بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

هل يكفي في رفع محذور التقابل بين الدال والمدلول ، أو لا يكفي لذلك؟.

والصحيح إنه لا يكفي في المقام ، وذلك لأن المتضايفين على قسمين :

فهناك قسم من المتضايفين لا يوجد بينهما تعاند ذاتي في الوجود من قبيل العالم والمعلوم ، لأن الذات قد تكون عالمة بنفسها ، وإنما التعاند بينهما في عالم المفهوم فقط. وبهذا يكفي التغاير الحيثي في توجيه العالم والمعلوم مع وحدة الذات خارجا.

وهناك قسم آخر من المتضايفين يكون التعاند بينهما في مرحلة الوجود : من قبيل العلة والمعلول ، والسبب والمسبّب ، فإن الشيء الواحد خارجا ، لا يمكن أن يكون علة ومعلولا لنفسه ، وإن اختلفت الحيثية الاعتبارية ، وذلك لاستحالة إيجاد الشيء لنفسه. والدال والمدلول علة ومعلول ، لكن بحسب عالم الوجود الذهني ، لا عالم الوجود الخارجي ، فإنّ الدال علة في عالم الذهن للوجود الذهني للمدلول ، وبهذا تحصل الدلالة لأنّ معناها سببية أحد الأمرين للآخر في عالم الذهن والتصور ، فيكون التعاند بين الدال والمدلول تعاندا وجوديا ، لا مفهوميا فقط ، وفي مثل هذه الحالة يستحيل اجتماعهما. إذن فالتغاير الاعتباري الذي صوّره صاحب (الكفاية) لا يكفي لتصحيح هذا الاستعمال.

الوجه الثاني :

ومفاده ما ذكر في تقريرات المحقق العراقي (١) (قده) : من لزوم اجتماع اللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي في شيء واحد ، فإنّ استعمال اللفظ في المعنى ، هو عبارة عن جعل اللفظ ملحوظا آلة ومقدّمة للمعنى. فاللفظ ملحوظ باللحاظ الآلي باعتباره مرآة وفانيا في المعنى. والمعنى ملحوظ باللحاظ الاستقلالي ، باعتباره هو ذو المرآة ، فإذا فرض أنّ اللفظ استعمل في

__________________

(١) بدائع الأفكار ـ الآملي : ج ١ / ص ٨٨ ـ ٨٩.

١٨١

شخص نفسه ، لزم كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بما هو لفظ ، وملحوظا باللحاظ الاستقلالي بما هو معنى نفسه. وهذا معنى لزوم اجتماع اللحاظين ، مع أن اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي ، متنافيان ، يستحيل اجتماعهما في شيء واحد.

وتحقيق الكلام في ذلك هو :

إمّا أن نقول بأنّ الاستعمال عبارة عن عملية إفنائية للفظ في المعنى ، فهو من باب المرآتية.

وإما أن نقول : بأن الاستعمال بابه باب العلاميّة ، فاللفظ علامة ، والمعنى ذو العلامة ، وكل من العلامة وذيها قابل لأن يتوجّه إليه بتوجه ولحاظ استقلالي نفسي.

فإن قلنا : بأن باب الاستعمال هو باب العلاميّة ، فلا موضوع لهذا الإشكال ، لأنّ الإشكال مبني على أنّ اللفظ ملحوظ باللحاظ الآلي في مقام الاستعمال ، بينما هو ملحوظ استقلالا بناء على العلاميّة في الاستعمال ، إذن فلا يلزم اجتماع اللحاظين.

وإن قلنا : بأنّ الاستعمال بابه باب المرآتية والفنائية ، فهذا أمر غير معقول في المقام في باب إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، لكن لا بلحاظ استحالة اجتماع اللحاظين ، بل قبل أن تصل النوبة إلى ذلك ، تتبين الاستحالة ، لأنّ اللحاظ الآلي في نفسه يستدعي الاثنينية بين الآلة وذيها ، وهنا في مقام إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، لا اثنينية بين الآلة وذيها. فاللحاظ الآلي والآلية في نفسه غير معقول في المقام ، بقطع النظر عن محذور اجتماع اللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي.

وهكذا اتضح أن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه صغرى الوسيلة الإيجادية فقط. وأما إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ، فهو من صغريات الوسيلة الحكائية.

١٨٢

الأمر الخامس

تبعية الدلالة للإرادة

وفي هذا الأمر ذكرت عدة حيثيات ، ووقع في كلماتهم خلط بينها ، بحيث أرجعت. بعضها إلى البعض الآخر ، وفرض أن ملاك بعضها هو ملاك البعض الآخر. ولكن بحسب الحقيقة هذه الحيثيات متغايرة ، وملاكاتها الفنيّة متمايزة. فهناك ثلاث حيثيات لا بدّ من التكلم عنها تصورا وملاكا ثم تحقيقا ، وهذه الحيثيات هي :

١ ـ هل إنّ الدلالة الوضعية دلالة تصورية ، أو دلالة تصديقية؟.

٢ ـ هل إنّ الدلالة الوضعية تابعة للإرادة ، أو ليست تابعة للإرادة؟.

٣ ـ هل إنّ الإرادة مأخوذة قيدا في المعنى الموضوع له ، أو ليست مأخوذة قيدا في المعنى الموضوع له؟.

