بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

إذن فلا يقتضي مبنى التعهد إبطال المسلك الأول وتعين المسلك الثاني. فغاية ما يقتضيه مسلك التعهد هو أن المتعهّد به يجب أن يكون قصدا نفسانيا.

أمّا ما هو هذا القصد النفساني؟.

فالمشهور يقولون : هو قصد إخطار النسبة تصورا في ذهن السامع. والسيد الأستاذ يقول : هو قصد الحكاية عن وقوع هذه النسبة ، فكلاهما يقول بالقصد النفساني ، إذن فالخلاف بين المسلكين لا ربط له بمسألة التعهد.

الاعتراض الثالث :

وهذا الاعتراض كأنه مبني على أصل موضوعي ، وحاصل هذا الأصل هو :

إن الجملة (زيد عالم) : تختلف عن سائر الكلمات الإفرادية ، فالكلمات الإفرادية ليس لها دلالة تصديقية ، وإنما لها دلالة تصورية.

وأمّا جملة (زيد عالم) : فلها دلالة تصديقية ، بمعنى أنها توجب التصديق ولو ظنا من قبل السامع بمدلولها ، وحينئذ إن كان مدلول هذه الجملة هو النسبة كما ذهب إليه المشهور ، إذن فيلزم أن لا يكون لها دلالة تصديقية ، إذ من الواضح أن مجرد سماع هذه الجملة من إنسان لا يكفي للتصديق بوقوع النسبة خارجا ، ما لم نفحص عن أحواله ، وأنه ثقة أو غير ثقة. فكثيرا ما نسمع الكلام ونحن نقطع بعدمه ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن مفاد الجملة هو قصد الحكاية ، فالدلالة التصديقية محفوظة في المقام ، لأنه متى ما سمعنا هذه الجملة ، فبمقتضى الطبع الأولي أن نميل إلى الاعتقاد بأن المتكلم يقصد الحكاية سواء أكان صادقا ، أو كاذبا ، فهو بالتالي يقصد الحكاية ، وهذه دلالة تصديقية.

وهذا الاعتراض ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأننا تارة نبني على

١٤١

مسلك التعهد في باب الوضع ، وأخرى نبني على المسلك المشهوري.

فإن بنينا على المسلك الحق المشهوري : فقد تبين سابقا أن الدلالة التي تنشأ من الوضع ، دلالة تصورية دائما سواء في الجمل ، أو في الكلمات الإفرادية.

ففي الجمل مثل قولنا : (زيد عالم) ، حينما توضع هذه الجملة للنسبة ، غاية ما يطلب من هذا الوضع هو أن يكون للجملة دلالة تصورية على النسبة ، بحيث ينتقش في ذهن السامع صورة النسبة تصورا كما هو الحال في كلمة (نار) الإفرادية ، حيث ينتقش صورة النار تصورا في ذهن السامع. أما الدلالة التصديقية ليست من شأن الوضع ، بل هي تنشأ من جذورات حالية ، وسياقية ، وأمارات نوعية ، كما سوف يأتي توضيحه.

وأمّا بناء على مسلك التعهد في الوضع ، حينئذ تكون الدلالة الوضعية دائما دلالة تصديقية حتى في الكلمات الإفرادية ، فضلا عن الجمل التامة ، فحينما يقول (نار) فمعنى هذا أنه يتعهد متى ما أتى بهذا اللفظ هو يقصد إخطار هذا المعنى ، فيستكشف بالدلالة الوضعية أن المتكلم يوجد في نفسه قصد إخطار هذا المعنى ، وهذه دلالة تصديقية. وكذلك الحال في الجمل التامة.

غاية الأمر أن ما هو هذا القصد النفساني؟.

فالمشهور يقول : هو قصد إخطار النسبة ، والسيد الأستاذ يقول : هو قصد الحكاية ، إذن بناء على مسلك التعهد ، فالدلالة الوضعية دائما تصديقية سواء قلنا بأن الجملة موضوعة بقصد إخطار النسبة ، أو بقصد الحكاية عن النسبة ، فكون الدلالة تصديقية. خارجا عن موضع النزاع ، بين المسلك الأول المشهوري ، والمسلك الثاني.

الاعتراض الرابع :

وحاصل هذا الاعتراض أن المشهور يبنون على أن الجملة موضوعة

١٤٢

للنسبة ، ويفرقون بين الجملة التامة والجملة الناقصة ، بأن الأولى تدل على النسبة التامة ، والثانية تدل على النسبة الناقصة. وهذا التفسير للفرق بين الجملتين اعترض عليه السيد الأستاذ بأنه لا يمكن أن نتعقله ، لأننا لا نتصور في النسبة ، التمامية والنقصان ، لأن النسبة ليست شيئا يزيد وينقص ، حتى يقال تارة تامة فتكون مدلولة لجملة (زيد عالم) وأخرى ناقصة فاقدة لبعض حيثياتها فتكون مدلولة لجملة (علم زيد). فالنسبة أمر بسيط غير قابل للزيادة والنقصان ، فالتفرقة بين الجملتين بما ذهب إليه المشهور ، إنما يتم لو تعقلنا التمامية والنقصان في النسبة ، ومع عدم تعقل ذلك ، لا نتصور نسبتين حتى نتصور فرقا بين الجملتين ، فالمشهور يعجزون عن إعطاء تفسير لهذا الفرق بين الجملتين ، بحيث إحداهما تامة يصح السكوت عليها ، والأخرى ناقصة لا يصح السكوت عليها. وهذا بخلاف ما إذا بنينا على المسلك الثاني ، وقلنا : بأن الجملة الناقصة موضوعة للتحصيص ـ للنسبة التحصيصية ـ فتكون دالة على النسبة التحصيصية بنحو الدلالة التصورية ، والجملة التامة موضوعة لقصد الحكاية بنحو الدلالة التصديقية.

