بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

لا بد وأن نقول ـ زيد مستطيع وعنده مال وراحلة ، حينئذ يثبت عليه وجوب الحج ـ.

إذن هناك مرحلتان : مرحلة إصدار الحكم ، وعقد القضية في أفق النفس. ومرحلة ثبوت المحكوم به خارجا وواقعا على الموضوع. في المرحلة الأولى : لا يتوقف إصدار الحكم إلّا على إحضار الموضوع ، ولو بالنظر التصوري. وفي المرحلة الثانية : المحكوم به لا يثبت إلّا لما يكون هو الموضوع بالنظر التصديقي الحقيقي.

وبعد أن تمت هاتان المقدمتان واتضحت ، نأتي إلى مثال ، ونطبق عليه كلتا المقدمتين ، ومن هذا المثال يتضح محل الكلام أيضا ويندفع الإشكال : والمثال هو قولنا : ـ الجزئي لا ينطبق على كثيرين ـ. فهذه قضية صحيحة عند من أنكر الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وعند من قبل بذلك. وهذه القضية فيها إشكال في بادئ الأمر ، وهذا الإشكال هو إنّ القائل ـ بأن الجزئي لا ينطبق على كثيرين ـ قد أحضر في نفسه مفهوم الجزئي ، ومفهوم الجزئي ينطبق على كثيرين ، ولم يحضر في نفسه زيدا ، وبكرا ، وعمرا ، إذن هذا الكلام كيف يصدق بأن ـ الجزئي لا ينطبق على كثيرين ـ! هو بحسب الحقيقة حكم على هذا المفهوم ولم يحكم على زيد ، وخالد ، فزيد وخالد لا ينطبق على كثيرين ، لا إن مفهوم الجزئي لا ينطبق على كثيرين.

وهذه شبهة يتضح جوابها من المقدمتين المذكورتين :

فإنه اتضح من المقدمة الأولى أن مفهوم الجزئي بالنظر التصوري الأولي ، واجد لنفسه ، ولكنه بالنظر التصديقي الحقيقي فاقد لنفسه ليس بجزئي.

واتضح من المقدمة الثانية أن القضية لها مرحلتان : الأولى إصدار الحكم ، والثانية ثبوت المحكوم به حقيقة للموضوع ، وحينئذ نقول في المقام : بأن الحكم الذي حكم به هذا الإنسان حينما قال ـ بأن الجزئي يمتنع صدقه

٨١

على كثيرين ـ فهذا الحكم علّقه على مفهوم الجزئي ، ومفهوم الجزئي بالنظر التصوري الأولي واجد للجزئية ، وهذا يكفي لإصدار الحكم لأن بشخص هذا النظر التصوري الأولي الحاكم يراه أهلا لهذا الحكم ، ولهذا المحمول. لكن في المرحلة الثانية مرحلة ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع ، المحمول بحسب الحقيقة إنما يثبت لما يكون جزئيا بالنظر التصديقي ، لا لما يكون جزئيا بالنظر الأولي ، إذن فمفهوم الجزئي نفسه هذا الذي كان موضوعا للحكم في مرحلة إصدار الحكم ، ليس موضوعا للمحكوم به حقيقة في المرحلة الثانية ، لأنه بالنظر التصديقي ليس جزئيا ، بل هو كلي بحسب الحقيقة ، وهكذا بقدرة قادر صار هذا الحكم معلّقا على مفهوم الجزئي ، ولكن المحكوم به وهو المحمول ، ثابت بحسب الحقيقة لغير مفهوم هذا الجزئي ، أي ثابت لأشياء أخرى ـ لزيد وبكر ، وعمر ـ لا لمفهوم هذا الجزئي.

فإذا تعقّلنا هذا المطلب في مثال ـ الجزئي يمتنع صدقه على كثيرين ـ ، والآن إذا أبدلنا ـ صدقه على كثيرين ـ بالوضع ، أي أبدلنا المحمول بالوضع نقول :

وضعت كلمة إنسان للجزئي من الإنسان ، إذن فالأمر في الوضع كالأمر في قولنا ـ الجزئي يمتنع صدقه على كثيرين ـ. بمعنى أن الواضع يتصور مفهوم الجزئي ـ مفهوم الفرد والخاص ـ الذي هو بالنظر الأولي التصوري ، خاص وجزئي ، وأصدر حكمه بوضع اللفظ له ، ولكن الحكم يستقر على ما يكون خاصا بالنظر التصديقي ، فالمحكوم به هنا هو ما كان يحسب الحقيقة بالنظر التصديقي خاصا ، لا ما كان بالنظر التصوري خاصا ، إذن فالوضع يصير ـ لزيد ، وبكر ، وخالد ـ الذي هو بالنظر التصديقي خاص ، تماما ، من قبيل قولنا ـ الجزئي لا يصدق على كثيرين ـ فكما أصدرنا الحكم على الجزئي نفسه ـ مفهوم الجزئي ـ ولكن واقع الحكم ثابت لواقع الجزئيات ـ لزيد وبكر ـ ، كذلك هنا أيضا فقد أثبتنا الحكم بالوضع لعنوان الجزئي ، ولكن العلاقة الوضعية تثبت لواقع الجزئي ، ولما يكون جزئيا بالنظر التصديقي.

