بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

وقع البحث في أنه هل للمركب وضع آخر زائد على وضع المواد أو لا؟. وهذا العنوان فيه احتمالان :

الاحتمال الأول : أن يكون المراد بالمركب هنا الهيئة التركيبية ـ النوع الثالث ـ بمعنى أنه بعد الفراغ من أن مواد المفردات التي هي النوع الأول ، وهيئات المفردات التي هي النوع الثاني ، قد وضع كل منهما لمعناه ، فهل إنّ الهيئة التركيبية موضوعة بوضع آخر إضافي زائد على وضع مواد المفردات وهيئاتها أو لا؟.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد بالمركب هو المجموع المركب من الأنواع الثلاثة ، بمعنى أنه بعد الفراغ من أن المواد قد وضعت لمعانيها ، والهيئات الإفرادية قد وضعت لمعانيها ، والهيئة التركيبية قد وضعت لمعناها ، فيقال بأن المجموع المركب من كل هذه الأنواع والعناصر ، هل له وضع آخر وراء تلك الأوضاع أو ليس له ذلك؟.

الاحتمال الأول :

وهو أن يكون البحث واقعا في نفس النوع الثالث في أن الهيئة التركيبية هل هي موضوعة لمعنى ، إضافة لوضع المواد ولوضع الهيئات الإفرادية أو لا؟. وفي هذا البحث يوجد عدة دعاوى :

الدعوى الأولى : ما ذهب إليه المشهور وهو : إنّ الهيئة التركيبية للجملة التامة سواء أكانت اسمية أو فعلية ، هي موضوعة بوضع زائد على وضع مواد المفردات وهيئاتها ، حيث أنها موضوعة للنسبة بين المبتدأ والخبر ، أو بين الفعل والفاعل. وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح في المقام ، فإنّ الصحيح أن الهيئة التركيبية للجملة موضوعة لمعنى آخر لم توضع له مواد المفردات ولا الهيئات الإفرادية ، وهذا المعنى هو النسبة التامة التصادقية بالمعنى الذي شرحناه سابقا ، وسوف يظهر تعيّن هذه الدعوى بعد إبطال غيرها من الدعاوي.

٢٠١

الدعوى الثانية : ما ذهب إليه المحقق النائيني (١) (قده) : فإنه فصّل بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية ، فقال : بأن الهيئة التركيبية في الجملة الاسمية ـ زيد عالم ـ موضوعة للربط ، والنسبة بين المبتدأ والخبر. وأما الهيئة التركيبية في الجملة الفعلية ـ ضرب زيد ـ فهي غير موضوعة بوضع خاص بها. وقد ذكر في وجه الفرق بين الجملتين إنه يحتاج إلى دال على النسبة ، والربط ، وفي الجملة الاسمية مفرداتها لا تدل على الربط ، فيحتاج إلى وضع آخر للهيئة التركيبية للجملة الاسمية ، لأجل إفادة النسبة والربط ، أما في الجملة الفعلية فالهيئة الإفرادية للفعل هي بنفسها تدل على النسبة والربط بين الفعل والفاعل ، فلا حاجة لوضع آخر للهيئة التركيبية للجملة الفعلية لأجل إفادة النسبة والربط.

وقد اعترض على ذلك المحقق العراقي (قده) (٢) باعتراضين نقضي. وحلّي

الاعتراض النقضي : وحاصله : إنّه بمقتضى ما ذكر في وجه عدم احتياج الهيئة التركيبية للجملة الفعلية إلى وضع آخر زائد ، يظهر من ذلك أن الجملة الاسمية أيضا في بعض الموارد لا تحتاج إلى وضع زائد ، وذلك فيما إذا كان الخبر فعلا في الجملة الاسمية ، لا يمكن المساعدة عليها ، لأنّ هذا الضمير المستتر الذي يدّعى تقديره ، لا يمكن أن يحصل به ربط ونسبة بين (زيد وقائم) لوضوح أن كلمة «هو» بنفسها مفهوم اسمي مبهم ومجمل ، فهو بنفسه يحتاج إلى الربط بينه وبين طرفه الذي هو مفهوم اسمي أيضا ، إذن فإدخال الضمير تطويل للمسافة بلا موجب ، لأننا بعد فرض الإدخال بحاجة إلى نسبة قائمة بين الضمير وكلمة (قائم) في «زيد قائم». وهذه النسبة مدلول عليها بالهيئة التركيبية ، فلا بدّ من الانتهاء إلى دلالة الهيئة التركيبية في «زيد قائم» على النسبة من أول الأمر.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي : ج ١ ص ٣٢.

(٢) منهاج الأصول ـ الكرباسي ج ١ ص ٧٥.

٢٠٢

فهذه الدعوى ساقطة كالدعوى الثانية ، وعليه : فيتعين ما ذهب إليه المشهور من أن الهيئة التركيبية موضوعة لإفادة النسبة التامة التصادقية بالمعنى الذي شرحناه سابقا.

الاحتمال الثاني :

بعد أن وضع كل من مواد المفردات وهيئاتها ، والهيئة التركيبية لمعناه ، يقال : بأن المجموع المركب من هذه الأنواع الثلاثة هل له وضع زائد وراء تلك الأوضاع ، أو ليس له وضع زائد؟.

المعروف إنّه ليس للمجموع المركب وضع آخر وراء تلك الأوضاع.

