بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

ومن الواضح أن الطفل في بداية عمره إذا سمع اللفظ مستعملا في معنى معين مرارا متعددة ، سوف ينتقل إلى ذهنه المعنى من اللفظ.

حينئذ نسأل أصحاب التعهد ، بأن الطفل إذا سمع أمه مائة مرة أو أكثر أو أقل تقول : حليب ، وتريد هذا المعنى ، فانتقل ذهنه إلى هذا المعنى ، هل أن الطفل استكشف بعد هذه الاستعمالات ، تعهدا من قبل أمه ، بأن لا تأتي بلفظة (حليب) إلّا إذا قصدت المعنى الفلاني ، واستنتج من تعهد أمه هذا وجود ملازمة ما بين الشرط والجزاء في هذه القضية الشرطية ، وأخذ يستدلّ على وجود أحد الطرفين بوجود الطرف الآخر؟.

أو إنه ابتداء ، بمجرد أن أصبح ذهنه مأنوسا بكثرة الاستعمال بلا أن يعرف الوضع ، أو التعهد ، أو الملازمة ، أصبح ذهنه ينتقل من اللفظ إلى المعنى؟.

فإن قالوا : بأن الطفل استكشف تعهدا من الأم ، واستنتج من ذلك الملازمة.

قلنا : هذا بديهي البطلان بالنسبة إلى الطفل ، لأنّ الطفل لا يمكنه أن يستنتج هذه الاستنتاجات الاستدلالية في المقام ، وإلّا كان عالما.

وإن قالوا : بأن الطفل ينتقل ذهنه مباشرة إلى المعنى بمجرد أن يحصل أنس في ذهنه من سماع اللفظ مرات عديدة ، من دون أن يكون مطّلعا على الملازمة بين اللفظ والمعنى ، وعلى تعهد الأم على أن لا تأتي باللفظ إلّا إذا قصدت تفهيم المعنى.

قلنا : إذن فيثبت بذلك أن انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى المعنى ، له نكتة محفوظة ، بقطع النظر عن العلم بالتعهد والعلم بالملازمة.

أمّا ما هي هذه النكتة؟ فيأتي بحثها في آخر المسألة. هذا خلاصة الكلمة الثانية.

٢١

الكلمة الثالثة :

وأمّا الكلمة الثالثة : فسوف نتعرض فيها لإشكال مشهور على مبنى التعهد ، فإن مبنى التعهد بعد أن ذهب إليه بعض المحققين المتقدمين ، اعترض عليه بعض الأعلام بإشكال مشهور ، وهو إشكال الدور :

وتوضيح هذا الإشكال المشهوري هو : أن نأخذ الصيغة المعروفة للتعهد ، وهي : أنّ الواضع يتعهد بأنه متى ما قصد تفهيم المعنى أتى باللفظ ، حينئذ هذا الإشكال هكذا يقول : بأن تعهده بالإتيان باللفظ يأتي قبل قصد تفهيم المعنى.

هذا التعهد لا يخلو من أحد أمرين :

الأمر الأول : هو أن يكون تعهده بالإتيان باللفظ إرادة مقدمية ناشئة من قصد تفهيم المعنى ، فهو حين يتعهد بالإتيان باللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، كأنه يترشّح من قصد تفهيم المعنى قصد آخر مقدّمي ، وإرادة مقدّمية تتعلق بالإتيان باللفظ ، فيكون تعهده بالإتيان باللفظ عبارة عن إرادة مقدّمية مترشحة من قصد تفهيم المعنى.

الأمر الثاني : هو أن تكون إرادته بالإتيان باللفظ ، إرادة نفسية مستقلة ، غير مترشحة من قصد تفهيم المعنى ، وكلاهما باطل.

فأمّا كون تعهده باللفظ إرادة مقدمية مترشحة من قصد تفهيم المعنى : فهذا غير معقول للزوم الدور وذلك :

لأن هذا التعهد إن كان إرادة مقدمية مترشحة من قصد تفهيم المعنى ، إذن فهذه الإرادة فرع أن يكون اللفظ دالّا على المعنى ، حتى يترشح من قصد تفهيم المعنى إرادة الإتيان باللفظ ، وكون اللفظ دالّا على المعنى فرع التعهد لأن الوضع هو التعهد ، فيلزم الدور في المقام.

فيستحيل أن يكون التعهد بالإتيان باللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، إرادة

٢٢

مقدمية مترشحة من قصد تفهيم المعنى ، لأنّ هذه الإرادة المقدمية فرع أن يكون اللفظ دالّا على المعنى ، وكون اللفظ دالّا على المعنى فرع التعهد عند أصحاب التعهد ، هذا الإشكال الأول.

