بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

الجهة الثانية

في تشخيص الواضع

من هو الواضع؟.

كان الكلام في الجهة الأولى عن حقيقة الوضع ، وأنه كيف تنشأ الدلالة والسببية في عالم الذهن بين اللفظ والمعنى.

وصار واضحا أنّ الوضع حقيقته القرن الأكيد الشديد ، حينئذ يقع الكلام في الجهة الثانية ، من هو هذا الواضع الذي قرن الألفاظ الكثيرة بمعانيها الكثيرة ، فجعل لكل معنى لفظا مخصوصا يفهم منه ذلك المعنى عند إطلاقه؟.

ذهب جملة من المحققين ، ومنهم المحقق النائيني (١) (قدس‌سره) إلى استقراب أن يكون الواضع هو الله تعالى ، والذي يظهر من كلماتهم أن هذا الاستقراب مبني على استبعادين ، لفرض أن يكون الواضع إنسانا ، ومن أجل هذين الاستبعادين يرجّح أن يكون الواضع هو الله تعالى ، وهذان الاستبعادان هما :

الاستبعاد الأول : إننا لو نظرنا إلى اللغة ، لوجدنا أن ما تشتمل عليه من ألفاظ ، وخصوصيات ، ونكات ، يستبعد أن يكون تحت سيطرة شخص واحد ، وقدرة شخص واحد ، فكريا وذهنيا ، إذن فلو فرض إنّ الواضع إنسان ، حينئذ

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ / ص ١٠

٦١

لا بدّ وأن يكون هذا الإنسان ، سنخ إنسان له من الاطلاع على دقائق المعاني ، وخصوصياتها ، وشوارد الأفكار ، ما لا يوجد إلّا في الأنبياء ، وأشباه الأنبياء ، بخلاف ما لو قلنا إنّ الواضع هو الله تعالى ، فيناسب حينئذ مع سعة اللغة وشمولها ، وإحاطتها.

وهذا الاستبعاد أجاب عنه بعضهم (١). بما يرجع حاصله ، إلى أنه لو فرضنا أنّ شخصا واحدا أنشأ لغة بتمامها ، فهذا الاستبعاد في محله ، لو أن شخصا واحدا هو بنفسه قام بعهدة إنشاء لغة بكاملها ، بكامل موادها ، ونحوها ، وصرفها ، واشتقاقاتها ، هذا المطلب مستبعد جدا وفاء عهدة إنسان واحد به.

ولكن الأمر ليس هكذا ، فإن اللغة لم توجد في يوم واحد ، ودفعة واحدة ، وإنما وجدت على مراحل ، وبالتدريج حسب حاجة الناس ، فإن اللغة نتيجة لاحتياجات الناس ، واحتياجاتهم ليست من اليوم الأول واسعة ، بحيث تحتاج إلى لغة واسعة ، بل احتياجات الناس تبدأ قليلة ، ثم تتسع بالتدريج ، وكذلك اللغة تبدأ محدودة ، ثم تزداد وتتكاثر بالتدريج.

إذن فلا بأس بأن يقال : إنّ الإنسان هو الذي صنع اللغة ووضعها ، لأن واضع اللغة هو عبارة عن مجموع الأجيال المتعاقبة على طول الزمن ، وهذا المجموع المتعاقب ، لا استبعاد بأن يقع على عهدته وضع هذه اللغة ، فالجيل الأول وضع مقدارا بقدر حاجته ، والجيل الثاني أضاف مقدارا آخر ، والجيل الثالث أضاف مقدارا ثالثا ، وهكذا حتى تكونت لغة بهذا العرض العريض (٢).

الاستبعاد الثاني : إنّ الوضع لو كان من قبل إنسان معيّن ، إذن لكانت هذه حادثة مهمة ملفتة للنظر ، تسجل في التاريخ وتذكر (٣) ، بأنّ فلانا هو الذي

__________________

(١) منهاج الأصول ـ الكرباسي : ج ١ / ص ٢٣ ـ ٢٤

(٢) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٢٨.

(٣) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٢٨.

٦٢

وضع اللغة الفلانية مثلا ، مع أنه لم يسجل شيء من هذا في التاريخ ، ومنه يعرف بأنّ اللغة ليست من صنع إنسان ، بل هي من إلهام الله تعالى ، ومن وضعه.

وهذا الاستبعاد أجاب عنه بعضهم : بأن اللغة لو كانت من صنع إنسان واحد ، بأن يقول أنا وضعت لكم لغة ، ثم يقدم قاموسا بها ، مع أن هذه حادثة ملفتة للنظر ينبغي أن يشار إليها في التاريخ وتسجل ، ولكن الأمر هذا ليس واقعا يقينا ، بل لو أن إنسانا فعل هذا لا تهم في عقله.

وإنما اللغة نشأت بالتدريج بمعنى أن كل جماعة أو فرد في كل زمان ، وضعوا بعض الألفاظ ، ثم جاء فرد آخر فأزاد لفظا ، وهكذا حتى نشأت هذه اللغة ، فليست اللغة برمتها مستندة إلى شخص واحد بعينه ، حتى يقال لما ذا لم يذكر اسمه في التاريخ (١).

وتحقيق الكلام في هذه المسألة : إنّ هذه الاستبعادات التي نواجهها على فرض أن يكون الواضع هو الإنسان ، لا تنحصر في هذين الاستبعادين ليجاب بهذه الأجوبة ، بل هناك استبعادات ، ببيانات أخرى ، وإشكالات لا بد من التعرض لها ، والتأمل فيها ، نحن نضيفها إلى ما ذكر :

الاستبعاد الأول : إنه قد يقال ، بأن الإنسان لو قطع عن الله تعالى ، فيأتي هذا السؤال : كيف التفت الإنسان إلى أنه يملك أصواتا متعددة ، وأنه قادر بهذه الأصوات على أن يجعلها أدوات لتفهيم المعاني ، وما هي النكتة في ذلك ، وفي بادئ الأمر كيف توجّه إليها؟.