وبهذا يتحصل الفرق بين الجملتين ، وحاصله : إنّ الجملة التامة لها دلالة تصديقية باعتبار أنها موضوعة لإبراز قصد الحكاية ، والجملة الناقصة موضوعة للتحصيص من دون أن تتضمن الدلالة التصديقية على قصد الحكاية ، فالنسبة التامة والناقصة مرجعهما إلى الدلالة التصديقية والتصورية. فمتى ما كان للجملة دلالة تصورية ، فالنسبة ناقصة ، ومتى ما كان لها دلالة تصديقية فالنسبة تامة.

والتحقيق في ذلك أن التمامية والنقصان من شئون النسبة في عالم التصور المحض ، وفي المرتبة السابقة على طرو التصديق ، أو طرو النفي. فالنسبة في عالم التصور هي تارة تكون تامة ، وأخرى تكون ناقصة. وليس منشأ الفرق هو التصديق وقصد الحكاية في إحدى الجملتين دون الأخرى ، بل لا بد من تصوير فرق بين الجملتين في عالم التصور المحض. ومما يشهد

١٤٣

بذلك هو إن قولنا (هل زيد عالم) فمن الواضح أن جملة «زيد عالم» التي طرأ عليها أداة الاستفهام ، ليس لها دلالة تصديقية ، لأن السائل مستفهم ، فهو ليس في مقام الحكاية والتصديق ، وإنما الذي يعقل أن يستفهم عنه إنما هو المطلب التصوري لا التصديقي.

إذن فلا بدّ من فرض ، أن مفاد جملة «زيد عالم» في هذا المقام مفاد مطلب تصوري محض ، ليعقل تعلق الاستفهام به.

وفي هذا المثال لو أبدلنا الجملة التامة بجملة ناقصة فنقول : (هل زيد العالم) ، يكون هذا الاستفهام ناقصا ، ويحتاج إلى متمّم فنقول مثلا : (هل زيد العالم قائم؟. إذن فبهذا يتبين فرق بين الجملتين في هذا الموقع ، مع أنهما مطلبان تصوّريان محضان ، ببرهان تعلق الاستفهام بهما ، لأن الاستفهام لا يتعلق بالمطلب التصديقي ، ومع هذا يوجد فرق بين الجملتين الاستفهاميتين : فقولنا : (هل زيد عالم) صحيح ، وقولنا : (هل زيد العالم) ليس بصحيح. والحال إن كلتا الجملتين متمحضة في المطلب التصوري ، إذن فنسأل : لما ذا صحّ أحد القولين دون الأخر؟. ولا يمكن أن يقول صاحب المسلك الثاني أن الصحة وعدمها تدور مع المطلب التصديقي والتصوري ، لأن الاستفهام لا يتعلق بالمطلب التصديقي ، إذن فكلا القولين. مطلب تصوري ، مع أنهما مختلفان في المقام بدليل صحة دخول أداة الاستفهام على أحدهما دون الآخر.

وهذا شاهد على وجود فرق في حاق النسبة بين الناقصة والتامة : فالتمامية والنقصان من شئون النسبة في عالم النظر التصوري المحض ، لا إنّ الفرق هو باعتبار أن النسبة التامة تصديق ، والنسبة الناقصة تصور ، بل في عالم التصور المحض يوجد سنخان من النسبة : نسبة ناقصة ، ونسبة تامة.

وأما تصحيح ذلك فهو ، وإن لم يف به المشهور ، حيث أن كلماتهم غير متقنة في توضيح حاق الفرق بين النسبتين ، إلّا أن تحقيق هذا الفرق هو أن يقال : إنّ النسبة الناقصة هي النسبة التحليلية ، والنسبة التامة هي النسبة

١٤٤

الواقعية ، وذلك أننا أوضحنا سابقا أن النسب على قسمين :

القسم الأول : النسب التحليلية من قبيل نسبة (في) في قولنا : «النار في الموقد».

والقسم الثاني : النسب الحقيقية من قبيل النسبة الإضرابية في قولنا : «أكرم زيدا بل عمرا».

وقلنا إنّ النسب التحليلية ليست موجودة في صقع الذهن ، بل الموجود وجود واحد لمركب تحليلي ، أحد أجزائه التحليلية هو النسبة ، وهذا بعينه نقوله في النسبة الناقصة. ففي قولنا : «علم زيد» ، لا يوجد في صقع الذهن وجودان ذهنيان أحدهما وجود للعلم ، والآخر وجود زيد ، ونسبة بين العلم وزيد ، فهذا غير موجود ، بل هناك وجود ذهني واحد بالتحليل ينحل إلى أجزاء : (علم ، وزيد ، وربط مخصوص) وهذا الربط المخصوص بين (علم ، وزيد) كالربط المخصوص بين (النار والموقد) ، فالموجود في الذهن وجود واحد تركيبي لو حلّل لأمكن أن نثبت بالبرهان أن جزءه التحليلي نسبة «ما» وربط «ما» ، وبذلك يظهر معنى كون النسبة ناقصة ، فالمتكلم حينما يلقي الجملة الناقصة ، كأنه ألقى كلمة مفردة لا تدل على نسبة ، ولهذا لا يحسن السكوت عليها. كذلك حينما يلقي «علم زيد» كأن ألقى شيئا واحدا لا شيئين بينهما نسبة ، لأن النسبة تحليلية لا واقعية ، هذا في باب الجمل الناقصة ، وهذا معنى كون النسبة ناقصة في عالم التصور.