وقد يبرهن على ذلك تارة ، بأنه لو كان هناك وضع زائد ، للزم الانتقال إلى المعنى مرتين ، بحيث يكون هناك دالان على المعنى ، وأحد الدالين هو الإجزاء بوجوداتها التفصيلية ، والدال الآخر هو المجموع المركب ، وحينئذ قولنا «زيد عالم» يكون دالا مرتين على معناه ، فيلزم الانتقال إلى المعنى مرتين ، والحال أنّ الذهن لا ينتقل إلى المعنى مرتين بل مرة واحدة ، كما لو سمعنا «زيد عالم» من شخص واحد.

ويبرهن أخرى على نفي الوضع الزائد باللغوية ، لأن المقصود من الكلام هو إفادة المعنى الجملي ، وإفادة هذا المعنى قد تمت بأوضاع أجزاء المركب كل لمعناه ، وعليه فيكون الوضع الثاني لغوا في المقام.

والتحقيق في المقام هو : إنّ المعنى الجملي تارة يكون سنخ معنى قابلا لأن يفاد بنحو تعدد الدال والمدلول كما في قولنا «زيد عالم» المنحل إلى ثلاثة أجزاء : موضوع ومحمول ونسبة. وكل منها قابل لأن يدل عليه بدال مستقل. فلفظة (زيد) تدل على الموضوع ، ولفظة (عالم) تدل على المحمول. وهيئة الجملة تدل على النسبة التامة ، وأخرى يكون المعنى الجملي سنخ معنى لا يعقل إفادته بنحو تعدد الدال والمدلول. بأن كان بعض أجزاء هذا المعنى لا يفاد بدال مستقل ، كما في قولنا «النار في الموقد» المنحل إلى ثلاثة أجزاء :

٢٠٣

إلى نار ، وموقد ، ونسبة ظرفية. وهذه لا يعقل أن يكون لها دال مستقل لأن هذه النسبة نسبة ناقصة تحليلية ، وليس لها وجود واقعي مستقل في عالم الذهن ، بل الموجود في عالم الذهن هو الحصة الخاصة ، ومفهوم وحداني ينحل إلى نار ، وموقد ، ونسبة ناقصة تحليلية ليس لها وجود مستقل في عالم الذهن. وعليه : يستحيل أن يكون عليها دال مستقل في عالم اللفظ أيضا ، بل كما أنه ليس هناك إلّا وجود واحد في عالم الذهن ، لا بدّ وأن يكون هناك دال واحد في عالم اللفظ أيضا.

إذن فالمعنى الجملي إما أن يكون مركبا من أجزاء يمكن إفادتها بنحو تعدد الدال والمدلول ، وذلك فيما إذا لم تكن النسب التحليلية داخلة فيه.

وإما أن يكون مركبا من أجزاء لا يمكن إفادة كل واحد ، واحد منها ، بنحو تعدد الدال والمدلول ، وذلك فيما إذا كانت النسب التحليلية الناقصة داخلة فيه.

وعليه : فمتى ما كان المعنى الجملي من قبيل الأول فمن الواضح أن إفادته تكون بنحو تعدد الدال والمدلول ، ومعه لا معنى لدعوى وضع آخر للمركب ، لأن الواضع بعد أن قرن بين زيد ومعناه ، وبين عالم ومعناه ، وبين الهيئة ومعناها ، فيكون قد قرن المركب بالمعنى الجملي بنحو تعدد الدال والمدلول ، فلا معنى حينئذ لوضع آخر للمركب ، لأن الاقتران لا يتعدد ولا يتكرر.

ومتى ما كان المعنى الجملي من قبيل الثاني ، مشتملا على النسبة التحليلية الناقصة ، فلا بد وأن تكون الجملة «النار في الموقد» بتمامها موضوعة لتمام ذلك المعنى الجملي ، لا أن يكون كل جزء منها موضوعا لجزء من المعنى الجملي بنحو تعدد الدال والمدلول ، بل الجملة بتمامها موضوعة للحصة الخاصة بما هي من قبيل «زيد ضرب». فكما أنّ الهيئة التركيبية في «ضرب زيد» لا تحتاج إلى وضع زائد لإفادة النسبة والربط ، لأن هيئة الفعل الماضي تكفي لذلك ، فكذلك الهيئة التركيبية في «زيد ضرب» لا تحتاج إلى

٢٠٤

وضع زائد لإفادة النسبة والربط ، لأن هيئة الفعل الماضي «ضرب» تدل على النسبة والربط ، فلا يحتاج في الهيئة التركيبية في الجملة الاسمية التي يكون خبرها فعلا ، ولا ضرورة لأن تكون هذه الهيئة التركيبية موضوعة بوضع إضافي ، مع إن الميرزا يقول باحتياج الهيئة التركيبية للجملة الاسمية إلى وضع الزائد من دون فرق بين أن يكون الخبر فيها اسما ، أو فعلا.

وهذا الاعتراض النقضي غير وارد في المقام ، وذلك لأنّ في قولنا «زيد ضرب» يوجد نسبتان :

إحداهما نسبة الفعل إلى فاعله الذي هو الضمير المستتر وتقديره «هو».

والنسبة الأخرى بين المبتدأ والخبر «بين زيد» و «هو».