تصوير الحيثية الأولى : هل إن الدلالة الوضعية هي دلالة تصورية أو دلالة تصديقية ، بمعنى أن الدلالة التي صارت بسبب الوضع ، هل هي مجرد انتقاش صورة المعنى في ذهن السامع أو أن اللفظ له كشف ودلالة تصديقية على مطلب نفساني في نفس المتكلم بحيث نستكشف باللفظ مطلبا نفسانيا في نفس المتكلم؟.

والملاك الفني لهذه الحيثية ، هو تشخيص الوضع ، هل هو التعهد أو هو الاعتبار؟.

١٨٣

فإن كان الوضع هو التعهد بحيث أن المتعهّد يحدث بالتعهّد ملازمة بين النطق باللفظ ، وبين قصد التفهيم ، إذن فالدلالة الوضعية دلالة تصديقية ، بحيث يكون اللفظ كاشفا وبرهانا على أمر نفساني في نفس المتكلم ، لكنه برهان ظني قابل للتخلّف.

وإن كان الوضع هو الاعتبار بمعنى القرن الأكيد الشديد بين اللفظ والمعنى ، فالدلالة الوضعية دلالة تصوّرية ، سواء أخذت الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له ، أو لم تؤخذ الإرادة قيدا فيه ، فإنّ أخذها قيّدا معناه أن المدلول التصوري هو المعنى مع الإرادة ، ولا يغيّر ذلك من جوهر الدلالة ، وينقلها من التصورية إلى التصديقية ، فأخذ الإرادة قيدا ، أو عدم أخذها كذلك في المعنى الموضوع له ، لا يغيّر من جوهر الدلالة الوضعية ، بل هي تصورية بناء على مسلك الاعتبار والقرن. غاية الأمر أن المدلول التصوري تارة يكون ذات المعنى فقط ، وأخرى يكون المعنى المراد. فاللفظ لا يوجب إلّا انتقاش الصورة ذهنا ، ولا يوجب كشفا خارجيا حتى ولو صدر اللفظ من اصطكاك حجرين.

إذن فالملاك الفني للحيثية الأولى ، مربوط بكون الوضع هل هو التعهد أو هو الاعتبار؟.

فإن كان هو التعهد : فالدلالة الوضعية دلالة تصديقية.

وإن كان هو الاعتبار : فالدلالة الوضعية دلالة تصورية سواء أخذت الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له ، أو لم تؤخذ فيه ، غاية الأمر أن المدلول التصوري تارة يكون ذات المعنى ، وأخرى المعنى المقيّد بالإرادة ، فجوهر الدلالة الوضعية لا يتغير ، فهي دلالة تصورية.

تصوير الحيثية الثانية : هل إنّ الدلالة الوضعية تابعة للإرادة من باب تبعية المعلول للعلة ، فحيث لا إرادة فلا دلالة وضعية؟. أو إنّ الدلالة ليست تابعة لإرادة المتكلم؟.

١٨٤

وهذا المطلب يختلف تصورا وملاكا عن السابق في الحيثية الأولى :

أمّا تصورا : فواضح ، لأنّ في الحيثية الأولى ، الكلام في جوهر الدلالة الوضعية ، بينما في هذه الحيثية ، الكلام في تبعية الدلالة للإرادة ، وعدم تبعيتها للإرادة. فالكلام هنا تصورا في ظرف الدلالة الوضعية ، هل هي موقوفة على إرادة المتكلم فحيث لا إرادة فلا دلالة وضعية ، أو إنها غير موقوفة؟.

وأمّا ملاكا : فتبعية الدلالة للإرادة بناء على مسلك التعهد ، أمر غير معقول ، لأنه بالتعهد ، اللفظ يكشف عن الإرادة ، فإذا صارت دلالة اللفظ على الإرادة فرع الإرادة ، فمعنى هذا أننا نحتاج قبل دلالة اللفظ إلى أن نحرز الإرادة من الخارج ، مع أن اللفظ كاشف عن الإرادة بناء على التعهّد ، فتبعية الدلالة للإرادة خلف مبنى التعهد فهو أمر غير معقول. فتبعية الدلالة للإرادة إنما تتعقل بناء على مسلك الاعتبار ، بأن يدّعى بأن الإرادة مأخوذة قيدا في الوضع الاعتباري ، لكن ليس في المعنى الموضوع له ، لأن الإرادة حينئذ تصبح دخيلة في مدلول اللفظ ، ولا معنى لان يقال بأن دلالة اللفظ على المعنى فرع وجود المعنى خارجا ، بل لا بدّ من أن يدّعى أخذ الإرادة قيدا في نفس الوضع أو في اللفظ ، بأن يقال إن العلقة الوضعية مقيّدة بصورة وجود الإرادة ، فحينئذ يقال بأن الدلالة الوضعية فرع العلقة الوضعية ، والعلقة الوضعية فرع الإرادة ، فحيث لا إرادة ، لا علقة وضعية ، وبالتالي لا دلالة وضعية. أو يقال : بأن الإرادة مأخوذة قيدا في اللفظ ، فحيث لا إرادة يكون اللفظ بلا وضع ، فهو مهمل. ومع الإرادة يكون اللفظ موضوعا ، وبذلك تتم تبعية الدلالة للإرادة ، لأن الدلالة تابعة للوضع ، والوضع فرع أن يكون اللفظ مقرونا بالإرادة.

إذن الحيثية الثانية معاكسة للحيثية الأولى. فملاك كون الدلالة تصديقية ، هو التعهد ، لكن التعهد لا يناسب تبعية الدلالة للإرادة ، بل يناسب مسلك الاعتبار ، بأخذ الإرادة قيدا في الوضع ، أو في اللفظ ، لا في المعنى الموضوع له. وحينئذ قد يقال بتبعية الدلالة للإرادة.