الآن تبدو هذه النكتة واضحة وبديهية ، باعتبار أن كل إنسان ينشأ في داخل لغة ، لكن إذا تكلمنا قبل فرض أي لغة ، حينئذ كيف التفت الإنسان أنه بالإمكان أن يستخدم الأصوات ليجعلها دالة على المعاني المختلفة؟. من قبيل

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٢٨.

٦٣

أن يقال : إن الإنسان كيف التفت إلى أنّ حبة الحنطة إذا وضعت تحت التراب ، وسقيت بالماء ، حينئذ تكبر وتنتج حنطة ، هذا المطلب كيف التفت إليه أول فلّاح في العالم؟. وهذا المطلب لا يظهر بالتأمل والبحث الأصولي ، إذن كيف التفت أول فلّاح إلى هذا المطلب؟. وهنا كيف التفت أول لغوي إلى أنّ الأصوات مجال واسع لتفهيم المعاني ، وقابل لأن يجعل أداة لتفهيم المعاني؟. هذا استبعاد.

هذا الاستبعاد حينئذ بالإمكان أن يجعل شاهدا على أنّ ذلك كان بإلهام منه تعالى ، فكما يقال مثلا في حبة الحنطة : إنه تعالى ألهم الإنسان ، وخلق في نفسه شعورا وخطورا ، بأن هذه الحبة إذا جعلت تحت التراب ، وسقيت بمقدار من الماء معين ، حينئذ يتولد منها حنطة ، كذلك ألهم الإنسان وجعل في ذهنه ، بأن هذه الأصوات تقترن مع هذه المعاني ، قرن في ذهنه صوت (ماء) مع معناه ، وصوت (هواء) مع معناه ، فنشأ عنده دلالة هذه الأصوات على هذه المعاني.

هذا الاستبعاد قد يجعل شاهدا على أنّ الواضع هو الله تعالى.

وهذا الاستبعاد ، يمكن رده على أساس ما أشرنا إليه سابقا ، من أن دلالة الأصوات على المعاني بدأت في حياة الإنسان بلا وعي من قبل الإنسان في البداية ، حيث أن أصوات الزئير ، والنهيق ، والخرير ، وغيرها من الأصوات ، اقترنت في حياة الإنسان مرارا بمعانيها ، حينئذ بمقتضى القانون التكويني الثاني ، صار لها دلالة على تلك المعاني المعنية ، من دون تدخل من قبل الإنسان.

كما إن الإنسان انتبه فجأة ، إلى أنه ، متى ما سمع الزئير يلتفت إلى كلمة (الأسد ، ويتصور الأسد ، لأنه اقترن في ذهنه. إذن فصوت الزئير يسبب تصور الأسد ، فحينما أراد أن يفهم شخصا آخرا معنى الأسد استعمل الزئير ، فلعلّ النكتة التي نبّهته إلى المطلب هو عبارة عن تلك الاقترانات الطبيعية الصدفية التي وقعت في حياته بين أصوات الحيوانات ، واشباهها ، وبين معاني تلك الحيوانات ، ومن هنا التفت إلى أنه بالإمكان أن يدل الصوت على معنى ،

٦٤

فانفتح بذلك عليه باب الخيرات ، فلا يحتاج تفسير ذلك إلى إلهام مباشر من قبل الله تعالى.

الاستبعاد الثاني : وهو مبني على مسالك الأعلام في باب الوضع ، من كون الوضع عبارة عن التعهد ، أو عبارة عن كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى :

حينئذ يقال : بأنه لو كان الإنسان هو الواضع فهذا معناه أنّ الإنسان قبل أن يتكلم بأي كلام ، اتصف بصفة الواضعية ، يعني صار واضعا قبل أن يصير مستعملا ، لأن الإنسان إذا كان هو الواضع ، فمعنى هذا أنه قبل أول وضع لا استعمال لا محالة ، لأن الاستعمال دائما في طول الوضع. إذن فالإنسان كان في وقت ما صامتا ساكتا لا يستعمل أصلا ، ولا يتكلم بشيء ، ثم وضع ألفاظا للمعاني ، فأصبح يتكلم حينئذ ، وأصبح يستعمل هذه الألفاظ في هذه المعاني.

حينئذ نسأل : كيف وضع هذا الإنسان؟.

وضع بالتعهد ، أو بالاعتبار! بهذه المعاني الدقيقة التي هي موقوفة على أن يكون الإنسان له مرتبة عالية من التصرف في المعقولات والمحسوسات ، بحيث ينشئ ملازمات وتعهدات واعتبارات ما بين الألفاظ والمعاني!.

ومن البعيد جدا ، أن الإنسان يصل إلى هذه الدرجة الذهنية ، والعقلانية ، بحيث يصدر منه التعهدات والتنزيلات الاعتبارية ، وهو بعد حتى الآن لا يملك لغة ، فهو صامت ساكت لا يتكلم مع أحد ، إلى أن يبلغ هذه المرتبة من التعقل والتفكر والتفلسف ، حينئذ بعد هذا يضع الألفاظ للمعاني ، ويشرع في الكلام.