وحينئذ ما ذكرة المحقق النائيني من عدم احتياج الهيئة التركيبية لوضع زائد إنما هي الهيئة التركيبية المركبة من الفعل والفاعل المستتر. وأما الهيئة التركيبية المركبة من المبتدأ والخبر (زيد و «هو») فهي موضوعة لإفادة النسبة بين الطرفين بوضع آخر ، ففي المقام في قولنا «زيد ضرب» هيئة الفعل إنما تكون دالة على النسبة في الجملة الصغيرة التي وقعت جزءا في الجملة الكبيرة. وأما النسبة التي هي مدلول الجملة الكبيرة الاسمية ، فيحتاج إلى دال آخر عليها ، وهو هيئة الجملة التركيبية ، فهذا النقض غير وارد في المقام.

الاعتراض الحلّي : وهو أنّ هيئة ضرب إنما تدل على أنّ مادة الضرب منسوبة إلى فاعل «ما» على وجه الإبهام ، ولم يؤخذ فيها فاعل مخصوص بعينه ، وأما تعيّن هذا الفاعل بشخص «زيد» فهو غير مدلول عليه بهذه الهيئة. فلا بد من أن توضع الهيئة التركيبية للجملة الفعلية لإفادة تعيّن ذلك الفاعل المبهم في هذا الشخص المعيّن وهو زيد ، وبهذا ثبت ضرورة وضع الهيئة التركيبية.

وهذا الاعتراض غير صحيح ، كما أنّ أصل دعوى الميرزا غير صحيحة ، وذلك لأن كلا المحققين متفقان في أن النسبة إلى يراد إفادتها في المقام هي

٢٠٥

نسبة الفعل إلى الفاعل ، وحيث أن الميرزا ادّعى أن هيئة ضرب تدل على نسبة الضرب إلى شخص زيد ، فلم يبق شيء آخر توضع له الهيئة التركيبية.

بينما المحقق العراقي ادّعى أن هيئة «ضرب» موضوعة للنسبة بين الضرب والفاعل المبهم ، فبقي حاجة تعيين هذا الفاعل المبهم في شخص زيد ، فلا بد من وضع الهيئة التركيبية لإفادة تعيين ذلك الفاعل في زيد.

وبناء على ما حققناه سابقا في المعنى الحرفي ، من أنّ النسب على قسمين : نسب أولية ناقصة موطنها الأصلي هو الخارج ، ونسب ثانوية تامة موطنها الأصلي هو الذهن ، حينئذ نقول :

إنّ نسبة الضرب إلى الضارب هي نسبة أولية ناقصة ، موطنها الأصلي هو الخارج ، لأن الضرب يستند إلى الضارب في الخارج ، فمرجع هذه النسبة إلى مفهوم وحداني في عالم الذهن ، ينحل إلى ذات ، وفعل ، ونسبة بينهما. وعليه : فيحتاج في المقام إلى نسبة تامة أخرى في قولنا «ضرب زيد» يصح السكوت عليها ، فيتعين أن تكون هيئة الجملة التركيبية للجملة الفعلية موضوعة لإفادة نسبة أخري تامة ، وهي النسبة التصادقية بالمعنى الذي شرحناه ؛ فبحسب الحقيقة يوجد دالان :

أحدهما : هيئة الفعل تدل على نسبة الفعل إلى الفاعل بنحو النسبة الناقصة.

والآخر : هيئة الجملة التركيبية تدل على نسبة تامة تصادقية بين مفاد الفعل مادة وهيئة ، وبين الفاعل ، وهذا ما قام عليه البرهان والوجدان ، فإنّ الوجدان قاض بأن هيئة ضرب ليس مفادها النسبة التامة ، وإلّا لصح السكوت عليها ، فإذن مفادها نسبة ناقصة. وأما هيئة الجملة التركيبية فمفادها النسبة التامة ، فلا بدّ من الالتزام بأن هيئة الجملة الفعلية موضوعة لمعنى. وبهذا يتنقح إثبات الدعوى الأولى المشهورة القائلة بأن هيئة الجملة التركيبية سواء

٢٠٦

أكانت الجملة اسمية أو فعلية ، لا بد وأن تكون موضوعة لمعنى زائد ، وهو النسبة التامة.

الدعوى الثالثة : وهذه الدعوى معاكسة للدعوى الثانية : ففي هذه الدعوى يقال بأن هيئة الجملة الفعلية موضوعة للنسبة على ما قيل في الدعوى الأولى ، ولكن هيئة الجملة الاسمية ليست موضوعة للنسبة ، بل النسبة في قولنا «زيد قائم» مدلول عليها لا بالهيئة التركيبية ، بل بضمير مستتر دائما تقديره «هو». فعند ما نقول : «زيد قائم» ، كأننا قلنا : «زيد هو قائم». وهذه الدعوى لا يمكن المساعدة عليها ، لأن هذا الضمير المستتر الذي يدّعى تقديره ، لا يمكن أن يحصل به ربط ونسبة بين (زيد وقائم) ، لوضوح أن كلمة «هو» بنفسها مفهوم اسمي مبهم ومجمل ، فهو بنفسه يحتاج إلى الربط بينه وبين طرفه الذي هو مفهوم اسمي أيضا. إذن فإدخال الضمير تطويل للمسافة بلا موجب ، لأننا بعد فرض الإدخال بحاجة إلى نسبة قائمة بين الضمير وكلمة قائم في «زيد قائم». وهذه النسبة مدلول عليها بالهيئة التركيبية ، فلا بدّ من الانتهاء إلى دلالة الهيئة التركيبية في «زيد قائم على النسبة من أول الأمر.

