بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

المسلك الثالث

٣ ـ مسلك الجعل الواقعي

الكلام الآن في المذهب الثالث في تصوير حقيقة الوضع ، وهو مسلك جعل الملازمة الواقعية ، أو السببية الواقعية بين اللفظ والمعنى.

وتقريب هذا المسلك هو : إن الأمور الثابتة على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الأمور التي تكون ثابتة بوجودها الخارجي من قبيل الإنسان ، والماء ، والهواء ، والجواهر ، والأعراض.

القسم الثاني : الأمور التي تكون ثابتة بالاعتبار ، بحيث أن لا وجود لها إلّا الوجود الاعتباري ، من قبل المعتبر ، فلو انقطع الاعتبار زال الوجود عنها ، من قبيل أن نعتبر وجود بحر من زئبق فإنّ هذا موجود بوجود اعتباري ، وبقطع النظر عن الاعتبار ، ليس لهذا البحر الزئبقي وجود ، ولا ثبوت.

القسم الثالث : ما يكون ثبوته لا بالوجود الخارجي ، ولا بمحض الاعتبار ، بل بنحو من الواقعية ، بحيث يكون له واقعية في الأمر نفسه ، وله نحو من الثبوت المحفوظ ، بقطع النظر عن اعتبار المعتبرين ؛ من قبيل إمكان الإنسان ، نقول مثلا : الإنسان ممكن وليس واجبا وليس ممتنعا ، فإمكان الإنسان ليس موجودا بالاعتبار فقط ، بل هو ثابت بقطع النظر عن أي اعتبار ، وحتى لو لم يكن هناك اعتبار ، ولا معتبر في الخارج ، فمع هذا ، إمكان الإنسان أمر محفوظ في نفسه ، وثابت في الأمر نفسه فإمكان الإنسان ليس من القسم الثاني

٤١

الذي يكون وجوده بمحض الاعتبار ، وكذلك ليس من القسم الأول الذي يكون ثبوته على حدّ ثبوت الإنسان ، وعلى حدّ ثبوت الجواهر والأعراض ، بحيث يكون له وجود خارجي ، إذ من الواضح أن الإمكان ليس له وجود خارجي ، كما برهن عليه في محلّه ، وإلّا لكان للإمكان إمكان ، وهكذا. إذن فالإمكان قسم ثابت من الأمور الثابتة ، وثبوته لا بوجوده الخارجي ، ولا بمحض الاعتبار ، بل بواقعيته ، فهو من الأمور الواقعية المحفوظة في الأمر والواقع نفسه ، من قبيل الملازمات والسببيات ، فإن ملازمة النار للإحراق ، أو سببية النار للإحراق ، هذا أمر واقعي محفوظ في نفسه ، بقطع النظر عن اعتبار المعتبر ، بل هو أمر له واقعية وثبوت.

وحينئذ ، بناء على هذا القسم الثالث يقال : بأن الملازمة بين اللفظ والمعنى التي هي عبارة عن سببية اللفظ للمعنى في عالم الذهن ، وكون اللفظ سببا للمعنى ، فهذا يدخل في القسم الثالث من هذه الأقسام ، فهو ليس أمرا له وجود في الخارج على حدّ وجود الجواهر والأعراض ، ولا هو أيضا أمر اعتباري خيالي من قبيل البحر من زئبق ، بل هو أمر واقعي له ثبوت في الواقع ، فإنه حقيقة يكون اللفظ سببا للمعنى في عالم الذهن ، وليس هذا بأمر خيالي أو ادّعائي.

إذن فالوضع عبارة عن جعل هذه السببية الواقعية بين اللفظ والمعنى ـ جعل اللفظ سببا للمعنى ـ فهو جعل للسببية الواقعية ، والملازمة الواقعية التي تدخل في القسم الثالث.

هذا بيان صورة هذا المسلك ، وقد اعترض على هذا المسلك السيد الأستاذ بالتهافت المنطقي (١).

وتوضيح الاعتراض الذي اعترض به السيد الأستاذ على هذا المسلك ، هو أن الوضع إذا كان عبارة عن جعل هذه السببية الواقعية بين اللفظ والمعنى ،

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ـ فياض : ج ١ ، ص ٤٢ ـ ٤٣.

٤٢

وكان أمرا واقعيا على حدّ السببية بين النار والإحراق مثلا ، فحينئذ نسأل :

إنّ الواضع الذي يصدر منه هذا الوضع ، ويجعل سببية واقعية بين اللفظ والمعنى ، هل يجعل هذه السببية مطلقا ، أو يجعلها مقيدا بصورة العلم بالوضع؟.

فإن قيل : بأنه يجعل سببية اللفظ للمعنى سببية واقعية مطلقا ، في حق كل أحد ، من دون أن يقيد مجعوله بالعلم بالوضع!.

قلنا : يلزم من ذلك حينئذ أن يكون اللفظ سببا لتصور المعنى ، وإيجاده في الذهن من حق كل واحد ، سواء أكان عالما بالوضع ، أو جاهلا بالوضع ، لأنّ المفروض أن الجاعل ، جعل السببية على الإطلاق ، ولم يقيدها بخصوص صورة العلم بالوضع ، مع أن المشاهد وجدانا أن اللفظ لا يكون سببا لتصور المعنى إلّا في مثل العالم بالوضع ، وأمّا في مثل الجاهل بالوضع فهو يسمع اللفظ ، ولا ينتقل ذهنه إلى المعنى.

