بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

وهناك قسم آخر من التجوز يكون في مرحلة التطبيق والادّعاء ، وذلك بأن يفرض أن كلمة (أسد) قد استعملت في معناها الموضوع له ، وهو مفهوم الحيوان المفترس. ولكن ادّعى عناية أن زيدا فرد من الحيوان المفترس لشدة مشابهته في الشجاعة له ، فيطبّق المفهوم على مصداقه الخارجي ، والقسم الثاني من التجوز خارج عن محل النزاع. فإن اللفظ قد استعمل في معناه الموضوع له بلا عناية زائدة على كون اللفظ موضوعا لمعناه الحقيقي ، وإنما العناية أعملت في مقام تطبيق المفهوم على غير مصداقه الحقيقي. فالعناية المبذولة عناية عقلية ، وليست عناية لفظية واستعمالية.

فالخلاف بين المسلكين في القسم الأول من التجوز ، فيما إذا استعملت لفظة (أسد) في مفهوم آخر مباين للمفهوم الذي وضعت له ، فحينئذ يقال بأن هذا الاستعمال هل يحتاج تصحيحه إلى عناية إضافية زائدة على وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، أو لا يحتاج إلى ذينك المسلكين؟.

١٦١

المسلك الأول

وهو القائل بلزوم عناية إضافية في مقام تصوير وتصحيح استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، هذا المسلك يمكن تقريبه بعدة وجوه :

الوجه الأول :

ما ذكره السيد الأستاذ ، وحاصله (١) : إنّ هناك عناية زائدة تكون هي المصححة لاستعمال اللفظ في المعنى المجازي. وهذه العناية هي وضع اللفظ للمعنى المجازي ، ولكن وضعا مشروطا لا وضعا مطلقا ، وتوضيح ذلك :

بناء على مسلك التعهّد في الوضع ، فاللفظ كما يكون موضوعا للمعنى الحقيقي ، بمعنى أنّ الواضع يتعهد متى ما أتى بلفظ (أسد) يقصد الحيوان المفترس ، كذلك اللفظ موضوع للمعنى المجازي أيضا ، بمعنى أنّ الواضع يتعهد متى ما قصد تفهيم الرجل الشجاع أتى بلفظ (الأسد) مقرونا بالقرينة. فالوضع الأول مطلق والثاني مقيّد بالقرينة. وهذا هو معنى الأوضاع المشروطة للمعنى المجازي. فكل لفظ موضوع للمعنى المجازي ، فهو مشروط ومقيّد بوجود القرينة. ومن أجل هذا لو فرض أن اللفظ لم يؤت معه بالقرينة. يحمل على المعنى الحقيقي لا محالة ، باعتبار أن وضعه للمعنى المجازي مقيّد

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ٩٤.

١٦٢

بفرض وجود القرينة ، فمع عدم وجود القرينة يحمل على المعنى الحقيقي.

ويرد على ذلك :

أ ـ إنّه ما هو المقصود من هذا الوضع ، ومن هذا التعهد؟. فإن كان المقصود هو انتقال ذهن السامع إلى مراد المتكلم في فرض وجود القرينة ، فهذا الوضع لغو ، لأن القرينة بنفسها تكفي لتعيين مراد المتكلم ، وإن كان الغرض هو انتقال ذهن السامع إلى مراد المتكلم في فرض عدم وجود القرينة. فهذا الوضع لا يكفي لذلك ، لأنه مشروط بالقرينة. فمع عدمها لا يوجد هذا الوضع ليكون موجبا للانتقال ، فهو لغو.

ب ـ إنّ من نتائج هذا الوضع المشروط بوجود القرينة ، صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، فلا يصح هذا الاستعمال إلّا مع وجود الشرط فصحته موقوفة على وجود شرط الوضع وهو القرينة ، مع أنه من الواضح أن استعمال اللفظ في المعنى المجازي في نفسه ، صحيح حتى بلا قرينة ، غاية الأمر أن بابه باب الإجمال فيما إذا كان المتكلم يريد أن يخفي مقصوده ، ولا يوضح مراده. فيمكن أن يستعمل اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة.

إذن فهذا يكشف عن أنّ صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي لها منشأ أوسع من هذا الوضع المشروط ، إذ لو كان منشؤها هذا الوضع المشروط ، لاختصّت الصحة بما إذا وجد الشرط وهو غير لازم كما هو واضح.

الوجه الثاني :

وحاصل هذا الوجه في تصوير العناية الإضافية ، هو أن يقال بوضع مطلق نوعي ، بحيث يلتزم بأن لفظ (الأسد) موضوع لكلا المعنيين للحيوان المفترس ، وللرجل الشجاع بوضعين مطلقين بدون تقييد بالقرينة ، غاية الأمر أن اللفظ موضوع للحيوان المفترس ، بما هو حيوان مفترس ، بعنوانه الأصلي ، وموضوع للرجل الشجاع ، لا بما هو رجل شجاع ، بل بما هو مناسب للحيوان

١٦٣

المفترس. ولهذا كان وضعا نوعيا ، لأن الواضع لم يضع كل لفظ لكل معنى من معانيه المجازية ، بل بنحو واحد وضع كل لفظ لما يناسب معناه الحقيقي. فيكون عندنا وضعان : وضع للحيوان المفترس بعنوانه الأصلي ، ووضع للرجل الشجاع لا بعنوانه ، بل بما هو مناسب ، ومشاكل للحيوان المفترس.