فهذه الدعوى ساقطة كالدعوى الثانية ، وعليه : فيتعيّن ما ذهب إليه المشهور من أن الهيئة التركيبية موضوعة لإفادة النسبة التامة التصادقية بالمعنى الذي شرحناه سابقا.

الاحتمال الثاني :

بعد أن وضع كل من مواد المفردات وهيئاتها ، والهيئة التركيبية لمعناه ، يقال بأن المجموع المركب من هذه الأنواع الثلاثة هل له وضع زائد وراء تلك الأوضاع ، أو ليس له وضع زائد؟.

فالمعروف إنّه ليس للمجموع المركب وضع آخر وراء تلك الأوضاع :

وقد يبرهن على ذلك تارة بإنه لو كان هناك وضع زائد ، للزم الانتقال إلى المعنى مرتين ، بحيث يكون هناك دالان على المعنى وأحد الدالين هو

٢٠٧

الإجزاء بوجوداتها التفصيلية ، والدال الآخر هو المجموع المركب ، وحينئذ قولنا «زيد عالم» يكون دالا مرتين على معناه ، فيلزم الانتقال إلى المعنى مرتين. والحال إنّ الذهن لا ينتقل إلى المعنى مرتين بل مرة واحدة ، كما لو سمعنا «زيد عالم» من شخص واحد.

ويبرهن أخرى على نفي الوضع الزائد باللغوية ، لأن المقصود من الكلام هو إفادة المعنى الجملي ، وإفادة هذا المعنى قد تمّت بأوضاع أجزاء المركب كل لمعناه ، وعليه فيكون الوضع الثاني لغوا في المقام.

والتحقيق في المقام هو : إنّ المعنى الجملي تارة يكون سنخ معنى قابلا لأن يفاد بنحو تعدد الدال والمدلول. كما في قولنا «زيد عالم» المنحل إلى ثلاثة أجزاء : موضوع ، ومحمول ، ونسبة. وكل منها قابل لأن يدل عليه بدال مستقل ؛ فلفظة زيد تدل على الموضوع ، ولفظة عالم تدل على المحمول ، وهيئة الجملة تدل على النسبة التامة.

وأخرى يكون المعنى الجملي سنخ معنى لا يعقل إفادته بنحو تعدد الدال والمدلول بأن كان بعض أجزاء هذا المعنى لا يفاد بدال مستقل كما في قولنا : «النار في الموقد» المنحل إلى ثلاثة أجزاء : إلى نار ، وموقد ، ونسبة ظرفية. وهذه لا يعقل أن يكون لها دال مستقل ، لأن هذه النسبة نسبة ناقصة تحليلية ، وليس لها وجود واقعي مستقل في عالم الذهن ، بل الموجود في عالم الذهن هو الحصة الخاصة ، ومفهوم وحداني ينحل إلى نار ، وموقد ، ونسبة ناقصة تحليلية ، ليس لها وجود مستقل في عالم الذهن. وعليه : يستحيل أن يكون عليها دال مستقل في عالم اللفظ أيضا ، بل كما أنه ليس هناك إلّا وجود واحد في عالم الذهن ، لا بد وأن يكون هناك دال واحد في عالم اللفظ أيضا.

إذن فالمعنى الجملي : إما أن يكون مركبا من أجزاء يمكن إفادتها بنحو تعدد الدال والمدلول ، وذلك فيما إذا لم تكن النسب التحليلية داخلة فيه.

وإما أن يكون مركبا من أجزاء لا يمكن إفادة كل واحد واحد منها بنحو

٢٠٨

تعدد الدال والمدلول ، وذلك فيما إذا كانت النسب التحليلية الناقصة داخلة فيه. وعليه : فمتى ما كان المعنى الجملي من قبيل الأول ، فمن الواضح أن إفادته تكون بنحو تعدد الدال والمدلول ، ومعه لا معنى لدعوى وضع آخر للمركب ، لأن الواضع بعد أن قرن بين زيد ومعناه ، وبين عالم ومعناه ، وبين الهيئة ومعناها ، فيكون قد قرن المركب بالمعنى الجملي بنحو تعدد الدال والمدلول ، فلا معنى حينئذ لوضع آخر للمركب ، لأن الاقتران لا يتعدد ولا يتكرر.

ومتى ما كان المعنى الجملي من قبيل الثاني مشتملا على النسبة التحليلية الناقصة ، فلا بدّ وأن تكون الجملة «النار في الموقد» بتمامها موضوعة لتمام ذلك المعنى الجملي ، لا أن يكون كل جزء منها موضوعا لجزء من المعنى الجملي بنحو تعدد الدال والمدلول ، بل الجملة بتمامها موضوعة للحصة الخاصة بما هي حصة خاصة ؛ وهذا لا يرد عليه كلا الإشكالين السابقين ، فلا ترد مسألة لزوم الانتقال إلى المعنى مرتين ، لأنه لا يوجد في المقام إلّا دال واحد ، فإنّ كلّا من أجزاء الجملة حين اجتماعها ليس لها إلّا وضع واحد ، وهو الوضع للمعنى الجملي ، وكذلك لا يأتي إشكال اللغوية لأن هذا الإشكال مبني على تصور أن كلا من كلمة نار وموقد و «في» لها أوضاع ودلالات. حينئذ يقال بأن وضع المركب بما هو مركب يكون لغويا ، لكن المفروض استحالة ذلك في المقام ، فإن إفادة المعنى الجملي المشتمل على النسبة التحليلية الناقصة مستحيل بنحو تعدد الدال والمدلول ، فليس هناك دوال متعددة في داخل المركب ، بل دال واحد وهو المركب ، فلا لغوية في المقام.