١٨٥

تصوير الحيثية الثالثة : هل إنّ الإرادة مأخوذة قيدا في المدلول ، أو ليست مأخوذة قيدا في المدلول؟.

وهذا المطلب يغاير المطلبين السابقين لأن في هذا المطلب لا يراد معرفة جوهر الدلالة ، أو ما هو ظرفها ، بل يراد معرفة حدود هذه الدلالة ، وهل أن المدلول هو ذات المعنى ، أو المعنى مع الإرادة.

تحقيق الكلام في الحيثية الأولى :

هل إنّ الدلالة الوضعية دلالة تصورية أو دلالة تصديقية؟.

والصحيح إنّها دلالة تصورية ، وليست مستبطنة للدلالة التصديقية ، وتحقيق ذلك ببيان مقدمتين :

ـ المقدمة الأولى : إنّ الوضع ليس هو التعهّد ، بل هو الاعتبار بالمعنى المختار ، حيث أن الواضع يقرن صورة شيء مع صورة شيء آخر كما في السكوني والنوفلي ، فيوجب انتقال الذهن من صورة اللفظ إلى صورة المعنى ، وقد تقدم توضيح ذلك في بحث الوضع.

ـ المقدمة الثانية : إنّ تصوير كون الدلالة الوضعية تصديقية ، هو معقول بناء على مسلك التعهّد ، وغير معقول بناء على مسلك الاعتبار.

أمّا كونه معقولا بناء على مسلك التعهّد : ففي غاية الوضوح ، لأنّ المتعهد يوجد ملازمة بين اللفظ والإرادة ، وينشأ بذلك الانتقال التصديقي من أحدهما إلى الآخر.

وأمّا عدم معقوليته بناء على مسلك الاعتبار : فواضح أيضا ، لأنّ الاعتبار هو قرن صورة اللفظ مع صورة المعنى في ذهن السامع ، وهذا القرن بين الصورتين يوجب تلازما بين تصور اللفظ ، وتصور المعنى ، فينتقل من أحد التصورين إلى التصور الآخر. وهذا الانتقال انتقال تصوري لا محالة ، وهو

١٨٦

معنى الدلالة التصورية. ولا يفرّق فيه بين أخذ الإرادة قيدا في المعنى الموضوع فيه ، وعدم أخذها كذلك :

فإذا كانت الإرادة غير مأخوذة في المعنى الموضوع له ، فالواضع كأنه قرن بين صورة اللفظ وصورة ذات المعنى ، فمن الواضح حينئذ أن الانتقال انتقال تصوري محض ، وأمّا إذا كانت الإرادة مأخوذة قيدا في المعنى الموضوع له فقد يتوهم حينئذ بأن هذا يجعل الدلالة دلالة تصديقية ، ولكن هذا غير صحيح. وتفصيل القول في ذلك أن الإرادة المأخوذة في المعنى لا يخلو أمرها من أحد ثلاث احتمالات :

الاحتمال الأول : أن يكون المأخوذ في المعنى مفهوم الإرادة الكلي ، بمعنى أن لفظة (ماء) موضوعة للسائل المراد ، بحيث يكون مفهوم الإرادة بوجه كلي أخذ قيدا فيه.

الاحتمال الثاني : أن يكون المأخوذ في المعنى مفهوم الإرادة الجزئي ، يعني مفهوم إرادة هذا الإنسان بالخصوص. فحينما يقول «زيد ماء» فلفظة (ماء) معناها السائل المراد لزيد بالخصوص.

الاحتمال الثالث : أن يكون المأخوذ في المعنى واقع الإرادة ووجودها في نفس المتكلم ، لا مفهومها الكلي ، ولا مفهومها الجزئي. والفرق بين الاحتمال الثالث ، والاحتمالين الأولين ، في غاية الوضوح :

ففي الأولين لم يؤخذ وجود الإرادة قيدا في المعنى ، بل أخذ مفهومها خاليا من الوجود والعدم.

وأما في الثالث لم يؤخذ مفهوم الإرادة بل واقعها ووجودها الخارجي ، بحيث لو لم يكن لها وجود خارجي فالمعنى غير تام بنفسه.

وإن شئت قلت : إنّ صورة الإرادة في الأولين لم يؤخذ فيها كونها مطابقة للواقع ، وذات مصداق في الخارج.

١٨٧

وأما في الثالث فقد أخذ فيها كونها مطابقة للواقع والخارج. فالمدلول هو صورة سائل مراد ، بنحو يكون لهذه الصورة مطابق في نفس المتكلم.

وأما الاحتمال الأول : لو قلنا به لا ينتج كون الدلالة تصديقية بناء على مسلك الاعتبار ، لأن غاية ما يوجبه الاحتمال هو أنّ المدلول التصوري عبارة عن المعنى مع مفهوم الإرادة الكلي ، فلم تخرج الدلالة عن كونها تصورية ، وإنما طعّم المدلول التصوري بقيد زائد وهو مفهوم الإرادة على وجه كلي ، تماما كما لو طعّمنا المدلول التصوري ، وهو السائل بقيد أن يكون حارا ، فهذا لا يخرج الدلالة الوضعية عن كونها تصورية.

أيضا لو قلنا بالاحتمال الثاني : فنفس الكلام إذ يطعّم المدلول التصوري بقيد زائد ، وهو مفهوم الإرادة على وجه جزئي ، وهذا لا يخرج الدلالة عن كونها تصورية.

