بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

الحقيقة الشرعية

الكلام فيها يقع في ثلاثة محاور :

١ ـ المحور الأول : في بحث الثبوت.

٢ ـ المحور الثاني : في بحث الإثبات.

٣ ـ المحور الثالث : في تصوير ثمرة البحث.

المحور الأول ـ في بحث الثبوت :

والكلام في المحور الأول يقع في الأنحاء الممكنة من الوضع ، بحيث يمكن صدورها في مقام إيجاد الحقيقة الشرعية.

لا إشكال في أن الحقيقة الشرعية ، يمكن إيجادها بالوضع التعيّني والوضع التعييني. غير أن المحقق الخرساني (١) (قده) قد تعرض هنا إلى مطلب ، موضعه المناسب ، هو باب الوضع ، وهذا المطلب هو أن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح قد يحصل بنفس الاستعمال. وهذا المطلب ، وإن كان لا يختص بباب الألفاظ الشرعية ، لأنه مطلب كلي ، غير أن المحقق الخراساني (قده) تعرض له هنا ، لأنه يريد أن يكسر سورة استبعاد الوضع

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ / ص ٤٧.

٢٢١

التعييني ، حيث يستبعد جدا حصول الوضع التعييني بالتصريح من قبل النبي (ص). إذ لو كان قد حصل ، لنقل إلينا على ما يأتي. فبهذه المناسبة أبدى المحقق الخراساني شقا آخر في الوضع التعييني. ومن هنا وقع البحث الثبوتي في أن حصول الوضع بنفس الاستعمال ، هل هو أمر معقول أو غير معقول؟. والكلام في معقولية حصول الوضع بالاستعمال يقع على ثلاثة تقديرات :

١ ـ التقدير الأول : والكلام فيه يقع بناء على المسلك المختار في باب الوضع ، فقد تقدم إنّ الوضع أمر واقعي يوجده الواضع في ذهن السامع بقرن اللفظ بالمعنى ، قرنا أكيدا شديدا. وبناء على هذا التقدير ، فمن الواضح جدا معقولية إيجاد الوضع بالاستعمال ، فإنّ الاستعمال ليس إلّا وسيلة من وسائل القرن ، حيث يتوسل إليه الواضع تارة بالتصريح ، وأخرى بنفس الاستعمال ، فمعقولية إيجاد الوضع بالاستعمال في غاية الوضوح.

٢ ـ التقدير الثاني : هو إن الوضع أمر إنشائي فكما أن المعاملات أمور إنشائية تحصل بالإنشاء بقولك : «بعت» «وصالحت» ، كذلك الوضع علقة إنشائية تحصل بالإنشاء ، وفي هذا التقدير يوجد اتجاهان :

أ ـ الإتجاه الأول : وهو ما نقلناه سابقا عن السيد الأستاذ ، وحاصله : إن المطالب الإنشائية أمور نفسانية تبرز باللفظ ، فنسبة اللفظ إلى المطلب الإنشائي نسبة المبرز إلى المبرز ، لا نسبة السبب إلى المسبّب. فمثلا في باب البيع : هناك مطلب نفساني ، وهو اعتبار الملكية ، وهذا الاعتبار النفساني يبرز بقولك «بعت» وغيره.

ب ـ الإتجاه الثاني : وهو ما نسب إلى المشهور ، وحاصله : إن المطالب الإنشائية إيجادية يتسبّب إلى إيجادها باللفظ ، فبقولك «بعت» توجد شيئا لم يكن موجودا قبل التلفظ ، وغير ذلك من المعاملات.

فعلى الإتجاه الأول : لا يكون إيجاد الوضع بنفس الاستعمال أمرا معقولا ، لأن الاستعمال ليس أمرا نفسانيا بل هو أمر خارجي ، فالوضع لا بدّ

٢٢٢

من فرضه قبل الاستعمال ، بأن يكون هناك اعتبار ، أو تعهد نفساني قائم بنفس الواضع ، واللفظ يكون مبرزا له. إذن إيجاد الوضع بالاستعمال أمر غير معقول ، وإنما المعقول إبراز الوضع بالاستعمال ، فلا بدّ من تبديل العبارة ، فبدلا من القول بإيجاد الوضع بالاستعمال ، نقول : بإبراز الوضع بالاستعمال ، فالواضع حينما يعتبر في نفسه. أو يتعهد ، فتارة يبرزه صريحا بقوله «وضعت» ، وأخرى يبرزه بالاستعمال ، فإن أريد إيجاد حاق الوضع بالاستعمال فهو أمر غير معقول.

وعلى الإتجاه الثاني : يعقل تصوير الوضع بالاستعمال ، وذلك بأن يستعمل الواضع لفظة «الماء» في معناها ويتسبّب بنفس هذا الاستعمال إلى إنشاء العلقة الوضعية وإيجادها اعتبارا ، فكأنه يوجد استعمالان طوليان : الأول : استعمال لفظة «الماء» في المعنى الذي يراد وضع اللفظة له ، وهذا الاستعمال ليس إخبارا ولا إنشاء ، لأنها كلمة إفرادية ، والآخر : استعمال لنفس عملية الاستعمال ، ففي طول الاستعمال الأول تنشأ العلقة الوضعية ، وهذا الاستعمال الثاني يكون إنشاء لا محالة ، ويكون أمرا معقولا.

٣ ـ التقدير الثالث : هو إنّ الوضع مفهوم جامع بين الفرد الإنشائي والفرد الحقيقي ، ولعلّ هذا هو ظاهر الكفاية (١) حيث يقال بأن الوضع هو تعيين وتخصيص اللفظ ليدل على المعنى ، ومفهوم التعيين هذا يتصور له فردان :

أ ـ فرد إنشائي : وذلك بأن يقول «عيّنت» ، و «خصّصت» اللفظ الفلاني ليدل على المعنى الفلاني.