وإن قيل : بأن الواضع يجعل سببية اللفظ للمعنى ، لكن مشروطا بالعلم بالوضع ، فمثلا يقول إذا كنت عالما بالوضع. فاللفظ أجعله سببا للمعنى ، فتكون سببية اللفظ للمعنى مشروطة بالعلم بالوضع.

وعليه : فحينئذ ، يلزم الدور في المقام ، وذلك لأنّ سببية اللفظ للمعنى ، هذه السببية الواقعية المجعولة من قبل الواضع ، هذه مشروطة بالعلم بالوضع ، ومتوقفة على العلم بالوضع ، فهي في طول العلم به. والوضع ما هو؟ هو نفس السببية ، لأنّ أصحاب هذا المسلك يقولون : بأن الوضع عبارة عن سببية اللفظ للمعنى.

إذن فالعلم بالوضع يكون عبارة عن العلم بسببية اللفظ للمعنى ، فيرجع أخيرا إلى أن سببية اللفظ للمعنى ، مشروطة بالعلم بسببية اللفظ للمعنى ، وهذا دور ، لأنه يلزم من ذلك أن تكون سببية اللفظ للمعنى في طول العلم بالوضع ، لأنّ كل مشروط في طول شرطه ، والشرط هو العلم بالوضع ، يعني العلم

٤٣

بالسببية ، والعلم بالسببية في طول السببية ، لأنّ العلم بكل شيء في طول ذلك الشيء ، فيلزم التهافت ، وكون شيئين كل منهما في طول الآخر ، وهو الدور.

إذن فكلا الوجهين في هذا المسلك غير معقول.

رد اعتراض السيد الأستاذ :

لو بقينا نحن مع اعتراض السيد الأستاذ على هذا المسلك ، لا يمكن قبول هذا الاعتراض بمعنى أنه على مستوى التهافت المنطقي يمكن تصوير هذا المسلك ، بنحو لا يكون فيه محذور التهافت والدور ، وذلك فيما إذا ادّعى صاحب هذا المسلك ، أن ما هو السبب في الانتقال إلى المعنى هو المجموع المركب من جزءين :

الجزء الأول : اللفظ : فهو جزء السبب في الانتقال إلى المعنى في حق الجاهل ، والعالم.

والجزء الآخر : العلم بأن اللفظ جزء السبب ، يعني العلم بالدخل الضمني للفظ ، وبأن اللفظ له دخل في الانتقال إلى المعنى.

وبناء على هذا حينئذ ، السببية التامة الاستقلالية هي في طول العلم ، والعلم ليس في طول السببية الاستقلالية ، بل في طول السببية الضمنية ، فالموقوف على العلم غير الموقوف عليه العلم. وبعبارة أخرى ، الوضع عبارة عن السببية التامة بين اللفظ والمعنى ، وهذه السببية التامة موقوفة على وجود كلا الجزءين. على لفظ وعلى علم.

فلو قلنا على علم بالسببية التامة يلزم الدور ، ولكن نقول : على علم بالسببية الضمنية ، فإن اللفظ جزء السبب ، وله دخل ضمني نافذ ، على العلم بذاك الدخل الضمني النافذ.

إذن فالموقوف على العلم هو السببية التامة ، والذي يتوقف عليه العلم هو السببية الضمنية الناقصة ، يعني دخل اللفظ في الجملة ، فلا يلزم الدور.

٤٤

وأي دور إذا وجد اللفظ ، وكنت تعلم أنه دخيل في الجملة ، إذن يتم بذلك السبب. فتمامية السببية فرع العلم بالسببية الضمنية ، والسببية الضمنية ليست فرع العلم ، فيكون الجعل غير متهافت منطقيا ، فلا إشكال منطقي في المقام.

٤٥

تحقيق الكلام في جعل السببية الواقعية

صار واضحا أن هذا المسلك الثالث ، هو مسلك جعل السببية الواقعية والملازمة الواقعية بين اللفظ والمعنى ، حينئذ نسأل صاحب هذا المسلك : ما ذا يقصد بالجعل؟.

هل يقصد الجعل المباشري لهذه السببية ، أو يقصد الجعل بتوسط أمر آخر؟.

فإن كان يقصد الجعل المباشري للسببية ، بمعنى أن اللفظ بحسب طبعه ليس سببا للانتقال إلى المعنى ، ولكن الواضع يجعل هذه السببية جعلا مباشريا ابتدائيا ، فيخلق في اللفظ سببية واقعية للانتقال إلى المعنى :

فإن كان يقصد هذا المعنى ، فهذا غير معقول في نفسه في سائر موارد عالم التكوين ، لأنّ السببية بين الأشياء ذاتية للسبب ، وهي غير مجعولة ، وغير قابلة للجعل ، فلا يمكن أن نجعل ما ليس سببا للحرارة بذاته سببا للحرارة ، فالماء مثلا : ليس بسبب للحرارة ، فلا يمكن أن نجعله سببا للحرارة.