وأما الاحتمال الثالث ، وهو كون المأخوذ صورة الإرادة المطابقة مع الواقع ، بحيث تؤخذ المطابقة قيدا في الإرادة ، فيصير المأخوذ مفهوم الإرادة بشرط أن يكون لهذا المفهوم مصداق في الخارج ، ثابت في نفس المتكلم ، وحينئذ يقال : بأن هذا يوجب تطعيم الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية ، لأن هذه الدلالة الوضعية هنا توجب الانتقال من صورة اللفظ إلى صورة المعنى ، وصورة الإرادة المشروطة بأن يكون لها مطابق في الخارج ، وهذا هو معنى التصديق.

إلّا أن هذا الاحتمال الثالث في نفسه غير معقول ، بناء على مسلك الاعتبار ، وتوضيح عدم معقوليته.

إن القرن بين شيئين تارة يكون في الخارج ، فيقرن الوجود الخارجي لأحدهما بالوجود الخارجي للآخر ، من قبيل اقتران الحرارة بالنار. وأخرى يقرن الوجود التصوري لأحدهما بالوجود التصوري للآخر :

١٨٨

ففي الحالة الأولى : الاقتران يوجب الانتقال التصديقي من أحدهما إلى الآخر.

وفي الحالة الثانية : غاية ما يوجبه القرن بينهما هو الملازمة بين التصورين ، بحيث ينتقل من أحد التصورين إلى التصور الآخر ، ولا يعقل أن يكون هذا الانتقال إلّا انتقالا تصوريا ، لأنه فرع الملازمة ، والملازمة قائمة هنا بين التصورين ، فينتقل من تصور إلى تصور آخر.

إذن فالانتقال إما أن يكون بلحاظ القرن بين الوجودين الخارجيين فيكون تصديقيا ، وإما بلحاظ القرن بين التصورين فيكون تصوريا. وعليه ففي محل الكلام إذا فرض أن الواضع قرن بين وجود اللفظ ووجود الإرادة ، وجعل ملازمة بينهما ، فيكون الانتقال تصديقيا كالانتقال من النار إلى الحرارة ، إلّا أن هذا خلف ، لأننا نتكلم بناء على مسلك الاعتبار ، وإن قرن الواضع بينهما بلحاظ الصورتين الذهنيتين ، فيستحيل أن يكون هذا القرن موجبا إلّا للملازمة في عالم التصور ، وتلك الملازمة لا توجب إلّا الانتقال من تصور إلى تصور.

وأمّا أن هذا التصور هل هو مطابق للواقع أو ليس مطابقا للواقع؟ فهذا ليس في عهدة القرن والوضع ، بل هو في عهدة شيء آخر.

إذن فالاحتمال الثالث في نفسه غير معقول بناء على مسلك الاعتبار ، وإنما المعقول بناء عليه ، هو أحد الاحتمالين الأولين ، وهو أن يكون المأخوذ في المعنى مفهوم الإرادة بوجه كلي أو بوجه جزئي ، ولا تتغير الدلالة من تصورية إلى تصديقية ، فالانتقال إلى السائل المقيّد انتقال تصوري. فكما لا يكشف مثل هذا الانتقال التصوري تصديقا عن وجود السائل في الخارج ، كذلك لا يكشف تصديقا عن وجود الإرادة خارجا. فحال القيد هو حال المقيّد ، والدلالة دلالة تصورية محضة. وهذا لا ينافي القول بوجود دلالة تصديقية ، لكن ليس منشؤها هو الوضع ، بل إمارة حالية وهي إمارة الغلبة ، وذلك لأن الغالب في حال تكلم العاقل بكلام موضوع لمعنى أن يقصد تفهيم

١٨٩

ذلك المعنى ، وهذه الغلبة العقلائية أمر ارتكازي في الأذهان العرفية والعقلائية ، فتحسب من قبيل القرائن المتصلة التي توجب ظهورا في الكلام ، كاشفا كشفا تصديقيا عن هذه الإرادة ، والقرائن المتصلة سواء أكانت ارتكازية ، أو لفظية ، تشكّل ظهورا في اللفظ ، وهذا الظهور دلالته تصديقية ، وليست تصورية ، إلّا أن هذه الدلالة التصديقية ، ليست وضعية ، بل هي دلالة بعد الوضع ، ومترتبة عليه.

تحقيق الكلام في الحيثية الثانية :

هل إنّ الدلالة الوضعية هي في طول الإرادة؟. فحيث لا إرادة في نفس المتكلم فلا دلالة للفظ على المعنى؟.

أو أنّ الدلالة محفوظة سواء أكان المتكلم مريدا أو غير مريد؟.

في تحقيق هذا المطلب يقال : بأننا تارة نبني على مسلك التعهد في باب الوضع ، وأخرى نبني على غير مسلك التعهد.

فإن بنينا على التعهد فلا يعقل تبعية الدلالة للإرادة ، لأنّ التعهد يقتضي كما بينا أن تكون الدلالة الوضعية تصديقية ، ويطلب من اللفظ أن يكون كاشفا عن الإرادة ، وحينئذ كيف يعقل أن يقال : بأن كاشفية اللفظ عن الإرادة فرع وجود الإرادة ، لأن ذلك معناه أن نحرز من الخارج وجود الإرادة ، ومع الإحراز أصبح اللفظ كاشفا عن الإرادة ، ومثل هذا الكشف لا محصّل له لأنه كشف لما هو مكشوف ، فلا معنى لأن تكون الدلالة الوضعية منوطة بوجود الإرادة بل هي بنفسها تكشف عن وجود الإرادة. فالتبعية بناء على مسلك التعهد أمر غير معقول.