٨٢

وهكذا يتلخص ، بأنه يعقل الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وذلك بأن يحضر مفهوم عام هو بالنظر التصوري الأولي خاص ، وإن لم يكن بالنظر الثانوي التصديقي خاصا ، حينئذ مثل هذا الخاص بالنظر الأولي التصوري يكفي لإصدار الحكم عليه بالعلاقة ، لكن هذه العلاقة بحسب الحقيقة تستقر على ما يكون خاصا بالنظر التصديقي ، لا على ما يكون خاصا بالنظر التصوري ، وما يكون خاصا بالنظر التصديقي هو ـ زيد ، وبكر ، وعمر ـ لا مفهوم الخاص.

إذن اندفع هذا الاعتراض ، وتبيّن إمكان الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وبهذا انتهى الكلام في الجهة الثالثة.

٨٣
٨٤

الجهة الرابعة

الواقع من أقسام الوضع الممكنة

هذه الجهة بحسب الواقع ، معقودة لبيان وقوع القسم الثالث ، وهو الوضع العام والموضوع له الخاص ، في باب الحروف والهيئات. وأما الوضع العام ، والموضوع له العام ، والوضع الخاص ، والموضوع له الخاص ، فلا كلام في وقوعهما ، كما في أسماء الأجناس والأعلام.

إذن البحث في هذه الجهة بحسب الحقيقة عن المعاني الحرفية ، والفارق بينها وبين المعاني الاسمية ، وهذا البحث نعقده في مقامين ، نتكلم في أحدهما عن معاني الحروف ، وفي الآخر عن معاني الهيئات.

٨٥
٨٦

المقام الأول

معاني الحروف

وفيه مسالك :

المسلك الأول : إنكار المعنى للحروف.

المسلك الثاني : اتحاد معاني الحروف ، ومعاني الأسماء ذاتا. والفارق عرضي ثانوي.

المسلك الثالث : تباين معاني الحروف ، وتغايرها ذاتا مع معاني الأسماء.

اختلف المحققون في تشخيص معاني الحروف ، وفي بيان الفرق بينها وبين المعاني الاسمية ، فتشعّبت آراؤهم مذاهب متضاربة ، ومسالك عديدة ، نلخصها في ثلاثة مسالك ، قد يحتوي بعضها على اتجاهات متعددة ، وهي :

مسلك إنكار المعنى للحروف.

ومسلك اتحاد معانيها مع معاني الأسماء ذاتا ، وإنما الفارق بينهما عرضي ثانوي.

ومسلك التباين بين معاني الحروف وتغايرها ذاتا مع معاني الأسماء.

المسلك الأول ـ إنكار المعنى للحروف :

لقد ادّعي في هذا المسلك بأن الحروف إن هي إلّا كالعلامات

٨٧

الإعرابية (١) من الضمّة ، والفتحة ، والكسرة ، التي لا تحمل أي معنى ، ولا تدل على شيء أكثر من كونها علامة على خصوصية معينة في موضوعها ، فكما أنّ الضمّة تدل على خصوصية الفاعلية في موضوعها كذلك حرف (إلى) يدل على خصوصية كون مدخوله منتهى إليه مثلا ، وحرف (من) يدل على خصوصية كون مدخوله مبدوءا به مثلا ، وهكذا.

وقد أشكل على هذا القول بأنه أشبه شيء بالجمع بين المتناقضين ، حيث يقال : بأن الحروف ليس لها معنى في الوقت الذي يدل فيه الحرف على الخصوصية في الكلام ، وذلك كما في قولنا ـ سرت من البصرة ـ. فإمّا أن يقال : إنها كقولنا ـ سرت البصرة ـ وكلمة (من) حشو زائد ، وأمّا أن يقال : بأن هناك خصوصية زائدة ـ خصوصية الابتداء ـ تستفاد في الجملة الأولى ، ولا توجد في الثانية.

والأول بديهي البطلان. وعلى الثاني نتساءل : هل إنّ هذه الخصوصية الزائدة مدلولة للاسم الواقع في الكلام ـ كالسير والبصرة ـ أو إنها ليست مدلولة؟.

والأول واضح البطلان أيضا لأنّ اسم ـ السير ـ لم يوضع إلّا لذات السير لا لسير خاص بخصوصية الابتداء. وعلى الثاني يتعين أن تكون تلك الخصوصية مستفادة من الحرف الواقع في الكلام ، إذ لا توجد قرينة فيه ، ولا دال آخر يمكن أن يكون هو الدال على الخصوصية.