وأمّا النسبة في الجمل التامة : فهي نسبة واقعية في صقع الذهن ، بحيث أن الذهن يرى شيئين بينهما نسبة من قبيل النسبة الإضرابية ، كما مرّ سابقا. ففي قولنا «زيد عالم» الذهن عنده شيئان : زيد في جانب ، وعالم في ذاك الجانب ، ونسبة قائمة بينهما وهذه النسبة هي النسبة التصادقية بين زيد وعالم.

ويمكن أن نوضح الفكرة بمثال عرفي :

«ولنفرض مرآتين وشخصا واحدا انتقشت صورته في تلك المرآتين في

١٤٥

وقت واحد ، وصار له صورة في هذه المرآة ، وصورة في تلك المرآة ، وهنا عندنا عالمان عالم المرآة ، وعالم ذي المرآة ، ففي عالم المرآة الذي هو عالم الصور الحاكية ، يوجد شيئان متغايران : أحدهما الصورة القائمة في المرآة الأولى ، والثاني ، الصورة القائمة في المرآة الثانية ، وبين هاتين الصورتين نسبة ، وهذه النسبة هي نسبة التصادق بحيث ما يرى في الصورة الأولى ، هو عين ما يرى في الصورة الثانية. فالمرآة تعطينا صورتين بنحو بينهما نسبة التصادق القائمة في عالم المرآة. وأما في عالم ذي المرآة ، وعالم المحكي لا الحاكي يوجد شيء واحد فقط ، ولا يوجد نسبة» وهذا المثال نطبقه هنا فنقول بأن هناك واقعا واحدا في نفس الأمر ، وهذا الواقع الواحد له مفهومان ذهنيان : أحدهما مفهوم زيد والآخر مفهوم عالم ، على غرار الصورتين المرآتيتين لوجود زيد الواحد في نفس الأمر ، فكلا المفهومين لوحظا بما هما مشيران إلى شيء واحد وواقع واحد. ففي صقع الوجود الذهني يوجد شيئان ومفهومان بينهما نسبة واقعية ، وهذه النسبة الواقعية الذهنية نسبة تصادقية واقعية لا نسبة تحليلية ؛ وبهذا يعرف لما ذا كانت الجملة هنا تامة وهناك ناقصة : فهذه تامة لأنها نسبة واقعية ، وتلك ناقصة لأنها تحليلية ، وكلتا النسبتين في عالم التصور المحض فتارة أتصور النسبة تامة ، وأخرى ناقصة ، وبهذا ظهر السر فيما أشرنا إليه من أنه لما ذا يصح قولنا : «هل زيد عالم» ، ولم يصح قولنا «هل زيد العالم». وبهذا اتضح الفرق بين النسبة التامة ، والنسبة الناقصة ، بلا حاجة إلى إدخال الدلالة التصديقية ، والنسبة في البين.

وبهذا يكون مطلب المشهور معقول في نفسه بل هو المتعيّن ، والمسلك الثاني القائل بأن جملة (زيد عالم) موضوعة لقصد الحكاية ، لا للنسبة ، هذا في نفسه غير صحيح ، وذلك لأنه يكون موردا لإشكالين :

الإشكال الأول : وهو إشكال مبنائي ، وحاصله ، أنّ صاحب هذا المسلك الذي يقول بأن جملة «زيد عالم» تدل على قصد الحكاية ، ما ذا يقصد بهذه الدلالة؟.

١٤٦

فإمّا أن يريد الدلالة التصورية ، بمعنى أن هذه الجملة تدل على مفهوم قصد الحكاية ، وبحيث ينطبع في ذهن السامع تصورا صورة هذا المفهوم.

وإمّا أن يريد الدلالة التصديقية ، كما هو صريح كلامه بحيث تكون هذه الجملة كاشفا عن وجود فرد جزئي ، من قصد الحكاية في نفس المتكلم.

والأول : بديهي البطلان باعتبار أن هذه الدلالة التصورية التي توجب نقش هذا المفهوم تصورا في ذهن السامع هي من شئون نفس كلمة قصد الحكاية ، لا من شئون (زيد عالم) ، فعند ما نسمع قصد الحكاية يرتسم في ذهننا مفهوم قصد الحكاية. فالذي يدل على هذا المفهوم هو نفس لفظ قصد الحكاية لا (زيد عالم) وإلّا للزم الترادف ، وهو واضح البطلان.

والثاني : لا نسلم به ، فالمشهور لا ينكرون أن جملة (زيد عالم) لها دلالة تصديقية ، وقصد ، وكشف عن وجود قصد الحكاية في نفس المتكلم ، لكن هذه الدلالة التصديقية ليست دلالة وضعية ، وكلامنا في الدلالة الوضعية لجملة (زيد عالم). فنحن برهنا سابقا في حقيقة الوضع أن الدلالة التي تتحصل ببركة الوضع تكون دائما دلالة تصورية ، فدلالة هذه الجملة دلالة تصورية ، والدلالة التصديقية التي يتبنّاها السيد الأستاذ (١) ، وإن كنا نقبل بها ، لكن بحسب الحقيقة خارجة عن محل الكلام ، ومحل الكلام هو تشخيص المعنى الموضوع له هذه الجملة ، وتشخيص الدلالة التصورية والوضعية. أما الدلالة التصديقية فهي ناشئة كما ألمحنا سابقا من قرائن حالية وسياقية ، كما يأتي توضيحه فيما بعد.