نعم يعقل أن يوجد فيه ما هو سبب ، وذلك بأن نجعل هذا الماء حارا ، ومن المعلوم أن الحرارة سبب للحرارة ، فإذا جعلنا فيه الحرارة بوضعه على النار ، فقد صار هذا الماء سببا للحرارة ، ولكن هذا ليس بابه باب السببية المباشرية ، فإنّ ما هو سبب الحرارة هو نفس الحرارة ، ونحن قد جعلنا

٤٦

الحرارة في الماء ، وما جعلنا الشيء الذي ليس بسبب سببا مباشريا ؛ فجعل السببية المباشرية أمر غير معقول ، بمعنى أنّ الشيء الذي لا يكون سببا نجعله سببا! فهذا غير معقول ، لأنّ السببية بالنسبة إلى السبب الذاتي تكون ذاتية لا محالة.

نعم يمكن أن أجعل شيئا سببا للعرض ، وذلك بأن أوجد فيه السبب بالذات لا أوجد سببية السبب بالذات ، بل أوجد السبب نفسه بالذات ؛ فالماء ليس سببا ذاتيا للحرارة ، ويستحيل جعل السببية الذاتية المباشرية للماء ، بل يمكن جعله سببا بالعرض وذلك بإيجاد ما هو سبب بالذات فيه ، وهو الحرارة ، فيصبح حينئذ سببا بالعرض بالنسبة إلى الحرارة ، وأما السبب بالذات فهو الحرارة نفسها ، والحرارة لم نجعل سببيتها بل سببيتها ذاتية.

فإن أريد في المقام بجعل السببية الذاتية في اللفظ ، بحيث يجعله بذاته سببا ، بعد أن لم يكن سببا : فهذا أمر مستحيل ، لأنّ السببية الذاتية حيث أنها من خواص الأسباب الذاتية يستحيل أن تكون مجعولة بجعل مستقل. وإذا استحال وضع وجعل السببية تكوينا لما ليس بسبب ، فيستحيل جعلها تشريعا ، أو اعتبارا.

وإن كان المراد من جعل هذه السببية ضمّ ما هو السبب بالذات إلى اللفظ ـ من قبيل جعل الماء سببا للحرارة ، وذلك بأن نفتش أنه ما هو السبب بالذات في الحرارة ، هو الحرارة نفسها ، فأوجد الحرارة في الماء ، فيصير الماء ببركة ذلك سببا بالعرض. فهذا أمر معقول في المقام ، وهو أن نوجد في اللفظ خصوصية زائدة ، وببركتها يصبح اللفظ سببا بالعرض ، وتلك الخصوصية التي ببركتها أصبح اللفظ سببا بالعرض للمعنى ، هذه الخصوصية لم يبينها هذا المسلك ، وكل ما قاله إنّ الوضع يرجع إلى جعل السببية الواقعية ، وهذا المقدار صحيح ، لكن ليس جعلا مباشريا للسببية ، بحيث يجعل السببية الذاتية ، لأنّ السببية الذاتية لا تقبل الجعل ، بل إنما يجعل السببية العرضية ، بمعنى أن يضم خصوصية إلى اللفظ ليصبح بواسطتها سببا للمعنى ، وحينئذ جعل شيء

٤٧

سببا للعرض إنما يكون بضم ما هو سبب بالذات إليه ، فلا بدّ أن نرى ما هي تلك الخصوصية بحيث يصبح اللفظ سببا بالعرض للمعنى.

٤٨

التحقيق في حقيقة الوضع

البحث في حقيقة الوضع ، هو بحث في كيفية نشوء الدلالة بين اللفظ والمعنى ، وأنه كيف يصبح اللفظ سببا لتصور المعنى ، بعد أن لم يكن بحدّ ذاته سببا لذلك ؛ ما ذا يصنع الواضع لكي يجعل اللفظ سببا للانتقال إلى المعنى ، مع أن اللفظ بطبعه وذاته ، ليس سببا للانتقال إلى المعنى.

وتحقيق ذلك أن يقال :

إنه في باب الانتقال من إدراك شيء إلى تصور شيء يوجد ثلاث قوانين تكوينية ثابتة مخلوقة من قبل خالق العالم الذي وضع القوانين التكوينية لهذا العالم ، وهذه القوانين التكوينية الثلاثة نصطلح عليها : بالقانون الأولي التكويني ، والقانون الثانوي التكويني الأول ، والقانون الثانوي التكويني الثاني.

القانون الأولي التكويني : هذا القانون التكويني الأولي ، هو أنّ الإدراك والإحساس بشيء ، يوجب الانتقال التصوري إلى معناه ، مثلا الإحساس ب (الأسد) يوجب الانتقال إلى تصور معنى الحيوان المفترس ، فهذه سببية واقعية تكوينية مبنية على قانون تكويني خلقه الله تعالى ، حين خلق الإنسان وأعطاه إحساسه وخياله وتصوره ، جعل هذه السببية تكوينا ، بحيث أن الإحساس بشيء يوجب الانتقال إلى تصور معنى ذاك الشيء ؛ فالإحساس

٤٩

بشيء سبب ، وتصور معناه مسبّب. هذا هو القانون الأولي التكويني.