وهذا الإشكال يمكن دفعه ، بأن صاحب هذا المسلك ، يمكنه أن يعترف بوجود خصوصية زائدة تستفاد من الكلام الذي وقع فيه الحرف ، إلّا أنه مع ذلك ينكر وجود معنى ومدلول للحروف ، وإنما يرى المعنى والمدلول للأسماء الواقعة في الكلام فقط ، بأن يدّعي أن الإسم موضوع مرتين : فهو بقيد

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ص ١٢ ـ بدائع الأفكار ـ الآملي : ١ / ص ٤١.

٨٨

الإطلاق وضع لذات معناه ، ومع قيد انضمام الحرف إليه ، وضع للمعنى الخاص ـ كالسير المبدوء مثلا ـ.

فيكون الحرف عندئذ فاقدا لكل دلالة ، لأنه ليس إلّا قيدا في الوضع ، والدال واحد هو الإسم الذي انضم إليه الحرف ، فلا يكون هناك دالان ومدلولان ، بل دال واحد ، ومدلول واحد ، ويكون الأثر الفني لهذا الطراز من الدلالة ، عدم صحة تسليط التقييد والإطلاق إلى الحروف ومعانيها ، لأنها ليست دالة على معنى كي يبحث عن إمكان تقييده وعدمه. بل لا بد وأن ترجع القيود إلى الأسماء والمعاني الاسمية دائما ، وهذا مما يترتب عليه من نتائج ، على ما يظهر في الأبحاث المقبلة من مسائل الأصول.

إذن فلا تناقض ولا شبه تناقض بين الالتزام بعدم وجود مدلول ومعنى للحرف مع الاعتراف باختلاف معنى الكلام حين وقوع الحرف فيه من حيث الخصوصيات عن الكلام الفاقد للحرف.

والواقع إنّ هذا الطراز من التصور في دلالة الحروف ، لا برهان تام على بطلانه ، وإن كان الوجدان على خلافه بالبداهة اللغوية على ما سوف يتضح فيما يأتي.

المسلك الثاني ـ اتحاد معاني الحروف مع معاني الأسماء ذاتا :

هذا المسلك هو مختار صاحب الكفاية (١) (قدس‌سره) ، حيث ذهب إلى أن الحرف موضوع للمعنى نفسه الذي وضع له الإسم ، فالمعنى الاسمي والمعنى الحرفي متحدان ذاتا ، ولكنهما يختلفان في جهة عرضية ، وكلام صاحب (الكفاية) في تحقيق مسلكه هذا ينحل إلى جهتين :

الجهة الأولى : وهي أن المعنى الحرفي والمعنى الاسمي شيء واحد ، ولا يوجد فرق ذاتي بين معنى ـ من ، والابتداء ـ ، ومعنى ـ إلى ، والانتهاء ـ

__________________

(١) حقائق الأصول ـ ج ١ ـ ص ٢٢.

٨٩

وهكذا ، بل معناهما واحد ، غاية الأمر أنهما يختلفان في جهة عرضية. وهذه الجهة العرضية هي ، أنه متى ما لوحظ الابتداء والانتهاء بما هو هو ، وباللحاظ الاستقلالي ، عبّر عنه بالاسم بكلمة الابتداء والانتهاء ، ومتى ما لوحظ الابتداء والانتهاء باللحاظ الآلي بما هو مرآة ، وحالة في غيره ، وطور من أطوار غيره ، حينئذ يعبّر عنه بالحرف ـ بمن ، وإلى ـ.

و (من) (والابتداء) معناهما واحد ذاتا ، ومختلف عرضا تبعا لاعتبار خصوصية اللحاظ الاستعمالي في مقام الاستعمال. فإن كان اللحاظ الاستعمالي لحاظا استقلاليا فهذا هو معنى الإسم ، وإن كان لحاظا آليا فهذا هو معنى الحرف.

إذن فالفرق نشأ من جهة طارئة عرضية وهي اللحاظ الاستعمالي ، أمّا بقطع النظر عن هذا الفارق العرضي ، فمعنى الإسم والحرف كلاهما شيء واحد ، ومعنى واحد.

الجهة الثانية : وهي إنّ هذا الفارق العرضي الذي ذكر بين معنى الإسم ومعنى الحرف ، وهي خصوصية اللحاظ الآلي ، وخصوصية اللحاظ الاستقلالي ، هاتان الخصوصيتان اللتان بهما يتميز المعنى الاسمي عن المعنى الحرفي ، هل إنهما مأخوذتان في المعنى الموضوع له ، أو إنهما قيود للوضع نفسه؟.

هل إنّ لفظة (من) موضوعة للابتداء المقيّد باللحاظ الآلي ، ولفظة (الابتداء) موضوعة للمعنى نفسه ، مقيدا باللحاظ الاستقلالي؟.