الإشكال الثاني : وحاصله إنّ الوجدان قاض بوجود سنخ معنى محفوظ في تمام موارد استعمال جملة «زيد عالم» ، فهي تارة تقع مبتدأ وخبرا ، كما في قولنا : «زيد عالم» ، وأخرى تقع مدخولا لأداة الاستفهام كما في قولنا : «هل

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ٨٦ ـ ، ٨٧.

١٤٧

زيد عالم» ، وثالثة تقع مفعولا كما في قولنا : «أخبركم بأن زيدا عالم».

فإذا ما بنينا على مسلك المشهور ، فيقال : إنّ هذه الجملة تدل بالدلالة التصورية على النسبة التامة في جميع موارد استعمالاتها.

وأما إذا قلنا : بأن هذه الجملة موضوعة للدلالة التصديقية على قصد الحكاية ، إذن فكيف يمكن انحفاظ هذا المعنى حينما تقع متعلقا للاستفهام أو مفعولا! إذ من الواضح أن المفعول والمستفهم عنه ، ليس هو قصد الحكاية بل هو الواقع.

فبناء على المسلك الثاني ، لا يمكن أن يكون لهذه الجملة سنخ معنى محفوظ في الصور المختلفة ، وهذا خلف الوجدان.

إذن فلا بد من القول بأن دلالة هذه الجملة دلالة تصورية على النسبة في جميع موارد الاستعمال.

تطبيق :

لقد صار واضحا أن مفاد الجملة الخبرية الاسمية «زيد عالم» ، هو النسبة الواقعية في عالم الذهن ، بحيث يرى مفهومان متغايران حاكيان عن واقع واحد ، وهذه النسبة نسبة تصادقية ، وهذا بعينه نقوله في الجملة الخبرية الفعلية ، كما في قولنا «ضرب زيد». ففي هذه الجملة يوجد عدة أمور :

الأول : مادة الفعل «ض ـ ر ـ ب ـ».

والثاني : هيئة الفعل.

والثالث : هيئة الجملة.

فمادة الفعل التي هي الضرب موضوع للحدث ، وهيئة الفعل موضوع للنسبة التحققية والصدورية القائمة بين الضرب والضارب أي قائمة بين الحدث وذات «ما» على وجه الإبهام ، وهذه النسبة الصدورية نسبة ناقصة تحليلية ، لأن موطنها الأصلي هو الخارج. فالضرب إنما يصدر من الذات المبهمة الخارجية

١٤٨

لا الذهنية. وكلامنا في هيئة الجملة (ضرب زيد). فهيئة الجملة تدل على النسبة التامة التصادقية ، فمفاد هذه الهيئة أن تلك الذات المبهمة ، التي هي طرف النسبة الناقصة في هيئة الفعل ، هي عين زيد ؛ فكأن المتكلم قال : إنّ تلك الذات التي انتسب لها الضرب هي زيد.

إذن في الجملة الخبرية الفعلية بحسب التحليل ، يوجد هيئتان ونسبتان ، وكل من الهيئتين تدل على إحدى النسبتين. فهيئة الفعل تدل على نسبة ناقصة تحليلية صدورية قائمة بين الحدث والذات المبهمة ، وهيئة الجملة تدل على نسبة تامة قائمة بين الذات المبهمة وزيد.

نعم يبقى هناك كلمات كثيرة في تحقيق حال تلك النسب الناقصة التي هي مفاد هيئة الفعل الماضي ، والمضارع ، والمصدر ، ونحو ذلك من المشتقات ، وهي تحقيقات خارجة عن محل الكلام. ولعله من المناسب جدا التعرض لجملة منها فيما بعد في بحث المشتق.

وإلى هنا انتهى الكلام حول الجمل الخبرية بقسميها الاسمية والفعلية ، وحول الجمل الناقصة ، وبقي الكلام حول الجمل الإنشائية :

الجمل التامة الإنشائية :

ونذكر الجمل التامة الإنشائية على ضوء المسلكين المتقدمين : مسلك السيد الأستاذ ، ومسلك المشهور ، مع تحقيق الحال فيها.

مسلك السيد الأستاذ : الجمل الإنشائية في هذا المسلك حالها حال الجمل الخبرية (١) ، فهي موضوعة لإبراز أمر نفساني ، ودلالتها دلالة تصديقية. فمثلا الجملة الاستفهامية «هل زيد عالم» : موضوعة لإبراز أمر نفساني ، وهو طلب فهم المطلب ودلالتها على ذلك دلالة تصديقية ، بمعنى أن هذه الجملة تكشف عن فرد جزئي من طلب فهم المطلب قائم في نفس المتكلم ، وكذلك

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ٨٨ ـ ٨٩.

١٤٩

سائر الجمل الأخرى كجملة التمني «ليت الرسول حي» ، أيضا تدل تصديقا على أمر نفساني ، وهو تمني أن يكون النبي (ص) حيا.

هذا هو المنهج العام في هذا الباب على مسلك السيد الأستاذ. وقد قلنا فيما سبق إنّ هذه الدلالات التصديقية مقبولة ، ولكنها ليست هي الدلالات الوضعية ، بل هي دلالات ناشئة من القرائن الحالية والسياقية ، فهي في طول الدلالات الوضعية. وكلامنا هنا في تشخيص الدلالة التصورية ، لا التصديقية ، وفي تشخيص المعنى الموضوع له. فهذه الدلالات التصديقية خارجة عن محل الكلام ، وبهذا ينتهي الكلام إلى المسلك المشهور.