القانون الثانوي التكويني الأول : هو إنّ الإنسان لو لم يحس بالشيء ، ولكن أحسّ بما يشابه ذلك الشيء ، فأيضا ينتقل منه إلى تصور ذلك المعنى وإن كان لم يحسّ به ، ولكن أحسّ بمشابهه ، فهذا القانون يقتضي أيضا الانتقال إلى المعنى ؛ مثلا : نحن نرسم صورة (الأسد) على الورق ، فإذا رأى إنسان هذه الصورة ، يتصور في ذهنه الحيوان المفترس ، مع أنه لم ير الحيوان المفترس نفسه ، ولكن رأى المشابه له من بعض الجهات ، لكن حينئذ إدراك المشابه يعوّض عن إدراك نفسه ، فيكون سببا أيضا للانتقال إلى معنى الحيوان المفترس وهذا القانون ليس مربوطا بالواضع ، ولا بجعل الواضع بوجه من الوجوه ، وهو حاكم على القانون التكويني الأولي ، لأنّ القانون التكويني الأولي مفاده. من أحس بالحيوان المفترس ينتقل ذهنه إلى تصور معناه ، وهذا القانون الثانوي الأول يجعل الإحساس بالمشابه بمنزلة الإحساس به ، فله حكومة عليه ، ولكنها حكومة تكوينية ، لا حكومة تنزيلية ادعائية اعتبارية ، بل هي حكومة واقعية ، بمعنى أن يجعل المشابه ، له الأثر نفسه الموجود بالمشابه ، فمتى ما رأينا صورة (الأسد) على الورق. انتقلنا إلى صورة الحيوان المفترس ، هذا هو القانون الثانوي التكويني الأول.

القانون الثانوي التكويني الثاني : وهذا القانون الذي له أيضا حكومة على القانون التكويني الأولي ، مفاده أنه لو لم نر الحيوان المفترس ، ولم نر أيضا شيئا مشابها له على الورق ، لكن أدركنا شيئا كان يقترن مع الحيوان المفترس بوجه مخصوص ، اقترانا مخصوصا شديدا ، حينئذ ننتقل منه إلى تصور الحيوان المفترس ، فإذا فرضنا أن شيئا كان يقترن مع شيء آخر ، اقترانا مخصوصا ، وحينئذ إذا أدركنا أحدهما ورأيناه ، ينتقل ذهننا أيضا إلى الآخر ، فكأن المقترن أيضا يصير له هذه الحالة ، وهي أنه يوجب الانتقال الذهني والتصوري إلى شكل الشيء الآخر الذي كان مقترنا معه بوجه مخصوص.

وهذا الاقتران المخصوص تارة تكون الخصوصية فيه خصوصية كمية ،

٥٠

بحيث تنشأ هذه الخصوصية بسبب كثرة الاقتران ، كما لو فرضنا أنّ أحد الشيئين اقترن بالآخر مئات المرات ، مرارا وتكرارا ، فحينئذ إذا رأينا أحدهما ، انتقل ذهننا تصورا إلى الآخر ، فمثلا : في علم الرجال دائما نرى (النوفلي) يروي عن (السكوني) ، ف (النوفلي) و (السكوني) مقترنان في تصورنا متى ما رأينا (نوفلي) رأينا (سكوني) ؛ فلو رأينا على ورق في مرة من المرات كلمة (سكوني) ينتقل ذهننا فورا إلى (النوفلي) ، لأن (السكوني) رأيناه مرارا وتكرارا مع (النوفلي) ، فأصبح للسكوني هذه الحالة ، وهي أنه متى ما رأيناه انتقل ذهننا تصورا إلى (النوفلي).

وتارة أخرى تكون تلك الخصوصية خصوصية كيفية ، بحيث لم تنشأ من كثرة الاقتران مرارا وتكرارا ، بل قد يتفق أن يقترن أحد الشيئين بالآخر مرة واحدة ، لكن باقتران مخصوص بكيفية مخصوصة ، بحيث بعد هذا إذا أدركنا أحدهما ينتقل ذهننا إلى الآخر ؛ فمثلا إذا سافر الإنسان إلى بلد «بغداد» وابتلي بمرض شديد ، وبعد هذا رجع ، قد يتفق أنه متى ما تصور اسم ذلك البلد ، انتقل ذهنه إلى ذلك المرض الذي أصابه ، وإن كان البلد مع المرض قد اقترنا مرة واحدة ، لكن حيث أنه اقتران من نوع شديد ، وبكيفية أكيدة ، ولهذا متى ما تصور أحدهما «بغداد» انتقل ذهنه إلى أنه ذهب إلى البلد ، ومرض مرضا شديدا.

تطبيقات :

صار واضحا أنه يوجد قانون تكويني أولي ، وقانونان تكوينيان حاكمان على القانون التكويني الأولي ، وبعد هذا نقول :

إنّ الدلالات التي تواضع عليها الناس فيما بينهم ، بعضها بحسب الحقيقة صغريات وتطبيقات لكبرى القانون الثانوي التكويني الأول ، وبعضها أيضا صغريات وتطبيقات لكبرى القانون الثانوي التكويني الثاني ، وقد يتفق أن يكون بعض هذه الدلالات التي تواضع عليها الناس صغريات وتطبيقات لكبرى القانونين الثانويين التكوينيين معا.