وأمّا الإشكال الثاني : وهو أن يكون التعهد بإتيان اللفظ إرادة نفسية مستقلة ، فهذا في نفسه معقول ، لا يلزم منه الدور ، لكن يحتاج حينئذ إلى نكتة ، إلى غرض في الإتيان باللفظ ، بقطع النظر عن قصد تفهيم المعنى ؛ مع أنه من الواضح أنه لا غرض من الإتيان باللفظ بقطع النظر عن تفهيم المعنى! فإذا لم يكن فيه غرض نفسي فكيف يتعلق به تعهد نفسي وإرادة نفسية؟ فهذا أيضا غير صحيح ، فيبطل بذلك مبنى التعهد. هذا هو الإشكال الثاني.

وبناء على هذين الأمرين ، والإشكالين يبطل مبنى التعهد. هذا هو الإشكال المشهوري.

الرد على الإشكال المشهوري :

والجواب على هذا الإشكال بأن يقال : عندنا في المقام إرادتان ، لا إرادة واحدة :

أ ـ إرادة جزئية للّفظ في مقام الاستعمال.

ب ـ وإرادة كلية للّفظ في مقام التعهد ، والوضع.

فالإرادة الجزئية : هي إرادة مقدمية ومتوقفة على كون اللفظ دالّا على المعنى ، وأمّا كون اللفظ دالّا على المعنى فهو ليس موقوفا على هذه الإرادة الجزئية ، بل هو موقوف على الإرادة الكلية ، على نهج القضية الحقيقية ، أي على نهج القضية الشرطية ، بمعنى أنه متى ما قصد تفهيم المعنى يريد الإتيان باللفظ.

فكأن هناك إرادتين :

٢٣

أ ـ إرادة جزئية فعلية : وهذه توجد حين الاستعمال وهي فرع دلالة اللفظ على المعنى.

ب ـ إرادة كلية شرطية : وهذه الإرادة هي منشأ دلالة اللفظ على المعنى.

إذن فقد اختلف الموقوف والموقوف عليه. باعتبار تعدد الإرادة.

وهذا البيان بهذا اللسان ، ليس جوابا على الإشكال ، وذلك لأنّ هذه الإرادة الكلية الشرطية ، بحسب الحقيقة ، ليست إلّا عين تلك الإرادة الفعلية ، غاية الأمر أنّها عينها بوجود تقديري ، لا بوجود تنجيزي ، وإلّا ليس عندنا بحسب الحقيقة إرادتان اثنتان ، بل إرادة واحدة ، قبل تحقق شرطها تكون شرطية ، وبعد تحقق شرطها تكون فعلية.

مثلا : العطشان حينما يعطش يريد رفع عطشه ، وهذه إرادة فعلية جزئية ، ولكن كل إنسان حتى قبل العطش ، هو بنحو القضية الشرطية يريد أن يشرب الماء كلما عطش ، وإرادته لشرب الماء كلما عطش هذه عين تلك الإرادة.

غاية الأمر : هذه إرادة مشروطة ، وتلك هي عين هذه الإرادة المشروطة بعد وجود شرطها وتحقق شرطها.

فليس عندنا في المقام إرادتان ، إحداهما تكون في طول الدلالة ، والأخرى تكون الدلالة في طولها ؛ بل هي إرادة واحدة ، مرة نعبّر عنها بقضية تنجيزية ، إذا وجد شرطها ، وأخرى نعبّر عنها بقضية شرطية ، إذا لم يوجد شرطها.

إذن فهناك بحسب الحقيقة تعبيران عن إرادة واحدة ، لا إرادتان ؛ بل إرادة واحدة نعبّر عنها بتعبيرين :

إرادة الإتيان باللفظ قبل قصد تفهيم المعنى ، نعبّر عنها بقضية شرطية.

وبعد قصد تفهيم المعنى نعبّر عنها بقضية تنجيزية فعلية ؛ من قبيل إرادة رفع العطش ، بعد العطش : نعبّر عنها بقضية فعلية ، ونقول بالفعل مريد للماء ،

٢٤

وقبل العطش نعبّر عنها بقضية شرطية ، ونقول : لو عطش لأراد شرب الماء.

إذن فهي إرادة واحدة يعبّر عنها بتعبيرين. فلم ينحل الإشكال بهذا البيان.