ويرد على هذا الوجه :

لزوم العرضية بين الدلالتين : بين دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، ودلالته على المعنى المجازي. ولا يمكن تصوير كون دلالة اللفظ على المعنى المجازي أنها فرع عدم تمامية دلالته على المعنى الحقيقي ، لأن حال اللفظ بناء على هذا الوجه يكون حال لفظ له معنيان في عرض واحد يستوجب عرضية الدلالتين ، فلما ذا تكون دلالة اللفظ على المعنى المجازي في طول بطلان دلالته على المعنى الحقيقي!. بل بناء على هذا الوجه ، لا يمكن أيضا تصوير الطولية بين نفس المعاني المجازية ، مع أنه لا إشكال في أن دلالة اللفظ على المعنى المجازي الفلاني ، إنما هو في طول عدم تمامية دلالته على المعنى المجازي الأقرب. فإذا كان ميزان الدلالة هو الوضع ، والوضع نسبته إلى تمام المعاني المجازية على حد واحد ، إذن كيف نتصور الأقربية والأبعدية!. فهذا الوجه غير تام لأنه لا يفسّر طولية المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي في عالم الدلالة ، ولا يفسّر الطولية في نفس المعاني المجازية بعضها مع بعض.

الوجه الثالث :

ويقال في هذا الوجه : إنّ العناية الزائدة هي عبارة عن أن قدماء اللغة ومؤسسيها ، قد فتحوا باب المجاز ، واستعملوا اللفظ في المعاني المجازية ، فلو فرض أن قدماء اللغة قد استعملوا اللفظ في المعنى المجازي ، صحّ لنا أن نستعمل ، وإذا لم يكونوا قد استعملوه ، فلا يصح لنا أن نستعمل.

١٦٤

وقد ذكر المحقق العراقي (١) الذي اختار هذا الوجه في مقام تقريبه ، إنه إذا لم يكن هذا الاستعمال قد جرى على لسان قدماء اللغة العربية مثلا ، إذن فلا يكون هذا الاستعمال عربيا ، لأن المراد من كونه عربيا أنه جار على طبق ما كان يستعمل العرب ، فإذا لم يكن العرب قد استعملوه ، فلا يكون هذا عربيا ، وهذا هو معنى عدم صحة الاستعمال.

وهذا الوجه أضعف من سابقيه ، وذلك لأننا ننقل الكلام إلى أولئك القدماء الأولين الذين استعملوا اللفظ في المعنى المجازي ، فهل كان استعمالهم مستندا إلى وضع ، أو بلا وضع اكتفاء بالطبع؟.

فإن كان مستندا إلى وضع ، إذن رجع الأمر إلى الوجهين السابقين.

وإن كان صحيحا بلا وضع ، باعتبار أن نفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، يكفي لتصحيح الاستعمال في المعاني المجازية ، إذن فنفس ما صحّح لهم الاستعمال ، يصحّح لنا كذلك في عرض واحد ، بلا حاجة إلى توقف على صدور الاستعمال منهم.

وأمّا دعوى أنه لو لم يصدر الاستعمال منهم لما كان عربيا : فهذه الدعوى غير صحيحة ، لأن المراد من الكلام العربي هو ما كان صحيحا بلحاظ أوضاع اللغة العربية ، لا الكلام الذي يكون بشخصه قد جرى على لسان العرب الأوائل. فهذا الوجه غير تام.

الوجه الرابع :

وهذا الوجه يظهر من كلام صاحب الكفاية (٢) (قده) كأنّه فسّر هذه العناية الزائدة بالترخيص من قبل الشارع ـ الواضع ـ فقال : بأن استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، يتوقف على إذن الواضع وترخيصه في ذلك. فإن هو رخص

__________________

(١) بدائع الأصول ـ الآملي : ج ١ / ص ٨٧.

(٢) كفاية الأصول ـ مشكيني ج ص ١٩.

١٦٥

صحّ الاستعمال ، وإلّا فلا يصح الاستعمال.

ولكن نسأل : ما هو المراد من الترخيص هنا؟.

فإن كان المراد به الترخيص التكليفي : فمن المعلوم أن الترخيص التكليفي شأن من شئون المولى الذي تجب إطاعته ، والواضع بما هو واضع ليس مولى تجب إطاعته حتى تنفذ ترخيصاته ونواهيه.