أو إن قيد اللحاظ الآلي ، وقيد اللحاظ الاستقلالي لم يؤخذا في المعنى الموضوع له ، بل كلاهما وضع لذات (الابتداء) ، ولكن العلاقة الوضعية نفسها ما بين اللفظ والمعنى قيّدت؟. فكأن الواضع قال : أضع (من) للابتداء ، لكن في الليل ، لا في النهار ، والليل هو اللحاظ الآلي ، وأضع لفظة (الابتداء) للابتداء لكن في النهار لا في الليل ، والنهار هو اللحاظ الاستقلالي. فاللحاظ

٩٠

الآلي واللحاظ الاستقلالي قيدان للعلاقة الوضعية نفسها.

وكأن صاحب (الكفاية) كان يتخيّل أن الجهة الأولى مفروغ عنها ، ولهذا لم يتعب نفسه في توضيحها ، والبرهنة عليها ، وكأنه لا نزاع فيها. ولهذا كان يفترض في كلامه الفراغ عن الجهة الأولى ، ويبحث مفصّلا في الجهة الثانية ، فيقيم البراهين الصورية على أن اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي لا يعقل أخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، بل لا بد أن يكون قيدا في الوضع.

وبحسب الحقيقة ، فإن صاحب الكفاية صرف تمام همه في الجهة الثانية ، والجهة الأولى فهمت ضمنا من كلامه.

إذن ينحل كلامه في هذا المسلك إلى هاتين الجهتين ، فلا بد من التكلم أولا في الجهة الأولى ، وهي : دعوى أنّ معنى الإسم ومعنى الحرف واحد ، وليس بينهما فرق ذاتي مفهومي ، وإنما الفرق بينهما عرضي ينشأ بلحاظ عالم الاستعمال ، حيث أن المعنى الاسمي يتميز باللحاظ الاستقلالي ، والمعنى الحرفي يتميز باللحاظ الآلي.

وهذا الكلام سوف يتوضّح أكثر من خلال المناقشات والاعتراضات.

وقد اعترض على هذا الكلام من قبل المحققين المتأخرين عن صاحب (الكفاية) بعدة اعتراضات. (١)

الجهة الأولى ـ الاعتراض الأول :

وهذا الاعتراض للمحقق الأصفهاني (قدس‌سره) حيث ذكر في (حاشيته على الكفاية) ، إن معنى الحرف لا يعقل أن يكون له نحوان من اللحاظ في عالم الذهن ، بحيث تارة يلحظ بنحو اللحاظ الاستقلالي فيعبّر عنه بالاسم ، وأخري يلحظ بنحو اللحاظ الآلي فيعبّر عنه بالحرف ، مع أنه معنى واحد ،

__________________

(١) بدائع الأفكار : ١ / ٥٥ ـ ٥٦ ـ ٥٧ ـ. فوائد الأصول : الكاظمي ج ١ / ١١ ـ ١٢ ـ ١٣ ـ نهاية الدراية ـ الأصفهاني ج ١ / ٢٣ ـ ٢٤ ـ ٢٥.

٩١

وهذا غير معقول ، لأن اللحاظ هو الوجود الذهني. فإذا كان المعنى الحرفي له نحوان من اللحاظ في الذهن ، إذن فيكون له نحوان من الوجود الذهني ـ وجود ذهني تبعي وهو اللحاظ الآلي ، ووجود ذهني استقلالي وهو اللحاظ الاستقلالي ـ.

وبناء على هذا يلزم أن يكون لمعنى الحرف نحوان من الوجود في الخارج أيضا ، مطابقا للذهن ، لأنّ الوجود الذهني مطابق للوجود الخارجي. فإذا تعقلنا أن يكون لمعنى (من) نحوان من الوجود في الذهن ـ استقلالي وتبعي ـ ، فلا بدّ وأن يكون له نحوان من الوجود في الخارج أيضا ـ وجود استقلالي تارة ووجود تبعي أخرى ـ ، مع أن معاني الحروف وهي النسب والروابط ، ليس لها في الخارج وجود استقلالي أصلا ، بل وجودها متمحض في الخارج بالوجود التبعي والاندكاكي ، والظلي. إذن فلا محالة أيضا يكون وجودها الذهني متمحضا في الوجود التبعي الظلي الاندكاكي ، ولا يكون لها نحوان من الوجود في الذهن.

وهذا البرهان الذي ذكره المحقق الأصفهاني ، كأنه مبني على أصل موضوعي ، وهو أن أنحاء الوجود الخارجي لا بدّ وأن تكون بقدر أنحاء الوجود الذهني ، فإذا كان للمعنى نحوان من الوجود في الذهن ، فلا بدّ وأن يكون له نحوان من الوجود في الخارج ، وحيث أن معاني الحروف ، وهي النسب ليس لها نحوان من الوجود في الخارج ـ إذن ليس لها وجود استقلالي في الخارج أصلا ـ فيلزم أن لا يكون لها وجود استقلالي في عالم الذهن أيضا.