ومن البعيد جدا تصور الإنسان قبل أن يتكلم بأي شيء ، أنه كان مركزا للاطلاعات ولأفكار عالية بهذه الدرجة والترتيب ، ومن كانت له أفكار عالية بهذا الترتيب كيف بقي ساكتا طول هذه المدة؟. ألم ينقدح حينئذ في نفسه أمور ورغبات وحاجات؟!. وهذا بخلاف ، ما إذا قلنا : بأن هذه المعاني العقلانية (الدقيقة ، قام الله تعالى بعهدتها ، وليس الإنسان منشئا لها ، لأن الله

٦٥

تعالى يمكن أن يقوم بعهدة هذه الاعتبارات ، والتعهدات ، والخصوصيات ، وهذا الاستبعاد في محله.

إلّا أن هذا الاستبعاد ، لا يأتي على مبنانا في تصور الوضع ، لأن الوضع ليس اعتبارات وتعهدات من هذا القبيل ، بل هو عبارة عن قرن اللفظ بالمعنى في تصور الإنسان ، وهذا مطلب يمكن أن يحصل حتى من الأطفال في يومنا هذا ، بأن يقرن ما بين اللفظ والمعنى مرارا عديدة ، فينتقل من اللفظ إلى المعنى ، فالبشر اقترن في أذهانهم ألفاظ متعددة بمعان متعددة على سبيل الصدفة ، بلا دخل منهم ، اقترن صوت الزئير بمعنى الأسد ، وبالتالي مع الرجل الشجاع ، وبهذا تكونت اللغة ، ثم توسعت بالتدريج. فهذا الإشكال في غير محله

الاستبعاد الثالث : وهو أيضا مبني على مباني العلماء في باب الوضع : والآن نفرض بأن الناس كانوا صامتين ، حتى بلغوا درجة من الوعي ، بحيث أنهم وضعوا تعهدات واعتبارات من هذا القبيل.

حينئذ نسأل : بأن هذه الاعتبارات والتعهدات كيف أبرزوها؟ وبأي لغة أبرزوها خارجا؟ كيف قال المتعهد ـ تعهدت متى ما قصدت تفهيم المعنى أتيت باللفظ ـ؟ أليست هذه كلها ألفاظا؟ أليست الألفاظ في دلالتها على المعاني محتاجة إلى أوضاع وتعهدات سابقة؟.

إذن قبل أي وضع عند ما بدأ بالوضع الأول ، عند ما كان يريد أن يضع المفردات الأولية (ماء ، هواء .... إلخ) ، حينئذ أيّ جملة كان يبرزها في مقام توضيح مراده! سواء أكانت لفظية ، أو جملة إشارية ، أليست هذه الجملة بنفسها بحسب الحقيقة لغة ، خصوصا أن هذه الجملة لغة ، ومحتوية على نكات كثيرة من الإسم ، والفعل ، والمادة ، والهيئة ، والنسبة التامة ، والناقصة ، هذه الجملة محتوية على نفائس اللغة ، بحيث لا يحصل عليها إنسان إلّا بعد أن يكون قد قطع أشواطا كثيرة في باب الوضع ، فكيف يكون قد حصل عليها إنسان إلّا بعد أن يكون قد قطع أشواطا كثيرة في باب الوضع ، فكيف يكون قد

٦٦

استعمل هذه الجملة في أول وضع! خصوصا ، أنّ بعض المواد في هذه الجملة غير محسوسة من قبيل التعهدات القلبية ، والأمور الاعتبارية.

ومن المعلوم أن تفهيم هذه الأمور الغير محسوسة لا يكون إلّا بالتشبيه بالأمور المحسوسة ، وإلّا كيف يعبّر ابتداء عن المعنى النفسي الغير المحسوس؟

إذن : فينبغي أن يقال بناء على هذا لاستبعاد : إن الله تعالى هو الذي قام بهذه المهمة بدلا عن الإنسان ، وهذا الاستبعاد أيضا وجيه ، وفي محله ، بناء على مبانيهم في باب الوضع.

وأما بناء على مبنانا : فلا يأتي هذا السؤال ، لأنه لو طرح هذا السؤال كيف نشأت اللغة؟.

لقلنا : إنها نشأت من حيث لا يدري الإنسان ، لأن خلال تجربة الإنسان ، «الزئير بالصدفة» ، أصبح دالا على معنى من المعاني ، لأنه اقترن مع الأسد كثيرا ، فأصبح دالا عليه ، وبالتالي صار دالا على الرجل الشجاع ، وهكذا نشأت اللغة وتكونت ألفاظ ، وأخذ الواضع بعدها يستعين بهذه الألفاظ في مقام الوضع ، إذن فلا إشكال.

الاستبعاد الرابع : هو أننا نعرف أنّ اللغة تنشأ بين جماعة كثيرة من الناس ، وحينئذ نسأل : إنه حينما وضعت كلمة (ماء) مثلا لمعنى الماء ، هذا المطلب ، وهو اقتران اللفظة مع معناها ، هذا المطلب ، هل حصل مع إنسان واحد في ذهنه. أو أن كل الناس صدفة ومن باب توارد الخواطر حصل عندهم وفي أذهانهم نفس هذا المطلب نفسه ، بحيث كل واحد منهم قال ماء؟.

فإن كان هذا المطلب ، قد حصل عندهم بلا ربط واحد منهم بالآخر ، ومن باب توارد الخواطر ، إذن فهذا هو الإلهام ومعناه أن الله تعالى ألهمهم جميعا ، إذن فالواضع هو الله.

وإن كان هذا المطلب حصل عند واحد من الناس ، بحيث فكرّ ، وبطريقة

٦٧

لا شعورية صار يقول (ماء) ، كذلك هناك إنسان آخر يفكر ويضع كلمة أخرى للمعنى نفسه ، وآخر ، ثالث ، يضع كلمة أخرى لهذا المعنى نفسه ، وهكذا ، فما هو هذا التنظيم الدقيق بين جماعة بدائية من هذا القبيل ، بحيث إن أي واحد منهم حينما كان يضع كلمة لمعنى ، كان الآخرون كلهم يسلّمون معه ويقترحون اقتراحه؟.

