بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

السيد الأستاذ (١) أن المحقق الأصفهاني اختار أن الحرف موضوع لواقع الربط كما يقتضيه المسلك الثالث ، لكنه ذكر أنّ واقع الربط عند الأصفهاني ليس هو الربط الكلامي ، بل هو الوجود الرابط الخارجي ، فالوجود الرابط الخارجي هو الذي وضع له الحرف بتوضيح أنّ الوجودات الخارجية على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ما يكون موجودا في نفسه لنفسه ، وذلك كالجوهر ، وكالواجب سبحانه وتعالى ، غاية الأمر أن الواجب موجود في نفسه ، ولنفسه ، وبلا سبب ـ يعني بنفسه ـ ، والجواهر موجودة في نفسها ، ولنفسها ، ولكن بسبب ـ يعني بغيرها ـ.

فالقسم الأول الوجودات التي تكون في نفسها ولنفسها ، والمراد من أن الوجود في نفسه هو ـ وجود شيء من الأشياء بحيث يكون للموجود تقرر ماهوي وذاتي ، بقطع النظر عن عالم الوجود ـ والمراد من الوجود لنفسه هو أنه لا يحتاج في مرحلة الوجود إلى موضوع.

القسم الثاني : ما يكون موجودا في نفسه لغيره ، يعني أن له تقررا ماهويا وذاتيا بقطع النظر عن عالم الوجود ، لكنه محتاج في تحققه خارجا إلى الموضوع كالأعراض.

القسم الثالث : ما يكون موجودا لا في نفسه ، ولا لنفسه ، بحيث أنه ذاتا ليس له تقرر مفهومي بقطع النظر عن عالم الوجود ، وهذا القسم من الوجود هو الذي يسمى بالوجود الرابط في مقابل القسم الثاني المسمّى بالوجود الرابطي.

وحينئذ قيل : بأن المحقق الأصفهاني يرى أن الحروف موضوعة بإزاء القسم الثالث من الوجودات الخارجية ، وهو الوجود الرابط الذي يكون وجودا في غيره ولغيره. وأشكل على ذلك ، السيد الأستاذ بما يرجع إلى ثلاث إشكالات :

الإشكال الأول : هو أن الكلمات دائما تكون موضوعة للمفاهيم ، بقطع

__________________

(١) محاضرات فياض ج ١ ص ٦٧.

١٢١

النظر عن الوجود الخارجي والوجود الذهني. ولم توضع الألفاظ للوجود الخارجي ، أو للوجود الذهني. فالوضع إنما يكون لمعنى قابل لأن يوجد في الذهن ، وما هو قابل لأن يوجد في الذهن ، إنما هو ذات المفهوم. وأما الوجود الذهني فهو لا يقبل أن يوجد مرة أخرى في الذهن ، كما أن الوجود الخارجي لا يعقل أن يوجد في الذهن ، فما يعقل أن يوجد في الذهن ، إنما هو ذات المعنى ، وذات المفهوم العاري بحد ذاته عن الوجود الذهني ، والوجود الخارجي ، فكيف يعقل القول بأن الحروف موضوعة للوجود الخارجي الرابط!.

الإشكال الثاني : هو إن الحروف تستعمل في موارد ، لا إشكال في عدم الوجود الرابط فيها. فمثلا حينما نقول : الوجود لله واجب ، فهنا وجود اللام مفاده معنى حرفي. فلو قلنا : بأن اللام التي هي حرف من الحروف تكون بإزاء الوجود الرابط ، للزم أن يكون هناك وجود رابط بين الله ووجوده ، في حين أن الله تعالى عين الوجود ، وصرف الوجود ، ولا يتعقل الوجود الرابط بين ذاته ووجوده. وكذلك الحال في الاعتباريات الصرفة ، فمثلا نقول الحيوانية جنس للإنسان ، فمفاد اللام هنا لا ينبغي أن يكون الوجود الرابط ، لأنّ جنسية الحيوان للإنسان ، إنما هو بلحاظ عالم الاعتبار ، لا بلحاظ عالم الخارج حتى يتصور وجود رابط خارجي بين الحيوانية والإنسانية ، إذن فلا يعقل القول بأن الحروف موضوعة للوجود الرابط.

الإشكال الثالث : إنّ الوجود الرابط لا برهان عليه من الأساس ، ولا مفروغية عن ثبوته في الخارج ، حتى في موارد الأعراض مع موضوعاتها ، كما هو الحال في البياض مع الجسم ، فمن قال بإنه عندنا ثلاث وجودات! وجود للجسم ، ووجود للبياض ، ووجود آخر رابط بين الوجودين؟ مثل هذا الوجود لا برهان عليه حتى في موارد الأعراض الحقيقية المقولية مع موضوعاتها الخارجية ، فضلا عن بقية الموارد.