وإن كان المراد به الترخيص الوضعي ، بمعنى جعل الصحة للاستعمال : فصحة الاستعمال ليست أمرا مجعولا بالاستقلال بنفسه ، من قبيل الصحة في باب العبادات والمعاملات ، بل هي مجعولة تبعا للوضع ، فيرجع الأمر إلى الوضع ، وقد تقدم الكلام في ذلك.

الوجه الخامس :

وحاصله الالتزام بوضعين : وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، ووضع اللفظ للمعنى المجازي ، كما هو الحال في الوجه الأول ، لكن يختلف عنه في نكتة وهي : إنّ الوضع المدّعى للمعاني المجازية في الوجه الأول ، كان مشروطا بالقرينة. لكن هنا الوضع للمعاني المجازية مشروط لا بالقرينة ، بل بعدم إرادة المعنى الحقيقي سواء نصب قرينة أو لم ينصب قرينة.

فتغيير صيغة الشرط يوجب اندفاع كلا الإشكالين الواردين على الوجه الأول.

فلا يرد الاعتراض هنا باللغوية. لأن مجرد عدم إرادة المعنى الحقيقي ليس كافيا لانفهام المعنى المجازي ، فيكون الوضع هنا ذا أثر في مقام التفهيم.

كذلك لا يرد اعتراض الإجمال فيما إذا كان غرض المتكلم الإجمال والإبهام ، لأن الشرط هنا ليس شرط نصب القرينة ، بل هو عدم إرادة المعنى الحقيقي.

١٦٦

فصحة الاستعمال تكون دائرتها مطابقة مع دائرة هذا الشرط ، ومع دائرة هذا الوضع ، ولا تكون أضيق منها.

ولكن يرد على هذه الصيغة بهذا الطرز من التعبير وهو : إنّ اللفظ موضوع بوضعين : لفظ (الأسد) موضوع للحيوان المفترس مطلقا ، وموضوع للرجل الشجاع بقيد عدم إرادة المعنى الحقيقي.

إذن فلو صدر اللفظ من النائم ، أو من اصطكاك حجرين ، يلزم أن يكون هذا اللفظ موردا لكلا الوضعين ، لأنه موضوع للحيوان المفترس بمقتضى الوضع الأول المطلق ، وموضوع للرجل الشجاع حين لا يراد به المعنى الحقيقي ـ وهنا لم يرد به المعنى الحقيقي ـ بمقتضى الوضع الثاني المقيد بعدم إرادة المعنى الحقيقي ، فهذا اللفظ موضوع لكلا المعنيين في عرض واحد ، ويلزم أن تكون دلالته على كل منهما بالدلالة التصورية على نحو واحد ، مع أنه لا إشكال في أنّ دلالته التصورية على المعنى الحقيقي أقوى وآكد من دلالته التصورية على المعنى المجازي.

إذن هذه الصيغة لهذا الوجه غير تامة ما لم تضف إليها عنايات إضافية.

وصفوة القول في إبطال المسلك الأول ، وتعيين المسلك الثاني : إنّ هذه العناية المدعاة إمّا أن توجب دلالة عرضية ، أو دلالة طولية :

فإن أوجبت دلالة عرضية فهذا خلاف الأصل الخارجي المسلّم ، وهو : إنّ دلالة اللفظ على المعنى المجازي في طول عدم انعقاد دلالته على المعنى الحقيقي.

وإن أوجبت دلالة طولية بحيث لا تصل النوبة إلى الدلالة على المعنى المجازي إلّا بعد سقوط الدلالة على المعنى الحقيقي ، فهذا لا يحتاج إلى العناية الزائدة ، بل هذا يكفي فيه نفس وضع اللفظ لمعناه الحقيقي ، وهذا ما سوف نذكره في المسلك الثاني :

١٦٧

المسلك الثاني

وهو عدم لزوم العناية الإضافية الزائدة في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، بل نفس وضع اللفظ لمعناه الحقيقي كاف لذلك وبيانه :

تقدم فيما سبق أن الوضع إنما يوجب دلالة اللفظ على المعنى ، باعتبار كونه سببا في اقتران اللفظ مع المعنى ، وهذا الاقتران الأكيد الشديد بين اللفظ والمعنى ، يوجب انتقال الذهن تصورا من اللفظ إلى المعنى. وهناك اقتران آخر تكويني لا يحتاج إلى وضع واضع بين المعنى ومعنى آخر ، بين الحيوان المفترس والرجل الشجاع ، بل نشأ من الأعراف الخارجية.

فعندنا اقترانان طوليّان : اقتران اللفظ مع الحيوان المفترس نشأ من الوضع. واقتران الحيوان المفترس مع الرجل الشجاع.