فلا بد وأن يكون هناك سر إلهي ، بحيث أن الله أودع في طباعهم وغرائزهم قبول هذا المطلب ، وأن هذه الكلمة تناسب مع هذا المعنى. ومثل هذا ليس إلّا إلهاما من قبل الله تعالى.

وهذا الاستبعاد في محله ، وجواب العلماء عليه في غاية الاشكال ، لكن على مبنانا : هذا الاستبعاد لا يأتي ، لأننا نقول حينئذ : بأن هؤلاء الناس كلهم صدفة هكذا صاروا باعتبار أن اللغة تنشأ بحسب الحقيقة عن طريق اقترانات حادثة نوعية في حياتهم ، لا عن تحكّمات شخصية وفردية ، بل هناك نوع من الملابسات والظروف اقترنت فيما بينهم بمعان.

٦٨

الجهة الثالثة

الأقسام الممكنة للوضع

بعد أن انتهى الكلام في الجهة الأولى والثانية ، صار الكلام في الجهة الثالثة ، في الأقسام الممكنة للوضع ، حيث تكلم العلماء في هذه الجهة فقالوا : بأن الوضع ـ ويقصدون الوضع التعييني ـ لا بد أن يتصور المعنى ، ثم يضع اللفظ له ، ومن هنا قالوا : بأنه توجد أربعة أقسام متصورة بدوا (١) :

١ ـ الوضع العام ، والموضوع له العام.

٢ ـ الوضع الخاص ، والموضوع له الخاص.

٣ ـ الوضع العام ، والموضوع له الخاص.

٤ ـ الوضع الخاص ، والموضوع له العام.

أما القسمان الأولان : فالجامع بينهما هو أن الواضع يتصور شيئا ، ويضع اللفظ لنفس ما تصوره بلا عناية ، بحيث يكون المتصور حقيقة هو الموضوع له حقيقة ، سواء أكان هذا المتصوّر عاما فيكون الوضع عاما ، والموضوع له عاما ، أو خاصا فيكون الوضع خاصا ، والموضوع له خاصا ، وهذا ممّا لا إشكال في معقوليته.

وإنما وقع الكلام في القسمين الأخيرين : في أنه هل يعقل أن يتصور

__________________

(١) فرائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ / ص ١٠.

٦٩

الواضع معنى عاما ، ويضع اللفظ لأفراده ومصاديقه ، بحيث يكون الوضع عاما ، والموضوع له خاصا؟ أو بالعكس يتصور الواضع المعنى الخاص ، ويضع اللفظ للعام ، بحيث يكون الوضع خاصا ، والموضوع له عاما؟.

فالقول الغالب في القسم الثالث هو الإمكان (١) وهناك من قال بالامتناع (٢) ، والقول الغالب في القسم الرابع هو الامتناع ، وهناك من قال بالإمكان (٣).

ونتكلم في القسم الثالث ، وهو الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وبتحقيقه يظهر حال القسم الرابع :

القسم الثالث : الوضع العام والموضوع له الخاص :

ذهب المشهور إلى إمكان ذلك بدعوى أو وضع اللفظ للمعنى ، وإن كان يحتاج إلى تصور المعنى ، ولكن يكفي في تصور المعنى التصور الإجمالي. ومن المعلوم أنّ تصور العام تصور إجمالي للخاص يعني للأفراد ـ فالواضع إذا تصور العام والجامع ، فقد تصور تصورا إجماليا تمام أفراد الجامع ، ومثل هذا التصور الإجمالي يكفي لوضع اللفظ لتلك الأفراد.

هذا هو صورة التقريب الابتدائي للقول بإمكان الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وما يعترض به على ذلك اعتراضان :

الاعتراض الأول :

وهذا الاعتراض مركب من شقين :

الشق الأول : إنّ الجامع إنما يعقل أن يكون حاكيا إجمالا عن الأفراد فيما إذا كان منطبقا على الأفراد بخصوصياتها ، حينئذ يعقل أن يكون حاكيا

__________________

(١) بدائع الأفكار : ج ١ / ص ٣٤.

(٢) فوائد الأصول : ج ١ الكاظمي / ص ١٠.

(٣) فرائد الأصول : ج ١ / ص ١٠.

٧٠

عنها بخصوصياتها ، باعتبار انطباقه عليها.

وأما إذا كان الجامع غير منطبق على الأفراد بخصوصياتها ، بل كان منطبقا عليها بعد تجريدها عنها ، حينئذ لا يكون الجامع حاكيا عن الأفراد ، لأنه إنما كان منطبقا بعد تجريدها عن الخصوصيات ، فلا يكون للجامع حكاية عنها. بينما إنما يعقل الجامع إذا حكى عن الأفراد بخصوصياتها.

الشق الثاني : إنّ الجامع دائما وأبدا يكون منطبقا على الأفراد ، لا بخصوصياتها ، بل هو ينطبق على الحيثية المشتركة بين الأفراد ، لا على الأفراد بخصوصياتها ، ببرهان أن الجامع إنما ينتزع عن الأفراد بلحاظ تجريدها عن الخصوصيات ، وعمّا به الامتياز ، فإذا كان انتزاع الجامع باعتبار تجريد الأفراد عمّا به الامتياز من الخصوصيات ، إذن فهو لا ينطبق على تلك الخصوصيات ، لأنها قد جرّدت وأسقطت من الحساب ، إذن فلا يكون الجامع منطبقا عليها.

إذن فيتبرهن بمجموع هذين الشقين من الاعتراض : إنّ الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، غير معقول ، لأننا بينّا في الشق الأول :

إنّ الجامع إن كان ينطبق على الفرد بخصوصياته ، فيعقل أن يكون حاكيا عنه.