٢٥

الحل المختار

والصحيح في حل هذا الإشكال المشهوري ، هو أن يقال : بأن التعهد ليس من سنخ الإرادة ، حتى يأتي الإشكال بأنها هل هي إرادة مقدمية ، أو إرادة نفسية ، بل التعهد هو من سنخ الالتزام ، وجعل المسئولية على الإنسان ، سنخه سنخ النذر ، لا سنخ الإرادة. فالتعهد معناه : أن يجعل نفسه مسئولا ومقيدا ، ويوجب على نفسه أنه متى ما قصد تفهيم المعنى أتى باللفظ ، إذن فبابه ليس باب الإرادة ، بل بابه باب الجعل ، جعل الإلزام على النفس ، هذا فعل نفساني وهذا الفعل النفساني قد يفعله الفاعل لمصلحة في نفس هذا الفعل النفساني نفسه ، وما هي المصلحة في نفس هذا الالتزام ـ هو حصول الدلالة ما بين اللفظ والمعنى ـ لأنّ أصحاب التعهد يقولون ببركة هذا التعهد تحصل الدلالة بين اللفظ والمعنى.

إذن فالتعهد ليس بابه باب الإرادة والشوق المؤكد ، حتى يقال إنّ هذه الإرادة مقدمية أو نفسية ، بل بابه باب الجعل النفساني ، جعل المسئولية على النفس ، وجعل الإيجاب على النفس ، وهذا فعل نفساني ، وهو بنفسه ذو مصلحة ، لأنّه به ينفتح باب الخيرات ، وبه تحصل الدلالة بين اللفظ والمعنى.

إذن فينقدح في نفس المولى ، وفي نفس الواضع ، داعيا إلى إيجاد هذا الفعل النفساني ، ولا محذور فيه.

٢٦

إذن فهذا الإشكال المشهوري غير تام على مبنى التعهد.

والصحيح في إبطال مبنى التعهد : هو ما تقدم في الكلمة الأولى والكلمة الثانية.

إلى هنا أبطلنا المسلك الأول من المسالك الثلاثة في تصوير حقيقة الوضع ، حيث أننا ذكرنا أنه في حقيقة الوضع يوجد ثلاثة مسالك :

١ ـ مسلك التعهد.

٢ ـ مسلك الاعتبار.

٣ ـ مسلك الجعل الواقعي.

وبقي علينا مسلك الاعتبار ، ومسلك الجعل الواقعي.

٢٧
٢٨

المسلك الثاني

٢ ـ مسلك الاعتبار

فقد اختلف أصحاب هذا المسلك ـ مسلك الاعتبار ـ في هوية هذا المسلك ، وتعيين ما هو المعتبر من قبل الواضع ، ولهذا ذكر أصحاب هذا المسلك جملة من الوجوه صار مسلكا في مقام تصوير الاعتبار الذي يتحقق به الوضع.

الوجه الأول :

الوجه الأول من وجوه تصوير هذا المسلك هو : إنّ الوضع عبارة عن الاعتبار ، وهو وضع اللفظ على المعنى (١) ، وتوضيح ذلك :

أن أحد الأساليب في جعل شيء يدلّ على شيء ، وضعه عليه ، فمثلا : حينما نضع العلم على رأس الفرسخ ، أو على البئر ، يكون العلم دليلا على أنّ هذا هو رأس الفرسخ ، أو يكون دليلا على أن هذه بئر.

إذن فوضع شيء على شيء من الطرق المعقولة في جعل الشيء الموضوع دالّا ، وفي جعل الموضوع عليه مدلولا ، وهذا الوضع على قسمين :

القسم الأول : تارة يكون وضعا خارجيا حقيقيا من قبيل المثال المذكور ، وهو وضع العلم على رأس الفرسخ ، أو البئر.

__________________

(١) الأصول على المنهج الحديث ـ الأصفهاني : ص ٧.

٢٩

القسم الثاني : وقد يكون الوضع وضعا اعتباريا ، يعني يعتبر كون اللفظ موضوعا عليه دون أن يكون موضوعا عليه حقيقة. وهذا بابه باب وضع الألفاظ للمعاني عند صاحب هذا الوجه ، ويكون هذا اللون من الوضع في مقابل الوضع الحقيقي ، فكما أنّ وضع العلم حقيقة على رأس الفرسخ أو البئر ، يكون منشأ لدلالة العلم على رأس الفرسخ أو البئر ، كذلك وضع اللفظ اعتبارا على المعنى ، يكون منشأ لدلالة اللفظ على المعنى.