ب ـ فرد حقيقي : وذلك بنفس الاستعمال. فإنّ استعمال اللفظ في المعنى ليدل على المعنى ، هو تخصيص اللفظ واقعا للمعنى ، وهذا فرد واقعي لعملية التخصيص والتعيين ، وذاك فرد إنشائي من التخصيص.

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ / ص ٤٨.

٢٢٣

وهذا التصوير على هذا التقدير غير صحيح ، باعتبار أن استعمال اللفظ في المعنى يكون فردا واقعيا من الوضع فهذا غير صحيح ، لأن الاستعمال دائما يكون جزئيا بينما الوضع دائما يكون كليا. فدعوى أن الاستعمال فرد حقيقي من الوضع هو خلط بين تعيين الشخص وتعيين النوع ، فالاستعمال دائما تعيين شخص هذا اللفظ لهذا المعنى ، والوضع هو تعيين نوع هذا اللفظ لهذا المعنى ، فكيف يكون هذا فردا حقيقيا من ذاك؟. وبهذا اتضح حاق الكلام على التقادير الثلاثة ، إلّا أنه أشكل على هذا الاستعمال بإشكالين :

١ ـ الإشكال الأول : وحاصله (١) لزوم اجتماع اللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي ، فيما إذا أوجد الوضع بالاستعمال ، لأن في عالم الوضع يلحظ اللفظ والمعنى باللحاظ الاستقلالي. وفي عالم الاستعمال يلحظ باللحاظ الآلي. فإذا توحّد الوضع والاستعمال في مطلب واحد يلزم من ذلك اجتماع اللحاظ الآلي الاستقلالي.

وهذا الإشكال ليس بشيء بناء على التقدير الأول. فبناء على مسلكنا في أن الوضع أمر واقعي ، وقرن بين اللفظ والمعنى ، فلا يحتاج إلى لحاظ للفظ ولا للمعنى ، وذلك لأنّ الوضع ليس حكما جعليا يحتاج إلى لحاظ للفظ ولحاظ للمعنى ، بل الوضع أمر واقعي ، قد يحصل صدفة بلا فعل واضع ، وقد يحصل بكثرة الاستعمال ، مع أن في كثرة الاستعمال لا يوجد لحاظ استقلالي ، وإنما لحاظ آلي. إذن فلا يشترط في الوضع اللحاظ الاستقلالي للفظ والمعنى ، فلا يلزم اجتماع اللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي.

وأمّا بناء على التقدير الثاني : فإن قلنا بالاتجاه الذي ذهب إليه السيد الأستاذ من أنّ المطالب الإنشائية أمور نفسانية وأن اللفظ مبرز لها ، فمن الواضح عدم اجتماع اللحاظين ، لأن الوضع في عالم النفس والاستعمال في عالم التكلم الخارجي ، وهذا مبرز وذاك مبرز ، فاللحاظ الاستقلالي في عالم

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ / هامش ص ٤٨.

٢٢٤

المبرز واللحاظ الآلي في عالم الإبراز ، فلم يجتمعا في عالم واحد.

وإن قلنا بالاتجاه الثاني : بأن المطالب الإنشائية أمور تسببية إيجادية باللفظ ، فأيضا لا يجتمع اللحاظان ، لأنه يوجد كما بينا استعمالان طوليان : الأول : استعمال اللفظ في المعنى ، والثاني : استعمال هذا الاستعمال في مقام الإنشاء ، واللحاظ في الأول آلي ، ولحاظ الاستعمال في الثاني استقلالي ، فلم يجتمع اللحاظان في مرتبة واحدة ، بل أولا لوحظ اللفظ والمعنى باللحاظ الاستعمالي الآلي ، وثانيا لوحظ نفس الاستعمال مرة أخرى بلحاظ آخر ، فهنا استعمالان طوليان فلم يجتمع كلا اللحاظين.

وأمّا بناء على التقدير الثالث فلم نتعقله في نفسه حتى نتكلم بناء عليه.

٢ ـ الإشكال الثاني : وحاصله : إن الاستعمال إمّا أن يكون حقيقيا ، وإمّا أن يكون مجازيا. والاستعمال في المقام ليس حقيقيا ولا مجازيا ؛ أما أنه ليس حقيقيا ، لأن اللفظ لم يكن بعد موضوعا لهذا المعنى حتى يكون الاستعمال فيه حقيقيا. وليس مجازيا لأن المجازية فرع العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، وهو بعد لم يحصل له معنى حقيقي. إذن فالاستعمال في المقام ليس حقيقيا ، وليس مجازيا فهو غلط لا محالة.

وقد يتوهم في مقام دفع هذا الإشكال : بأن الاستعمال هنا حقيقي ، لأن الوضع وإن كان يحصل بنفس الاستعمال فيكون في طوله ، ومعلولا له ، ولكنه مقارن له زمانا ، لأن المعلول يقارن العلة زمانا. وحيث أن الاستعمال علة للوضع فيتقارنان زمانا ، فيكون اللفظ مستعملا في المعنى الموضوع له بالوضع الحاصل في نفس آن الاستعمال ، وهذا كاف في صيرورة الاستعمال استعمالا حقيقيا.

والتحقيق أن يقال : بأن الاستعمال على نحوين : استعمال تفهيمي واستعمال غير تفهيمي.

٢٢٥

والمراد بالأول : تفهيم المعنى ونقل ذهن السامع إلى المعنى ولو اقتضاء.