أما بناء على مسلك الاعتبار ، وكون الوضع هو إيجاد علقة اعتبارية بين اللفظ والمعنى ، فقد يقال كما في كلمات السيد الأستاذ ، بأن هذه العلقة الاعتبارية المجعولة من قبل الواضع ، لا بدّ من تصويرها بنحو ، بحيث تكون الدلالة تابعة للإرادة.

١٩٠

وتوضيح ما ذكر في تصوير ذلك هو :

إنّ الواضع حينما يضع اللفظ للمعنى له غرض عقلائي ، وغرضه هذا هو انتقال ذهن السامع من اللفظ إلى المعنى ، لكن ليس مطلقا وكيفما اتفق ، بل بشكل مشروط بصورة وجود الإرادة التفهيمية من قبل المتكلم. أمّا الانتقال في غير هذا الظرف المخصوص والمشروط ، فهو ليس مشمولا لغرض الواضع.

وبناء على ذلك : فلا بدّ للواضع أن يجعل الوضع على طبق غرضه ، فيقيد نفس الوضع بصورة كون المتكلم مريدا لتفهيم المعنى ، إذا لو كان الوضع مطلقا ، لكان إطلاقه لغوا ، لأنه ليس داخلا في غرضه ، فلا بد من تقييد الوضع ، ومرجع ذلك إلى أن الدلالة تابعة للإرادة ، لأن الدلالة فرع الموضوعية ، والموضوعية قيّدت بإرادة التفهيم ، فتكون الدلالة موقوفة وتابعة للإرادة.

إلّا أن هذا لبيان غير صحيح ، وذلك لوجهين :

أ ـ الوجه الأول : وهو مبني على المماشاة مع التصورات المشهورية التي اقتضاها البيان المذكور ، وحاصل هذا الوجه : إننا لو سلّمنا بأن غرض الواضع هو الانتقال من اللفظ إلى المعنى في ظرف مخصوص ، وهو ظرف وجود الإرادة التفهيمية ، ولكن مع هذا لا يلزم محذور جعل الوضع مطلقا ، لأن الواضع إذا جعل اللفظ موضوعا للمعنى على الإطلاق ، فقد دخل في جعله ظرف إرادة التفهيم أيضا وصار جعله أوسع دائرة من غرضه ، باعتبار الإطلاق ، وحينئذ :

إن قلنا : بأن الإطلاق مئونة زائدة ، يلزم من ذلك إشكال اللغوية ، لأن الواضع لما ذا قام بهذه المئونة الزائدة مع أنها غير داخلة في غرضه؟. فبإمكانه أن يجعل الوضع مقيدا.

وإن قلنا : بأن الإطلاق ليس فيه مئونة زائدة ، كما هو الصحيح لأن الإطلاق هو مجرد عدم التقييد ، فليس فيه مئونة لحاظية زائدة ، فلا يشكل على

١٩١

الواضع باللغوية ، لأنه لم يأت بمئونة زائدة ليسأل عن سبب الإتيان بها.

ب ـ الوجه الثاني : وهو حاقّ الجواب في المقام وحاصله : إنّ البيان المذكور مبني على أن الوضع من قبيل المجعولات الاعتبارية التشريعية التي تقبل الإطلاق والتقييد ، كوجوب الصلاة بعد الزوال ، وعدم وجوبها قبل الزوال.

إلا أن هذا التوهم غير صحيح ، وقد اتضحت عدم صحته مما تقدم في حقيقة الوضع ، فقد تقدم أن حقيقة الوضع هو القرن. والقرن علة تكوينية لانتقال الذهن من أحد المقترنين إلى الآخر ، وليس علة جعلية واعتبارية. وإذا كان الواضع يستعمل الاعتبار ، إنما ذلك من باب أن الاعتبار مقدمة إعدادية لقرن اللفظ بالمعنى. فعندنا في المقام شيئان ، علة ومعلول : العلة هي نفس القرن في انتقال الذهن من أحد المقترنين إلى الآخر ، والمعلول هو نفس الملازمة التكوينية بين تصور اللفظ وتصور المعنى. بحيث متى ما تصوّر اللفظ تصوّر المعنى ، وحينئذ ما ذا يقيّد هنا؟.

أمّا نفس القرن فهو فعل خارجي تسبيبي ، فالواضع إمّا أن يكرّر عملية القرن خارجا ، أو يتسبب إلى القرن بالاعتبار والوضع ، وحينئذ لا معنى لتقيد هذا القرن أو إطلاقه.

وأمّا معلول هذا القرن فهو أيضا ملازمة تكوينية قهرية قائمة بين اللفظ والمعنى ، ولا يمكن بعد هذا فرض الملازمة في حال دون حال ، لأن ذلك تفكيك بين المعلول والعلة. وهو خلف القرن لأن القرن يوجب تكوينا الملازمة في عالم التصور بين اللفظ والمعنى.

إذن فالتقييد في المقام غير معقول ، لا في نفس القرن ، ولا فيما ينشأ من القرن من الملازمة التكوينية بين تصور اللفظ وتصور المعنى.