والتحقيق أنّ هذه الإشكالات الثلاثة كلها ، مبنية على الاعتقاد بأن

١٢٢

المحقق الأصفهاني (قده) يرى بأن الحرف موضوع للوجود الرابط الخارجي ، وهذا المطلب لا طريق إلى معرفته إلّا كتاباته (قده). وفي كتاباته لا يتحصل هذا المدّعى ، فإنّ الظاهر ممّا كتبه في توضيح مختاره في المعنى الحرفي أنه لا يقول بوضع الحروف للوجود الرابط الخارجي ، بل هو يقول بوضع الحروف لواقع النسبة ، ويمثل النسبة بالوجود الرابط فيقول (١) : النسبة الحرفية مع المعنى الاسمي كالوجود الرابط مع الوجود المحمولي. فالمعنى الحرفي يشبه الوجود الرابط ، والمعنى الاسمي يشبه الوجود المحمولي ، لا إنه يقول بأن الحرف موضوع للوجود الرابط الخارجي ، وإنما هو موضوع للنسبة القابلة للوجود ذهنا وخارجا. وهذه النسبة يقربها ويشبهها بالوجود الرابط الخارجي ، ومثل هذه النسبة محفوظة عنده سواء أكان هناك وجود رابط خارجي ، أو لم يكن وجود رابط خارجي ، ولهذا يصرّح بأنّ النسبة الحرفية محفوظة حتى في موارد (هل) البسيطة) ـ هل الإنسان موجود ـ فضلا عن (هل) المركبة ـ هل الإنسان قائم ـ ، في موارد (هل) البسيطة النسبة محفوظة أيضا بين الإنسان وأصل وجوده ، مع أنه من الواضح أن الأصفهاني ولا واحد من أولاء يدّعي الوجود الرابط بين ماهية الإنسان ووجود هذه الماهية ، لأن الماهية أمر تحليلي منتزع عن الوجود ، ولا يخطر على خيال المحقق الأصفهاني أن يكون هناك وجود رابط خارجي بين الماهية والوجود ، ومع هذا يقول : بأن النسبة الحرفية محفوظة في موارد (هل) البسيطة بين الإنسان ووجوده ، وهذا أكبر شاهد على أن مراده من المعنى الحرفي ليس الوجود الرابط الخارجي الذي لا يعقل تحققه بين الماهية ووجودها بل مراده هو تلك الماهية المستهلكة في الطرفين التي يكون تقررها الماهوي في طول الوجود ، وهذه الماهية المستهلكة قد تكون ذهنية ، ولها ما بإزاء في الخارج. فبإزائها وجود رابط في الخارج ، وقد تكون ذهنية وليس لها ما بإزاء في الخارج ، فليس هناك وجود رابط في الخارج فما به قوام الحرف ، وقوام المعنى الحرفي ، هو النسبة الاستهلاكية الثابتة في

__________________

(١) نهاية الدولة الأصفهاني : ج ١ / ص ٢٢ ـ ٢٣ ـ ٢٤ ـ ٢٥.

١٢٣

القضية المعقولة في ذهن المتكلم ، سواء أكان بإزائها وجود رابط خارجي أو لم يكن بإزائها وجود رابط خارجي وإلّا كيف يتصور أن مقصود الأصفهاني من الحرف إنه موضوع للوجود الرابط الخارجي ، مع أنه في القضايا الكاذبة على الأقل ، لا وجود رابط خارجي حينما نقول : زيد في الدار ، وزيد لم يكن في الدار ، هنا الوجود الرابط في الخارج غير موجود أصلا ، مع أن كون القضية كاذبة لا يعني أنّ الحرف ليس له معنى ، وأن الإسم ليس له معنى ، فحينما يقول الكاذب : زيد في الدار ـ هذه الجملة لها المعنى نفسه عند ما يقولها الصادق ، فلو كان مفاد الحرف هو الوجود الرابط الخارجي. إذن لم يكن هناك معنى للحرف في موارد كذب القضية ، إذ ليس هناك وجود رابط خارجي ، مع أن معنى الحرف سنخ معنى لا بدّ من انحفاظه في موارد صدق القضية وكذبها. وهذا معناه إنّ الموضوع له ليس هو الوجود الرابط الخارجي ، بل هو النسبة المستهلكة في الطرفين التي يكون تقررها الماهوي في طول الوجود الذهني للقضية في عالم الاستعمال ، وهذه النسبة إن كان لها مطابق في الخارج تكون صادقة ، وإن لم يكن لها مطابق في الخارج ، فتكون كاذبة ، مع وجدان المعنى للقضية ، وللاسم ، وللحرف فيها.