والمراد بالثاني : جعل اللفظ قالبا للمعنى ، وإلقاء اللفظ بنحو من اللحاظ كأنه المعنى من دون أن يكون هناك قصد وغرض في تفهيم السامع ، وإعداد ذهنه ، ولو اقتضاء.

وعليه : فإن كان المراد بالاستعمال في المقام الاستعمال التفهيمي : فالإشكال في محلّه ، وهو إنّ الاستعمال التفهيمي لا بد وأن يكون مستندا إلى الوضع ، أو مستندا إلى إحدى علاقات المجاز. إذ بدون الوضع ، وبدون إحدى علاقات المجاز ، لا يكون اللفظ مفهما للمعنى ، فلا يعقل الاستعمال التفهيمي. ولا ينفع في دفع الإشكال ، الدعوى المذكورة من معاصرة الوضع للاستعمال ، لأن فيه دورا واضحا. فإن الوضع الذي حصل في آن الاستعمال ، هو في طول الاستعمال التفهيمي ، فيتوقف عليه. والاستعمال التفهيمي يتوقف على الوضع فيكون دورا صريحا. هذا لو كان المقصود من إيجاد الوضع بالاستعمال إيجاد الوضع بالاستعمال التفهيمي ، ولكن هذا أول الكلام ، بل مقصودنا من ذلك إيجاد الوضع بالاستعمال غير التفهيمي ، لأنه إلقاء للمعنى بإلقاء اللفظ ، سواء أكان ذهن السامع مستعدا لفهم ذلك ، أو لم يكن مستعدا لذلك ، فإنّ استعمالية الاستعمال ليست متوقفة على كون اللفظ قابلا للتفهيم ، بل الاستعمال أمر محفوظ على كل حال ، ولهذا يعقل استعمال اللفظ في المعاني الأجنبية كأن يستعمل لفظة «الماء» ويريد الحجارة. وهذا الاستعمال أمر معقول ، ولكنه مستهجن عند العقلاء ، لأنه لا يتعلق به غرض عقلائي. إذن ففي المقام نقصد إيجاد الوضع بالاستعمال غير التفهيمي ، وهذا لا يعتبر أن يكون مستندا إلى الوضع ، أو إلى إحدى علاقات المجاز ، لأنه لم يقصد به التفهيم ، بل قصد به إيجاد الوضع ، وهذا غرض عقلائي ، فلا غرابة فيه عند العقلاء. فهذا الإشكال أيضا غير وارد. وبهذا يتضح أن إيجاد الوضع التعييني بالاستعمال أمر معقول ، وبهذا انتهى المحور الأول.

٢٢٦

المحور الثاني ـ في بحث الإثبات :

وحاصل الكلام في هذا المحور هو : إنّ الحقيقة الشرعية هل صدرت ، بمعنى أن الشارع هل تمّ على يده وضع اللفظ للمعنى الشرعي ، أو لم يتم ذلك؟.

نتكلم أولا في الوضع التعيني ، وثانيا في الوضع التعييني الحاصل بالتصريح ، وثالثا في الوضع التعييني الحاصل بالاستعمال.

أولا : الوضع التعيني

أمّا الوضع التعيني الحاصل بكثرة الاستعمال فالتسليم به في المقام يتوقف على عدة أمور :

١ ـ الأمر الأول : أن لا تكون هذه الألفاظ بأشخاصها ، قد استعملت في العرف العربي قبل النبي (ص) ، في نفس هذه المعاني ، وإلّا يكون استعمال النبي (ص) للفظ الصلاة مثلا تطبيقا لما سبقه من عرف عربي ، ولا يكون منشئا لوضع جديد.

٢ ـ الأمر الثاني : هو عدم إثبات الوضع التعييني من أول الأمر ، وإلّا لا تصل النوبة إلى الوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال ، والمحتاج إلى طول زمان ، بل يكون الوضع التعييني حينئذ منفيا.

٣ ـ الأمر الثالث : هو أن إثبات الوضع التعيني يتوقف على وجود كثرة استعمالية معتد بها ، بحيث تكفي لإيجاد العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى. وهذا الأمر الثالث قد يستشكل فيه في المقام بأحد تقريبين :

أ ـ التقريب الأول : أن يقال بأن الاستعمالات التي صدرت من النبي (ص) ، لا نحرز كثرتها بحيث تحقّق الكفاية لإيجاد العلقة الوضعية ، ولإيجاد الوضع التعيني. فلو أشركنا استعمالات النبي (ص) مع استعمالات الصحابة ، لكانت بمقدار ، بحيث تكفي للإيجاد العلقة الوضعية ، لكن حينئذ

٢٢٧

تكون تلك العلقة ناشئة من عمل الشارع والمتشرعة معا ، فلا تكون الحقيقة حقيقة شرعية.

والجواب على ذلك هو : إنّ الغرض الفقهي هو إثبات ظهور لفظ «الصلاة» في المعنى الشرعي على عهد النبي (ص) ، وهذا الظهور يثبت بحصول الوضع التعيني اجتماعيا سواء حصل هذا الوضع اجتماعيا بسبب استعمالات النبي (ص) فقط ، أو بسبب المجموع المركب من استعمالات النبي (ص) والصحابة. فعلى كلا التقديرين يحصل القرن الشديد في الذهنية الاجتماعية بين اللفظ والمعنى ، وهذا القرن يوجب تبادر المعنى من اللفظ ، وهذا هو معنى الظهور ، والظهور هو تمام الغرض في المقام ، فيكفي هذا لإثبات المطلب.