وهذا الأصل الموضوعي بلا موجب في المقام ، لأنه قد يكون للشيء نحو من الوجود في الذهن. ولا يكون له ذاك النحو من الوجود في الخارج ، من قبيل الأعراض ، فمثلا : البياض الذي هو مفهوم اسمي بلا إشكال ، وليس من الحروف ، فهو بحسب عالم الذهن له نحوان من الوجود ، فإنه كما يوجد في ضمن تصور الجسم الأبيض ، كذلك يوجد البياض في نفسه ، فالإنسان

٩٢

يمكن أن يتصور ماهية البياض بما هي ، بقطع النظر عن موضوع يتصف بهذه الأبيضية ، مع أنه بحسب عالم الخارج ، البياض لا يعقل وجوده إلّا مرتبطا بموضوعه ، إذ لا يعقل أن يوجد في الخارج بياض بلا جسم. وهذا يبرهن على أن الذهن قد يعطي أنحاء من الوجود للمفاهيم ، لا مطابق لها في الخارج ، فكما أعطى لماهية البياض نحوا من الوجود الغير الافتقاري إلى الموضوع في الذهن ، مع أن وجود البياض في الخارج افتقاري دائما ، كذلك يمكن أن يفرض أن المعنى الحرفي في عالم الذهن له نحوان من الوجود : تارة يوجد بوجود استقلالي ، وأخرى يوجد بوجود تبعي ، ولكن في عالم الخارج يتمحض في أحد النحوين ، وهو الوجود التبعي.

ثم كأنّ المحقق الأصفهاني حمّل على (صاحب الكفاية) مطلبا ، وهو الفراغ من أن معاني الحروف هي النسب فقال : بأن معاني الحروف وهي النسب ، لا تقبل في الخارج الوجود الاستقلالي بل الوجود التبعي ، مع أن هذا هو أول الكلام في المقام ما بينه وبين صاحب (الكفاية) فهذا تحميل على صاحب (الكفاية).

وصفوة القول ، وإن كنا نقبل أنّ النسبة لا يعقل أن يكون لها نحوان من الوجود ، بل وجودها دائما تبعي ظلي ، كما سوف يأتي توضيحه ، لكن لا نقبل هذا الطراز من الاستدلال البرهاني ، فلا نقبل من المحقق الأصفهاني ، أنّ الاستقلال في المعنى الحرفي لا يقبل الاستقلال في الوجود الذهني ، ببرهان أنه لا يقبل الاستقلال في الوجود الخارجي ، مع لزوم التطابق بين أنحاء الوجود الخارجي ، وأنحاء الوجود الذهني ، بل البرهان قائم على العكس ، كما قلنا في مفهوم البياض.

إذن فلا يلزم من أن المعنى الحرفي تبعي دائما أن لا يكون في عالم الذهن استقلاليا تارة ، وتبعيا أخرى ، فهذا البرهان في غير محله.

٩٣

الاعتراض الثاني : (١)

هو إنه لو كان لا يوجد فرق ذاتي بين المعنى الاسمي ، والمعنى الحرفي ، بحيث يكون معناهما واحدا ، وإنما الفرق بينهما باللحاظ الآلي والاستقلالي ، للزم (٢) جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر ، ولو بنحو المجاز ، بأن نستعمل (من) في موضع الابتداء و (إلى) في موضع الانتهاء ، وكذلك العكس.

أمّا بناء على أنّ اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي ، مأخوذا قيدا في المعنى الموضوع له ، فجواز استعمال لفظة (من) في الابتداء الاستقلالي ، ولفظة (الابتداء) في الابتداء الآلي ، لا يخلو من تصرف في المعنى الموضوع له ، فليكن هذا التصرف من باب المجاز ، فيكون استعمالا فيما هو قريب من المعنى الموضوع له لأن (من) وإن كانت موضوعة للابتداء الآلي لكن بالتالي الابتداء الاستقلالي قريب من الابتداء الآلي ، فكلاهما يشتركان في أصل الابتداء ، فلما ذا لا يجوز الاستعمال مجازا؟!.

وأمّا بناء على مسلك صاحب (الكفاية) من أنّ اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي ، مأخوذان قيدا في الوضع نفسه لا في المعنى الموضوع له ، فهنا المجاز إذن أصح وأوضح ، لأنه لا يوجد أي تصرف في المعنى الموضوع له. فلفظة (من) حينما نستعملها في مورد الإسم فقد استعملناها في شخص ما وضع له بلا تصرف ، إذن فليعامل مع هذا معاملة المجاز ، إذ ليس استعمال اللفظ في ما وضع له نفسه ، لكن مع التأويل أسوأ من استعمال اللفظ في غير ذات ما وضع له. فإذا صح استعمال لفظة (أسد) في الرجل الشجاع مجازا ، مع أن الرجل الشجاع مباين مع المعنى الموضوع له ، فكيف لا يصح في المقام استعمال لفظة (من) في معنى الابتداء مع أنه لا تباين ذاتي فيما بينهما؟.

__________________

(١) بدائع الأفكار / الآملي : ١ / ٥٤.

(٢) فوائد الأصول : ١ / ١٨ محاضرات فياض : ١ / ٥٧.