مسلك المشهور : تقسم الجملة الإنشائية إلى قسمين :

القسم الأول : منها الجملة الإنشائية التي هي بلفظها تستعمل تارة في مقام الإخبار ، وأخرى في مقام الإنشاء من قبيل «أنت طالق» فإنها جملة خبرية اسمية ، تستعمل بنفسها في مقام الإخبار تارة ، وفي مقام الإنشاء أخرى. ومن قبيل «بعت الكتاب بدينار» فإنها جملة خبرية فعلية ، تستعمل في مقام الإنشاء تارة ، وأخرى في مقام الإخبار.

القسم الثاني : منها الجمل المتمحضة في الإنشاء من قبيل الجملة الاستفهامية «هل زيد عالم» فهذه الجملة لا تستعمل في مقام الإخبار بل في الاستفهام.

أمّا القسم الأول : فليس فيه شيء جديد غير ما قلناه سابقا ، فإن المدلول التصوري الوضعي في مقام الإنشاء والإخبار واحد ، وهو النسبة التامة التصادقية. وأمّا الإنشائية والإخبارية فهي من شئون الدلالة التصديقية ، بحيث إذا كان داعي المتكلم هو قصد الحكاية عن النسبة التصادقية ، فهو في مقام الإخبار ، فتكون إذن الجملة خبرية ، وإن كان داعيه هو قصد اعتبار وإيجاد هذه النسبة اعتبارا ، بحيث أن ما في نفسه هو قصد اعتبار الطلاق والبينونة بينه وبين زوجه ، فحينئذ تكون الجملة إنشائية.

١٥٠

وأمّا القسم الثاني : الذي هو من قبيل قولنا «هل زيد عالم» ، فهنا «زيد عالم» مدلولها الوضعي التصوري هو النسبة التامة التصادقية القائمة بين الطرفين الذهنيين ، كما مر. ولكن الكلام في المدلول الوضعي التصوري لكلمة «هل». ومما لا شك فيه أن مدلولها هذا ليس هو الاستفهام ابتداء ، بما هو مفهوم اسمي ، فلا يمكن أن يقال بأن «هل» تدل على هذا المفهوم الاسمي استقلالا ، ولكن لا إشكال في أنه يفهم من جملة هل زيد عالم الاستفهام إذن فلا بدّ من تصوير أنه كيف يفهم الاستفهام من هذه الجملة؟.

ويقال في هذا المقام : أن الاستفهام حقيقة قائمة بين المستفهم وبين النسبة التامة المستفهم عنها ، فنتصور هنا نسبتين : إحداهما النسبة التامة التصادقية ، وهي نسبة «زيد عالم» ، والأخرى نسبة ثانية قائمة بين الاستفهام وبين نسبة «زيد عالم» ، وفي تصوير هذه النسبة بناء على مسلك المشهور يوجد وجوه نذكر منها وجهين معقولين :

الوجه الأول : وهذا الوجه هو مختار (١) المحقق العراقي (قده) ، وحاصله : إنّ «هل» تدل على هذه النسبة الثانية التي أحد طرفيها هي نسبة «زيد عالم» والطرف الآخر هو الاستفهام بحيث أن الاستفهام بما هو مفهوم اسمي أخذ قيدا في مدلول «هل» المطابقي. «فهل» تدل على هذه النسبة ، بحيث أن مدلولها المطابقي هو نسبة الاستفهام ، ويكون الاستفهام قيدا في هذه النسبة.

وبهذا تمت العناصر الثلاثة النسبة والطرفان. النسبة مدلول عليها «بهل» وأحد طرفي هذه النسبة هو الاستفهام الذي أخذ قيدا في مدلول «هل» ، والطرف الآخر للنسبة مدلول عليه بجملة «زيد عالم».

فبناء على هذا «هل» تدل على النسبة التي هي معنى حرفي بحيث أخذ فيه الاستفهام قيدا بما هو مفهوم اسمي ، كما تقدم في هيئة «ضرب» التي تدل

__________________

(١) بدائع الأفكار : الآملي : ج ١ / ص ٦٣ ـ ٦٤ ـ ٦٥.

١٥١

على النسبة الصدورية المأخوذ معها الذات المبهمة بما هي مفهوم اسمي قيدا في مدلول هيئة الفعل ، فهنا أيضا كذلك مدلول «هل» نسبة مقيدة بأحد طرفيها ، والطرف الآخر مدلول عليه بزيد عالم ، فالدال على الاستفهام هو نفس الدال على هذه النسبة الثانية أيضا تبعا وضمنا.

الوجه الثاني : وهذا الوجه هو مختار المحقق الأصفهاني (قده) وحاصله (١) : إنّ الاستفهام حالة قائمة بين المستفهم والمستفهم عنه ، بين خالد المستفهم وبين «زيد عالم» المستفهم عنه ، وهذه الحالة هي حالة طلب الفهم ينتزع عنها مفهوم اسمي ، وهو مفهوم الاستفهام. وفي طول هذه الحالة ينشأ ربط مخصوص لا محالة بين المستفهم والقضية المستفهم عنها ، بحيث يتحصل من ذاك الربط المخصوص معنى حرفي نسبي ، وهذا المعنى الحرفي النسبي هو مفاد أداة الاستفهام.

ففي موارد الاستفهام عندنا أمران : حالة قائمة بين المستفهم والمستفهم عنه ، وهذه الحالة ينتزع منها مفهوم اسمي مدلول عليه بلفظة الاستفهام ، وفي طول هذه الحالة يوجد ربط مخصوص بين المستفهم ، وهو خالد ، والمستفهم عنه وهو قضية زيد عالم. وهذا الربط المخصوص يتحصل منه معنى حرفي نسبي ، مدلول عليه بلفظة «هل». ويعبّر عن هذا الربط المخصوص بالنسبة الاستفهامية ، لكن لا يراد بها النسبة بين الاستفهام والقضية ، بل النسبة والربط المخصوص بين ذات المستفهم والقضية المستفهم عنها.

