاد البغاة ، وقد قاتل علي عليه‌السلام ثلاث طوائف : أهل البصرة يوم الجمل : عائشة وطلحة والزبير وعبد الله بن الزبير وغيرهم ، وهم الناكثون الذين بايعوه ونكثوا بيعته. وقاتل أهل الشام معاوية ومن تابعه ، وهم القاسطون ، أي : الجائرون. وقاتل أهل النهروان : الخوارج ، وهم المارقون ، وقد أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : « تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين » (٤).

قال الشيخ : وهؤلاء كلّهم عندنا محكوم بكفرهم ، لكن ظاهرهم الإسلام. وعند الفقهاء أنّهم مسلمون لكن قاتلوا الإمام العادل ، فإنّ الإمامة كانت لعليّ عليه‌السلام بعد عثمان عندهم (٥).

والأصل في ذلك : أنّ الإمامة عندنا من شرائط الإيمان ، فلا يستحقّ‌

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٦٢ ، صحيح مسلم ١ : ٩٨ و ٩٩ ـ ٩٨ و ١٠٠ و ١٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٦٠ ـ ٢٥٧٥ ، مسند أحمد ٣ : ١٤٤ ـ ٩١٢٩.

(٣) التهذيب ٤ : ١١٤ ـ ٣٣٥ ، و ٦ : ١٤٤ ـ ٢٤٧.

(٤) المستدرك ـ للحاكم ـ ٣ : ١٤٠.

(٥) المبسوط ـ للطوسي ـ ٧ : ٢٦٤.

٣٩٢

الثواب الدائم إلاّ به.

مسألة ٢٣٦ : قد جرت العادة بين الفقهاء أن يذكروا الإمامة في هذا الموضع‌ ليعرف الإمام الذي يجب اتّباعه ، ويصير الإنسان باغيا بالخروج عليه ، وليست من علم الفقه ، بل هي من علم الكلام ، فلنذكر كلاما مختصرا ، فنقول‌ يشترط في الإمام أمور :

الأوّل : أن يكون مكلّفا ، فإنّ غيره مولّى عليه في خاصّة نفسه ، فكيف يلي أمر الأمّة!

الثاني : أن يكون مسلما ليراعي مصلحة المسلمين والإسلام ، وليحصل الوثوق بقوله ، ويصحّ الركون إليه ، فإنّ غير المسلم ظالم وقد قال الله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (١).

الثالث : أن يكون عدلا ، لما تقدّم ، فإنّ الفاسق ظالم ولا يجوز الركون إليه والمصير إلى قوله ، للنهي عنه في قوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٢). ولأنّ الفاسق ظالم ، فلا ينال مرتبة الإمامة ، لقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (٣).

الرابع : أن يكون حرّا ، فإنّ العبد مشغول بخدمة مولاه لا يتفرّغ للنظر في مصالح المسلمين. ولأنّ الإمامة رئاسة عامّة والعبد مرءوس ، وهي من المناصب الجليلة ، فلا تليق به.

الخامس : أن يكون ذكرا ليهاب ، وليتمكّن من مخالطة الرجال ،

__________________

(١ و ٢) هود : ١١٣.

(٣) البقرة : ١٢٤.

٣٩٣

ويتفرّغ للنظر ، فإنّ المرأة ناقصة العقل.

السادس : أن يكون عالما ، ليعرف الأحكام ويعلّم الناس ، فلا يفوت الأمر عليه بالاستفتاء والمراجعة.

السابع : أن يكون شجاعا ، ليغزو بنفسه ، ويعالج الجيوش ، ويقوى على فتح البلاد ، ويحمي بيضة الإسلام.

الثامن : أن يكون ذا رأي وكفاية ، لافتقار قيام نظام النوع إليه.

التاسع : أن يكون صحيح السمع والبصر والنطق ، ليتمكّن من فصل الأمور. وهذه الشرائط غير مختلف فيها.

العاشر : أن يكون صحيح الأعضاء ، كاليد والرّجل والاذن. وبالجملة اشتراط سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض. وهو أولى قولي الشافعيّة (١).