هذا هو الوجه الأول من وجوه مذهب الاعتبار ، وقد اعترض عليه السيد الأستاذ (١) باعتراضين مترتبين ، بمعنى أنّ ثانيهما ينشأ من أولهما :

الاعتراض الأول : هو أن وضع اللفظ للمعنى ليس مرجعه إلى اعتبار وضع من هذا القبيل ، لأنّ وضع العلم على رأس الفرسخ هذا فيه ثلاثة عناصر :

أحدهما : الموضوع وهو العلم.

والثاني : الموضوع عليه وهو المكان.

والثالث : الموضوع له وهو ما يكون دالّا عليه وهو عبارة عن كونه رأس الفرسخ.

فهذه ثلاثة عناصر موضوع وموضوع عليه وموضوع له ، الموضوع هو العلم. والموضوع عليه هو هذا المكان. والموضوع له هو رأس الفرسخ.

فلو قيل بأن وضع اللفظ للمعنى هو اعتبار لذلك المطلب بنفسه ، إذن نحتاج إلى ثلاثة عناصر ـ موضوع ، وموضوع عليه ، وموضوع له ـ مع أنه لا يوجد عندنا إلّا عنصران ـ الموضوع وهو اللفظ ، والموضوع عليه : وهو المعنى ، ولا يوجد شيء ثالث نسميه موضوعا له ـ إذن فعملية وضع اللفظ

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ـ فياض ج ١ ، ص ٤٧ ، هامش أجود التقريرات ـ الخوئي : ص ١١ ، بدائع الأفكار ـ العراقي : ص ٣٠.

٣٠

للمعنى ليست مشابهة لعملية وضع العلم على رأس الفرسخ ، أو البئر ، لأنّ هناك في وضع العلم على رأس الفرسخ يوجد ثلاثة عناصر ، وفي هذا الوضع يوجد عنصران فقط ، الموضوع والموضوع عليه ، ولا يوجد موضوع له.

الاعتراض الثاني : هذا الاعتراض ناشئ من الاعتراض الأول ، وهو : أنه تبين أن المعنى هو الموضوع عليه ، مع أننا نقول عادة إن المعنى هو الموضوع له لا الموضوع عليه ، فكيف صحّ أن ينتزع من الموضوع له عنوانا اسمه الموضوع عليه مع أن هذا غير معروف؟.

الرد على كلا الاعتراضين :

وكلا الاعتراضين مع أصل الوجه ممّا لا يمكن المساعدة عليه ؛ فإذا ما بقينا مع هذين الاعتراضين فقط ، فبإمكان صاحب هذا الوجه دفع كليهما :

أمّا دفع الاعتراض الأول : وهو أنه لا يوجد في وضع الألفاظ للمعاني ثلاثة عناصر ـ موضوع ، وموضوع عليه ، وموضوع له ـ كما هو الحال في الوضع الخارجي ـ في وضع العلم على رأس الفرسخ أو البئر ـ بل يوجد عنصران موضوع وموضوع عليه :

هذا الاعتراض جوابه : إنّ الموضوع عليه والموضوع له ، أحيانا يكون بينهما تغاير خارجي حقيقي ، كما هو الحال فيما لو وضعنا علما على الأرض المسبعة ـ أي : كثيرة الحيوانات المفترسة ـ للدلالة على أنّ في هذه الأرض حيوانات مفترسة ، حينئذ هنا الموضوع هو العلم ، والموضوع عليه هو الأرض ، والموضوع له هو وجود الحيوانات المفترسة ، فهنا الموضوع عليه ، والموضوع له ، متغايران خارجا وإشارة ، إذ إن الأرض شيء ، والحيوانات شيء آخر.

وأحيانا أخرى ، يكون الموضوع له عين الموضوع عليه ، غاية الأمر أن الفرق بينهما فرق تحليلي ، لا فرق خارجي إشارتي ، كما هو الحال في وضع العلم على رأس الفرسخ. فالموضوع عليه هو الأرض ، وهذه الأرض هي

٣١

بنفسها رأس الفرسخ ، ورأس الفرسخ هو هذه الأرض وليس شيئا آخر غير هذه الأرض. فهذه الأرض هي أرض مخصوصة نراها بأعيننا ، وهي بنفسها رأس الفرسخ ، وهذه الأرض بما هي أرض مرئية بأعيننا موضوع عليه ، وبما هي موصوفة بأنها رأس الفرسخ هي موضوع له.

فالفرق إذن بين الموضوع عليه ، والموضوع له ، ليس فرقا خارجيا إشاريا ، بحيث يوجد شيئان ، بل يوجد شيء واحد ، وهذا الشيء الواحد ينحل إلى صفتين ، بلحاظ أنه أرض مخصوصة نراها بأعيننا ، تكون موضوعا عليه ، وبلحاظ أنها رأس الفرسخ ، تكون موضوعا له.