ب ـ التقريب الثاني : أن يقال بأن الكثرة من الاستعمالات ، وإن كانت موجودة ولو بضم استعمالات الصحابة إلى استعمالات النبي (ص) ، لكن هذه الكثرة كانت دائما مقرونة بالقرينة. وحيث أنها كذلك فلا تؤدي إلى الوضع التعيني ، لأنه يحصل باستعمالات بحيث يراد المعنى من اللفظ من دون أن ينضم إلى القرينة ، فكأن صاحب هذا التقريب يشترط في الوضع التعيني أن تكون الاستعمالات مجردة عن القرينة ، ولعلّ الوجه في هذا الاشتراط هو هذا البيان : إن القرن الشديد الحاصل بكثرة الاستعمال ما هو طرفاه؟.

فإن كانت الاستعمالات مقرونة بالقرينة دائما ـ الصلاة مع القرينة يراد بها المعنى الشرعي ـ إذن فالقرن سوف يحصل بين الصلاة المقيدة بالقرينة ، والمعنى الشرعي ، وليس بين ذات الصلاة والمعنى الشرعي. وهذا لا يكفي لحصول الوضع التعيني ، فإن الوضع يكون بحصول القرن الشديد بين ذات لفظ «الصلاة» المجرد عن القرينة والمعنى الشرعي.

ولكن هذا الكلام غير صحيح ، وذلك لأن القرينة لو كانت مشخّصة بعينها ، كأن كانت لفظا بعينه ككلمة (شرعية) عند ما يراد المعنى الشرعي ، يقال : الصلاة الشرعية ، فحينئذ الإشكال وارد ، لأن القرن في عالم الذهن صار

٢٢٨

بين المعنى الشرعي ، وبين كلمة صلاة شرعية. إذن فذات الصلاة لم يحصل بينها وبين المعنى الشرعي علقة وضعية ، هذا لو كانت القرينة دائما من سنخ واحد. لكن الأمر ليس كذلك ، فإنّ القرينة ولو سلّم وجودها في الاستعمالات المختلفة ، لكنها من أنواع شتى ، فتارة تكون كلمة ، وأخرى تكون حالا ، وثالثة ارتكاز ، ورابعة فعلا وهكذا ؛ ففي مثل ذلك ، القرن يحصل بين المعنى واللفظ المحفوظ في تمام الموارد ، وأما القرائن فباعتبار تكثّرها لا تبقى تحت القرن ، فلفظ «الصلاة» في كل مورد ، له سنخ قرينة يختلف عن سنخ القرينة في المورد الآخر. فالقرن يحصل بين ذات لفظ «الصلاة» والمعنى الشرعي ، وبذلك يتم الوضع التعيني.

إذن فالوضع التعيّني يتوقف على أمور ثلاثة. الأمر الثالث تام في نفسه ، وهو وجود استعمالات كثيرة بالدرجة المطلوبة لإيجاد العلقة الوضعية والأمر الأول والثاني يأتي الكلام فيهما تباعا.

الوضع التعييني الحاصل بالتصريح :

إنّ احتمال أن يكون النبي (ص) قد وضع لفظ «الصلاة» للمعنى الفلاني صريحا ، ساقط ، لأن الواضع حينما يوجد وضعا بهذه الكيفية ، إنما يريد به أن يوجد لغة وعرفا لغويا ، وهذا لا يكون إلّا بإلقاء ذلك على المجتمع ، لأنه يريد بذلك إيجاد اللغة ، واللغة ظاهرة اجتماعية ، وليست فردية ، فالغرض من الوضع غرض اجتماعي ، ولا يحصل إلّا بإلقاء المطلب على المجتمع ، ولا يحتمل أن النبي (ص) ألقى المطلب اجتماعيا ، ولم ينقل ذلك مع التحفظ على نقل كل ما يسترعي الانتباه في سيرته وأقواله ، فإحتمال الوضع التعييني التصريحي ساقط بهذا التقريب.

الوضع التعييني الحاصل بكثرة الاستعمال :

لا غرابة في ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الاستعمالي ، بحيث أنّ هذا الوضع يفترض صدور الاستعمال غير التفهيمي من قبل النبي (ص).

٢٢٩

فما أكثر الاستعمالات الصادرة عنه ، ولعل أولها كان استعمالا إعلاميا في مقام إيجاد الوضع به ، وهذا أمر معقول في نفسه ، ولكن لا بد من إقامة الدليل عليه ، والمتحصّل في كلماتهم مركّب من كبرى وصغرى :

فالكبرى : هي أن السيرة العقلائية قائمة على أن المخترع يوجد وضعا معينا ، ولفظا مخصوصا للمعنى الذي اخترعه.

والصغرى : هي أن النبي (ص) يعتبر مخترعا لهذه المركبات الاعتبارية بحيث جعل لها أجزاء وشرائط.

والكبرى تنطبق على النبي (ص) باعتباره مخترعا ، فيستكشف من ذلك أنه أوجد الوضع بالنسبة إلى هذه المعاني الجديدة المخترعة ، وحيث أنه لم يصرح بذلك فيحمل الوضع على الوضع الاستعمالي.