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ الجمل التامة من قبيل «زيد عالم» و «ضرب زيد» ليس للمركب منها وضع زائد على وضع المفردات ، لأنها تشتمل على النسبة التامة ، وإفادة هذه النسبة يكون بنحو تعدد الدال والمدلول. وأما الجمل الناقصة : فحيث أنها تشتمل على النسب التحليلية ، فلا بد وأن يكون للمركب من الوصف ، والموصوف ، والجار والمجرور ، ونحو ذلك ،

٢٠٩

وضع باستقلاله ، ولكن ليس هذا الوضع زائدا على وضع المفردات. بل هو بدلا عن وضع المفردات ، فإن أريد ، بالوضع الزائد في المركبات ، الوضع في مركبات الجمل التامة فهو غير صحيح ، لأن المعنى الجملي للجملة التامة يمكن إفادته بنحو تعدد الدال والمدلول. وإن أريد ذلك في مركبات الجمل الناقصة ، فهو صحيح ، لكن لا بمعنى أن يكون وضع الجملة الناقصة زائدا على وضع المفردات ، بل بدلا عن وضع المفردات ، لكن هذا خلاف المدّعى كما هو ظاهر. إذن فالمدعى على كل ليس بصحيح.

٢١٠

الأمر السابع

علامات الحقيقة والمجاز

ذكروا ثلاث علامات للحقيقة : التبادر ، وصحة الحمل ، والاطّراد.

العلامة الأولى : التبادر

قيل في تقريب كون التبادر علامة على الحقيقة : بأن انسباق معنى مخصوص عند سماع لفظ مخصوص ، لا بدّ وأن ينشأ من أحد سببين : أن يكون اللفظ موضوعا لذلك المعنى ، أو تكون هناك قرينة خاصة أو عامة تدل على ذلك المعنى.

أما إذا لم يكن وضع ولا قرينة ، فلا معنى للانسباق ، لأن دلالة الألفاظ على معانيها ليست دلالة ذاتية ، بل دلالتها بالجعل ، وهذا الجعل عبارة عن الوضع أو القرينة. فإذا حصل التبادر من حاق اللفظ في مورد علم فيه عدم القرينة ، يستكشف بالإن وجود الوضع من باب كشف العلة من وجود المعلول ، حيث لا موجب لهذا الانسباق والتبادر ، إلّا الوضع فيكشف عنه.

وقد اعترض على هذه العلامة بلزوم الدور ، لأنّ معنى كون التبادر علامة على الحقيقة ، أنّ العلم بالوضع بتوقف على التبادر ، لأن العلم بذي العلامة يتوقف على حصول العلامة ، فما لم تحصل العلامة لا علم بذيها. والتبادر متوقف على العلم بالوضع ، لأن من كان جاهلا بالألفاظ ومعانيها ، لا يتبادر إلى ذهنه المعنى الحقيقي من اللفظ ، فيكون هذا دورا.

٢١١

وقد أجاب عن ذلك صاحب الكفاية (١) (قده) بالتمييز بين العلم المتوقف على التبادر ، والعلم الذي يتوقف عليه التبادر ، فادّعى أنّ العلم الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع ، والعلم الذي يتوقف عليه التبادر هو العلم الارتكازي بالوضع ؛ فهذان نحوان من الوجود لهذا العلم : وجود إجمالي مقترن مع الغفلة ، ووجود بارز ظاهر لا يتلاءم مع الغفلة ، وحينئذ المتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي البارز. وأما التبادر فلا يتوقف على العلم التفصيلي بالوضع ، بل يكفي فيه العلم بالوضع بوجوده الإجمالي الارتكازي. إذن فالمتوقف على التبادر غير ما هو متوقف عليه التبادر ، فلا دور في المقام.

وهذا الجواب لا محصّل له ، لأن المقصود من التبادر إمّا تحصيل أصل العلم بالوضع ، وإمّا مجرد تبديل العلم من كونه إجماليا إلى كونه تفصيليا.

فإن كان المقصود بالتبادر هو الأول : فإشكال الدور محكم في المقام ، لأن أصل العلم بالوضع لا بد من فرض وجوده قبل التبادر ، ولو بنحو ارتكازي كيما يكون سببا في إيجاد التبادر ، فكيف يعقل تحصيل أصل العلم بالوضع بهذه العلامة؟.

وإن كان المقصود بالتبادر هو الثاني : فهذا يحصل بمجرد الاستعلام ، والتوجه إلى تحويل العلم الارتكازي إلى علم تفصيلي ، بلا حاجة إلى أن يطلب ذلك بالتبادر. فالذي يريد أن يحوّل علمه الارتكازي إلى علم تفصيلي بالوضع ، فبهذه الإرادة ، وبمجرّد ، الالتفات والتوجه إلى ذلك ، يحصل لديه المطلب ، بدون أن تصل النوبة إلى التبادر.