إذن فبناء على هذا يظهر أن ما ذكره المحقق الأصفهاني ، لا يختلف عمّا أوضحناه في المراحل الخمسة لتوضيح هذا المسلك ، وهو إنّ الحروف موضوعة (١) لأنحاء النسب ، وإنّ هذه النسب ، نسب مستهلكة ليس لها تقرر ماهوي إلّا في طول عالم الوجود ، في عالم وجود القضية في ذهن المتكلم ، ولا نرى أنه قد أضاف شيئا على ما قررناه أولا في توضيح هذا المسلك.

وهذه الاعتراضات الثلاثة التي اعترض بها السيد الأستاذ ، فقد ظهر حالها ممّا بيناه ، فأما الاعتراض الأول ، وهو إنّ الكلمة لا تكون موضوعة للوجود الخارجي ، لأنّ هذا الوجود لا يقبل الانتقال إلى الذهن. فهذا أمر

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني / ج ١ ص ٢٣ ـ ٢٤.

١٢٤

صحيح ، لأن الوجود الخارجي ، لا يقبل الانتقال في الذهن ، وإنما الكلمة موضوعة للنسبة.

وقد التفت المحقق الأصفهاني نفسه إلى هذا الإشكال ، وأجاب عنه (١) وقال :

إن الواضع في مقام الوضع ، لا ينبغي له أن يأخذ زائدا على المعنى ، قيد الوجود الخارجي ، أو قيد الوجود الذهني ، لأنّ الغرض من الوضع هو الانتقال ، والانتقال إنما يكون إلى ذات المعنى ، لا إلى الوجود الذهني ، أو إلى الوجود الخارجي ، لكن إذا أراد أن يضع لسنخ ماهية ، هي في طول الوجود ، وتقومها ، وتقررها بوجود الطرفين. حينئذ لا بدّ من أخذهما ، لا من باب أخذ قيد زائد على المعنى ، بل من باب مقوّمية الوجود للمعنى ، وفرق بين المطلبين ، فرق بين أن يأخذ الواضع قيدا زائدا على المعنى. فهذا خلاف غرض الواضع ، لأن الغرض هو الانتقال إلى ذات المعنى لا إلى الوجود.

وأمّا إذا فرض أن الوجود كان مقوما لمعنوية المعنى ، حيث يكون دخيلا في التقرر المفهومي للمعنى ، فحينئذ لا بدّ من أخذه ، لا باعتباره قيدا زائدا ، بل باعتباره مقوما للمعنى ، فلا يرد هذا الإشكال.

وأما الاعتراض الثاني : وهو إنّ الوجود الرابط لا ثبوت له في قولنا : الوجود للواجب والحيوانية جنس للإنسان ـ فهذا الإشكال أيضا غير وارد ، لأن المحقق الأصفهاني (قده) لا يدّعي أنّ الحرف موضوع للوجود الرابط ، بل هو موضوع للنسبة التي هي بإزاء الوجود الرابط ، شبيهة بالوجود الرابط ، والنسبة محفوظة في المقام سواء أكان هناك وجود رابط خارجي ، أو لم يكن هناك وجود رابط خارجي ، فهذا الإشكال غير تام.

ومنه يظهر أن الاعتراض الثالث أيضا ، لا ربط له بمدّعى الأصفهاني.

__________________

(١) نهاية الدراية : الأصفهاني / ج ١ ص ٢٣.

١٢٥

فلو فرضنا أنّ الوجود الرابط ليس له تحقق في الخارج أصلا فهذا لا دخل له بالبحث الأصولي ، إذن هذا المطلب وهو ، هل إن هناك وجودا رابطا في الخارج ، أو ليس هناك وجود رابط. لعلّ هذا من أهم الأبحاث الفلسفية ، لكن لا دخل له بعالم الأصول ، وعالم وضع الألفاظ ، لأننا لا نقول بأن اللفظ موضوع بإزاء الوجود الرابط ، بل هو موضوع بإزاء النسبة التي هي قوام ربط القضية في عالم ذهن المتكلم.

فالاعتراضات الثلاثة غير واردة بناء على هذا التفسير ، نعم قد ترد لو كان مراد الأصفهاني (قده) هو وضع الحروف للوجود الرابط الخارجي ، والله أعلم بمراده.