وإن كان غير منطبق على الفرد بخصوصياته ، فلا يعقل أن يكون حاكيا عنه.

وبينا في الشق الثاني : إنّ الجامع دائما لا ينطبق على الفرد بخصوصياته ، لأن الجامع إنما ينتزع بعد تجريد الأفراد عن الخصوصيات ، فكيف يعقل انطباق الجامع على الخصوصيات؟. إذن فالجامع لا يكون حاكيا عن الخصوصيات ، وإذا لم يكن حاكيا عنها ، فالوضع العام والموضوع له الخاص ، غير معقول.

٧١

والمحقق العراقي (قدس‌سره) ، أجاب عن هذا الاعتراض بما حاصله يرجع إلى التفرقة بين سنخين من الجوامع ، وحاصل كلامه إن الجامع على قسمين (١) :

القسم الأول : جامع يأخذه العقل من الأشياء نفسها ، يعني يستحضر الأشياء ، ويجردها عن الخصوصيات ، وينتزع منها جامعا بحيث يكون الجامع مأخوذا من الأفراد ، هذا الجامع دائما يكون كما قيل في الإشكال ، لا يمكن الحصول عليه إلّا بتجريد الأفراد عن الخصوصيات والمشخّصات ، كجامعية الإنسان ـ بتجريد زيد من سواده ، وعمر من طوله ، وبكر من قصره ـ فلا يعقل في مثل هذا الجامع الوضع العام ، والموضوع له الخاص.

القسم الثاني : جامع لا ينتزعه العقل من الأفراد ، بل يعطيه للأفراد ، ولا يأخذه منها ، من قبيل بعض العناوين الانتزاعية ، كعنوان الخاص والفرد : فعنوان الخاص جامع بين جميع الخواص ـ بين هذا الخاص ، وذاك الخاص ـ وعنوان الفرد جامع بين جميع الأفراد ـ فزيد فرد ، وبكر فرد ـ وعنوان الخاص والفرد ، جامع نحن أنشأناه بخيارنا ، وألبسناه للأفراد ، نحن نخيطه ونلبسه للفرد بتمام خصوصياته ، فيكون مثل هذا الجامع منطبقا على هذا الفرد بخصوصيته ، وعلى ذاك الفرد بخصوصيته.

إذن : فإذا كان منطبقا على كل فرد بخصوصيته ، فيمكن للواضع أن يتصور مثل هذا الجامع ، ويضع اللفظ للأفراد ، لأن هذا الجامع ينطبق على الأفراد بخصوصياتها.

وظاهر كلام (المحقق العراقي) الذي تصدّى لدفع هذا الاعتراض إنه :

سلّم الشق الأول من الاعتراض ، يعني : سلّم أن الجامع إنما يعقل أن يحكي عن الأفراد إذا كان منطبقا على الفرد بخصوصيته فيشترط إذن في تعقل

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٣٩.

٧٢

الوضع العام والموضوع له الخاص ، أن يكون الجامع منطبقا على الأفراد بخصوصياتها.

وكذلك سلّم الشق الثاني من الاعتراض وهو : إن الجامع لا يعقل أن ينطبق على الأفراد بخصوصياتها ، لكن على تفصيل في ذلك ، فإنه فصّل بين الجوامع الأخذية الانتزاعية ، وبين الجوامع الإعطائية الإنشائية من قبل النفس ، فقال : بأن الجوامع الأخذية الانتزاعية لا تنطبق على الأفراد بخصوصياتها ، لأنها لا تنتزع إلّا بعد التجريد ، وحينئذ لا تكون حاكية عنها ، وفي مثلها لا يعقل الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وقال : بأن الجوامع الإنشائية الإعطائية التي نعطيها للأفراد فهي تنطبق عليها بخصوصياتها ، لأن النفس تنشئها بنحو تنطبق هذه الجوامع على الأفراد بخصوصياتها ، وفي مثل هذه الجوامع الإنشائية الإعطائية يعقل الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، وذلك كما إذا تصور الواضع الجامع الإنشائي كعنوان الخاص والفرد ، فيمكنه أن يضع اللفظ للأفراد وللخصوصيات.

ويتضح من ذلك إنّ المحقق العراقي قد اتفق مع صاحب الاعتراض في جهة ، وخالفه في أخرى :

فأمّا جهة الاتفاق : فهي في الجوامع الانتزاعية الأخذية ، حيث سلّم كل منهما فيها بعدم معقولية الوضع العام ، والموضوع له الخاص.

وأما جهة الاختلاف : فهي في الجوامع الإنشائية الإعطائية ، حيث ذهب المحقق العراقي فيها إلى معقولية الوضع العام والموضوع له الخاص.

ونحن نتكلم أولا في جهة الاختلاف ، ثم في جهة الاتفاق ثانيا :

الكلام في جهة الاختلاف : ذهب المحقق العراقي (١) إلى أنه إذا كان الجامع عنوانا انتزاعيا أخذيا ، حينئذ يمكن الوضع العام ، والموضوع له

__________________

(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٣٩.

٧٣

الخاص ، ولكن هذا الكلام ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن الجامع كما صوّره المحقق في هذه الجهة ، لا يمكن الالتزام بكونه أمرا إنشائيا واعتباريا محضا من قبل النفس ، وذلك ببرهان أنه لو كان كذلك ، لما صحّ حمله على الأفراد إلّا بالعناية والتجوز ، لأنّ ملاك الحمل هو الاتحاد. فلو كان بعض العناوين كعنوان الخاص والفرد أمرا خياليا اعتباريا ، نحن ننشئه إنشاء ، ونعتبره اعتبارا ، كما نعتبر وننشئ بحرا من زئبق ، لما أمكن حمله على الخارج ، إلّا بالعناية ، مع أنه لا إشكال في صحة حمل الجامع على الخارج ، سواء أكان أمرا إنشائيا اعتباريا ، أو كان أمرا أخذيا انتزاعيا ، فكما يصح أن نقول عن زيد إنه إنسان بالحمل الشائع ، كذلك يصح أن نقول إنه فرد وخاص بالحمل الشائع.