ولكن الصحيح : إنّ إشكال الدور في المقام لا أساس له أصلا ، لأنه مبني على التصورات المتعارفة في باب الوضع ، من كون الوضع هو الجعل

__________________

(١) حقائق الأصول ج ١ ص ٤٢ ـ ٤٣.

٢١٢

والاعتبار ، فيوجب انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى للعالم به ، ويقال حينئذ : بأنّ المستعلم قبل أن يعلم بهذا الجعل ، لا ينتقل ذهنه إلى هذا المعنى ، وبعد علمه به لا حاجة إلى علاميّة التبادر في المقام.

ولكن بناء على مبنانا في حقيقة الوضع لا يتأتى إشكال الدور أصلا ، لأننا قلنا في حقيقة الوضع : إنّه القرن الأكيد الشديد بين اللفظ والمعنى ، وحينئذ من الواضح أن القرن بنفسه يكون سببا في التبادر ، قبل أن يحصل العلم بالوضع ، ويمكن معرفة ذلك بالالتفات إلى الطفل حيث يحصل عنده التبادر من لفظ (حليب) إلى المعنى المخصوص ، مع أنّ الطفل لا علم له بالوضع.

ونقول : بأنّ العلم بالوضع يتوقف على أن يكون هناك انسباق وتبادر للمعنى من اللفظ. وأما التبادر لا يتوقف على العلم بالوضع ، بل على روح الوضع ، وهو القرن ، فلا أساس لإشكال الدور. وهذا كله فيما إذا فرض أن علامة التبادر لوحظت بالنسبة إلى الجاهل المستعلم.

وأما إذا قلنا : بأن التبادر عند العالم إمارة على الوضع عند الجاهل ، فهذا خارج عن محل الكلام ، وداخل في الإطراد ، فعلامة التبادر معقولة ، لكن ليس بالتقريب الابتدائي المذكور ، من أنّ التبادر والانسباق له علتان : إمّا الوضع ، وإما القرينة. فحيث لا قرينة يكشف التبادر كشفا إنّيا عن الوضع ، من باب كشف المعلول عن العلة ، بل الانسباق إلى ذهن المستعلم له ثلاث علل وتوضيح ذلك :

إن الوضع روحه القرن ، وهذا القرن على نحوين : شخصي ونوعي ، فتارة يكون القرن بين اللفظ والمعنى في ذهن زيد قرنا شخصيا لمناسبات شخصية ، وأخرى يكون قرنا نوعيا اجتماعيا بحيث يكون اللفظ مقرونا مع المعنى في ذهنه ، لا باعتبار خصوصية في زيد ، بل باعتبار أنه أحد أبناء اللغة والعرف. وهذا القرن النوعي هو ميزان الحجّية والفهم في مقام استخراج المعاني من الألفاظ.

٢١٣

وكل من القرنين يولّد الانسباق والتبادر إلى الذهن ، والوضع المطلوب إثباته بالعلامة ، إنما هو القرن النوعي ، لأننا بالوضع نريد أن نعيّن مراد المتكلم ، لان القرن النوعي يستتبع ظهورا نوعيا ، بينما القرن الشخصي يستتبع ظهورا شخصيا ، وموضوع وجوب العمل هو الظهور النوعي.

فالتبادر ينشأ من أحد أمور ثلاثة : إمّا من القرينة ، وإمّا من قرن أكيد نوعي بين اللفظ والمعنى وهو الوضع ، وإمّا من قرن شخصي. وحينئذ في مقام إثبات علامة التبادر واستكشاف الوضع ، لا بدّ من نفي الطرفين الأخيرين ، وهما : القرينة والقرن الشخصي. أما احتمال نشوء التبادر من القرينة ، فلا بدّ في نفي ذلك من الفحص عن كل ما يكتنف اللفظ من حال أو مقال ، فإن حصل الجزم بعدم وجود القرينة بسبب الفحص فهو ، وإلّا فلا يمكن إثبات الوضع ونفي القرينة المشكوكة بأصالة عدم القرينة لما تقدم من أنّ أصالة عدم القرينة من الإمارات العقلائية المتعبّد بها فقط في طريق معرفة مراد المتكلم. ولا يسري التعبّد ، للوصول إلى الوضع اللغوي ، وهنا ليس المراد بأصالة عدم القرينة تشخيص مراد المتكلم ، فإن مراده معلوم بالتبادر. وإنما المراد تشخيص الوضع وتعيينه ، وهذا مما لا يقبله أصالة عدم القرينة. إذن فلا بدّ من الجزم بعدم القرينة ، وإلّا بطلت علاميّة التبادر.

وأما احتمال نشوء التبادر من القرن الشخصي في شخص زيد بالخصوص ، فيمكن نفيه بالفحص والتأمل في حياتنا ، لنتأكد من عدم وقوع أمر يؤثر في ذلك ، ويمكن نفيه أيضا بالأصل العقلائي ، فإن السيرة العقلائية منعقدة في المقام على أصالة التطابق بين الظهور الشخصي ، والظهور النوعي ـ بين التبادر الشخصي ، والتبادر النوعي ـ. فالعقلاء يجعلون الظهور الشخصي إمارة على الظهور النوعي ، ويجعلون التبادر النوعي إمارة على الوضع بحيث يثبت به مراد المتكلم. فهذا الاحتمال الثاني يمكن نفيه بالأصل العقلائي ، بمعنى جعل التبادر الشخصي إمارة عقلائية على نوعية التبادر ، وبهذا تتم علاميّة التبادر.