٥١

فهناك من الدلالات التي تواضع عليها الناس ، الإشارات التصويرية ، بحيث أصبحت لغة عالمية مللية بين مختلف الملل والنحل ، مثالها الإنسان حينما يريد أن يبيّن للآخر أنّ هذا تاجر مثلا ، فيحرك بيده بنحو ، يجعل بالإشارة صورة يده مشابهة مع ذلك الشخص الذي يريد أن يفهمه إيّاه ؛ فمثل هذه نسميها بالإشارات التصويرية التي تواضع عليها الناس منذ القدم ، وإلى يومنا هذا ، وهي بحسب الحقيقة صغرى ، وتطبيق للقانون الثانوي التكويني الأول.

وهنا أيضا نقول : إنّا نخلق باليد وحركتها ، حالة مشابهة لطلبة يلبس العمامة ، حينئذ هذا الخلق لهذه الصورة يوجب انتقال ذهنه تصورا إلى الطلبة ، من قبيل ، أنه لو رأى صورة (الأسد) على الورق ، ينتقل ذهنه إلى الحيوان المفترس.

فهذه الدلالات الإشارية والإشارات التصويرية ، تكون تطبيقا للقانون الثانوي التكويني الأول.

وهناك ما يكون تطبيقا للقانون الثانوي التكويني الثاني.

فالإنسان منذ البداية كان يلاحظ أن أصواتا معينة تقترن مع حيوانات معينة ، فالنهيق ، والزئير ، هذه أصوات معينة لحيوانات معينة ، فكلما رأينا (الأسد) ، سمعنا معه زئيره وكلما رأى (الحمار) سمع معه نهيقه ، وهكذا اقترن اقترانا متكررا ، وحينئذ إذا سمعنا الزئير ولم نر (الأسد) بعينه ، فسماع الزئير نفسه متكررا ، يوجب انتقال الذهن إلى صورة (الأسد) إلى معنى الحيوان المفترس.

وهذا بحسب الحقيقة تطبيق وصغرى للقانون الثانوي التكويني الثاني ، لأنّ الزئير اقترن مرارا عديدة مع شكل (الأسد) ، وحينئذ بعد هذا ، إذا سمعنا الزئير نتصور في ذهننا صورة الحيوان المفترس.

وهناك ما يكون تطبيقا لكلا القانونين معا ، فمثلا.

٥٢

قد يتفق لنا أن لا نسمع الزئير بل نسمع صوتا شبيها بالزئير ، بأن كان إنسان يقلّد (الأسد) ، حينئذ ينتقل الذهن فورا إلى صورة (الأسد) ، وهذا تطبيق لكلا القانونين معا ؛ لأنّ الذهن انتقل من شبيه الزئير إلى الزئير ، وهذا تطبيق للقانون الثانوي التكويني الأول ، وانتقل الذهن من الزئير إلى (الأسد) ، وهذا تطبيق للقانون الثانوي التكويني الثاني ، لأنّ الزئير مقترن (بالأسد) مرارا عديدة.

وأيضا لو أنّ إنسانا لا يعرف اللغة ، وأراد أن يفهم إنسانا آخرا ، أنّ هناك أسد ، فيصدر صوتا شبيها بالزئير ، وذاك يلتفت فورا إلى أنّ هناك (أسد) ؛ فهنا بحسب الحقيقة ، دلالة هذا الصوت الشبيه تتم ببركة ضم أحد هذين القانونين الثانويين إلى الآخر. وكذلك يضم هذان القانونان ، لو أردنا أن نعبر بهذا الصوت عن رجل شجاع ، وهذه الدلالة ، وهي دلالة الصوت الشبيه بصوت (الأسد) ، على الرجل الشجاع ، تكون بتطبيقات عديدة لهذين القانونين ، لأنّ الصوت الخارج من الإنسان يدل على الزئير من باب دلالة الشبيه على الشبيه الآخر ، والزئير يدل على (الأسد) ، و (الأسد) يدل على الرجل الشجاع ؛ فبتطبيقات عديدة لهذين القانونين أصبح هذا الصوت يدلّ على الرجل الشجاع.

وإلى هنا نرى أن الإنسان بلا عناية من قبله ، وفي حدود هذين القانونين الثانويين التكوينيين المخلوقين من قبل الله تعالى ، أمكن أن يوجد لنفسه لغة ، لأنّه بأصوات متعددة يمكن أن يفهم أشياء متعددة ، فهو يفهم إمّا أصحاب الأصوات أنفسهم ، وهذا تطبيق للقانون الثاني ، أو يفهم ما يشبه أصحاب الأصوات ، وهذا ضم لأحد القانونين إلى الآخر.

وهكذا وبلا إعمال عناية من قبل الإنسان ، حصلت لغة ، وهذه اللغة وهذه الدلالة ـ دلالة اللفظ على المعنى ـ لا يتدخل فيها أي عناية من قبل الإنسان ، لا في الكبرى ولا في الصغرى ؛ لا في كبرى القانون ، لأنها تكوينية مجعولة من قبل خالق الإنسان ، وخالق العالم ، ولا في صغرى القانون ـ الزئير

٥٣

قد اقترن مرارا عديدة ـ لأنها أمر طبيعي صدفتي ، فصدفة اقترن الزئير مع (الأسد) لا بفعل أي إنسان في العالم ، وبدون أي تصرف من أحد.