هذان الاقترانان ، ينتجان اقترانا بين اللفظ والرجل الشجاع ، لأن المقترن بالمقترن ، مقترن ، لكن هذا الاقتران الغير مباشر أضعف من اقتران اللفظ بالحيوان المفترس ، وذلك لأن اقتران اللفظ بالرجل الشجاع كان بتوسط الحيوان المفترس ، وكلما كثرت الوسائط كان الانتقال أضعف. وكل من هذين الاقترانين منشأ لدلالة : فالأول منشأ لدلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، والثاني منشأ لدلالة اللفظ على المعني المجازي. ولما كان الأول أقوى من

١٦٨

الثاني ، كانت دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي أقوى وآكد من دلالته على المعنى المجازي.

والشيء نفسه نقوله في المعاني المجازية بعضها مع بعض : فإن اقتران المعنى المجازي مع المعنى الحقيقي ليس دائما بدرجة واحدة ، بل بعض المعاني المجازية أشدّ التصاقا بالمعنى الحقيقي من بعضها الآخر. فكلّما كان المعنى المجازي أشدّ التصاقا بالمعنى الحقيقي ، كان اقترانه غير المباشر مع اللفظ أقوى من الاقتران الغير مباشر لمعنى مجازي آخر. وبهذا الترتيب تفسّر دلالة اللفظ على المعنى المجازي بلا عناية زائدة ، ويظهر وجه الطولية بين الدلالة على المعنى المجازي والدلالة على المعنى الحقيقي ، ويظهر أيضا وجه الطولية في نفس المعاني المجازية بين بعضها والبعض الآخر.

فالصحيح إذن هو المسلك الثاني وهو : إنّ صحة الاستعمال في المعنى المجازي ، لا يحتاج إلى عناية زائدة ، لأنها :

إن أريد بها جعل دلالة عرضية للمعنى المجازي ، فهو خلف الواقع.

وإن أريد بها جعل دلالة طولية للفظ على المعنى المجازي فهذا حاصل بلا عناية زائدة ، باعتبار اجتماع اقتران طبيعي مع اقتران وضعي.

فاجتماع هذين الاقترانين ينتج دلالة اللفظ على المعنى المجازي بلا حاجة إلى العناية الإضافية. وبهذا تم الكلام في الأمر الثالث.

١٦٩
١٧٠

الأمر الرابع

الإطلاق الإيجادي

كان الكلام في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى المجازي ، والاستعمال عبارة عن جعل ذهن السامع ينتقل من الحاكي إلى المحكي ، والكلام في الأمر الرابع يقع في مقابل الاستعمال ، وهو الإطلاق الإيجادي الذي مفاده جعل ذهن السامع ينتقل ابتداء إلى الموضوع.

والكلام في الإطلاق الإيجادي : تارة يقع كبرويا ، وأخرى صغرويا بلحاظ المصاديق والأمثلة ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : كبرى الإطلاق الإيجادي.

لا إشكال في أنّ إحضار الشيء في ذهن السامع له وسيلتان : حكائية وإيجادية.

والوسيلة الحكائية : لإحضار الشيء في ذهن السامع مفاده : أن يؤتى بلفظ حاك عن ذاك الشيء. فذهن السامع ينتقل أولا إلى الحاكي ، وثانيا من الحاكي إلى المحكي.

والوسيلة الإيجادية لإخطار الشيء في ذهن السامع : عبارة عن إيجاد ذلك الشيء خارجا في معرض إحساسه وشعوره. فجعله كذلك يكون سببا في انتقاش صورته الذهنية في ذهن السامع.

١٧١

فمثلا حينما يسألني سائل عمّا في يدي ، فتارة أقول سبحتي ، وهذا إخطار لصورة السبحة بنحو حكائي ، لأن ذهن السائل ينتقل إلى اللفظ الحاكي ، ومنه إلى المعنى المحكي ، فهنا انتقالان ذهنيان. وأخرى أفتح يدي ، وأريه السبحة ، وهذا إخطار للمعنى بنحو إيجادي مباشر ، لأن ذهن السائل لا ينتقل من شيء إلى السبحة ، بل ينتقل إليها ابتداء ، فهنا انتقال ذهني واحد.

ومن الواضح أن إخطار المعنى بالوسيلة الحكائية ، هو الاستعمال الذي يحتاج إلى مصحّح ، لأن يحكي شيء عن شيء آخر. وهذا المصحّح : إمّا الوضع كما هو الحال في باب الحقيقة ، وإمّا الطبع كما هو الحال في باب المجاز.

وأمّا إخطار المعنى بالوسيلة الإيجادية فهذا لا يحتاج إلى المصحّح الوضعي ، ولا الطبعي ، بل إنّ نفس القضية تكوينا تقتضي أن كل إنسان إذا أحسّ بشيء انتقشت صورته في ذهنه ، فهناك ملازمة تكوينية بين الإحساس بالشيء ، وانتقاش صورته في الذهن.

ومن الواضح أن الوسيلة الإيجادية هي الوسيلة الأولية في مقام إحضار المعنى ، فإن الإنسان يتاح له الوسيلة الإيجادية باعتبار هذه القضية التكوينية ، بقطع النظر عن كل لغة ، وعن وضع كل واضع.