٢١٤

العلامة الثانية : صحة الحمل :

فقد ادّعي بأن صحة حمل اللفظ على معنى بالحمل الأولي الذاتي ، يدل على أن الموضوع هو عين المعنى الذي وضع له اللفظ ، وبالحمل الشائع الصناعي يدل على أنه فرد منه. فقولنا «الحيوان المفترس أسد» بالحمل الأولي ، دلّ على أن الحيوان المفترس متحد ذاتا مع المعنى الموضوع له كلمة (أسد) ، وبذلك يتعيّن المعنى الموضوع له. وقولنا : «زيد إنسان» بالحمل الشائع ، دلّ على أن زيدا فرد من هذا المعنى الكلي ، وهذا المعنى الكلي هو المعنى الموضوع له كلمة (الإنسان).

وهذه العلامة لا محصّل لها في المقام ، وذلك لأن المحمول في قولنا «الحيوان المفترس أسد» هل فرض استعماله في معنى معين دون أن يعرف في المرتبة السابقة أنه هو المعنى الموضوع له؟. أو فرض استعماله في معنى فرغ عن أنه هو المعنى الموضوع له؟.

فعلى الأول : غاية ما تقتضيه صحة الحمل أن يكون «الحيوان المفترس» عين ذاك المعنى الذي استعملت فيه لفظة (أسد). والذي لا يدرى أنه هو المعنى الحقيقي ، أو إنه هو المعنى المجازي للفظ (الأسد) فكيف يتعيّن المعنى الموضوع له اللفظ؟.

وعلى الثاني : لا معنى لجعل صحة الحمل علامة على الحقيقة ، لأنه قد فرغ من تعيين المعنى الموضوع له مسبقا ، وعلى هذا فيه دور ، لأن صحة الحمل على الثاني ، تكون في طول العلم بالوضع ، فكيف يطلب العلم بالوضع من صحة الحمل؟. ولا ينفع ما ذكرنا من التخلص في علاميّة التبادر في دفع الدور هنا ، لأن التبادر هو مجرد انتقال تصوري ، من تصور اللفظ إلى تصور المعنى ، فلا يتوقف إلّا على القرن الأكيد ، ولا يستبطن حكما تصديقيا ، بينما صحة الحمل عبارة عن حكم تصديقي من قبل المستعلم ، فلا بد من العلم بكلا الطرفين بالمعنى الموضوع له لفظ (الأسد) ، وبالمعنى الموضوع له لفظ

٢١٥

«الحيوان المفترس». فالحكم التصديقي فرع العلم بالمعنى الموضوع له ، وهذا بخلاف التبادر ، فالدور مستحكم ، وعلى هذا فالعلامة الثانية وهي صحة الحمل ساقطة.

العلامة الثالثة : الاطّراد :

ويمكن تقريب هذه العلامة بعدة وجوه :

الوجه الأول : إنّ المراد من الإطراد هو الإطراد في التبادر ، والانفهام ، وتوضيح ذلك :

ذكرنا إنّ موضوع العلامة الأولى هو التبادر الحاصل من حاق اللفظ الغير مستند إلى قرينة ، وحينئذ إذا حصل التبادر مرة يحتمل أن يكون ذلك مستندا إلى قرينة لم نلتفت إليها ، ولكن إذا حصل التبادر مرات عديدة ، فهذا الإطراد بالتبادر يوجب زوال احتمال القرينة بحسب حساب الاحتمال ، وحينئذ يكون الإطراد بالتبادر علامة على أنّ التبادر تبادر من حاق اللفظ ؛ وهذا يحقق صغرى وموضوع للعلامة الأولى ، ولا يكون الإطراد علامة برأسه.

الوجه الثاني : إنّ المراد من الإطراد هو الإطراد في الاستعمال ، وكأنه ظاهر كلام السيد الأستاذ (١). وحاصل هذا الوجه : إنّه لا بد للمستعمل إمّا أن يستعمل اللفظ في المعنى الموضوع له ، أو يستعمله في غير المعنى الموضوع له مع القرينة.

فإذا استعمل لفظ «أسد» في الحيوان المفترس مثلا ، ولم يدر إنّ هذا الاستعمال حقيقة ، أو مع القرينة ، فقد يحتمل وجود القرينة وهذا الاحتمال لا يمكن نفيه في الاستعمال الواحد ، لكن في مئات الاستعمالات يضعف جدا احتمال نصب القرينة ، فيحصل بالتدريج الوثوق والقطع بأن المستعمل

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ١٢٤.

٢١٦

استعمل اللفظ بلا قرينة ولو في بعض الموارد على الأقل ، فيستكشف الوضع بهذا الإطراد في الاستعمال.