الوضع التعييني والتعيّني :

إذن صار واضحا أن بعض الدلالات التي تواضع عليها الناس ، ما يكون تطبيقا للقانونين الثانويين الأول والثاني ، كما في مقام تفهيم الرجل الشجاع ، حيث أن الإنسان يستعمل صوتا شبيها بصوت الأسد لتفهيم شخص آخر بأن زيدا من الناس شجاع. فلو فرضنا أن هذا المستعمل للصوت الشبيه بالزئير ، كرّر هذه العملية ، مرارا وتكرارا ، بحيث اقترن هذا الصوت مع هذا المعنى في الذهن ، مرارا عديدة ، حينئذ يصبح هذا بنفسه تطبيقا للقانون الأول ، بلا حاجة إلى ضم مسألة المشابهة ، وحينئذ يصبح هذا الصوت بنفسه يدل ابتداء على الرجل الشجاع ، بلا حاجة إلى توسط أن هذا شبيه بالأسد ، وإلى أن هذا صوت شبيه بصوت الأسد ، بل بتكرره يصبح هذا الصوت بنفسه دالا على الرجل الشجاع ، وهذا هو معنى الوضع التعيّني فالوضع التعييني الذي نقول بأنه ينشأ من كثرة الاستعمال ، حقيقته هذا النحو ، يعني إيجاد صغرى من قبل الإنسان للقانون الثاني ، وهو أن إدراك أحد المتقارنين بوجه مخصوص ، يؤدي إلى الانتقال إلى مقارنه وتصوره ، فمثلا : الإنسان يوجد الصغرى ـ التقارن بين هذا الصوت الفلاني وبين الرجل الشجاع ـ فإذا أوجد هذا التقارن متكررا ، فقد أوجد الصغرى من القانون الثاني ، وهذه الصغرى هي الوضع التعيّني.

إذن فالوضع التعيّني : هو إيجاد صغرى للقانون الثاني ، إيجاد تقارن متكرر بكثرة الاستعمال بين اللفظ والمعني

ثم إنّ الإنسان يصبح عنده ألفة واستيناسا بأن ينتقل من الأصوات إلى المعاني بحيث يصبح هذا الأمر مألوفا ، فإذا سمع صوتا يعرف أن هذا لا بد له من معنى ، هنا يجيء الوضع التعييني ، فحينئذ الواضع طبقا للحاجة يضع بعض الألفاظ لبعض المعاني ، يعني يقرن ما بينهما قرنا آنيا دفعيا في عملية ملفتة للنظر مؤكدة ، من قبيل عملية المرض «ببغداد».

٥٤

فالوضع التعييني يحسب الحقيقة هو : إيجاد صغرى لكبرى القانون التكويني الثانوي الثاني ، وليس فيه أي تصرف من قبل الواضع ، سوى إيجاد صغرى لهذا القانون ، بأن يقرن أحدهما بالآخر قرنا أكيدا شديدا.

ومن هنا يتضح من أن إتعاب النفس ، في أنّ الواضع هل يعتبر اللفظ على المعنى ، أو تحت المعنى ، أو أداة للمعنى ، أو وجودا تنزيليا للمعنى ، كل هذا لا معنى له ، لأن النكتة المطلوبة من الوضع ، هي إيجاد صغرى لهذا القانون التكويني في نفسه. وإيجاد الصغرى ، بأن يوجد حادثة ، بحيث يقترن فيها اللفظ مع المعنى ، اقترانا أكيدا شديدا ، وهذا الاقتران الأكيد الشديد ، تارة يحصل بكثرة الاستعمال ، وأخرى يحصل بإنشاء ، كإن يرزق ولد مثلا ويقول : سمّيته عليا. هذا هو الوضع التعييني.

توضيحات وتفريعات :

اتضح مما تقدم ، أنه بالإمكان ، تعريف الوضع : بأنه جعل اللفظ بحيث يقترن اقترانا مؤكدا في تصور الإنسان وذهنه ، فيدخل حينئذ في صغرى قانون ثانوي تكويني ، وهو قانون الانتقال من تصور أحد المتقارنين إلى تصور مقارنه ، وهذا التأكيد في الاقتران.

إمّا أن يكون بلحاظ تكرّره كما هو الحال في الوضع التعيّني.

وإمّا بلحاظ كيفية مخصوصة فيه كما هو الحال في الوضع التعييني.

وبناء على ذلك تتضح أمور :

أ ـ الأمر الأول : أنّ الوضع ليس من الأمور الإنشائية التسبيبية التي تحصل بالإنشاء من قبيل البيع ونحوه من العناوين المعاملية والإنشائية : فالبيع لا إشكال في أنه عنوان إنشائي ، وإن وقع الكلام في المنشأ ، فهل المنشأ بالبيع تمليك المال بعوض ، أو المنشأ عنوان مبادلة مال بمال ، إلى غير ذلك مما ذكر في المكاسب؟. فالبيع أمر إنشائي لكن يقع الكلام في تشخيص ذلك

٥٥

المعنى المنشأ الذي يوجد بالبيع وينشأ بالبيع.

وأمّا الوضع فهو ليس أمرا إنشائيا.