فمثلا : لو نصبنا علما على الأرض الذهبية ، فهنا الموضوع عليه هو الأرض الذهبية ، والموضوع له هو الأرض الذهبية ، لكن مع الفرق التحليلي ، فالموضوع عليه هو ذات الأرض ، والموضوع له هو كونها ذهبية ، فالفرق بينهما هو فرق تحليلي.

ومحل الكلام يمكن أن يدّعى أنه من قبيل الثاني لا الأول ، بمعنى أن الموضوع عليه والموضوع له شيء واحد ، لكنه بلحاظين ، وبالتحليل يكون أحدهما غير الآخر ، وذلك أن الواضع يضع لفظة (أسد) على المعنى المستعمل فيه ، فالموضوع عليه هو المعنى المستعمل فيه ، والموضوع له هو كون هذا الحيوان مفترسا ؛ إذن عندنا هنا موضوع ، وموضوع عليه ، وموضوع له موازية مع الوضع في باب العلم ، الموضوع هنا هو اللفظ في مقابل العلم هناك ، والموضوع عليه هنا ، هو المعنى المستعمل فيه في مقابل الأرض هناك ، لكن المعنى المستعمل فيه على إجماله ، والموضوع له هنا ، هو بيان أن المعنى المستعمل فيه ، هو الحيوان المفترس ، كما أن الموضوع له هناك هو بيان أن هذا المكان المخصوص هو رأس الفرسخ ، وكما أنّ المكان المخصوص هو عين رأس الفرسخ خارجا ، كذلك الحيوان المفترس هو عين المعنى المستعمل فيه خارجا ، لكن الفرق بينهما فرق تحليلي ، وبهذا وجدت العناصر الثلاثة.

وبهذا البيان اتضح كذلك أنّ الاعتراض الثاني غير وارد أيضا ، فإنّ

٣٢

الاعتراض الثاني ، كان مفاده ، أنه لازم هذا البيان أن يكون المعنى هو الموضوع عليه ، لا الموضوع له ؛ لكن صار واضحا ممّا بيناه ، أنّ اللفظ وضع على المعنى المستعمل فيه على إجماله ، ليدلّ عليه على إجماله ، فالموضوع له بحسب الحقيقة هو كون المعنى المستعمل فيه هو الحيوان المفترس ، فقد أصبح المعنى هو الموضوع له بهذا الاعتبار ، لا إنه متمحّض في الموضوع عليه.

وإن شئتم قلتم : بأن المعنى أصبح له لحاظان ؛ بما هو المعنى المستعمل فيه على إجماله ، يكون بمثابة المكان المخصوص على إجماله ، وبلحاظ أنه هو الحيوان المفترس ، يكون هو الموضوع له ، كما أن رأس الفرسخ هو الموضوع له.

إذن فالمعنى بأحد اللحاظين يكون هو الموضوع له ، فلا يبقى غرابة من هذه الناحية ، إذن كلا الاعتراضين لا يمكن المساعدة عليه بالنسبة لهذا الوجه.

نقض الوجه الأول :

وهذا الوجه غير صحيح ، ولا ينفع إلّا للتلاعب بالألفاظ ، ولقلقة اللسان ، وذلك لأنّ هذا الوجه يريد أن يجعل وضع اللفظ للمعنى اعتبارا للوضع الخارجي ، يقول : هنا أعتبر ذاك الوضع الخارجي في باب الأعلام ، فكما أنّ العلم هناك يكون دالّا ورأس الفرسخ مدلولا ، هنا كذلك ، الوضع الخارجي أوجده بالاعتبار.

وهذا إشكال واضح فإن الوضع الخارجي ليس بأشد وبأحسن حالا من الوضع الاعتباري ، ونحن إذا حاسبنا حساب الوضع الخارجي الحقيقي ، نجد أنّ وضع العلم على رأس الفرسخ ، ما لم ينضم إليه عناية من الخارج ، لا يدلّ على أن هنا رأس الفرسخ ، كما لو وضع الإنسان علما على رأس الفرسخ ، وهو نائم ، دون أن يكون لديه بناء كلي على أن يضع الأعلام على رءوس الفراسخ ، حينئذ لا يكون وضع العلم على هذا المكان ، دليلا على رأس الفرسخ ، فالوضع بوجوده الخارجي التكويني ، ما لم ينضم إليه عناية نفسانية

٣٣

وقصدية من قبل الواضع التكويني ، لا يكون هذا الوضع دالّا على أن هذا العلم كاشف على رأس الفرسخ ، وإنما يكشف على أن هنا رأس الفرسخ ، لو انضم إلى الوضع الخارجي عناية وأمر آخر نفساني.