ومن الواضح أن هذا الدليل بهذه الصيغة قاصر عن إثبات المقصود ، وذلك لأننا لو سلّمنا بالصغرى والكبرى ، فغاية ما يفيد ، الظن بأن النبي (ص) لم يتجاوز السيرة العقلائية ، ولا يمكن حصول الجزم بذلك ، ولا دليل على حجية مثل هذا الظن. لكن هذه الصيغة في الاستدلال يمكن إجراء تعديل عليها ، بحيث تكتسب صفة فنية ، وهذا التعديل هو أن نقول : إنّ السيرة العقلائية للمخترعين ، وكون ديدنهم أن يضعوا ألفاظا معينة لإفادة المعاني التي يخترعونها ، إذن يحدث ظهورا عرفيا في نفس الاستعمال الأول الذي يصدر من النبي (ص) مقتضاه وطبعه ، أنه يوجد الوضع بالاستعمال الأول ، فهذا الطبع العرفي يدل بالالتزام على أن الاستعمال الأول ظاهر عرفا في أنه في مقام إيجاد الوضع ، فيكون ظهورا لفظيا عرفيا. وفرق بين هذا البيان وسابقه : حيث أن هذا البيان ، وأن لم يوجب الجزم بحصول الوضع بالاستعمال ، بل أوجب الظن ، ولكن هذا الظن مرجعه إلى الظهورات العرفية اللفظية ، وبذلك يكون هذا الظن حجة ، بينما في البيان السابق كان الظن ظنا مجردا ، بأن النبي (ص) قد وافق طريقة العقلاء ؛ وبهذا البيان يمكن إصلاح ذلك الدليل ، وبعد إصلاحه يمكن أن نشكل عليه بمنع الصغرى التي مفادها : إنّ الشارع مخترع لهذه

٢٣٠

المعاني ، فنقول : إنّ الشارع ليس مخترعا لهذه المعاني ، بل هي كانت موجودة قبل الإسلام ، والشارع عبّر عنها. فالمعاني ليست مستحدثة ، فلا يشمله كبرى السيرة العقلائية.

وهذا المطلب وهو كون المعاني سابقة قبل الإسلام ، يمكن الاستيناس له بكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي وردت في أحوال الأنبياء السابقين على اختلاف مراتبهم ، فإن استقراء الآيات على الأقل في خصوص «الصلاة» مثلا ، يدل على أن الصلاة كانت أمرا معهودا ثابتا في تمام الشرائع ، فشأنها شأن الإيمان بالله واليوم الآخر ، يدخل في القدر المشترك ما بين هذه الرسالات المختلفة ، وحينئذ يظهر من هذه الآيات أن هذه المعاني ليست مخترعة بل قديمة.

وهنا قد يستشكل في هذا الاستيناس بأن هذه الآيات ومنها (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) وإن كانت تدل بأن هناك صلاة ، وزكاة ، وغير ذلك ، ولكن من قال بأن كلمة «الصلاة» في الآية المذكورة قد استعملت في المعنى الشرعي؟. فلعلها استعملت في المعنى اللغوي؟.

فإن قيل : بأن كلمة «الصلاة» في عهد صدور هذه الآية كان معناها الحقيقي هو المعنى الشرعي ، فنحملها على المعنى الشرعي من باب أصالة الحقيقة ، وهذا معناه الاعتراف بثبوت الحقيقة الشرعية وهذا هو المطلوب.

وإن قيل : بأن كلمة «الصلاة» لم يثبت كونها حقيقة في المعنى الشرعي ، إذن كيف يمكن أن نعرف أن المراد منها المعنى الشرعي. لكي نثبت أن عيسى (ع) كان قد أوصي بالصلاة بالمعنى الشرعي؟.

إذن فهذه الآيات الكريمة لا يمكن أن تكون دليلا على ثبوت الصلاة بالمعنى الشرعي عند الأنبياء السابقين ، إلّا إذا اعترفنا بالحقيقة الشرعية بحيث أن هذه الألفاظ هي حقيقة بالمعنى الشرعي في أيام النبي (ص) ، وإذا لم

٢٣١

نعترف بذلك فلعل المراد منها المعنى اللغوي ، فكيف يمكن إثبات كون المعاني قديمة وغير مستحدثة؟.

إلّا أنّ هذا الإشكال في غير محله وذلك بتقريبين :

التقريب الأول : إننا نسلّم بالحقيقة الشرعية ولو بلحاظ كثرة الاستعمال ، فنحن نسلم بأن لفظة «الصلاة» صارت حقيقة في المعنى الشرعي بعد مضي زمان ، ولو بكثرة الاستعمال ، فنجري أصالة الحقيقة في الآيات التي تحدثت عن وجود الصلاة في الشرائع السابقة ، ونثبت بأصالة الحقيقة أن المقصود بوجودها وجود المعنى الشرعي ، خصوصا الآيات المدنية التي نزلت بعد سنين ، وبعد أن تمّت كثرة الاستعمال ، وتحقق أنس وضعي استعمالي بين اللفظ والمعنى ، ومحل النزاع هو الوضع التعييني. ونحن نعترف بالوضع التعيني ، ونجري أصالة الحقيقة بلحاظ الوضع التعيني في هذه الآيات ، ونثبت أن هذه المعاني الشرعية كانت ثابتة قديما ، وعليه : فالنبي (ص) لم يكن هو المخترع ، إذن فلا موجب لتطبيق السيرة العقلائية عليه.

والتقريب الآخر هو : إنه يكفي الشك في المقام ، فإنّ هذه الآيات توجب احتمالا كبيرا بأن الصلاة بالمعنى الشرعي كانت موجودة في الشرائع السابقة ، والاحتمال يبطل الاستدلال ، فإن الدليل كان متوقفا على صغراه وكبراه ، فإذا نشأ احتمال كبير بأن النبي (ص) ليس مخترعا ، بل المعنى الشرعي للصلاة كان موجودا من الأول ، فهذا الاحتمال يكفي لإبطال الدليل ، وإن لم يتعين المعنى الشرعي.

أضف إلى ذلك قدم لفظة «الصلاة» وأمثالها ، والذي يقرّب هذا المدّعى أنّ العرب الذين كانوا يدينون باليهودية والنصرانية ، ويمارسون تلك المعاني الشرعية القديمة ، بما ذا كانوا يسمّون تلك المعاني؟. هل كان يعبّر عنها بالصلاة ، أو بغير الصلاة ، أو لم يكن يعبّر عنها بشيء؟.