وهذا الوجه يختلف عن سابقه في حقيقة تلك النسبة وأطرافها ، فالنسبة التي اختارها المحقق العراقي بأنها مفاد أداة الاستفهام ، نسبة قائمة بين الاستفهام والقضية المستفهم عنها ، وهذا بخلاف ما اختاره المحقق الأصفهاني ، فهذه النسبة نسبة قائمة بين الذات المستفهمة وبين القضية المستفهم عنها. وهذه النسبة موازية مع الاستفهام ، لا إنّ الاستفهام طرف لها ،

__________________

(١) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ١ / ص ٣٠ بتصرف.

١٥٢

ويترتب على ذلك أن نفس مفهوم الاستفهام بناء على تصوير المحقق الأصفهاني خارج عن حريم مدلول «هل» وليس مأخوذا حتى بنحو القيدية. فمفاد «هل» عبارة عن النسبة الاستفهامية الموازية للاستفهام.

نعم كلمة «هل» تدل على مفهوم الاستفهام بالدلالة الالتزامية التصورية ، باعتبار أن الربط المخصوص بين الذات المستفهمة والقضية المستفهم عنها ، هو من نتائج الاستفهام. فأداة الاستفهام الموضوعة لإفادة ذلك الربط المخصوص تدل تصورا بالمطابقة على ذلك الربط ، وتدل بالدلالة التصورية الالتزامية على مفهوم الاستفهام. وهذا بخلاف مبنى المحقق العراقي حيث أن الاستفهام كان مدلولا عليه بالدلالة التبعية الضمنية ، باعتباره قيدا في المعنى.

تحقيق المطلب :

هناك تصوير ثالث لا يدع مجالا لهذين الوجهين في مقام تشخيص مفاد «هل» وأمثالها في الجمل الإنشائية ، وحاصل هذا الوجه هو :

إنّ كلا الوجهين يشتركان في نكتة وهي أنه لا بد من تصوير نسبتين : نسبة تصادقية تكون هي مفاد «زيد عالم» ، ونسبة أخرى تكون هي مفاد أداة الاستفهام ، ولكن هذا غير صحيح بعد التأمل في حقيقة النسبة التصادقية بالنحو الذي شرحناه ، وتوضيح ذلك :

إنّ النسبة التصادقية لها ثلاث أطراف وذلك لان طرفين منها هما زيد وعالم ، والطرف الثالث هو ما فيه التصادق ، لأن «زيد وعالم» مفهومان متغايران قائمان في عالم الذهن ، ونحن نقول : إنّ هذين المفهومين بينهما تصادق ، وما فيه التصادق هو مقوّم ثالث للنسبة التصادقية ، إذ لا يعقل التصادق بين هذين المفهومين المتغايرين ، إلّا بوجود ما فيه التصادق ، وبلحاظ وعاء من الأوعية. إذن فلا بدّ من لحاظ ما فيه التصادق حتّى يتم بذلك أركان النسبة التصادقية. وما فيه التصادق يختلف : ففي القضايا الخبرية «زيد عالم» وعاء التصادق هو وعاء التحقق ، حيث كلا الطرفين يتصادقان ، ويتطابقان على

١٥٣

واقعة واحدة محفوظة في وعاء التحقق ، وبهذا تكون الجملة خبرية ، وفي جملة هل زيد عالم» ما فيه التصادق هو وعاء الاستفهام ، لا وعاء التحقق ، كذلك في جملة «ليت الرسول يعود» يكون التصادق بلحاظ وعاء التمني ، وهكذا يكون التصادق بلحاظ وعاء الترجي ، فبحسب الحقيقة ، إذا رجعنا إلى نفس النسبة التصادقية التي هي مفاد (زيد عالم) فمن أول الأمر نرى أنّ لها ثلاثة أركان : مصادق ومصادق عليه ، وما فيه التصادق.

والفرق بين الجملة الإنشائية الاستفهامية مثلا والجملة الخبرية ، هو : إنّ وعاء التصادق في هذه الأخيرة هو وعاء التحقق بحسب النظر التصوري ، وفي الأولى وعاء التصادق بلحاظ وعاء آخر ، وهو وعاء الاستفهام مثلا ، أو بلحاظ وعاء التمني ، أو وعاء الترجي ، إلى غير ذلك من الأوعية.

إذن فليس عندنا نسبتان بل نسبة واحدة ، وهي النسبة التصادقية التي دائما لها ثلاثة أطراف ، وتعيين طرفها الثالث ، وهو ما فيه التصادق ، يكون في لغة العرب. فإن كان هو وعاء التحقق لا يحتاج إلى أداة مستقلة ، وإن كان وعاء آخر من أوعية الاستفهام والترجي والتمني ، فيحتاج إلى أداة مستقلة ، ولعلّه في لغة أخرى نفس وعاء التحقق يحتاج إلى أداة مستقلة.

وبهذا يتضح أن النسبة التصادقية لا تستكمل معناها بمجرد فرض طرفين حتى نحتاج بعد هذا إلى فرض نسبة ثانية في مقام تشخيص مفاد أداة الاستفهام ، بل النسبة التصادقية لا تستكمل معناها إلّا بأطرافها الثلاثة ، فحينئذ بالإمكان أن يجعل كلمة «هل» دالة على تعيين الطرف الثالث في نفس تلك النسبة التصادقية بلا حاجة إلى فرض نسبتين.