وأما الوسيلة الحكائية فهي وسيلة ثانوية في المقام لاحتياجها إلى عناية وضع ، أو عناية طبع.

وهناك فرقان أساسيان بين الوسيلتين :

الفرق الأول : مفاده أن الوسيلة الإيجادية لا يمكننا اتخاذها إلّا فيما إذا كان المعنى المراد إحضاره في الذهن معنى جزئيا خاصا ، بخلاف الوسيلة الحكائية ، فإنها تفيد حتى في إحضار المعنى العام.

وتوضيح ذلك : أن في موارد الوسيلة الإيجادية نوجد شيئا بقصد إخطاره

١٧٢

في ذهن السامع ، ومن الواضح أن ما نوجده دائما يكون فردا جزئيا خاصا لأن الكلي على سعته ، لا يعقل إيجاده في الخارج. وحينئذ لا يمكن أن نحصل إلّا على الصورة الذهنية في ذهن السامع لهذا الفرد الجزئي الخاص ، وتوهم أننا بإيجاد الفرد قد أوجدنا الكلي أيضا ، لأن الكلي موجود بوجود فرده ، فلما ذا لا نحصل على صورة ذهنية للكلي في ذهن السامع! هذا التوهم مدفوع ، لأننا أوجدنا الكلي في ضمن الفرد بوجود تحليلي ضمني ، فتكون الصورة الذهنية عند السامع موازية ومطابقة للوجود الخارجي الجزئي ، فكما أن الكلي في هذا الإيجاد الخارجي ، كان كليا (بشرط شيء) كذلك الكلي المحفوظ في الصورة الذهنية ، هو كلي (بشرط شيء) لا الكلي بحدّه ، ومن المعلوم أن الصورة الذهنية للكلي (بشرط شيء) مباينة للصور الذهنية للكلي (لا بشرط). نعم يمكن جعل هذه الصورة الذهنية للكلي (بشرط شيء) مقدمة إعدادية لذهن السامع لينتقل منها إلى صورة ذهنية للكلي (لا بشرط) ، وهذا بابه باب الحكاية ، لا باب الإيجاد. لأن هنا انتقالين ذهنيين وهذا باب الحكاية.

وأما في الوسيلة الحكائية فالأمر يختلف باختلاف الوضع والجعل : فقد يكون اللفظ موضوعا للجزئي فيحكي عنه ، وقد يكون موضوعا للكلي فيحكي عنه.

والفرق الثاني بين الوسيلتين : إنّه في موارد الوسيلة الإيجادية إذا أردنا أن نحضر معنى في ذهن السامع بالإيجاد ، ثم نجعله موضوعا في قضية ، فنحكم عليه بحكم ، فمثلا : لو فرضنا أننا أتينا (بتاريخ الطبري) ، ونريد أن نحكم عليه بأنه كتاب ، فبدلا من أن نقول : تاريخ الطبري كتاب ، الذي هو الوسيلة الحكائية ، نأتي بنفس (تاريخ الطبري) أمام السامع ونقول : (هذا كتاب).

وهنا لا بد من الالتفات إلى نكتة ، وحاصلها : إنه في مقام الحصول على قضية في ذهن السامع ، نحتاج إلى إحضار موضوع القضية ، ومحمولها ، والنسبة ما بينهما ، حينئذ أمّا المحمول فقد احضرناه بالوسيلة الحكائية ، وأمّا

١٧٣

الموضوع فقد أحضرناه بالوسيلة الإيجادية ، وأمّا النسبة بين المحمول والموضوع ، لا بدّ وأن تحضر بالهيئة القائمة بينهما ، ودلالة الهيئة على النسبة دلالة حكائية تحتاج إلى الجعل والوضع ، وحينئذ لا بدّ من البحث في أن الهيئة التي وضعت للدلالة على النسبة بين المحمول والموضوع ، هل هي الهيئة القائمة بين وسيلتين حكائيتين ، أو الأعم من ذلك ، ومن الهيئة القائمة بين المجموع المركب من وسيلة حكائية ، ووسيلة إيجادية؟.

فإذا فرضنا أن الهيئة الموضوعة للدلالة على النسبة بين الموضوع والمحمول ، إنما هي الهيئة القائمة بين وسيلتين حكائيتين ، إذن فتشكيل جملة ، والتوصل إلى قضية بالتلفيق بين إحضار الموضوع إيجاديا ، وإحضار المحمول إخطاريا حكائيا ، يكون خطأ ، وذلك لأن الذي يدل على النسبة ، إنما هو الهيئة ، والمفروض أن الهيئة القائمة بالمجموع المركب من اللفظ والخارج ، ليست موضوعة لمعنى. حينئذ هذه الجملة لا تكون دالة على معنى.

إذن فلا بدّ من البحث في أن الهيئة القائمة بين الوسيلة الإيجادية ، وبين الوسيلة الحكائية ، وضعت للنسبة أيضا ، أو لم توضع للنسبة؟. فإن كانت قد وضعت للنسبة : حينئذ يمكن التوصل إلى قضية معنوية ذات أجزاء ثلاثة عن طريق إحضار بعض أجزائها بالوسيلة الإيجادية ، والبعض الآخر بالوسيلة الحكائية.