٩٤

والحال إنه لا إشكال في عدم صحة مثل هذا الاستعمال ، فيكشف ذلك عن التباين الذاتي بين معنى الإسم ، ومعنى الحرف.

وهذا الاعتراض اعترض به السيد الأستاذ (١) ، والمحقق النائيني (٢) (قدس‌سره) ، على صاحب (الكفاية). ولكن إذا فكرنا بحسب الترتيب المشهوري ، في باب الوضع والدلالات ، يمكن الجواب عليه بنحو يندفع هذا الإشكال عن صاحب الكفاية ، ولتوضيح ذلك نقول :

إنّ صحة استعمال اللفظ في معنى مجازا ، ودلالته عليه بنحو المجاز ، هذا فرع أن يكون له دلالة في الوقت نفسه على المعنى الحقيقي. فإنّ اللفظ إذا كان له دلالة بالفعل على المعنى الحقيقي ببركة الوضع ، حينئذ ينشأ من دلالته الوضعية هذه دلالة أخرى بالمناسبة واللياقة على ذاك المعنى القريب من المعنى الموضوع له ، فيصح عندئذ استعماله في ذاك المعنى المناسب.

إذن فصحة استعمال اللفظ في المعنى المناسب ، ودلالته عليه ، موقوف على أن يكون للّفظ دلالة على المعنى الآخر الحقيقي ، وبتبعه ينشأ له دلالة على المعنى المناسب ، وحينئذ بناء على هذا إذا ادّعينا في المقام ما إدّعاه صاحب الكفاية (قدس‌سره) من أنّ الواضع أخذ اللحاظ بشكليه قيدا في الوضع نفسه ، وفي العلقة الوضعية نفسها ، بأن وضع لفظة (من) للابتداء حينما قيد الوضع نفسه بحالة اللحاظ الآلي ، حينئذ إذا لم يكن هناك لحاظ آلي ، بل كان لحاظ استقلالي ، كما هو الحال في موارد استعمال الأسماء ، فهنا في هذا الوقت ، العلاقة الوضعية بين (من) والابتداء ، غير موجودة ، لأنها مشروطة باللحاظ الآلي ، وهو غير موجود ، والمشروط عدم عند عدم شرطه.

إذن ففي شخص زمان اللحاظ الاستقلالي لفظة (من) ليس لها علاقة وضعية مع الابتداء ، فلا دلالة لها على معناه الحقيقي ، وعليه فلا دلالة مجازية

__________________

(١) محاضرات فياض ج ١ / ص ٥٧.

(٢) فوائد الأصول / الكاظمي ج ١ / ص ١٨.

٩٥

أيضا ، لأن الدلالة المجازية إنما هي من ترشحات وتفرعات الدلالة على المعنى الحقيقي ، فهي ساقطة لأنها فرع في ذاك الزمان نفسه.

وهذا يشبه تماما ما إذا فرضنا أن كلمة (أسد) نسخ وضعها للحيوان المفترس ، ونقلت عنه ، فلا يبقى لها دلالة مجازية على الرجل الشجاع ، لأنها من ترشحات دلالتها على الحيوان المفترس ، ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الواضع بعد أن قيّد العلاقة الوضعية باللحاظ الآلي. حينئذ في حالة اللحاظ الاستقلالي لا وضع ل (من) أصلا ، حالها حال كلمة (أسد) بعد نسخ وضعها للحيوان المفترس. فكما لا يصح استعمال كلمة (أسد) في الرجل الشجاع بعد النسخ ، كذلك لا يصح استعمال كلمة (من) في مكان الإسم ، لأن في هذه الحالة ليس لها دلالة على معناها الحقيقي ، حتى تدل على معنى آخر ، أو حتى يصح استعمالها مجازا ، ولو بشكل من الأشكال. إذن فهذا الاعتراض غير تام.

الاعتراض الثالث (١) :

وهذا الاعتراض للسيد الأستاذ ـ دام ظله ـ ، هو أن المعنى الحرفي لو كان تمام الملاك في كونه معنى حرفيا بملاحظته باللحاظ الآلي الفنائي ، للزم أن تكون المعاني الاسمية أيضا معاني حرفية ، لأن كثيرا من المعاني الاسمية المأخوذة في موضوعات القضايا المنظور فيها الخارج ، إنما تلحظ بما هي فانية في معنونها ، ووجودها الخارجي. فمثلا : في قولنا ـ النار محرقة ـ هنا مفهوم النار مفهوم اسمي ، مع أنه لوحظ بما هو مرآة لمعنونه الخارجي ، وبما هو فان في هذا المعنون ، فلو كان تمام امتياز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي باللحاظ الآلي والفنائي ، للزم الالتزام بأن مفهوم النار في هذه القضية معنى حرفي ، لأنه لوحظ باللحاظ الفنائي.

والحال إنه لا إشكال في أن مفهوم النار مفهوم اسمي حتى في قولنا

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ـ فياض : ج ١ / ص ٥٨.