وبهذا تبين : إنّ الوضع الخارجي بمجرده ، لا يكون كافيا لإيجاد دلالة الموضوع على الموضوع عليه ، فكيف يكون اعتباره كافيا لذلك؟ فإن الشيء بوجوده الخارجي إذا لم يكن دالّا ، فكيف يكون دالّا بوجوده الاعتباري ما لم ينضم إليه تلك النكتة الإضافية؟ ونحن بحاجة لمعرفة تلك النكتة الإضافية وإبرازها ، وما لم نبرز تلك النكتة ونضمها إلى الوضع الخارجي ، لا يمكن القول بأن الوضع الخارجي بمجرده تحصل الدلالة.

وإن شئتم قلتم : إنّ إيجاد الشيء بالاعتبار لا يمكن أن يترتب عليه أثر في المقام ، إلّا أن وجوده الحقيقي يكون منشأ لذلك الأثر ، وفي المقام ، الوضع بوجوده الحقيقي ، ما لم ينضم إليه نكتة ، لا يكون منشأ للدلالة. إذن فاعتباره أيضا ما لم ينضم إليه نكتة ، لا يكون منشأ للدلالة ، فلا بد من صرف عنان الكلام إلى بيان تلك النكتة. هذا هو الجواب عن الوجه الأول في المقام.

الوجه الثاني :

الوجه الثاني من وجوه تصوير هذا المسلك هو أن يقال : بأن الوضع هو عبارة عن الاعتبار ، والمعتبر هو كون اللفظ عين المعنى ، وكون اللفظ وجودا للمعنى ، فكأن الواضع حينما يلتفت إلى اللفظ والمعنى ، فهو يرى المغايرة بينهما ، لأنّ الحيوان المفترس شيء ، ولفظة ـ أ ـ س ـ د ـ شيء آخر ، فهو مغاير ومباين لتمام المعنى ، والمباين لا يكون دالّا على مباينة.

ومن أجل أن يوجد دلالة اللفظ على المعنى ، يعتبر أن اللفظ وجود للمعنى ، فإذا اعتبر كون اللفظ وجودا للمعنى ، فحينئذ يكون اللفظ بواسطة كونه وجودا للمعنى بالاعتبار ، دالّا على المعنى ، لأنه بهذا الاعتبار هو نفسه وعينه. ومن المعلوم حينئذ أنه إذا كان اللفظ نفس المعنى ، فيمكن للفظ أن

٣٤

يرينا المعنى ، وهذا معنى دلالة اللفظ على المعنى.

وهذا الوجه قد ناقشه السيد الأستاذ (١) ، وحاصل مناقشته : إن مرجع هذا الوجه إلى تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، على حدّ تنزيل الطواف حول البيت منزلة الصلاة في قوله (ع) : «الطواف في البيت صلاة» ، والتنزيل لا يعقل إلّا إذا كان هناك أثر للمنزّل عليه ، فيراد بالتنزيل تسرية ذلك الأثر إلى المنزّل ، فيكون الأثر الثابت للمنزل عليه ثابتا بواسطة التنزيل للمنزّل كما هو الحال في قوله (ع) : «الطواف في البيت صلاة» ، فإنّ المنزّل عليه هو الصلاة ، والمنزل هو الطواف ، والمنزل عليه ، وهو الصلاة ، له أثر ، وهو اشتراط الطهارة مثلا.

وحينما يقول : «الطواف في البيت صلاة» ، فيكون معنى التنزيل إسراء ذلك الأثر الثابت للصلاة ، إلى الطواف ، فيعتبر في الطواف حينئذ الطهارة ، كما يعتبر في الصلاة.

إذن فلا بد وأن يكون هناك أثر للمنزّل عليه يسري بحكم التنزيل إلى المنزل.

وهنا إذا فرضنا أن الوضع كان عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، فلا بد وأن يكون هناك أثر من آثار المعنى يترتب على اللفظ بواسطة التنزيل ، مع أننا نرى أنه لا يوجد أي أثر من آثار المعنى للفظ ، فالمعنى وهو الحيوان المفترس ، يأكل ، ويشرب ، إلى غير ذلك ، بينما كلمة (أسد) لا يترتب عليها أيّ أثر من تلك الآثار.

وهذه المناقشة مرجعها إلى أمرين :

الأمر الأول : اعتبار كون اللفظ وجودا للمعنى ، مرجعه إلى التنزيل ، أي : تنزيل اللفظ منزلة المعنى.