فهذه العناوين سواء أكانت أخذية أو إعطائية ، يصح حملها حقيقة على زيد الخارجي ، وهذا لا يكون مع فرض كونها من إنشاء النفس محضا ، ومن اعتبارها صرفا.

إذن لا بد من الالتزام بكون الجامع مطلقا بكلا قسميه ، يصح حمله على الخارج ، فهو بحسب الحقيقة منتزع من خارج وعاء عالم الذهن ، لا إنه مخلوق لعالم الذهن ، ومعطى إلى الخارج ، هو مأخوذ لا معطى.

إذن فجواب المحقق في دفع الاعتراض غير تام ، وأيضا هذا الاعتراض غير صحيح ، كما سوف يظهر.

الكلام في جهة الاتفاق : اتفق المحقق العراقي مع صاحب الاعتراض ، بأن الجوامع الأخذية الانتزاعية ، لا يعقل فيها الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، مثلا ، الإنسان جامع أخذي لا إعطائي ، وهو لا ينطبق على الأفراد بخصوصياتها ، لأنه أخذ بعد تجريدها ، فإذا كان هكذا ، فهو لا يحكي عن الأفراد ، فكيف يتصور الواضع الجامع ويضع للأفراد.

وهنا ، نحن ، وإن كنا نقبل هذا الكلام بحسب الحقيقة ، ولكن نناقش هنا

٧٤

مناقشة مسلكية فقط ، أي : المناقشة في الوجه وللوجه ، لا للمدّعى ، فنقول في المقام :

إنّ النكتة التي ذكرت غير تامة. فإنّ هؤلاء قالوا : بأنّ عنوان الإنسان لا ينتزع من الأفراد بخصوصياتهم ، وإنما ينتزع منها بعد التجريد عن الخصوصيات ، فهو لا ينطبق على الفرد بخصوصيته. فكيف يعقل أن يكون حاكيا عن الفرد؟ وتوضيح الحال في هذا الكلام ، إن الفرد له اصطلاحان :

الأول : هو هذا الفرد المخصوص المنضم إليه عوارض مخصوصة من قبيل البياض ، والعلم ، ونحو ذلك من المقولات العرضية ، وإن شئتم قلتم الاصطلاح الأول هو الإنسانية المقيدة بالعوارض والطوارئ.

الثاني : الفرد الذي هو بمعنى الحصة ، يعني شخص هذه الإنسانية المشار إليها حينما نشير إلى خالد مثلا ، بدون إدخال العوارض والطوارئ. وبعبارة أخرى شخص هذه الإنسانية وحصة منها ، وهذه الحصة من الإنسانية ، متميزة عن الحصة الأخرى حتى لو قطعنا النظر عن العوارض ، فهذا الإنسان غير ذاك الإنسان.

فإن أريد بالفرد ، الفرد بالاصطلاح الأول ، وبالخصوصيات ، الأعراض والمقولات العرضية ، يعني لا ننتزع عنوان الإنسان إلّا بعد قطع النظر عن بياض زيد ، وسواد عمر ، فهذا صحيح ، لأن البياض والسواد ليسا داخلين في ماهية الإنسان ، فلا بد من قطع النظر عنهما في مقام الانتزاع. لكن حتى بعد قطع النظر هذا ، يوجد عندنا فرد بالمعنى الثاني ، وهو الحصة ، لأنه بعد قطع النظر عن بياض زيد ، وسواد عمر ، فإنه توجد عندنا حصتان إنسانيتان كل منهما متميزة عن الأخرى.

وإن أرادوا هنا ، أيضا تجريد هذه الحصة عن خصوصياتها ، فهذا معناه أن هذه الحصة فرضوها مركبة من أمرين : خصوصية وحيثية مشتركة ، مع أن الأمر ليس كذلك. إذ لو كانت الحصص مركبة من أمرين ، فبعد قطع النظر عن

٧٥

الخصوصية ، فما يبقى في خالد عين ما هو موجود في زيد! طبعا ليس هذا عين ذاك ، فإنسانية خالد مهما أفرزنا وأسقطنا منها ، هي غير إنسانية زيد بالعدد بحسب الخارج ، وإن كان ينتزع عنهما مفهوم واحد وهو مفهوم الإنسانية ، وهذا معناه ، أنّ الجامع حينما يلحظ وينتزع من الأفراد ، نحن نجرد الأفراد من الخصوصيات العرضية بالمعنى الأول للفرد ، حتى نبقّي الحصص ، وبعدها لا يوجد تجريد آخر ، إذ إنّ الحصة ليست مركبة من أمرين ، بل هي ليست إلّا صرف الإنسانية هنا ، وصرفها هناك.

إذن فالجامع بالنسبة إلى الحصص ينطبق عليها بتمامها ، لا أنه ينطبق على جزء منها دون جزء.

وعليه : لما ذا لا يعقل الوضع العام والموضوع له الخاص للحصص بهذا المعنى؟.