وأما الوضع التعيّني فهذا فيه واضح ، حيث لا إنشاء ، ولا جعل من قبل إنسان مخصوص.

وأما الوضع التعييني فيما إذا حصل الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى بعملية واحدة دفعية آنيّة ، حينئذ ، قد يصدر إنشاء من قبل الواضع كأن ينشئ ويسمّي ولده زيدا مثلا. لكن هذا الإنشاء له حيثيتان :

الحيثية الأولى : حيثية إنشائية إيجادية لمعنى اعتباري ، كأن يقول جعلت اسم زيد وجودا تنزيليا لابني ، فهذا الإنشاء يلحظ بلحاظ هذه الحيثية باعتباره إيجادا إنشائيا لمعنى خيالي ، وهو أن هذا اللفظ عين ذاك المعنى ، وهو بلحاظ هذه الحيثية لا يوجد شيئا ، فلا يكون وضعا ، ولا يكون ميزانا للدلالة بين اللفظ والمعنى.

الحيثية الثانية : حيثية إنشائية تكوينية ، بحيث أن هذا الإنشاء يوجد تكوينا نحو اقتران في ذهن السامع بين اللفظ والمعنى ، وهذا الاقتران المتعمّق المتأكد الذي يوجد بين اللفظ والمعنى ، يكون الميزان فيه ، دلالة اللفظ على المعنى ، لصيرورته حينئذ صغرى من ذلك القانون الثانوي التكويني.

وعلى هذا الأساس فالوضع التعييني بما هو وضع ، وبما هو ميزان لدلالة اللفظ على المعنى ليس وضعا إنشائيا بلحاظ الحيثية الأولى الاعتبارية ، لأنه لا يوجد شيئا ، ولا يكون ميزانا للدلالة.

وعلى هذا ، لا يهم التحدث عمّا هو المنشأ في هذا الإنشاء ، سواء أكان المنشأ هو جعل اللفظ على المعنى ، أو أداة لتفهيم المعنى ، أو وجودا تنزيليا للمعنى.

٥٦

بل المهم في المقام : هو الحيثية الثانية لهذا الإنشاء ، الحيثية التكوينية لا الحيثية الاعتبارية الجعلية.

وعلى هذا البناء ، فالوضع بما هو وضع ، وميزان لدلالة اللفظ على المعنى ، ليس أمرا إنشائيا اعتباريا ، لا الوضع التعيّني ، ولا الوضع التعييني.

ب ـ الأمر الثاني : إنّ دلالة اللفظ على المعنى التي تنشأ من الوضع ، هي دلالة تصورية ، وليست دلالة تصديقية ، فإنّ الدلالة كما أشرنا سابقا على نحوين :

النحو الأول : دلالة تصورية ، بمعنى متى ما سمعنا لفظ (الأسد) وانتقش في ذهننا ، انتقل إلى تصور الحيوان المفترس.

النحو الثاني : دلالة تصديقية ، بمعنى أن لفظ (الأسد) يدل على أنّ المتكلم أراد بهذا الكلام تفهيم الحيوان المفترس.

إذن بناء على ما أوضحناه في حقيقة الوضع ، صار معلوما أنّ الوضع لا يوجد إلّا الدلالة التصورية ، لأن الوضع ليس إلّا إيجاد صغرى للقانون الثانوي التكويني ، لأن مفاده ، إنه متى ما اقترن شيئان : (السكوني ، والنوفلي) اقترانا أكيدا ، وتصورنا أحدهما ، تصورنا الآخر ، سواء سمعنا لفظ (السكوني) من عاقل ، أو نائم ، أو من اصطكاك حجرين ، انتقل ذهننا إلى تصور (النوفلي). هذا هو معنى الدلالة التصورية.

وأمّا الدلالة التصديقية : معناها ، إنه متى ما سمعنا إنسانا عاقلا ملتفتا يقول : (أسد) ، نعرف أنه قد أراد بهذا اللفظ تفهيم المعنى الذي وضع له في لغة العرب ، وهذه الدلالة ليست مربوطة بالوضع ، وإنما هي باعتبار ظهورات حالية وسياقية وعقلائية ، زائدا على الوضع.

٥٧

وقد اعترض على ذلك ، السيد الأستاذ (١) ، بأن الدلالة التي تحصل من اصطكاك حجرين ، لا ينبغي أن تكون دلالة وضعية ومجعولة من قبل الواضع ، فإن الواضع حكيم لا يعقل أن يجعل اللفظ دالا على المعنى مطلقا ، حتى لو صدر اللفظ من اصطكاك حجرين ، لأن مثل هذا الإطلاق لغو ، وغرض الواضع هو أن يتفاهم الناس العقلاء فيما بينهم ، لا أن يتفاهم الناس مع الأحجار.

إذن فلا بدّ وأن يكون المجعول من قبل الواضع مخصوصا بخصوص ما إذا صدر اللفظ من العاقل الملتفت ، لا فيما إذا صدر من قبيل الحجر ، ونحوه.