١٥٤

الموضوع له في الحروف والهيئات

عام أو خاص؟

صار واضحا إنّ الحروف والهيئات موضوعة للنسب ، فبعضها موضوع للنسب التحليلية التي يكون حاق موطنها الأصلي هو الخارج وبعضها موضوع للنسب الواقعية التي يكون حاق موطنها الأصلي هو الذهن. والكلام الآن يقع في تشخيص أن الموضوع له في باب الحروف والهيئات ، هل هو عام أو خاص؟.

والكلام في ذلك يقع في جهتين : فتارة يقع في موارد النسب الواقعية ، وأخرى في موارد النسب التحليلية.

الجهة الأولى ـ موارد النسب الواقعية :

قبل البدء في تحقيق أن الموضوع له الحرف في هذه الجهة ، هل هو عام أو خاص ، لا بد وأن نعرف ما هو المراد بالعمومية ، والخصوصية؟ :

ومن الواضح بمكان أنه ليس المراد بكون الموضوع له الحرف عاما أو خاصا ، بحيث يصدق على كثيرين في الخارج ، أو عدم ذلك ، لأن النسب الواقعية التي حاق موطنها هو الذهن ، لا تصدق على الخارج أصلا. فمثلا النسبة الإضرابية ، أو التأكيدية ، أو التفسيرية ، أو التصادقية ، هذه كلها نسب واقعية ، قائمة بين مفهومين ذهنيين في صقع الذهن ، وأفقه ، وفي الخارج لا

١٥٥

يوجد شيئان بينهما نسبة ، بل وجود واحد هو في نفس الوقت وجود لزيد ولعالم في قولنا «زيد عالم» ، فالخارج وعاء الواقعة الواحدة ، فهذه النسب الواقعية الذهنية لا معنى لأن يفرض أن لها أفرادا في الخارج حتى يقع الكلام في عموميتها وخصوصيتها ، بحيث تصدق على كثيرين في الخارج ، أو عدم صدقها على كثيرين في الخارج.

كما أنه ليس المراد بالعمومية والخصوصية ، ما أورده المحقق النائيني (قده) في بيان معنى العمومية والخصوصية ، حيث ذكر (قده) أن مدلول الحرف له طرفان لا محالة ، ولا إشكال في أنّ الطرفين خارجان عن حريم المعنى الحرفي ، وغير داخلين في مدلوله ، ولكن يقع الكلام في أن تقيّد المعنى الحرفي بالطرفين ، هل هو داخل في معنى الحرف ، أو ليس بداخل؟.

فالقول : بأن الموضوع له عام يعني أن الطرفين خارجان قيدا وتقيّدا. ومعنى أن الموضوع له خاص : يعني إنّ التقيّد بالطرفين يكون داخلا وإن كان ذات الطرفين خارجا.

فالعمومية والخصوصية ، وإن كانت ليست بلحاظ الصدق على الخارج ، بل هي بلحاظ عالم الذهن ، بحيث أن العمومية معناها أن القيد والتقيّد كلاهما خارج عن حريم المعنى الحرفي ، والخصوصية معناها أنّ التقيد بالطرفين داخل في مدلول الحرف ، وإن كان ذات القيد خارجا.

وكلامه (قده) ليس بصحيح ، لأن كلامه يوهم بأنّ في موارد المعنى الحرفي يوجد معنى حرفي مقيّد ، وطرفان ، وهما : القيد وشيء ثالث وهو التقيد ، مع أن المعنى الحرفي بنفسه مرتبط بالطرفين وليس ارتباطه بالطرفين يكون بتقيّد آخر زائد على نفسه ، فإنّ المعني الحرفي امتيازه عن المعنى الاسمي ، هو أنه بذاته وعمقه ربط وشد بين الطرفين ، فلا يوجد بين هذا الربط ، وبين طرفي الربط ، تقيّد وربط آخر ، وإلّا لاحتاج هذا التقيد إلى تقيد وربط آخر وهكذا.

١٥٦

فليس عندنا في باب المعنى الحرفي ثلاثة أشياء حتى يقال بأن معنى العمومية عبارة عن خروج التقيّد والقيد معا ، ومعنى الخصوصية دخول التقيد وخروج القيد ، إذن فهذا التعبير في تفسير العمومية والخصوصية غير صحيح ، كما أنّ التعبير السابق بمعنى أن العمومية والخصوصية ملحوظة باعتبار الصدق على كثيرين في الخارج ، وعدم الصدق على كثيرين في الخارج ، هذا التعبير أيضا غير صحيح.

والذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ هذه النسب الواقعية التصادقية ، هل يتصور بينها جامع حقيقي مع إلغاء خصوصيات الطرفين ، أو لا يتصور ذلك؟. فإن تصورنا جامعا بين نفس النسب التصادقية ، أو النسب الإضرابية ، أو التأكيدية ، حينئذ يكون الموضوع له عاما ، ويكون جامعيته بلحاظ الصدق على كثيرين في نفس وعاء الذهن ، باعتبار أن هذا الجامع ينطبق على نسب تصادقية كثيرة.

وأما إذا لم نتعقل الجامع بين النسب التصادقية ، أو بين النسب الإضرابية ، حينئذ لا يكون له أفراد كثيرين في الذهن ، فالموضوع له خاص حينئذ.

والصحيح إنّ هذا الجامع مستحيل ، كما أوضحنا ذلك في بيان المسلك الثالث من مسالك المشهور في المعنى الحرفي. فإنّ النسبة التصادقية ، وغيرها من النسب الواقعية ، هي متقومة بشخص طرفيها كما مرّ سابقا بالبرهان ، بحيث أنها في مرتبة ذاتها مرتبطة بشخص هذا الطرف ، وبشخص ذلك الطرف. فحينئذ ، إن أريد انتزاع جامع حقيقي بين نسبتين تصادقيتين ، فإما أن تلغى خصوصيات الأطراف ، وإما أن يتحفّظ عليها :

فإن تحفظنا على خصوصيات الأطراف ، استحال انتزاع الجامع لأن تلك الخصوصيات متباينة ، ومع أخذها في النسب تكون النسب أيضا متباينة ، فيستحيل أخذ الجامع.