٩٦

ـ النار محرقة ـ وهذا كاشف وبرهان على أن تميّز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي ، ليس بمجرد اللحاظ الآلي والاندكاكي ، بل بأمر ذاتي أعمق من ذلك.

وهذا الاعتراض كذلك لا يمكن المساعدة عليه ، وتوضيح ذلك : إنّ اللحاظ الفنائي والآلي له معنيان :

المعنى الأول : لحاظ العنوان فانيا في معنونه ، ولحاظ المفهوم فانيا في واقعه ، وهذا نحو من اللحاظ الإفنائي ، فيقال مثلا في ـ النار محرقة ـ إنّ مفهوم النار ملحوظ باللحاظ الفنائي والآلي بما هو فان في معنونه الخارجي ، وهذا الفناء مرجعه إلى هذا المطلب ، وهو أن الإنسان عند ما يقول ـ النار محرقة ـ لا يريد أن يحكم على النار الموجودة في ذهنه بما هي صورة ذهنية بأنها محرقة ، لأن هذه النار الموجودة في ذهنه ليست محرقة أصلا ، وإلّا لاحترق ذهنه ، وإنما الإحراق صفة النار الخارجية ، يعني صفة المعنون فلا محالة أن يحضر هذه الصورة الذهنية لمفهوم النار ، ويلحظها بما هي فانية ، ومرآة للمعنون الخارجي حتى يصح هذا الحكم ، إذ لو لا هذا الإفناء ، وهذه الآلية ، لما صحّ هذا الحكم. فهذا الإفناء وهذه الآلية بهذا المعنى واضح.

ولكن ما هي حقيقة هذا الإفناء ، يعني ما هي حقيقة ملاحظة هذه العناوين فانية في معنوناتها ، ملاحظة النار فانية في معنونها الخارجي؟.

إذ من الواضح أنه لا يوجد في الذهن عملية إفناء حقيقة وعملية استهلاك حقيقة ، بحيث يكون في الذهن شيئان : العنوان والمعنون ، مفهوم النار وواقع النار ، كلاهما في الذهن يندك أحدهما في الآخر ، ليس هكذا ، إذ من الواضح أن المعنون الخارجي لا يعقل وجوده في الذهن أصلا ، فليس في الذهن شيئان بل شيء واحد ، وهو الصورة الذهنية للمفهوم.

وهذه الصورة الذهنية للمفهوم ، إن كانت موجودة فلا فناء وإن كانت قد استهلكت وغفل عنها ، فلا يبقى شيء عند الذهن ليلحظه ، فلا يوجد في الذهن

٩٧

العنوان والمعنون حتى يقال هذا يغفل عن العنوان ، ويلتفت إلى المعنون ، ليس هناك معنون في الذهن ، وإنما هو العنوان والمفهوم فقط :

إذن فما معنى الإفناء والاندكاك! :

فمعناه إذن أن هذه الصورة الذهنية للنار التي هي موجودة في أفق الذهن ، لها لحاظان : باللحاظ الأولي التصوري هي نار ، وباللحاظ الحقيقي التصديقي الذي يبرز حقيقتها هي صورة ذهنية وليست نارا هي من مقولة الكيف.

إذن فهناك نظران نحو هذا الشيء الواحد : فتارة ينظر إليه بالنظر التصوري فهي نار ، وأخرى ينظر إليه بالنظر التصديقي الذي يكشف عن حقيقة هذه الصورة فهي صورة وخيال ووجود ذهني ، وليست نارا.

إذن فمعنى الإفناء حينما نقول ـ النار محرقة ـ ، لا نستعمل النظر الثاني ، بل نستعمل النظر الأول ، لأن النظر الثاني يكشف حاق هذه الصورة ، ويكشف حقيقتها ، فلو استعملنا هذا النظر ، لما قلنا محرقة ، بل لقلنا إنها مؤنسة ـ فكر ، علم ، كيف نفساني ـ. إذن فلا بد من ترك هذا النظر ، والاكتفاء بالنظر التصوري ، وهذا هو حقيقة الفناء في هذا القسم.

وأكثر من ذلك نقول : بأن في هذا القسم ، وفي هذا المعنى للفناء ، ليس هناك فناء ، بل هناك غض عن نظر ، واستعمال لنظر آخر ، فمتى ما أردنا أن نقول ـ النار محرقة ـ توجهنا إلى النار بالنظر التصوري ، ومتى ما أردنا أن نقول ـ النار فكري وجزء من ذهني ـ توجهنا إليها بالنظر التصديقي ، وهذا المعنى للفناء ، وهو الغض عن نظر واستعمال آخر ، أمر معقول وصحيح ، وهو الموجود في المفاهيم الاسمية.