الحادي عشر : أن يكون من قريش ، لقوله عليه‌السلام : « الأئمة من قريش » (٢) وهو أظهر قولي الشافعيّة (٣).

وخالف فيه الجويني (٤) ، مع أنّه لا خلاف في أنّ أبا بكر احتجّ على‌

__________________

(١) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧١ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٣.

(٢) المستدرك ـ للحاكم ـ ٤ : ٧٦ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١٢ : ١٦٩ ـ ١٧٠ ـ ١٢٤٣٨ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١ : ٢٥٢ ـ ٧٢٥ ، سنن البيهقي ٣ : ١٢١ ، و ٨ : ١٤٤ ، مسند أحمد ٤ : ٢٩ ـ ١٢٤٨٩ ، و ٥ : ٥٧٩ ـ ١٩٢٧٨.

(٣) الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : ٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧١ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٢.

(٤) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ٦ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧١.

٣٩٤

الأنصار يوم السقيفة به (١) ، وبذلك أخذت الصحابة بعده.

قالت الشافعيّة : فإن لم يوجد في قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ، نصب كنانيّ ، فإن لم يوجد ، فرجل من ولد إسماعيل عليه‌السلام (٢).

وهو باطل عندنا ، لأنّ الإمامة عندنا محصورة في الاثني عشر عليهم‌السلام على ما يأتي.

ثمّ إنّ قريشا ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ، فعلى قولهم : « إذا لم يوجد قرشي ، ينبغي نصب كنانيّ » ينبغي أنّه إذا لم يوجد كنانيّ ، نصب خزيميّ وهكذا يرتقي إلى أب بعد أب إلى أن ينتهي إلى إسماعيل عليه‌السلام.

فإن لم يوجد من ولد إسماعيل من يصلح لذلك ، قال بعضهم : يولّى رجل من العجم (٣).

وقال بعضهم : يولّى جرهميّ ، وجرهم أصل العرب ، وفيهم تزوّج إسماعيل عليه‌السلام حين أنزله أبوه عليه‌السلام أرض مكة. فإن لم يوجد جرهميّ ، فرجل من نسل إسحاق (٤).

ولا يشترط أن يكون هاشميّا عندهم (٥).

الثاني عشر : يجب أن يكون الإمام معصوما عند الشيعة ، لأنّ المقتضي لوجوب الإمامة ونصب الإمام جواز الخطأ على الأمّة ، المستلزم لاختلال النظام ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ الاجتماع مظنّة التنازع والتغالب ، فإنّ كلّ‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧١ ، وانظر : تاريخ الطبري ٣ : ٢٢٠ ، والكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٥.

(٢ ـ ٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٣.

٣٩٥

واحد من بني النوع يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على من يزاحمه في ذلك ، وتدعوه شهوته وغضبه إلى الجور على غيره ، فيقع من ذلك الهرج والمرج ، ويختلّ أمر الاجتماع ، مع أنّ الاجتماع ضروريّ لنوع الإنسان ، فإنّ كلّ شخص لا يمكنه أن يعيش وحده ، لافتقاره إلى غذاء وملبوس ومسكن ، وكلّها صناعيّة لا يمكن أن تصدر عن صانع واحد إلاّ في مدّة لا يمكن أن يعيش تلك المدّة فاقدا لها ، أو يتعسر إن أمكن ، وإنّما يتيسّر لجماعة يتعاونون ويتشاركون في تحصيلها ، يفرغ كلّ واحد منهم لصاحبه عن بعض ذلك ، فيتمّ النظام بمعاوضة عمل بعمل ومعاوضة عمل بأجرة ، فلهذا قيل : الإنسان مدنيّ بالطبع ، فلا بدّ حينئذ من سلطان قاهر ، مطاع ، نافذ الأمر ، متميّز عن غيره من بني النوع ، وليس نصبه مفوضا إليه ، وإلاّ وقع المحذور ، ولا إلى العامّة ، لذلك أيضا ، بل يكون من عند الله تعالى.

ولا يجوز وقوع الخطأ منه ، وإلاّ لوجب أن يكون له إمام آخر ، ويتسلسل ، فلهذا وجب أن يكون معصوما.