أما إنه لا يعبر عنه بشيء فهذا غير صحيح ، إذ كيف كان يوجد فعل

٢٣٢

شائع ، ولا يصطنع له أسلوب في مقام التعبير عنه؟.

وأما أنه كان يعبر عنه بغير كلمة «الصلاة» فهذا أيضا غريب ، لأنه لو كان يوجد كلمة أخرى تدل على هذا المعنى في لغة العرب ، وفي أعرافهم ، لما أمكن عادة أن تختفي هذه الكلمة دفعة واحدة بمجرد ظهور الإسلام ، بحيث لا يبقي لها أثر في القرآن ، ولا في الحديث ولا في الخطب فهذا غير محتمل عادة. نعم بعد أن جاء الإسلام استغني عن تلك الكلمة بالتدريج ، لكن هذا يتطلب الاختفاء التدريجي ، مع أنه لا يوجد في تراث العرب في صدر الإسلام كلمة أخرى تعطي هذا المعنى.

إذن فهذا أيضا بعيد جدا فالمتعيّن أنهم كانوا يستعملون لفظ «الصلاة» ، و «الصيام» ، ونحو ذلك ، في نفس هذه المعاني الشرعية ، وأن النبي استعمل ذلك بوصفه إنسانا عربيا ، وكذلك القرآن بوصفه كتابا عربيا.

وممّا يؤيد ذلك : أنه ورد في القرآن نسبة الصلاة إلى الكفار والمشركين ، حيث أن ظاهر القرآن أن هناك عملا كان المشركون يسمونه صلاة (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً.) لكن النبي (ص) يقول : إنّ هذا ليس بصلاة حقيقة ، وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) لا يقصد منه إلّا الكفار بحسب ظاهر السياق.

ومما يؤيد ذلك أيضا : ورود كلمة «الصلاة» في (إنجيل برنابا) بقطع النظر عن صحته وعدمها. فهذا الشخص العربي الذي كتب هذا النص ، فقد عبّر عن المعنى الشرعي بالصلاة ، وهذا التعبير بنفسه يكون مؤيدا بأن هذا اللفظ بشخصه كان موجودا في البيئة العربية قبل الإسلام.

وهناك مؤيدات عديدة على أن هذه الألفاظ كانت موجودة قبل الإسلام ، فكلمة «الحج» من القطع أنها كانت موجودة ، لأنه عبادة عند تمام العرب ، فالمشركون منهم كانوا يتعبدون به في كل سنة ، وأحد أسماء السنة في لغة العرب هو «الحجّة» فيقولون : «ثمان حجج أي : ثمان سنين».

٢٣٣

إذن بناء على هذه البيانات ، فالظن كبير بأن الألفاظ فضلا عن المعاني ، كانت موجودة في البيئة العربية قبل الإسلام ، وأنّ النبي (ص) لم يخرج عن حدود هذه الأعراف اللغوية الموجودة قبله. فدليل أن النبي مخترع ، وكل مخترع يكون واضعا ، فهو غير تام. وعليه : فلا دليل على الوضع التعييني الاستعمالي.

دفع ورد :

هل حصل الوضع الشرعي بكثرة الاستعمال وهو المسمّى بالوضع التعيني ، أو إنه حصل بالوضع التعييني الاستعمالي؟.

هذا الكلام كأنه يفترض أصلا موضوعيا ، وحاصل هذا الأصل : إنّ النبي (ص) قد استعمل اللفظ في المعنى الشرعي ، فبعد الفراغ عن هذا الأصل يقع الكلام في حصول الوضع بهذا الاستعمال ، إمّا من باب الكثرة ، وإمّا من باب إيجاد الوضع بالاستعمال ، وعدم حصوله.

وهناك من استشكل في هذا الأصل الموضوعي بأن النبي (ص) لم يستعمل اللفظ في المعنى الشرعي أصلا ، وإنما استعمله في المعنى اللغوي ، وأراد المعنى الشرعي بنحو تعدد الدال والمدلول ، بتقريب أن نسبة المعاني الشرعية إلى المعاني اللغوية للألفاظ هي نسبة الحصص إلى الجامع ، فالصوم الشرعي حصة من المعنى اللغوي للصوم ، والصلاة كذلك ، باعتبار أن معناها اللغوي هو التوجه والانعطاف ، فبالإمكان افتراض أنّ النبي (ص) لم يستعمل اللفظ في الحصة بما هي حصة ، وإنما استعمل اللفظ في الجامع وخصوصية الحصة أفيدت بدال آخر ، والدال الآخر قرينة عامة ارتكازية. فبناء على هذا لم يحصل استعمال اللفظ مجازا مرارا عديدة ، إذن فلم يحصل الوضع التعيني بكثرة الاستعمال.

ولكن هذا الإشكال غير وارد في المقام ، لأنّ مضمون هذا الإشكال هو جمود على عنوان أن الوضع التعيني يحصل بكثرة الاستعمال للفظ في المعنى

٢٣٤

الخاص بما هو خاص ، لكن لا موجب للجمود على هذا العنوان ، بل لا بد من الالتفات إلى نكتة ، وهي : إن كثرة الاستعمال لما ذا توجب الوضع وتوجب الوضع التعيني؟.

إن كثرة الاستعمال إنما توجب الوضع التعيني : لأنها توجد اقترانا ذهنيا أكيدا شديدا ، وهذا الاقتران الشديد كما يحصل باستعمال اللفظ الموضوع للجامع في الخاص بما هو خاص مجازا إلى أن يكثر هذا الاستعمال فيحصل الوضع ، كذلك أيضا لو أطلق اللفظ وأريد الجامع ، ووجدت قرينة عامة ارتكازية تدل على إرادة الخصوصية ، وتكرّر هذا المطلب مرارا عديدة ، فأيضا يحصل قرن شديد بين اللفظ والحصة الخاصة ، وتنشأ علقة بين اللفظ والمعنى الخاص ، وهذه العلقة الشديدة عبارة عن الوضع.