نعم الشيء الممكن في المقام هو أن يقيّد أحد طرفي الاقتران. بأن يقرن لفظة (زيد) المنصوبة بالمعنى الفلاني ، ولكن هذا بحسب الحقيقة ليس تقييدا

١٩٢

للوضع والقرن ، ولا تقييدا للملازمة ، بل هو تحصيص لأحد طرفي القرن ، وأحد طرفي الملازمة. وهذا أمر بيد الإنسان ، فتارة يقرن بين زيد والمعنى على الإطلاق ، وأخرى يقرن بين زيد المنوّن والمعنى ، بأن يأخذ التنوين قيدا في زيد ، أو يأخذ قيد الطول مثلا. فمتى ما سمعنا كلمة (زيد) تصورنا الإنسان الطويل ، فهذا أمر معقول أن يأخذ القيد في اللفظ أو في المعنى. أمّا تقييد نفس الوضع فهو أمر غير معقول.

إذن فتصحيح تبعية الدلالة للإرادة بهذا البيان المذكور من كون الوضع من قبيل المجعولات التشريعية هو غير صحيح.

وبقي في المقام فرضان آخران وهما : هل إنّ أخذ الإرادة قيد في اللفظ ، يصحّح تبعية الدلالة للإرادة ، أو إنّ أخذ الإرادة قيد في المعنى يصحح ذلك؟.

والصحيح إنه لا يصحح :

فأما أخذ الإرادة قيدا في المعنى : إن أريد به مفهوم الإرادة ، فاللفظ يدل على مفهوم الإرادة ولو صدر من نائم ، وهذا غير تبعية الدلالة للإرادة كما هو واضح ، فإن دلالة اللفظ على المفهوم لا يتوقف على وجود ذلك المفهوم خارجا ، فإن اللفظ يدل على المفهوم سواء أكان هذا المفهوم موجودا في الخارج ، أو لم يكن موجودا في الخارج.

وإن أريد به الوجود الخارجي للإرادة فهو غير معقول كما سبق.

إذن فتبعية الدلالة للإرادة ، لا يتصور بناء على مسلك الاعتبار ، كما لا يتصور بناء على مسلك التعهد.

وأما في الفرض الثاني وهو أخذ الإرادة قيدا في اللفظ كما يأخذ التنوين في اللفظ ، فقد يتوهم أن اللفظ المقيّد بأن يكون معه إرادة هو مقرون مع المعنى الفلاني ، فاللفظ الذي ليس معه إرادة ليس مقرونا بذلك المعنى ، إذن فلا يدل عليه ، فتكون الدلالة تابعة للإرادة.

١٩٣

هذا أيضا غير معقول لما بينّاه من أن الملازمة لها عالمان :

إما ملازمة في عالم الوجود الخارجي من قبيل وجود النار والحرارة ، فالانتقال من أحدهما إلى الآخر انتقال تصديقي.

وإما ملازمة في عالم الوجود التصوري الذهني ، فالانتقال يكون تصوريا ما بين صورة اللفظ وصورة المعنى ، وحينئذ أيّ قيد يؤخذ في اللفظ ، إذا كان قيدا تصوريا يعقل أخذه في اللفظ من قبيل التنوين ، لأننا نتكلم بناء على مسلك الاعتبار. وأما أخذ الوجود الخارجي للإرادة فهذا ليس قيدا تصوريا ، بل قيد تصديقي ، ورجوع إلى الملازمة بين الوجودين في عالم الخارج ، وهو خلف.

إذن اتضح عدم معقولية تبعية الدلالة للإرادة. أمّا تقييد نفس الوضع فهو غير معقول ، لأنه ليس من المجعولات الاعتبارية.

وأمّا تقييد المعنى الموضوع له :

فإن قيّد بمفهوم الإرادة ، فاللفظ لا يتوقف على وجود هذا المفهوم خارجا.

وإن قيّد بواقع الإرادة فهو غير معقول كما بيّنا.

وإن أخذت الإرادة قيدا في اللفظ ، فهو أيضا غير معقول ، لأن اللفظ يعقل أن يقيّد بقيود تصورية لا بقيود تصديقية. إذن فالدلالة غير تابعة للإرادة ، لا بناء على مسلك التعهد ، ولا بناء على مسلك الاعتبار.

تحقيق الكلام في الحيثية الثالثة :

هل الإرادة مأخوذة في المعنى الموضوع له ، أو ليست مأخوذة؟.

هذا المطلب يفترض فيه ثلاث افتراضات :

الأول : أن يكون المأخوذ في المعنى الموضوع له ، مفهوم الإرادة بوجه

١٩٤

كلي ، حيث تكون لفظة «ماء» موضوعة للسائل المراد.

الثاني : أن يكون المأخوذ فيه ، مفهوم الإرادة بوجه جزئي ، يعني مفهوم إرادة هذا الإنسان بالخصوص.

الثالث : أن يكون المأخوذ فيه ، واقع الإرادة ووجودها الخارجي القائم في نفس المتكلم ، لا مفهومها على وجه كلي ، أو جزئي.

أمّا الافتراض الأول : فليس فيه محذور ثبوتي بحيث ينسبق إلى الذهن السائل المراد حينما نقول «ماء» وإنما فيه المحذور الإثباتي ، لكونه بخلاف الوجدان خارجا. فإن مفهوم الإرادة لا ينسبق من الألفاظ على حد انسباقه من نفس لفظة «إرادة». فحينما يقال «إرادة» ينسبق مفهوم الإرادة ، بينما إذا قيل «ماء» لا ينسبق مفهوم الإرادة زائدا على السائل المخصوص.