وإن لم تكن هذه الهيئة قد وضعت للنسبة ، إذن لا يمكن التوصل إلى القضية عن هذا الطريق.

هذان فرقان أساسيان لا بد من الالتفات إلى نكتتهما لننتقل من بحث المقام الأول وهو الكبرى إلى بحث المقام الثاني وهو بحث الصغرى :

المقام الثاني : صغرى الإطلاق الإيجادي :

والبحث في هذا المقام يقع في جهتين :

١٧٤

الجهة الأولى : في إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه ، وصنفه ، ومثله.

الجهة الثانية : في إطلاق اللفظ ، وإرادة شخصه.

الجهة الأولى :

أما الجهة الأولى ، وهي إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وصنفه ومثله : فقد ذهب بعضهم إلى أن إطلاق اللفظ ، وإرادة النوع ، أو الصنف ، هذا بابه باب الإيجاد ، وليس باب الحكاية ، بل ذهب السيد الأستاذ (١) إلى أنّ إطلاق اللفظ وإرادة المثل أيضا من باب الإيجاد ، وليس من باب الحكاية. وقالوا في تقريب ذلك : إنّ الوسيلة الحكائية إنما تعتمد فيما إذا كان إيجاد الموضوع خارجا متعذرا. وأما إذا كان بالإمكان إيجاد نفس الموضوع خارجا ، فلا معنى لتبعيد المسافة ، وإيجاد أمر حاك عنه ، وفي المقام : إن كان الموضوع هو النوع فيمكن إيجاده ، لأن النوع كلي ، والكلي يوجد بوجود فرده ، وكذلك الحال فيما إذا كان الموضوع هو الصنف والمثل ، غاية الأمر أن الموضوع حينئذ بحاجة إلى تقييد ، لأن الموضوع ليس هو «ضرب» على الإطلاق ، بل مقيد «في ضرب زيد». ففي الصنف وفي المثل ، الموضوع هو عبارة عن الجامع المقيّد ، فالجامع أوجد بنفسه ، وتقييده بصنف مخصوص ، أو بمثل مخصوص ، هذا مدلول عليه بالحرف ، فنقول : «ضرب في ضرب زيد». وهكذا رجع الأمر في الثلاثة إلى باب الإيجاد ، لا الحكاية.

ولكن يتضح على ضوء الفارق الأول في المقام الأول : إنّ هذا الكلام غير معقول ، وذلك لأننا حينما نوجد النوع فنقول : «ضرب فعل ماض» مثلا ، فقد أوجدنا النوع بإيجاد فرده ، ولكن لا يمكن بهذا أن نحصل على الصورة الذهنية للكلي في ذهن السامع ، إلّا بنحو مطابق لما أوجدناه خارجا والمفروض أننا أوجدنا كليا خاصا مقيدا ، أوجدنا الطبيعة في ضمن فرد

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ٩٥.

١٧٥

مخصوص ، فيكون وجود الطبيعة في الصورة الذهنية ، وجودا تحليليا ضمنيا على نحو وجود الطبيعة في الفرد الذي أوجدناه خارجا. وبهذا لم نحصل على ما هو موضوع القضية ، لأننا نريد أن نشكّل قضية موضوعها هو الكلي والطبيعي ، وهذا أمر مستحيل بالوسيلة الإيجادية.

نعم لو جعلنا الصورة الذهنية للكلي المقيّد ، مقدمة إعدادية لينتقل الذهن منها إلى صورة الكلي بحدّه وسعته ، فهذا معقول ، لكن هذا بابه باب الحكاية ، لا باب الإيجاد ، كما قلنا في الفارق الأول في المقام الأول.

إذن ، فإطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه ، كونه من باب الإيجاد ، هذا غير معقول. ومنه يظهر حال ما ذهبوا إليه من أن إطلاق اللفظ ، وإرادة صنفه ، أو مثله ، هذا بابه باب الإيجاد ، فأصل الجامع أوجدوه بنفسه ، وتقييده بالصنف أو بالمثل دلّ عليه الحرف ، هذا أيضا كلام غير معقول ، لأننا نسأل :

إنّ الحرف دلّ على تقييد أي شيء. هل دلّ على تقييد الوجود الخارجي؟. وهذا مستحيل ، لأن الوجود الخارجي جزئي ، لا يقبل الإطلاق والتقييد كما هو واضح.

وإن قيل بأنه يدل على تحصيص وتضييق للمعنى الذي أريد بهذا الوجود الخارجي ، فهذا يرجع إلى باب الاستعمال ، ومعناه أن هذا الوجود الخارجي أردنا به شيئا وراء حدّه الخارجي ، وهذا بابه باب الاستعمال.