فملاك حصول الوضع بكثرة الاستعمال لا يتوقف على أن يكون اللفظ مستعملا في الحصة الخاصة مجازا ، مرارا عديدة ، بل النكتة حصول القرن ، والقرن كذلك يحصل باستعمال اللفظ في الجامع. وإرادة الخصوصية بدال آخر سواء أكان هذا الدال قرينة عامة ارتكازية غير ملتفت إليها تفصيلا ، أو كان قرائن تفصيلية متغايرة من مورد إلى مورد آخر ، فعلى كلا التقديرين يحصل القرن الشديد في الذهن بين اللفظ والمعنى ، وهذا هو معنى الوضع التعيني.

وبهذا يتضح : إنّه إذا ثبت كون المعاني الشرعية مخترعات للشارع ، فينبغي القول بالوضع التعييني الاستعمالي كما مرّ في بيان المشهور بإرجاعه إلى ظهور حالي لكلام الشارع.

وإن قلنا بأن المعاني الشرعية قديمة : فما ذا نقول بالنسبة إلى الألفاظ؟. فإن كانت الألفاظ مستحدثة على يد الشارع فنقول بالوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال ، لأنه وإن كان لا يوجد دليل على أن الشارع وضع وضعا تعينيا ، ولكنه استعمل اللفظ في المعنى الشرعي كثيرا حتى حصلت العلقة الوضعية ، فنقول بالوضع التعيني.

٢٣٥

وإن قلنا بأن المعاني قديمة والألفاظ أيضا قديمة ، فحينئذ لا وضع شرعي تعييني ولا تعيني ، لكن يكون هناك وضع لغوي فأيضا يكون المعنى الشرعي معنى حقيقيا للفظ ، لكن باعتبار وضع ثابت في البيئة العربية قبل الإسلام.

المحور الثالث ـ في تصوير ثمرة البحث :

وتظهر ثمرة هذا البحث فيما إذا ورد لفظ في الكتاب أو في السنة ، ولم يعرف المراد به ، هل هو المعنى اللغوي ، أو المعنى الشرعي؟.

فحينئذ إذا قلنا بالحقيقة الشرعية ، وبأن اللفظ موضوع على يد الشارع بالوضع التعييني ، أو بالوضع التعيّني ، وقلنا بأن هذا الوضع الشرعي أوجب نقل اللفظ من ذاك المعنى الأولي إلى هذا المعنى ، بحيث كان وضعا ناسخا للوضع الأول إما بتقريب ، أن ظاهر حال المخترع ، حينما يضع لفظا لمعنى ينتزعه من معناه الأول ، ويخصّصه لهذا المعنى الجديد ، وإما بتقريب أن كثرة الاستعمال في المعنى الشرعي بلغت درجة ، بحيث أصبح القرن الحاصل من كثرة الاستعمال أقوى من القرن الحاصل من الوضع اللغوي ، فإن تمّ هذا أو ذاك حينئذ يثبت الوضع الشرعي مع النقل ، وعليه : يتعيّن الحمل على المعنى الشرعي.

وأما إذا ثبت الوضع الشرعي والحقيقة الشرعية ، ولم نقل بالنقل ، بل قلنا : إنّ ظاهر حال المخترع أن يضع اللفظ للمعنى الذي اخترعه ، لا أن ينتزعه من معناه الأول رأسا ، وقلنا بأن كثرة الاستعمال لم تكن بنحو توجب قرنا آكد من القرن الأول ، فحينئذ نتيجة ذلك هي التوقف ، إذ يصبح للفظ معنيان حقيقيان : أحدهما المعنى اللغوي ، والآخر المعنى الشرعي. وإذا أنكرنا الحقيقة الشرعية رأسا فلا بد من الحمل على المعنى اللغوي ؛ ففي المقام مواقف ثلاث :

٢٣٦

فإمّا أن يثبت الوضع ويثبت النقل بأحد التقريبين ، فيحمل على المعنى الشرعي.

وإمّا أن يثبت الوضع دون النقل فيتعين التوقف.

وإما أن لا يكون هناك وضع أصلا ، وكان الاستعمال في المعنى الشرعي مجازا ، فيتعين الحمل على المعنى اللغوي.

إلّا أن السيد الأستاذ (١) تبعا للميرزا ، أنكر وجود الثمرة ، وقال في مقام البيان : إنّ الثمرة تظهر فيما إذا ورد استعمال في الكتاب أو في السنة ، وشكّ في المراد. وأما في كلمات الأئمة (ع). لا إشكال في ثبوت الحقيقة في أيامهم ، فلا معنى لتأثير هذا البحث في الروايات الواردة عنهم (ع). وإنما ينحصر أثر هذا البحث بالنسبة إلى زمن الرسول (ص). وعليه فالنصوص الدينية في زمن الرسول (ص) من الكتاب والسنة كلها ، متلقاة عن طريق الأئمة ، وحينئذ في مقام معرفة المراد من لفظ الصلاة مثلا ، فلا بدّ من النظر إلى ما هو الحقيقة في زمن الناقل الذي هو الإمام (ع) ، وفي زمانه لا إشكال في أنّ اللفظ حقيقة في المعنى الشرعي ، فالإمام الصادق (ع) حينما يقول : «قال رسول الله (ص) : الصلاة عمود الدين» ففي مقام معرفة معنى الصلاة لا بدّ من النظر إلى زمن الإمام الصادق (ع) في أنّ لفظ الصلاة في زمانه فيما تكون ظاهرة؟. وفيم تكون حقيقة؟. ولا إشكال في أنها حقيقة في المعنى الشرعي. فإذن قد انعدمت الثمرة في المقام.