الأمر الثاني : إنّ التنزيل لا بدّ فيه من أن يجري فيه بعض أحكام المنزل

__________________

(١) هامش أجود التقريرات ـ الخوئي : ص ١٢.

٣٥

عليه على المنزل ، بينما هنا لا نرى شيئا من آثار المعنى يثبت للفظ ، فلا يعقل التنزيل حينئذ.

إلّا أن هذه المناقشة مدفوعة :

أمّا بالنسبة إلى الأمر الأول وهو أن اعتبار كون اللفظ وجودا للمعنى ، مرجعه إلى تنزيل اللفظ منزلة المعنى : فهو غير مسلّم ، فإن اعتبار كون اللفظ وجودا للمعنى لا يعني حمله على التنزيل ، وتوضيح ذلك يكون ببيان مقدمة مشابهة لمحل الكلام وهي :

إن الميرزا «قدس‌سره» ادّعى في بحث جعل الطرق والإمارات (١) ، أن خبر الواحد جعل علما وقطعا طريقيا ، وهناك أشكل على الميرزا الإشكال نفسه الذي أشكله السيد الأستاذ (٢) ، وحاصله : إن الإمارة إذا كانت قد اعتبرت علما وطريقا بتنزيل الشارع ، فلا بدّ حينئذ ، أن يكون هناك حكم شرعي للطريق ، حتى يسري بالتنزيل إلى تلك الإمارة ، مع أن القطع الطريقي ليس له أثر شرعي ، حيث أن أثره المنجّزية والمعذّرية ، وهما من حكم العقل لا الشرع ، فلا معنى لأن ينزل الشارع الإمارة منزلة القطع الطريقي.

وقد أجاب الميرزا «قدس‌سره» ، عن هذا (٣) : بأنّ المدّعى ليس هو أن الإمارة منزّلة منزلة القطع ، بل كونها فردا من القطع بالاعتبار ، وفرق بين المطلبين ؛ فمرة نفرض أن المولى قال جعلت الأمارة بمنزلة العلم والقطع ، وحينئذ يرد الإشكال المذكور ، ومرة أخرى لا يكون لسانه لسان التنزيل ، وجعل الإمارة بمنزلة القطع الطريقي ، بل لسانه لسان الاعتبار ، فيعتبر أنّ الأمارة علم وقطع. والاعتبار سهل المئونة ، لا يحتاج إلى أن يكون هناك أي أثر للمنزل عليه ، ليسري للمنزل ، وبهذا دفع الميرزا الإشكال.

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ٤ ، ص ١٧٧ ـ ١٧٨ ـ ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٢) أجود التقريرات : ج ١ ، ص ١٢.

(٣) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ٤ ص ١٧٨ ـ ١٧٩ ـ ١٨٠.

٣٦

وإذا اتضح الفرق بين باب التنزيل ، وباب الاعتبار نقول :

إنه يمكن أن يدعي صاحب هذا الوجه الثاني لمسلك الاعتبار ، أن الوضع ليس هو تنزيل الواضع للفظ منزلة المعنى ، حتى نسأله أنّه منزل بأي أثر ، بل هو اعتبار ، فرض أن اللفظ وجود للمعنى ، من قبيل أن نفرض أن وجود العالم وجود للأحكام ، فهذه اعتبارات سهلة المئونة ، لا تحتاج إلى وجود أثر شرعي للمنزل عليه يسري إلى المنزل.

وبهذا يندفع الإشكال. فإنه كما صحّ عند الميرزا وأصحابه جعل الإمارة علما وقطعا مع أنه لا يوجد أثر شرعي للقطع الطريقي ، كذلك يصح جعل اللفظ للمعنى ، مع أنه لا يوجد أثر للمعنى. هذا بالنسبة إلى الأمر الأول.

وأمّا بالنسبة إلى الأمر الثاني : فقد يقال : إنه لو سلّمنا أنّ باب الوضع هو باب التنزيل ، لا باب الاعتبار ، فحينئذ ، اللفظ لا يترتب عليه أثر من آثار المعنى ، فكيف يكون قائما مقامه ومنزلا منزلته؟.