المعنى الثاني : وهو قسم آخر من الفناء ، وهو ليس فناء العنوان بالمعنون الخارجي ، بل هو فناء مفهوم في مفهوم واندكاك معنى في معنى ، وهذا هو الذي يدّعى عادة في الحروف بأن معنى (من) هو الابتداء الملحوظ

٩٨

بما هو مندك في معنى الإسم ـ في معنى السير والبصرة ـ فيقال بأن الابتداء تارة يلحظ بما هو شيء في نفسه ، فيعبّر عنه بكلمة الابتداء ، وأخرى يلحظ بما هو طور من أطوار معنى آخر ، بحيث بهذا اللحاظ لا يرى إلّا صاحب الطور بما هو متطور بهذا الطور ، وهذا معناه اندكاك المعنى الحرفي في المعنى الاسمي. تماما كما تقدم في مفهوم البياض ، تارة الذهن يلحظ البياض في نفسه ، وأخرى يلحظه بما هو مندك في الأبيض ، بحيث لا يرى إلّا الأبيض. وهذا معنى آخر للفناء يختلف عن المعنى الأول ، لأن هذا بابه باب اندكاك معنى في معنى ، وفناء معنى في معنى ، وذاك فناء العنوان في المعنون.

والآن بعد ما اتضح كلا معنيي الفناء نقول : بأن صاحب الكفاية (قدس‌سره) مقصوده المعنى الثاني للفناء يعني ـ فناء مفهوم في مفهوم ـ فناء المفهوم الحرفي في المفهوم الاسمي ، لا فناء المفهوم الحرفي في واقع المفهوم الحرفي ، حتى يقال هذا بعينه موجود في باب الأسماء لأن في باب الأسماء أيضا مفهوم النار فان في واقع النار ، ونقول : إنّ مفهوم (من) يفنى في مفهوم ـ سير ـ وهذا هو الذي يميز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي بحسب دعوى صاحب (الكفاية) ، وحينئذ فلا يرد عليه هذا النقص.

أمّا كون هذا هو مراد صاحب (الكفاية) ، فهذا واضح في عبارته ، لأنه يقول بأن المعنى الحرفي حالة في غيره ، ويقصد من الغير هنا المعنى الاسمي ، لا المعنون الخارجي لنفس الابتداء ، ولهذا يشبّه في قوله ـ الحرف مع الإسم في الذهن كالعرض مع الجوهر في الخارج ـ فكما أن العرض مع الجوهر في الخارج لا يرى شيئا بحياله وفي قباله ، كذلك المعنى الحرفي لا يرى في الذهن شيئا مفهوما في مقابل المفهوم الاسمي وحياله.

وممّا يؤيد ذلك أنه (قدس‌سره) في تضاعيف أصوله فرّع على مبناه عدم إمكان الإطلاق والتقييد (١) في المعنى الحرفي ، كما يظهر في بحث مفهوم

__________________

(١) حقائق الأصول : ١ / ٤٥١.

٩٩

الشرط ، باعتبار أن المعنى الحرفي آلي وملحوظ باللحاظ الآلي الغفلتي ، ومع اللحاظ الآلي الغفلتي كيف يطلق ويقيد ، لأنّ الإطلاق والتقييد فرع الالتفات ، ومع عدم الالتفات إليه كيف يعقل فيه الإطلاق والتقييد!.

ونحن لسنا بصدد أنّ هذا التفريع صحيح أو ليس بصحيح إذ سيأتي الكلام عليه تباعا. ولكن الكلام الآن أن هذا التفريع شاهد على أنّ مراد صاحب (الكفاية) من اللحاظ الآلي هو ـ فناء مفهوم في مفهوم ـ بحيث يغفل عن المفهوم ، لا فناء العنوان في المعنون والمفهوم في الخارج ، إذ من الواضح أن فناء المفهوم في الخارج ، لا يوجب امتناع الإطلاق والتقليد لما بيّنا نكتته من أنه ليس في القسم الأول غفلة بحسب الحقيقة ، ولا فناء ، بل استبدال نظر بنظر ـ استبدال النظر التصديقي بالنظر التصوري ـ.

إذن فبناء على هذا لا يرد الإشكال على صاحب (الكفاية) لأنه يقول بأن ميزان الحرفية في المعنى الحرفي هو لحاظه فانيا في المفهوم الاسمي ، لا لحاظه فانيا في مصداقه الخارجي.

الاعتراض الرابع :

وهو ما أفيد في التعليقة على صاحب (الكفاية) ، وحاصل هذا الاعتراض النقض بالمصادر ، حيث أن الأعلام ، ومنهم السيد الأستاذ ـ دام ظله (١) ـ فرّقوا بين المصادر ، وأسماء المصادر ، وذلك بأن اسم المصدر موضوع للحدث بما هو هو ، بقطع النظر عن نسبته إلى فاعله ، والمصدر مفاده هو الحدث بما هو حالة قائمة بفاعله ، أو قائمة بمفعوله. بحيث أخذ فيه كونه حالة ، منسوبا ، وصفة للغير.

ومبنيا على هذا ينقض في المقام بالمصادر فيقال : لو كان المعنى الحرفي قوام حرفيته بكونه ملحوظا حالة لغيره ، حيث أن المعنى الحرفي يلحظ

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ص ١٦ (هامش)

١٠٠