فالصحيح أن إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه ، أو صنفه ، أو مثله ، هذا بابه باب الاستعمال ، والمصحّح لهذا الاستعمال هو العلاقة الطبيعية القائمة بين الفرد ونوعه ، أو بين الفرد وصنفه ، أو بين الفرد ومثله.

الجهة الثانية : في إطلاق اللفظ ، وإرادة شخصه :

قلنا : إنّ الكلام بلحاظ الصغرى يقع في جهتين ، وقد فرغنا من الجهة الأولى ، وصار الكلام في الجهة الثانية : في إطلاق اللفظ وإرادة الشخص ، فلو كان لدينا قضية نريد إحضارها في ذهن السامع ، وموضوع هذه القضية هو

١٧٦

شخص هذا اللفظ الصادر منّا ، فهل يمكننا إحضار هذه القضية في ذهن السامع بالتلفيق بين الوسيلة الإيجادية والوسيلة الحكائية ، بحيث يكون الموضوع حاضرا بالوسيلة الإيجادية ، والمحمول وهو كلمة (لفظ) مثلا في «زيد لفظ» حاضرا بالوسيلة الحكائية؟.

اتضح ممّا بيناه في تحقيق الكبرى أن هذا متوقف على تحقيق شرطين :

ـ الشرط الأول : أن يكون موضوع القضية المعنوية جزئيا ، لاستحالة إحضار الكلي إيجاديا في ذهن السامع ، وهذا الشرط محفوظ في المقام ، لأن موضوع القضية المعنوية المراد إحضاره في ذهن السامع ، إنما هو شخص هذا اللفظ ، فبإيجاد هذا الشخص الفرد خارجا ، نحصل على إخطار لصورة ذهنية موازية لهذا الفرد في الخارج.

ـ الشرط الثاني : هو البحث في أن الهيئة المتحصلة من التلفيق بين وسيلة إيجادية وأخرى حكائية ، هل تكون موضوعا لإفادة النسبة؟.

والصحيح في ذلك ، بحسب المستظهر عرفا ، هو التفصيل :

بين ما إذا كان التلفيق من وسيلة حكائية ووسيلة إيجادية ، ولكنها لفظ بطبعها.

وبين ما إذا كان التلفيق من وسيلة حكائية ووسيلة إيجادية ، ولكنها ليست لفظا بطبعها.

فإن كانت الوسيلة الإيجادية لفظا بنفسها : فالهيئة تكون موضوعة لإفادة النسبة ، ولهذا حينما نقول «زيد لفظ» ونقصد بذلك إيجاد الموضوع بشخص لفظ زيد ، نكون قد حصلنا على النسبة ، لأن هذه الهيئة متحصلة من وسيلتين لفظيتين وإن كانت إحداهما إيجادية والأخرى حكائية.

وإن كانت الوسيلة الإيجادية ليست لفظا بنفسها ، كما قلنا سابقا في مثال (تاريخ الطبري) حيث الوسيلة الإيجادية ليست لفظا ، بل هي فعل خارجي

١٧٧

والوسيلة الحكائية لفظ من الألفاظ ، فالهيئة المتحصلة من وسيلتين ليست كلتاهما لفظية ، لا تكون موضوعة للنسبة ، ولا تدل عليها.

وعلى هذا فالشرط الثاني متحقّق في المقام في مثل «زيد لفظ». فكلا الشرطين متحقق في المقام ، فيعقل إحضار مثل هذه القضية المعنوية بالتلفيق بين الوسيلة الإيجادية في جانب الموضوع ، والوسيلة الحكائية في جانب المحمول.

وبهذا يظهر بطلان ما أورده المحقق الأصفهاني على إطلاق اللفظ وإرادة الشخص ، فإنه اعترض بالنقض في المقام حيث قال (١) : بأنه لو كان يصح إطلاق اللفظ وإرادة شخصه وتشكيل قضية معنوية بالتلفيق بين الوسيلة الحكائية للمحمول ، والوسيلة الإيجادية للموضوع ، إذن لصحّ أنّ نضرب شخصا ، ثم نقول «ضرب» ونشكّل بذلك قضية معنوية موضوعها أحضر بالوسيلة الإيجادية وهو «الضرب» ، ومحمولها أحضر بالوسيلة الحكائية ، مع أن هذا غير صحيح عرفا ، وذلك يكشف عن نكتة توجب عدم صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة شخصه بنحو الإيجاد.

ولكن هذا النقض ممّا لا يمكن المساعدة عليه بعد الالتفات إلى النكتة التي بينّاها ، وهي : إنّ مجرد صحة الوسيلة الإيجادية لا يكفي لتشكيل القضية المعنوية في ذهن السامع ، إلّا بعد ضمّ خصوصية كون الهيئة المتحصّلة من التلفيق بين الوسيلتين موضوعة للنسبة ، وهذا مطلب جعلي بيد الواضع. فلو فرض أن الواضع لم يضع الهيئة المتحصّلة من التلفيق لإفادة النسبة ، إذن فالقضية المعنوية لا يمكن إحضارها في ذهن السامع ، لأن كلا من الموضوع والمحمول تمّ إحضاره لكن لم يتم إحضار النسبة إيجاديا ولا حكائيا. فلا بدّ من التفرقة بين قولنا «زيد لفظ» وبين أن نضرب شخصا ونشكّل قضية معنوية موضوعها أحضر إيجاديا. ومحمولها أحضر حكائيا ، بأن الواضع وضع الهيئة

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ١ / ص ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٣٤.