وقد يجاب عن هذا بأن يقال : إنه إن كان المقصود من أثر المعنى الأثر الخارجي ، ككون الأسد يأكل ، ويشرب ، وغير ذلك ، فهذا صحيح بحيث أن هذا لا يترتب على لفظة (أسد) ، إلّا أن هناك أثرا مهما من آثار المعنى ، مترتب على اللفظ ، وهو أن المعنى كان له خصوصية ، وهي الإحساس بالحيوان المفترس ووقوع العين عليه خارجا ، بحيث يوجب تصور صورته ذهنا. فهذا أثر من آثار المعنى ، وهذا الأثر والخصوصية تحصل للّفظ بواسطة وضعه للمعنى ، فإنه متى ما وقع اللفظ في حسّنا بأن رأينا كلمة (أسد) ، أو سمعناها ، أو قرأناها ، فحينئذ ، ينتقل إلى ذهننا صورة الحيوان المفترس. فالخصوصية نفسها التي كانت موجودة للمعنى أصبحت موجودة للفظ ، وهي خصوصية أن الإحساس به يوجب تصوره في الذهن ، وهذه الخصوصية كانت في المعنى فقط ، وبعد الوضع أصبحت باللفظ أيضا ، فهذا أثر مهم للمعنى يترتب على

٣٧

اللفظ بواسطة الوضع ؛ وحينئذ فلو بقينا نحن ومناقشة السيد الأستاذ لما أمكن إبطال هذا الوجه.

والصحيح في إبطال هذا الوجه الثاني من وجوه مسلك الاعتبار أن يقال :

إنّ هذا الأثر ، وهذه الخصوصية التي كانت ثابتة للمعنى ، وهو أنه عند الإحساس بالمعنى ، يتصور الذهن صورة الحيوان المفترس ، هي خصوصية تكوينية للمعنى.

فحينئذ نقول : إن هذه الخصوصية كيف أمكن تسريتها للّفظ بمجرد التنزيل الاعتباري للّفظ منزلة المعنى؟ وكيف تسري الخصوصية التكوينية للمنزل عليه إلى المنزل بواسطة التنزيل؟ فإنه لو كان بالإمكان إسراء الخصوصيات التكوينية للمنزل عليه إلى المنزل ، لكان تنزيل الماء منزلة النار موجبا لأن تسري خصوصية الإحراق التي هي من خصوصيات النار إلى الماء ، وهذا لا يقول به عاقل.

ولا فرق بين الخصوصيات التكوينية ليمكن تسرية الخصوصية من محلها إلى غير محلها في بعض الخصوصيات دون البعض الآخر ، ومجرد كون الوضع عبارة عن اعتبار كون اللفظ وجودا للمعنى ، لا يوجب فرقا بين هذه الخصوصية فيمكن التسرية فيها ، وغيرها من الخصوصيات لا يمكن التسرية فيها.

الوجه الثالث :

وممّا تقدم ذكره ، يظهر حال الوجه الثالث من وجوه تصوير مسلك الاعتبار. وحاصل هذا الوجه أن يقال : بأن الوضع عبارة عن الاعتبار ، بمعنى اعتبار كون اللفظ أداة لتفهيم المعنى ، حيث أن الأداتية ، تارة تكون تكوينية ، وأخرى تكون اعتبارية ، فالصابون والماء مثلا أداة تكوينية للنظافة ، واللفظ أداة

٣٨

اعتبارية لتفهيم المعنى ، وحينئذ فالوضع عبارة عن اعتبار اللفظ أداة لتفهيم المعنى.

وهذا الوجه يظهر بطلانه ممّا ذكرنا ، فإنّ أصحاب مسلك الاعتبار لم يتكلموا في أصل الإشكال ، وهو أنه كيف حصلت هذه السببية بين اللفظ والمعنى بالاعتبار ، مع أن هذه لا تحصل بين شيئين بمجرد الاعتبار ، فإنه بمجرد اعتبار كون الماء نارا ، لا تحصل حينئذ السببية بين الماء والنار ، فكان الواجب أن يبينوا كيفية حصول السببية بين اللفظ والمعنى بالاعتبار ، سواء أكان المعتبر هو وضع اللفظ على المعنى ، كما هو مقتضى الوجه الأول للتصوير ، أو كان المعتبر هو كون اللفظ عين المعنى ، أو وجودا له كما هو مقتضى الوجه الثاني للتصوير ، أو كان المعتبر هو كون اللفظ أداة لتفهيم المعنى كما هو مقتضى الوجه الثالث للتصوير.

ولكنهم تركوا هذا ، وصاروا في مقام تصوير بيان ما هو المعتبر ، وأنه هل هو وضع اللفظ على المعنى ، أو كون اللفظ وجودا للمعنى ، أو كون اللفظ أداة لتفهيم المعنى؟ وهذا الكلام لا معنى له في كلامنا.

إذن فمسلك الاعتبار قاصر عن تصوير حقيقة الوضع كمسلك التعهد.

٣٩
٤٠