١٥٧

وإن ألغينا خصوصيات الأطراف فقد ألغينا النسبة نفسها لأنها متقومة ذاتا بشخص هذين الطرفين ، إذن فلم نحصل على شيء ليكون جامعا.

فبهذا البرهان يمتنع الجامع الذاتي بين النسب الواقعية ، وحينئذ يتعين أن يكون الحرف موضوعا بإزاء أفراد هذه النسب في عالم الذهن ، وهذا هو معنى أن الموضوع له خاص ، وعلى هذا يتعين أن يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، وذلك بأن يتصور الواضع مفهوما إجماليا ، ويشير به إلى أشخاص النسب التصادقية ، أو إلى أشخاص النسب الإضرابية ، أو غير ذلك من النسب الواقعية ، ويضع اللفظ بإزاء أولئك الأشخاص ، فيكون الوضع عاما والموضوع لها خاصا.

الجهة الثانية ـ موارد النسب التحليلية :

لقد مرّ بنا سابقا ، أن كل نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، ويكون الحرف دالا عليها ، تكون نسبة تحليلية لا واقعية ، قائمة في صقع الذهن ، بل في الذهن وجود واحد مركب ، أحد أجزائه التحليلية هو النسبة كما في قولنا «النار في الموقد» ، حينئذ يقع الكلام ، في أن الموضوع له الحرف عام أو خاص.

وبحسب الحقيقة لا بد من الكلام بنحو أسبق من ذلك ، وهو : إنّ الحرف ليس له وضع مستقل بنفسه ، فالبحث في أن الموضوع له الحرف ما هو ، فالحقيقة إنّ هذا البحث فرع التسليم بأن الحرف له وضع مستقل في نفسه. ومن الواضح أن الحرف ليس له وضع مستقل بحيث تكون جملة «النار في الموقد» لها ثلاثة معان بنحو تعدد الدال والمدلول بمعنى وجود ثلاث انتقالات ذهنية ، مع أنه برهنا على عدم وجود ثلاثة انتقالات ووجودات ، فلا يوجد في عالم الذهن بإزاء هذه الجملة إلّا وجود لحاظي وانتقالي واحد. حينئذ يقع الكلام في هذا الوضع الوحداني لهذه الجملة ، ولا شك في أن هذا الوضع هو بنحو الوضع العام ، والموضوع له الخاص لأن الواضع بعد أن

١٥٨

وضع النار لمعناها ، والموقد لمعناه ، وضع الجملة بكاملها لمعناها الوحداني. بحيث أحد أجزائه هو النسبة التحليلية المدلول عليها بالحرف ، وهي النسبة الظرفية.

وعليه يكون الوضع عاما ، والموضوع له خاصا. أمّا إنّ الوضع عام ، فلأن الواضع حين الوضع لم يتصور تمام الحصص «فلم يتصور زيدا في الحديقة ، وعمرا في الدار ، والنار في الموقد» وإنما تصور مفهوما إجماليا يشير إلى هذه الحصص ، ووضع الجملة لواقع تلك الحصص ، فيكون الوضع عاما والموضوع له خاصا.

وبهذا تم الكلام في الأمر الثاني ، حيث انتهينا من الوضع مع تمام تبعاته ، وبعد ذلك يقع الكلام في الأمر الثالث من الأمور التي ذكرها صاحب الكفاية (قده).

١٥٩

الأمر الثالث

الاستعمال المجازي

لا إشكال في أن اللفظ له دلالتان اقتضائيتان : دلالة اقتضائية على المعنى الحقيقي ، ودلالة اقتضائية على المعنى المجازي ، كما أنه لا إشكال في أن الدلالة الثانية في طول الدلالة الأولى ، بمعنى أنّ صيرورة الدلالة الثانية فعلية متوقف على وجود مانع عن فعلية الدلالة الأولى وإلّا لو لم يكن هناك مانع عن فعلية الدلالة الأولى للفظ على المعنى الحقيقي ، فسوف تصبح تلك الدلالة فعلية ولا تصل النوبة إلى الدلالة على المعنى المجازي ، كما أنه لا إشكال في أن الدلالة الأولى محتاجة إلى العناية الوضعية ، فلا بد في حصول تلك الدلالة من وضع اللفظ للمعنى الحقيقي. فلو لم يكن لفظ (أسد) موضوعا للحيوان المفترس ، لما كان له دلالة شأنية عليه. وإنما الكلام يقع في الدلالة الثانية ، فهل دلالة لفظة (أسد) على الرجل الشجاع أيضا ، يحتاج إلى عناية زائدة ، أو يكفي لحصول تلك الدلالة نفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي؟.

ففي المقام مسلكان : حيث ذهب بعضهم إلى لزوم عناية إضافية زائدة ، وذهب آخرون إلى عدم لزوم ذلك. وهذا الخلاف بين المسلكين ينبغي أن يكون في مجاز الكلمة ، لا في المجاز السكّاكي ، لأن التجوز على قسمين :

قسم من التجوز يكون تجوزا في الكلمة بحيث يؤتي بلفظة (أسد) ويراد بها غير معناها الحقيقي ، وهو تجوز في مرحلة الاستعمال.

١٦٠