وهذا الإشكال كأنه مبني على التصور القديم لمعنى الوضع ، فإذا كان الوضع عبارة عن أمر إنشائي مجعول من قبل الواضع ، من قبيل جعل الملكية في باب البيع من قبل البائع ، وهكذا من المجعولات التشريعية الإنشائية التي يتصور فيها الإطلاق والتقييد ، حينئذ يقال : بأن هذا المجعول الإنشائي من قبل الواضع ـ دلالة اللفظ على المعنى ـ مطلقا ، حتى لما إذا اصطك حجر بحجر ، أو يجعله لخصوص ما إذا صدر من إنسان عاقل ملتفت؟.

حينئذ قد يقال : لا معنى لأن يجعله الواضع مطلقا ، بل ينبغي جعله مقيدا ، لأن مثل هذا الإطلاق لغو ، إذن فيجعله مقيّدا ، فيختص مجعوله الإنشائي بخصوص اللفظ الصادر من العاقل.

ولكن بناء على ما أوضحناه ، من أنّ الوضع ليس مجعولا إنشائيا من قبيل مجعولية التمليك بعوض في باب البيع ، حتى يتصور له الإطلاق والتقييد ، وإنما هو أمر تكويني قد يستعان في مقام تحقيقه بعبارة إنشائية ، فيقول مثلا : سمّيت ولدي زيدا.

فالوضع بحسب الحقيقة هو عبارة عن أن يقف إنسان أمام إنسان آخر

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ـ فياض : ج ١ / ص ٥٢.

٥٨

فيقرن اللفظ مع المعنى ، وبعد لا يفرّق بين أن يصدر هذا اللفظ من إنسان أو حيوان أو حجر ، فيدل هذا اللفظ على هذا المعنى ، ولا معنى لأن يشكل على الواضع بأنه لا فائدة من انتقال اللفظ من الحجر إلى معناه ، فيقول : بأن هذا أمر لا يتبعّض ولا يتجزّأ إذ إنّ هذا ليس بابه باب المجعولات الإنشائية حتى أقيّده وأخصّصه بمقدار الحاجة ، بل هذه عملية واقعية تكوينية ، أقرن اللفظ مع المعنى فحينئذ يقترن اللفظ مع المعنى على أيّ حال.

ولهذا قد يحصل هذا الاقتران من قبل الواضع التعييني بلا إنشاء أصلا ، وبلا جعل ، كما هو الحال في الاقترانات التي تلقى في أذهان الأطفال بين الألفاظ والمعاني ، فكما ينشأ في نفس الطفل دلالة (الماما ، والبابا ، والحليب) بسبب هذه الاقترانات ، بأن تمسك الأم القارورة بيدها وتقول له (حليب) عدة مرات ، دون أن تستعمل أي إنشاء ، ودون أن تقول له وضعت لفظة (حليب) لهذا السائل تحته ، أو جعلتها معنى تنزيليا له ، فبحسب الحقيقة ، أن يقترن أحدهما بالآخر ، كما لو كتب لافتة وجعل فيها صورة القارورة ، وإلى جانبها لفظة (حليب) ، فحينئذ ، متى ما رأينا صورة القارورة ، يقترن في ذهننا لفظة (حليب) مع الحليب ، وهكذا ، متى ما سمعنا هذه الكلمة انتقل ذهننا إلى هذا المعنى.

إذن فالوضع ليس مجعولا إنشائيا ليتصور فيه الإطلاق والتقييد ، ليقال : بأن هذا إطلاقه لغو.

ج ـ الأمر الثالث : يتساءل فيه ، أليس من المعروف أن العلم بالوضع له دخل في الانتقال إلى المعنى؟ فما هو معنى هذا؟.

يتضح مما ذكر وهو أن العلم بالوضع له دخل في الانتقال إلى المعنى ، معناه : إن الوضع بوجوده النفس الأمري ، لا يوجد اقترانا في الذهن ما بين اللفظ والمعنى ، إذ إنه موجود في المنجد. فما لم يوجد اقتران في ذهني بين اللفظ والمعنى ، لا يصير هناك وضع حقيقة بالنسبة لي ، وإنما يكون وضعا بالنسبة إلى الغير الذي اقترن اللفظ والمعنى في ذهنه بشكل متعمق متأكد.

٥٩

وهذا الاقتران المتأكد يحصل غالبا بالنسبة إلى الإنسان العاقل بالعلم بالوضع ، ويحصل أحيانا للصغار والكبار بغير طريق العلم بالوضع ، بطريق التلقين من دون أن يعلم بالوضع ، لعجز الطفل عن إدراك أن اللفظ الفلاني موضوعا للمعنى الفلاني ، لكن بالتلقين والتكرار ، يحصل له ما يجعل اللفظ والمعنى ، مقترنين في ذهنه من دون أن يعلم بالوضع ، ومع هذا ينتقل من اللفظ إلى المعنى ، لأنه حصّل بدلا عن العلم بالوضع ، التلقين بالنسبة إلى الطفل ، فتمّت دلالة اللفظ على المعنى.

وبهذا تم الكلام في الجهة الأولى وهي : حقيقة الوضع. وبتمام الكلام في الجهة الأولى ، يتضح الكلام في الجهة الثانية إجمالا ، ولذلك سوف يكون الكلام في الجهة الثانية مختصرا. في تشخيص حقيقة الواضع ، ومن هو؟ هل هو الله تعالى؟ أو هو شخص مخصوص من الناس؟. أو الجماعة البشرية. بمجموعها على امتداد تاريخها؟.

٦٠