وهذه المناقشة حاصلها هو : إنّ الجامع إن لوحظ بالإضافة إلى الفرد بالمعنى الأول ، فهذا له صورة ، وهي أن الجامع لا ينتزع من الفرد إلّا بعد تجريده عن الخصوصيات ، فلا يكون حاكيا عنها. وأمّا إذا لوحظ الجامع بالإضافة إلى الفرد بالمعنى الثاني ـ الحصص ـ فهنا لا معنى لأن نقول إنّ انتزاع الجامع يتوقف على تجريد الحصص عن الخصوصيات ، لأن الحصة صرف الإنسانية وليس عندنا أمران حتى نجردهما عن الخصوصية.

إذن فالجامع ينطبق على الحصة بتمامها فهو حاك عنها بتمامها ، وحينها لما ذا لا يعقل الوضع العام والموضوع له الخاص بالنسبة إلى الحصص ـ المعنى الثاني ـ وبعبارة أخرى : إنّ الجامع بالنسبة إلى الفرد بالمعنى الأول ، وإن لم يكن منطبقا عليه تمامه ، فإنّ عنوان الإنسان ليس منطبقا على زيد بتمامه ، وبما فيه من بياض أيضا ، لوضوح أن البياض ليس جزءا من الإنسانية ، فلا بد من تجريد هذه الخصوصيات في زيد ، لكن بالتالي بعد أن نجرد زيدا عن تمام هذه الخصوصيات ، بحيث لا يبقى إلّا بحت الإنسانية الذي يبقى بعد التجريد عن الخصوصيات ، هذا بحسب الحقيقة حصة متميزة عن بحث ما

٧٦

يبقى في خالد بعد تجريده عن بياضه وعلمه وطوله ، وهذا هو معنى الحصص ، وهذه الحصص ينطبق عليها الجامع بتمامها لا محالة ، إذ لم يبق في الخارج سوى الإنسانية ، فلا محالة ينطبق جامع الإنسانية على هذه الحصص بتمامها فإذا كان ينطبق عليها بتمامها ، فيكون حاكيا عنها أيضا ، فيعقل أن يتصور الواضع ، الجامع ، ويضع اللفظ لهذه الحصص ، باعتبار كونها بتمامها محكيا عنها بالجامع ، حينئذ لما ذا لا يعقل الوضع العام والموضوع له الخاص؟. وهكذا يتضح أن النكتة الملحوظة في هذا الاعتراض غير وافية للبرهنة على الإبطال أصلا.

الاعتراض الثاني : إنّ العام والخاص ، يعني المفهوم العام كمفهوم الإنسان ، ومفهوم الخاص كمفهوم زيد ، وبكر ، وخالد ، هذان المفهومان ، وإن كانا موجودين بوجود واحد في الخارج ، لكنهما بما هما مفهومان في عالم الذهن ، وفي عالم المفهومية ، هما متباينان لا محالة.

وبناء عليه يقال في المقام : بأن الواضع إذا تصور الجامع ـ يعني الإنسان ـ وهو المفهوم الكلي ، حينئذ لا يعقل أن يضع اللفظ للأفراد ، وذلك لأنّ دعوى هذا لا يخلو من أحد وجوه بحسب الواقع :

الوجه الأول : إما أن يدّعي أنّ حضور الجامع وتصوره له ، صار حيثية تعليلية لتصوره للفرد ، يعني أنّ تصور مفهوم الإنسان صار سببا في انتقال الذهن إلى مفهوم خالد ، ومفهوم زيد ، هذا معنى الحيثية التعليلية. فإن أريد هذا المعنى فهو خارج عن محل الكلام ، لأن هذا يدخل في الوضع الخاص ، والموضوع له الخاص ، وهذا لا يحقق المقصود.

الوجه الثاني : أن يدّعى بأن مفهوم الإنسان ، ومفهوم زيد ، يوجدان بحضور واحد ، وبتصور واحد ، عند الإنسان ، بحيث أنّ الإنسان بتصور واحد يرى كلا المفهومين معا ، وهذا أمر غير معقول ، ببرهان أنّ مفهوم زيد ، ومفهوم الإنسان ، متباينان في عالم المفهومية ، فكيف يوجدان بحضور واحد وبتصور واحد في الذهن؟ إذن هذا الوجه الثاني غير متصوّر.

٧٧

الوجه الثالث : أن يفرض أنّ مفهوم زيد لم يحضر بسبب تصور مفهوم الإنسان نفسه ، ولا في طوله ، بل هو غائب مطلق عن أفق الذهن ، لكن مع هذا الواضع أصدر حكمه على شيء لم يحضر في أفق نفسه ، هذا أيضا أمر غير معقول ، لأن الحاكم حينما يصدر حكمه ، لا بد وأن يكون موضوع حكمه حاضرا في أفقه. وإذا بطل هذا الوجه الثالث ، تعيّن الوجه الرابع.

الوجه الرابع : إنّ الواضع أصدر حكمه على نفس الإنسان نفسه ـ الجامع ـ الذي تصوره ، إذن فيكون الوضع عاما ، والموضوع له عاما ، أيضا ، لأنه تصور العام ، وأصدر حكمه على الجامع العام.

إذن فحاصل هذا الإشكال ، هو : إن الواضع حينما يتصور الجامع :

فإن قيل : بأنه ينتقل من تصور الجامع إلى تصور زيد ، فهذا خلف ، لأن هذا معناه الوضع الخاص ، والموضوع له الخاص.

وإن قيل : إن مفهوم زيد ومفهوم الإنسان ، يحضران بحضور واحد ، وبشخص تصور واحد ، فهذا غير معقول لتباين المفهومين.

وإن قيل : أن مفهوم زيد غائب عنه بقول مطلق ، ومع هذا يصدر حكمه عليه ، فهذا أيضا غير معقول لأن الحاكم كيف يصدر حكمه غيابيا على شيء لم يتصوره؟.

وإن قيل : إنه يصدر حكمه على نفس ما تصوره ، وهو الجامع. إذن فقد صار الوضع عاما والموضوع له عام.