١٧٨

المتحصّلة من اللفظين للنسبة سواء أكان إحضار الموضوع باللفظ بنحو الوسيلة الإيجادية ، أو بنحو الوسيلة الحكائية. وأما الهيئة المتحصلة من ضم عالم اللفظ إلى عالم الفعل ، لم يضعها لإفادة النسبة. فمن هنا لم تتم تلك الجملة فلا يرد النقض في المقام.

وبهذا يتبين أن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، يعقل أن يكون مصداقا ومثالا للوسيلة الإيجادية.

ولكن هل ينحصر هذا المطلب في الوسيلة الإيجادية ، أو يعقل إن يكون له باب آخر ، وهو باب الاستعمال والحكاية؟.

فقد يقال بأن توجيه المطلب في باب الاستعمال غير معقول ، فينحصر كونه من باب الإيجاد ، وما أشكل به على كونه من باب الاستعمال يرجع إلى وجهين أساسيين :

الوجه الأول :

ومفاده ما نقله صاحب (الكفاية) عن صاحب (الفصول) من لزوم اتحاد الدال والمدلول ، إذ لو كان بابه باب الاستعمال ، بحيث يكون اللفظ مستعملا في نفسه ، إذن يلزم اجتماع الدال والمدلول ، لأن اللفظ بنفسه دال ، وبنفسه مدلول والدال والمدلول من أقسام التقابل ، لأنهما متضايفان ، ولا يعقل اجتماع المتضايفين في شيء واحد.

وقد أجاب على ذلك المحقق الخرساني (١) (قده) بأنه : يكفي في المقام الاختلاف الاعتباري ، والحيثي بين الدال والمدلول. فاللفظ بلحاظ كونه صادرا من صاحبه ، يكون دالا ، وبلحاظ أنه مراد يكون مدلولا ، وهذا الاختلاف الاعتباري والحيثي يكفي في تصوير داليته ومدلوليته.

__________________

(١) حقائق الأصول ـ الحكيم ـ ج ١ ص ٣٣.

١٧٩

وقد حمل المحقق الأصفهاني (١) كلام صاحب (الكفاية) على الإرادة التكوينية التي هي من مبادئ صدور الفعل الاختياري ، فكأن صاحب (الكفاية) يقول : بأن اللفظ من حيث أنه صادر ، يكون دالا ، ومن حيث أنه فعل اختياري كاشف عن الإرادة التكوينية من قبل الفاعل ، يكون مدلولا.

واعترض على صاحب (الكفاية) بأن دلالة اللفظ على الإرادة التكوينية دلالة عقلية ، وليست دلالة لفظية استعمالية ، فإن كل معلول يدل على علته بالإن. فدلالة لفظة (زيد) على الإرادة التكوينية على حد دلالة أي فعل اختياري على الإرادة التكوينية. وهذا خارج عن محل الكلام ، لأن الكلام في تصحيح وتوجيه الدلالة اللفظية الاستعمالية.

والصحيح : إنّ مراد صاحب (الكفاية) بالإرادة التي صوّر بها المدلول ، ليس هو الإرادة التكوينية التي هي من مبادئ صدور الفعل الاختياري ، وإلّا لكان هذا من باب استعمال اللفظ في الإرادة ، لا من باب إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، حينئذ يكون المدلول هو الإرادة ، مع أن صاحب (الكفاية) بصدد بيان أنّ المدلول هو نفس اللفظ ، لا الإرادة ، فلو كان قد اشتبه بين المدلول العقلي والمدلول الاستعمالي ، للزم أن يكون المدلول هو الإرادة ، والإرادة غير اللفظ ، وهما متغايران تغايرا حقيقيا لا تغايرا اعتباريا.

فهذا شاهد على أن مقصوده من الإرادة ، ليس هو الإرادة التكوينية ، وإنما الإرادة التفهيمية. فاللفظ من حيث أنه أريد به التفهيم فهو دال ، ومن حيث أنه أريد به تفهيم نفسه به فهو مدلول. فالحيثيتان منتزعتان بلحاظ الإرادة التفهيمية ، لا بلحاظ الإرادة التكوينية التي هي من مبادئ صدور الفعل الاختياري في الخارج. وبهذا يتحقق التغاير الاعتباري بين الدال والمدلول.

ولكن يبقى الكلام في كبرى هذا المطلب ، وهو : إن التغاير الاعتباري

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ١ / ص ٣١ ـ ٣٢.

١٨٠