ولأنّه تعالى أوجب علينا طاعته وامتثال أوامره ، لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) وذلك عامّ في كلّ شي‌ء ، فلو لم يكن معصوما ، لجاز أن يأمر بالخطإ ، فإن وجب علينا اتّباعه ، لزم الأمر بالضدّين ، وهو محال ، وإن لم يجب ، بطل العمل بالنصّ.

ويجب عندهم أن يكون معصوما من أوّل عمره إلى آخره ، لسقوط محلّه‌

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٣٩٦

عند الناس لولاه.

الثالث عشر : أن يكون منصوصا عليه من الله تعالى ، أو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ممّن ثبتت إمامته بالنصّ فيهما ، لأنّ العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يمكن الاطّلاع عليها ، فلو لم يكن منصوصا عليه ، لزم تكليف ما لا يطاق. والنصّ من الله تعالى يعلم إمّا بالوحي على نبيّه عليه‌السلام ، أو بخلق معجز (١) على يده عقيب ادّعائه الإمامة.

الرابع عشر : أن يكون أفضل أهل زمانه ، ليتحقّق التميز عن غيره.

ولا يجوز عندنا تقديم المفضول على الفاضل ـ خلافا لكثير من العامّة (٢) ـ للعقل والنقل.

أمّا العقل : فإنّ الضرورة قاضية بقبحه.

وأمّا النقل : فقوله تعالى ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٣) وهذه صيغة تعجّب من الله تعالى ، دالّة على شدّة الإنكار ، لامتناعه في حقّه تعالى.

والأفضليّة تتحقّق بالعلم والزهد والورع وشرف النسب والكرم والشجاعة وغير ذلك من الأخلاق الحميدة (٤).

الخامس عشر : أن يكون منزّها عن القبائح ، لدلالة العصمة عليه. ولأنّه يكون مستحقّا للإهانة والإنكار عليه ، فيسقط محلّه من قلوب العامّة ، فتبطل فائدة نصبه. وأن يكون منزّها عن الدناءات والرذائل ، كاللعب‌

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : معجزة.

(٢) انظر : الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ ٨ ، والعزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٢ ، وروضة الطالبين ٧ : ٢٦٣.

(٣) يونس : ٣٥.

(٤) في متن الطبعة الحجريّة : « الجميلة » بدل « الحميدة ». وفي هامشها كما هنا.

٣٩٧

والأكل في الأسواق وكشف الرأس بين الناس وغير ذلك ممّا يسقط محلّه ويوهن مرتبته. وأن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات. وقد خالفت العامّة في ذلك كلّه.

مسألة ٢٣٧ : وإنّما تنعقد الإمامة بالنصّ عندنا على ما سبق. ولا تنعقد بالبيعة ، خلافا للعامّة بأسرهم ، فإنّهم أثبتوا إمامة أبي بكر بالبيعة ، ووافقونا على صحّة الانعقاد بالنصّ ، لكنّهم جوّزوا انعقادها بأمور :

أحدها : البيعة (١). واختلفوا في عدد الذين تنعقد الإمامة ببيعتهم.

فقال بعضهم : لا بدّ من أربعين ، لأنّ عهد الإمامة أعظم خطرا من عقد الجمعة ، وهذا العدد معتبر في الجمعة عند الشافعيّة ففي البيعة أولى (٢).

وقال بعض الشافعيّة : إنّه يكفي أربعة ، لأنّه أكمل نصب الشهادات (٣).

وقال بعضهم : ثلاثة ، لأنّ الثلاثة مطلق الجمع ، فإذا اتّفقوا ، لم يجز مخالفة الجماعة (٤).

وقال بعضهم : اثنان ، لأنّ أقلّ الجمع اثنان (٥).

وقال بعضهم : واحد ، لأنّ عمر بن الخطّاب بايع أبا بكر أوّلا ثمّ وافقه الصحابة (٦).