وأمّا الافتراض الثاني : فينحصر إبطاله أيضا بالمحذور الإثباتي ، فإنّ إرادة زيد حصة من مفهوم الإرادة ، فهو مفهوم جزئي ، وإرادة عمر حصة من مفهوم الإرادة ، فهو مفهوم جزئي ، وهكذا. فيظهر وجه إبطاله بكونه بخلاف الوجدان ، وربما يعترض عليه أيضا بمحذور آخر ، وهو : إنه بناء على أخذ الحصص المفهومية للإرادة ، يلزم كون وضع أسماء الأجناس من الوضع العام والموضوع له الخاص ، لأن الواضع تصوّر مفهوم الإرادة ، ووضع لفظة (الماء) للسائل الذي اقترن بواحد من حصص هذا المفهوم ، ولكن هذا ليس محذورا قائما برأسه ، إذ لا برهان على أن يكون أسماء الأجناس موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام ، فلا يكون إشكالا واقعيا ، وإنما هو إشكال جدلي.

وأما الافتراض الثالث : فبناء على مسلك التعهد ، تكون الإرادة هي تمام مدلول اللفظ ، لا إنها قيد في مدلول اللفظ ، فهذا الافتراض صحيح لكن بتحويل القيدية إلى التمامية ، بأن يقال : إنّ الإرادة هي تمام المدلول الوضعي للفظ ، لأن الدلالة الوضعية بناء على مسلك التعهد ، دلالة تصديقية كاشفة عن أمر واقعي قائم في نفس المتكلم ، وهو الإرادة.

١٩٥

وأمّا بناء على مسلك الاعتبار ، فأصل واقع الإرادة في المعنى الموضوع له غير معقول ، وذلك لأن الانتقال من تصور اللفظ إلى واقع الإرادة غير معقول لما قلناه ، من أن الانتقال فرع الملازمة. فإن كانت الملازمة بين الوجودين الخارجين من قبيل الملازمة بين النار والحرارة ، فيكون الانتقال انتقالا تصديقيا. وإن كانت الملازمة بين تصورين من قبيل تصور السكوني وتصور النوفلي ، فيكون الانتقال انتقالا تصوريا. ولا يعقل قيام الملازمة بين تصور ، ووجود خارجي ، وهنا في محل الكلام حينما يوضع اللفظ للمعنى وتؤخذ الإرادة بوجودها الخارجي قيدا في المعنى الموضوع له ، فهنا الملازمة لم تجعل بين الإرادة بوجودها الخارجي واللفظ بوجوده الخارجي ، فإن مرجع هذا إلى أن الواضع تعهّد بأن لا يوجد اللفظ إلّا حينما توجد الإرادة وهو خلف ، لان الكلام بناء على مسلك الاعتبار ، وإن كانت الملازمة بين الوجود الخارجي للإرادة ، وتصور اللفظ ، فهذا غير معقول لأن الملازمة إما بين الوجودين الخارجيين وإما بين التصورين ، ولا يعقل الملازمة بين تصور شيء ووجود خارجي لشيء آخر ، فأخذ الإرادة قيدا في المعنى الموضوع له بوجودها الخارجي ، أمر غير معقول بناء على مسلك الاعتبار.

والمحقق الخراساني (١) (قده) ذكر وجوها أخرى لبيان عدم معقولية ذلك نذكر منها وجهين :

الوجه الأول :

إنه يلزم من أخذ واقع الإرادة في المعنى الموضوع له ، عدم انطباق مداليل. الألفاظ على الخارج ، لأنها تصبح أمورا ذهنية فلا يعقل انطباقها على الخارجيات ، وتوضيح ذلك بأن يقال :

إن الإرادة إنما تتعلق بالصورة الذهنية للماهية المرادة الموجودة في أفق

__________________

(١) حقائق الأصول ـ الحكيم ج ١ ص ٣٦ ـ ٣٧. بتصرف.

١٩٦

النفس. فمن أراد شرب الماء ، فالمراد له بالذات ، وبالحقيقة هو الوجود الذهني لشرب الماء ، القائم في أفق النفس. وعليه فلفظة «ماء» أو لفظة «الشرب» بناء على أن يكون قد أخذ في موضوعها الإرادة ، يعني موضوعة للمراد بالذات ، وهو الوجود الذهني المقوّم للإرادة في أفق النفس ، وحينئذ هذا الوجود الذهني لا يعقل انطباقه على الخارج.

والصحيح أنه عندنا شيئان : مراد بالذات ومراد بالعرض.

المراد بالذات : هو الوجود الذهني للماهية القائم في أفق الإرادة ، والمقوّم للإرادة في نفس المتكلم ، بمعنى أن شرب الماء بما هو موجود ذهني هو المراد بالذات.

وعندنا مراد بالعرض وهو ذات الماهية من دون أن يلحظ معها الوجود الذهني ، بمعنى ماهية شرب الماء من دون أن تطعّم بالوجود الذهني ، هذا مراد بالعرض لأن شئون الوجود تضاف دائما إلى الماهية بالعرض ، فكل شأن يثبت للوجود بالذات ، يثبت لماهية ذلك الوجود بالعرض ، فالوجود الذهني لشرب الماء مراد بالذات ، وماهية شرب الماء التي هي ماهية هذا الوجود الذهني مراد بالعرض ، فعندنا إذن نسبتان :

ـ نسبة ذاتية للإرادة مع مرادها بالذات ، وهو الموجود الذهني بما هو موجود ذهني.