وهذا البيان غريب ، وذلك لأنه إن فرض تمامية هذا البيان بالنسبة إلى السنة الشريفة ، فكيف فرض تماميته بالنسبة إلى القرآن الكريم ، فإن القرآن الكريم لم نتلقّه عن طريق الأئمة فقط ، بل تلقيناه بالتواتر القطعي عن طريق جميع المسلمين طبقة بعد طبقة إلى رسول الله (ص) ، وقد تلقيناه بلفظه لا

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ١٣٤. أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ / ص ٣٣.

٢٣٧

بمضمونه. وحينئذ فلا بدّ وأن يكون الميزان في معرفة المعنى المراد من لفظ الصلاة الوارد في القرآن الكريم ، هو الظهور في أيام النزول. فكم فرق بين السنّة من هذه الناحية ، وبين الكتاب الكريم؟. بيد أنّ السنة يجوز نقلها بالمضمون ، بينما القرآن الكريم لا ينقل إلّا بلفظه ، فالإمام الصادق ، عليه‌السلام ، حينما يصبح راويا لحديث نبوي ، ويختار. في مقام النقل لفظ الصلاة ، فظاهره أنه ينقل المضمون بالألفاظ التي تدل على ذات المضمون في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام ، فيختار الفاظا ذات دلالة في عصره على المضمون المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن النقل نقل للمضمون.

وأمّا حينما يروي الإمام الصادق عليه‌السلام ، سورة «يس» فإنه لا ينقلها بالمضمون ، وإنما ينقل اللفظ ، ولا يدخل في عهدته أنّ لفظ الصلاة ، يتغيّر معناها أو لم يتغيّر معناها ، بل هو ينقل الألفاظ في المقام ، أمّا إنه على ما ذا تدل هذه الألفاظ؟. فلا بدّ من بحث آخر خارج عن عهدة الإمام الصادق عليه‌السلام.

فالميزان في فهم ما ينقل باللفظ إنما هو زمن صدور اللفظ سواء أكان قرآنا أو سنّة ، وميزان ما ينقل بالمضمون هو ظهور اللفظ في زمان النقل.

إذن ، فإنكار الثمرة بهذا البيان ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

نعم قد يقال كما وقع في كلمات الميرزا (١) ، أنه لا يوجد عندنا مورد نشك فيه ، فإن كل مورد من الموارد معه قرائن منها الحالية والمقالية ، المتصلة والمنفصلة ، بحيث تدل على تعيين المعنى ، لكن هذا مطلب آخر عهدته على مدّعيه.

وبهذا انتهى الكلام في المحور الثالث وبذلك تمّ البحث في الحقيقة الشرعية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ / ص ٣٣.

٢٣٨

فهرس الكتاب

الموضوع

الصفحة

الأمر الثاني من أمور المقدمة في (الوضع)............................................. ٣

الجهة الأولى

تشخيص حقيقة الوضع........................................................... ٧

مسلك التعهد................................................................... ٩

تعديل الصيغة الثالثة والرد على هذا التعديل........................................ ١٥

الرد على التعديل............................................................... ١٦

الرد على الإشكال المشهوري..................................................... ٢٣

الحل المختار.................................................................... ٢٦

المسلك الثاني

مسلك الاعتبار................................................................ ٢٩

الرد على كلا الاعتراضين........................................................ ٣١

نقض الوجه الأول.............................................................. ٣٣

الوجه الثاني.................................................................... ٣٤

الوجه الثالث................................................................... ٣٨

المسلك الثالث

مسلك الجعل الواقعي............................................................ ٤١

رد اعتراض السيد الأستاذ........................................................ ٤٤

تحقيق الكلام في جعل السببية الواقعية............................................. ٤٦

التحقيق في حقيقة الوضع........................................................ ٤٩

٢٣٩

تطبيقات...................................................................... ٥١

الوضع التعييني والتعيّني.......................................................... ٥٤

توضيحات وتعريفات............................................................ ٥٥

الجهة الثانية في تشخيص الواضع.................................................. ٦١

الجهة الثالثة الأقسام الممكنة للوضع............................................... ٦٩

القسم الثالث : الوضع العام والموضوع له الخاص.................................... ٧٠

الاعتراض الأول................................................................ ٧٠

الكلام في جهة الاختلاف....................................................... ٧٣

الكلام في جهة الاتفاق.......................................................... ٧٤

الجهة الرابعة

الواقع من أقسام الوضع الممكنة................................................... ٨٥

المقام الأول.................................................................... ٨٧

معاني الحروف

المسلك الأول ـ إنكار المعنى للحروف.............................................. ٨٧

المسلك الثاني ـ اتحاد معاني الحروف مع معاني الأسماء ذاتا............................. ٨٩

الجهة الأولى ـ الاعتراض الأول.................................................... ٩١

الاعتراض الثاني................................................................ ٩٤

الاعتراض الثالث............................................................... ٩٦

الاعتراض الرابع............................................................... ١٠٠

الاعتراض الخامس............................................................. ١٠١

تحقيق الكلام في المسلك الثاني.................................................. ١٠٥

المسلك الثالث ـ مسلك التباين.................................................. ١٠٧

التقريب المشهوري للمسلك الثالث.............................................. ١١٦

الوجه الأول.................................................................. ١١٧

الوجه الثاني.................................................................. ١٢٠

الوجه الثالث................................................................. ١٢٦

تحقيق الحال في المسلك الثالث.................................................. ١٣١

القضية الخارجية والذهنية....................................................... ١٣١

٢٤٠