وقال بعضهم : يعتبر بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يسهل حضورهم ، ولا يشترط اتّفاق أهل الحلّ والعقد في سائر البلاد ، بل إذا وصل الخبر إلى أهل البلاد البعيدة ، فعليهم الموافقة والمتابعة (٧). وعلى هذا فلا يتعيّن للاعتبار عدد ، بل لا يشترط العدد ، فلو تعلّق الحلّ والعقد بواحد مطاع ، كفت بيعته لانعقاد الإمامة (٨).

__________________

(١ ـ ٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٢ ـ ٧٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٣.

(٧) في « ق » : « المبايعة » بدل « المتابعة ».

(٨) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٤.

٣٩٨

قالوا : ولا بد وأن يكون الذين يبايعون بصفات الشهود حتى لو كان واحدا ، شرط ذلك فيه.

وهل يشترط في البيعة حضور شاهدين؟ وجهان للشافعيّة.

ويشترط في انعقاد البيعة أن يجيب الذين يبايعونه ، فإن امتنع ، لم تنعقد إمامته (١).

الأمر الثاني : استخلاف الإمام قبله ، وعهده إليه ، كما عهد أبو بكر إلى عمر. وانعقد الإجماع بينهم على جوازه (٢).

قالوا : والاستخلاف أن يجعله خليفة في حياته ثمّ يخلفه بعد موته (٣).

ولو أوصى له بالإمامة من بعده ، ففيه وجهان عندهم ، لأنّه بالموت يخرج عن الولاية ، فلا يصحّ منه تولية الغير (٤).

ويشكل بأنّ مرادهم بجعله خليفة في حياته إن كان استنابه ، فلا يكون عهدا إليه بالإمامة ، أو جعله إماما في الحال ، فهذا إمّا خلع لنفسه أو اجتماع إمامين في وقت واحد ، أو جعله إماما بعد موته ، وهذا معنى لفظ الوصيّة (٥).

ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعدا بعده ، كان كالاستخلاف ، إلاّ أنّ المستخلف غير معيّن ، فيحتاج إلى تشاورهم اتّفاقهم على جعل واحد منهم خليفة ، كقضيّة عمر حيث جعل الأمر شورى في ستّة (٦).

ثمّ اختلفوا في أنّه هل يشترط في المولّى شروط الإمامة من وقت العهد إليه حتى لو كان صغيرا أو فاسقا عند العهد ، بالغا عدلا عند موت المولّي ، لم ينصب إماما إلاّ أن يبايعه أهل الحلّ والعقد؟ (٧) وبعضهم لم يشترط ذلك (٨).

__________________

(١ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٧ و ٨) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٥.

٣٩٩

ولو عهد إلى غائب مجهول الحياة ، لم يصحّ. ولو كان معلوم الحياة ، صحّ.

فإن مات المستخلف وهو غائب بعد [ استقدمه ] (١) أهل الاختيار ، فإن بعدت غيبته واستضرّ المسلمون بتأخير النظر في أمورهم ، اختار أهل الحلّ والعقد نائبا له يبايعونه بالنيابة دون الخلافة ، فإذا قدم ، انعزل النائب (٢).

ولو خلع الخليفة نفسه ، كان كما لو مات ، فتنتقل الخلافة إلى وليّ العهد على خلاف (٣).

ويجوز أن يفرق بين أن يقول : الخلافة بعد موتي لفلان ، أو بعد خلافتي (٤).

واختلفوا في أنّه هل يجوز العهد إلى الوالد والولد كما يجوز إلى غيرهما؟

فقال بعضهم بالمنع كالتزكية والحكم لهما عندهم (٥).

وقال آخرون بالفرق بين الوالد والولد ، لأنّ الميل إلى الولد أشدّ (٦).

واختلفوا في أنّ وليّ العهد لو أراد أن ينقل ما إليه من ولاية العهد إلى غيره ، لم يجز ، لأنّه إنّما يجوز له النظر وتثبت الولاية بعد موت المولي.

ولو عهد إلى اثنين أو أكثر على الترتيب ، فقال : الخليفة بعدي فلان ،

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجريّة : أن تقدمه. وهي كما ترى ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٥.

(٥) الأحكام السلطانيّة ـ للماوردي ـ : ١٠ ، العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٥.

(٦) العزيز شرح الوجيز ١١ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٧ : ٢٦٥.

٤٠٠