وعليه : لا يمكن تصور الوضع العام والموضوع له الخاص.

وفي مقام الجواب على هذا الإشكال ، نختار الوجه الرابع ، وهو : إن الواضع يتصور الجامع ويضع اللفظ له ، لكن مع هذا يصير الوضع من باب الوضع العام ، والموضوع له الخاص ، بمعنى أنه يصدر حكمه على العام ، لكن بحسب الحقيقة هذا الحكم يستقر على الخاص ، لا على العام ، وإن كان هذا

٧٨

يبدو تناقضا في بادئ الأمر ، وهو أنه كيف يصدر الحكم على العام ، ويستقر على الخاص ، ولكن هذا هو واقع المطلب ، وتوضيح ذلك يكون ببيان مقدمتين :

المقدمة الأولى :

إنّ العناوين كل العناوين ، إذا لوحظت بالنظر التصوري ، وبالنظرة الأولية ، فهي واجدة لحيثياتها المقومة لها لا محالة. فمثلا : عنوان ـ الإنسان ، الممكن ، الواجب ، الكلي ، الجزئي ـ أي عنوان من العناوين التي تتصورها ، حينما ننظر إليه بالنظر التصوري وبالنظرة الأولية نراه واجدا لخصوصيته المقومة له ، فالكلي واجد للكلية ، والجزئي واجد للجزئية ، وهكذا بالنظر الأولى التصوري ، يستحيل أن نراه فاقدا لمقوماته بأن نقول : الإنسان ليس واجدا للإنسانية ، أو الكلي ليس بكلي ، لأن هذا تناقض ، واجتماع النقيضين مستحيل.

لكن بنظر ثانوي تصديقي تختلف العناوين ، فبعضها واجدة لحيثياتها ، وبعضها فاقدة لها وواجدة لضد حيثياتها ، مثال ذلك الجزئي ، والكلي ، فالجزئي والكلي بالنظر التصوري ، حينما نتصور الجزئي نكون قد تصورنا الجزئي ، فبهذا التصور نرى الجزئي جزئيا واجدا للحيثية. لكن حينما ننظر إلى الجزئي بنظرة ثانية ـ بنظر تصديقي ثانوي ـ نرى ، أن الجزئي هو بنفسه من المفاهيم الكلّية ، لا من المفاهيم الجزئية ، مفهوم الجزئي ليس من قبيل مفهوم خالد وزيد ، بل هو من قبيل مفهوم إنسان وحيوان ، مفهوم يقبل الصدق على كثيرين ، إذن فمفهوم الجزئي بالنظر التصوري الأولي ، نراه واجدا للجزئية ، لكن بالنظر التصديقي الثانوي نراه كليا فاقدا للجزئية ـ لأن هذا جزئي وهذا جزئي وهكذا ـ إذن فمفهوم الجزئي يحمل على كثيرين ، ويصدق على كثيرين ، فهو بالنظر التصديقي الحقيقي فاقدا لنفسه بالجزئية ، وإن كان بالنظر التصوري الأولي واجدا لنفسه ـ يعني للجزئية.

وفي مقابل ذلك عنوان الكلي ، مثلا : لو نظرنا إليه بالنظر التصوري

٧٩

الأولى ، نراه كليا ، ولو نظرنا إليه بالنظر التصديقي الثانوي الحقيقي أيضا ، نراه كليا. فإنّ مفهوم الكلي هو بنفسه أيضا من الكليات حقيقة ، لأنّ الإنسان كلي ، والحصان ، والهواء كلي ، وهكذا. فمفهوم الكلي كلي ، وهذا معنى قولنا إنّ العناوين طرّا بالنظر التصوري الأولي ، واجدة لحيثيات أنفسها ، وإلّا يلزم اجتماع النقيضين لو كانت فاقدة لها بهذا النظر.

وأمّا بالنظر التصديقي الحقيقي الثانوي ، وبنظرة ثانية وحقيقية ، تختلف هذه العناوين ، فبعضها واجدة لأنفسها كالكلي مثلا ، وبعضها فاقدة لأنفسها كالجزئي مثلا. هذا هو حاصل المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية : ومضمون هذه المقدمة أنه يوجد في القضية مرحلتان :

المرحلة الأولى : هي مرحلة عقد الحكم ، وإصداره من قبل النفس.

المرحلة الثانية : هي مرحلة ثبوت المحكوم به حقيقة للموضوع ، بمعنى أن ما حكم به هو ثابت وجار على الموضوع حقيقة.

ففي المرحلة الأولى وهي مرحلة إصدار الحكم ، لا يحتاج إلّا إلى إحضار موضوع القضية بالنظر التصوري ، فلو أحضر موضوع القضية بهذا النظر ، فهذا يكفي ليحكم الحاكم عليه ، لأن الحكم يتوقف على تصور الموضوع ، وهذا بالنظر التصوري قد أحضر الموضوع ، إذن فيكفي في مقام إصدار الحكم إحضار الموضوع بالنظر التصوري. فمثلا : الذي يحكم بوجوب الحج على المستطيع ، يكفيه في مقام إصدار الحكم أن يتصور الاستطاعة ، ولا يحتاج إلى أن يأتي بإنسان ، ويقول : هذا مستطيع ـ تاجر غني ـ بل يكفي أن يحضر الموضوع بالنظر التصوري ، بهذا النظر يصح له حينئذ أن يحكم عليه.

وأما في المرحلة الثانية وهي مرحلة جريان الحكم على موضوعه وثبوت المحكوم به على الموضوع ، في هذه المرحلة المحكوم به ، إنما يثبت على الموضوع على ما يكون هو الموضوع بالنظر التصديقي الواقعي الحقيقي ، يعني

٨٠