ـ نسبة عرضية للإرادة إلى ذات الماهية ، بما هي ، لا بما هي موجودة في الذهن.

وحينئذ إما أن تكون لفظة (الماء) موضوعة للمراد بالذات ، يعني موضوعة بإزاء تلك الوجودات الذهنية التي تنسب إليها الإرادة نسبة ذاتية.

وإما أن تكون لفظة (الماء) موضوعة لذوات الماهيات ، لكن مقيدة بنسبة الإرادة إليها بالنسبة العرضية.

١٩٧

فعلى الأول يرد إشكال صاحب (الكفاية) لأن الوجود الذهني بما هو موجود ذهني لا ينطبق على الخارج.

وعلى الثاني حيث ذات الماهية مقيدة بقيام نسبة عرضية بين الإرادة وبينها ، فمثل هذه الماهية قابلة للانطباق على الخارج ، ولهذا قد أشير إلى الخارج وأقول هذا مرادي. فهذا الإشكال غير وارد على أخذ الإرادة قيدا ، لان التقييد لا ينحصر أمره بكونه بمعنى النسبة الذاتية القائمة بين الإرادة والمراد بالذات ، بل قد تؤخذ النسبة العرضية القائمة بين الإرادة وذات الماهية بما هي هي ، ومثل هذه النسبة العرضية لا توجب صيرورة المعنى أمرا ذهنيا ، فلا يستحيل انطباقه على الخارج ، فالإشكال الأول لا يمكن المساعدة عليه.

الوجه الثاني :

وحاصله : لو كنا نعبر عن الإرادة بقصد تفهيم المعنى مثلا ، عندئذ نقول : بأنّ قصد تفهيم المعنى لا يعقل أخذه قيدا في المعنى لأن قصد تفهيم المعنى في طول تفهيم المعنى ، لأن الإرادة في طول المراد ، فإذا كانت الإرادة في مرتبة متأخرة عن ذات المعنى المراد ، فكيف يعقل أخذها قيدا في ذات المعنى؟. فيلزم من ذلك التهافت وأخذ المتأخر في المتقدم ، فإنّ الإرادة يعني قصد تفهيم المعنى بما هو إرادة للمعنى فهو في طول المعنى ، وبما هو قيد للمعنى ، فهو في رتبة المعنى ، فيلزم التهافت باللحاظ.

وهذا الإشكال مبني على المغالطة ، وذلك باعتبار أن قصد تفهيم تمام المعنى هذا في طول تمام المعنى ، فلا يعقل أن يكون هذا القصد بشخصه جزءا من ذلك التمام ، إذ يلزم أن يكون ما هو في الطول هو في العرض.

ففي المقام إذا ادّعي أنّ قصد تفهيم جزء المعنى هو جزء آخر من المعنى ، فلا يلزم من ذلك أي إشكال ، بأن يقال : إنّ لفظة (الماء) لها معنى ، وهذا المعنى مركب من جزءين : أحد الجزءين هو السائل البارد بالطبع ، والجزء الآخر للمعنى هو قصد تفهيم هذا الجزء ، إذن فقصد تفهيم هذا الجزء

١٩٨

لا يكون في طول تمام المعنى ، بل يكون في طول جزء المعنى ، ويكون هو بنفسه الجزء الآخر للمعنى ، فيكون المعنى متكونا من أمرين طوليين ، ولا محذور في ذلك.

وبحسب الحقيقة الإشكال نشأ من طرز التعبير ، فتارة نقول بأن قصد تفهيم تمام المعنى أخذ في المعنى ، فهذا تهافت : لأننا حينما نقول قصد تفهيم تمام المعنى يعني فرضنا تمام المعنى في المرتبة السابقة على هذا القصد ، فكيف يكون هذا القصد بنفسه دخيلا في تمام المعنى ، وجزءا منه إمّا بنحو الشرطية أو الشّطرية فهذا تهافت؟. وأما إذا قلنا بأن تمام المعنى مركب من جزءين : أحدهما هو السائل البارد ، والآخر هو قصد تفهيم هذا الجزء ، إذن فهنا حصلت طولية بين جزء المعنى والجزء الآخر للمعنى ، وفي مثل هذا لا يرد التهافت باللحاظ.

١٩٩

الأمر السادس

هل أن المركّب موضوع بوضع زائد

على وضع أجزائه أو لا؟

الأمر السادس : المركبات ووضعها

وقع البحث في أنه هل يكون للمركّبات وضع زائد على وضع موادها أو لا يكون؟.

وتوضيح الكلام في ذلك هو : إنّ الجملة التركيبية التامة اسمية كانت من قبيل «زيد عالم» أو فعلية من قبيل «ضرب زيد» لها ثلاثة أنواع من الأجزاء :

أ ـ النوع الأول : الأجزاء التي هي مواد المفردات من قبيل «زيد وعلم» ، «زيد وضرب».

ب ـ النوع الثاني : هيئات المفردات من قبيل هيئة «عالم» وهيئة فعل الماضي «ضرب».

ج ـ النوع الثالث : الهيئة التركيبية القائمة بالتركيب ـ بمجموع الكلمتين ـ كهيئة تقديم هذا ، وتأخير ذاك ، بنحو مخصوص.

والجملة هي عبارة عن المجموع المركب من هذه الأنواع الثلاثة ـ المواد ، وهيئات المواد ، والهيئة التركيبية ، ـ ولا إشكال في أن مواد المفردات موضوعة لمعانيها ، وقد تقدم ذلك في الأسماء والحروف ، ولكن

٢٠٠