وهذا التوجيه للاطراد غير صحيح ، وذلك لأن الاستعمال لا ينحصر بالوضع أو القرينة ، بل المصحح للانفهام هو إمّا الوضع وإما القرينة. فإن فهم المطلب من اللفظ بنحو مطّرد ، بكشف أنّ هذا الانفهام ليس بالقرينة ، وإنما بالوضع ، وهذا هو الإطراد في التبادر. وأما الاستعمال فلا ينحصر مصحّحه بالوضع ، أو بالقرينة ، لوضوح أن المستعمل قد يستعمل اللفظ في المعنى المجازي بلا وضع ، وبلا قرينة ، فيما إذا تعلق غرضه بالإجمال والإبهام ، إذن فلا يمكن بالاطّراد في الاستعمال إثبات أنّ المستعمل استند إلى الوضع فهذا الوجه غير وجيه.

الوجه الثالث : إنّ المراد من الإطراد هو اطّراد الحيثية المصححة للإطلاق ، فإطلاق اللفظ على فرد بلحاظ وجدان ذلك الفرد لحيثيته ، تكون تلك الحيثية هي المصححة للإطلاق ، فالنظر إلى تلك الحيثية إن كانت دائما مصحّحة للإطلاق فالإطلاق حقيقي وإن كانت أحيانا لا تصحّح فالإطلاق مجازي.

فمثلا حينما يطلق لفظ «الأسد» على هذا الحيوان بالخصوص ، بلحاظ وجدانه لحيثيته ، وهي كونه حيوانا مفترسا ، وهذه الحيثية المصححة مطردة ، بمعنى أنه متى ما وجد في فرد حيثية كونه حيوانا مفترسا ، يصح إطلاق اللفظ عليه ، فبهذا الإطراد تكون الإطلاقات حقيقية. ولكن حينما يطلق لفظ الأسد على زيد ، بلحاظ حيثية المشابهة للحيوان المفترس ، فهذه الحيثية ليست دائما مصححة ، فهناك مشابه للحيوان المفترس في الرائحة ، ومع هذا لا يصح إطلاق لفظ «الأسد» عليه. فالحيثية المصحّحة ليست مطردة التصحيح ، فهي حيثية مجازية.

٢١٧

وهذا يرد عليه ما أورده صاحب الكفاية (قده) (١) وحاصله : إنّ الحيثية المصحّحة للإطلاق دائما مطردة في الحقيقة ، وفي المجاز. ففي موارد المجاز : الحيثية المصححة للإطلاق ليست هي طبيعي المشابهة ، حتى يقال بأنها ليست مطردة ، بل هي المشابهة بدرجة مخصوصة في أظهر الصفات ، وهذه الحيثية مطردة التصحيح. فالإطراد في الحيثية المصححة ليست من مختصات المعنى الحقيقي ، ليكون علامة على الحقيقة.

الوجه الرابع : إنّ المراد بالاطّراد هو الإطراد في الاستعمال بلا قرينة ، بمعنى أن أبناء اللغة حينما يستعملون لفظ «الأسد» ، ويريدون به الحيوان المفترس ، مع التأكد من عدم نصب القرينة في تمام تلك الاستعمالات ، حينئذ يجعل هذا الإطراد علامة على الحقيقة.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني هو : إن في الوجه الثاني كان يقال إن الإطراد في الاستعمال يكشف عن أنّ الاستعمال بلا قرينة. أما هنا فنقول : بأن العلامة هي الإطراد في الاستعمال الذي أحرزنا قبلا أنه بلا قرينة ، وحينئذ نقول ، إذا اطّرد استعمال اللفظ في المعنى المخصوص بلا قرينة مرارا عديدة ، فهذا علامة على أن هذا هو المعنى الموضوع له ، وذلك لأنه إذا فرض في مورد واحد استعمل اللفظ ، وأريد به المعنى المخصوص ، ولم ينصب قرينة على ذلك ، فحينئذ يقال بأن الاستعمال أعم من الحقيقة ، فلعلّ المستعمل في هذا المورد أراد المعنى المجازي ، لأنّ غرضه قد تعلق بالإجمال ، ولهذا لم ينصب قرينة. ولكن إذا فرض تكرر هذا المطلب بحيث كان ديدنا وطريقة لأبناء اللغة ، بحيث يستعملون لفظ «الأسد» في المعنى المخصوص ، دون أن ينصبوا قرينة على ذلك ، فحينئذ الأمر يدور بين احتمالين :

إما أن يكون لفظ «الأسد» موضوعا للحيوان المفترس ، ولهذا استغنوا عن القرينة.

__________________

(١) حقائق الأصول : ج ١ / ص ٤٥ ـ ٤٦.

٢١٨

وإما أن يكون لفظ «الأسد» غير موضوع للحيوان المفترس ، وقد استعملوا اللفظ في الحيوان المفترس مجازا ، ولكن من باب الصدفة كان للجميع غرض في الإجمال ولهذا لم ينصبوا قرينة.

والاحتمال الثاني منفي عقلائيا باعتبار أن الإجمال. وإن كان أمرا قد يتفق مرة أو أكثر ، ولكن لا يكون الإجمال اتجاها عاما في الاستعمال ، فإنه على خلاف الطريقة العقلائية في مقام التفهيم ، فحيث لوحظ أن الاستعمال بلا قرينة كان ديدنا وطريقة ، حينئذ يستبعد الاحتمال الثاني ، ويتعيّن الاحتمال الأول. وهذا الوجه هو الصحيح لعلاميّة الإطراد ، فإنّ هذا إمارة عقلائية معتبرة في مقام تعيين الوضع.

٢١٩
٢٢٠