الوجه الثالث :

وهذا الوجه الثالث هو مختار السيد الأستاذ ـ قدس‌سره ـ وحاصل هذا المسلك هو (١) : إنّ المفاهيم الاسمية قابلة للتقسيم والتحصيص إلى حصص كثيرة ، بحيث يكون المفهوم قابلا للانطباق على كل واحدة من تلك الحصص ، فالضرب مثلا مفهوم كلي له أفراد كثيرة قابل للانطباق عليها انطباق الكلي على أفراده ، فتارة الضرب في الطريق ، أخرى في السوق ، وثالثة في المقهى ، وهكذا. وكذلك مفهوم الإنسان ، فإنه مفهوم كلي قابل للانطباق على أفراده الكثيرة ، فينطبق على الإنسان الصغير ، والكبير ، والطويل ، والأسود ، والأبيض وهكذا. فإذا ما أردنا أن نعبّر عن حصة من حصص هذا المفهوم ، ونبرزها عمّا عداها من الحصص ، حينئذ أتينا بالحرف مبرزا لها ، ومميّزا عما عداها ، وهكذا فيما إذا كان الغرض قد تعلق بالأفراد ـ بأفراد الطبيعة ـ.

وأما إذا تعلق الغرض بنفس الطبيعة ، حينئذ أتينا بنفس الإسم الموضوع للطبيعة ، فتقول : الضرب موجود والإنسان موجود ، وهكذا فالإتيان بالاسم الموضوع لكلي الطبيعة لا يؤتى به لإفراز الحصة الخاصة ، وإنما يؤتى بكلمة

__________________

(١) محاضرات فياض : ١ / ٧٦.

١٢٦

(في) مثلا لإبراز الحصة المخصوصة من الإنسان ، والضرب ، وغيرها فالحصة الخاصة مستفادة بنحو تعدد الدال والمدلول ، حيث أنّ هذه الحصة الخاصة تنحل إلى ذات الطبيعة ، وإلى ضيق في هذه الطبيعة ، فأصل الطبيعة مدلول عليه بالاسم ، والضيق مدلول عليه بالحرف.

وبهذا يصح القول بأن الحرف موضوع لتحصيص وتضييق المفاهيم الاسمية ، بحيث تحدد دائرة قابلية انطباقها ، فكلمة الضرب لو لا الحرف لكان لها قابلية الانطباق على الضرب في الدار ، والضرب في السوق ، وغيره من أفراد الضرب ، ولكن بلحاظ كلمة (في) تحدّدت وتضيقت قابلية هذه الطبيعة ، وليس المراد من الضيق مفهوم الضيق وعنوانه ، فإنّ مفهوم الضيق من المفاهيم الاسمية المعبّر عنها بكلمة (ضيق) ، وإنما المراد واقع الضيق ، وواقع المحدودية ، في المفهوم الاسمي.

فمدلول الحرف هو واقع الضيق بقطع النظر عن عالم الكلام ، وعن عالم الخارج ، فهو سنخ مفهوم محفوظ في نفسه ، بقطع النظر عن هذين العالمين.

وتحقيق الحال في هذا الوجه هو : إنه كلما أحضرنا مفهومين من المفاهيم ، من قبيل مفهوم الإنسان والحصان ، أو من قبيل مفهوم الضرب والدار ، فإنّ أمكن اختراع وانتزاع نسبة بحيث تقوم بين هذين المفهومين ، كما هو الحال في الضرب والدار ، فإنه يمكن انتزاع نسبة ما بين الضرب والدار وهي المعبّر عنها بنسبة الظرفية ، فحينئذ لا محالة يعقل في طول ذلك أن نحصص هذا المفهوم إلى ما يكون واجدا للنسبة ، وإلى ما يكون فاقدا لها ، فنقول : بأن الضرب ينقسم إلى حصتين : إلى ما يكون طرفا لهذه النسبة ، وإلى ما لا يكون طرفا لها. حينئذ بالإمكان تحصيص مفهوم الضرب بأخذ هذه النسبة فيه ، إذ بأخذها ينشأ ضيق في دائرة صدق هذا المفهوم ، بحيث يستحيل أن يصدق على فاقد النسبة ، فإنّ الضرب المنسوب إلى الدار بنسبة الظرفية ، يستحيل أن ينطبق على الضرب المنسوب إلى السوق ، بنسبة الظرفية ، لأن

١٢٧

الضرب السوقي فاقد للنسبة الظرفية الداريّة.

إذن فتخصيص المفهوم الاسمي ، وتضييق دائرته بلحاظ مفهوم آخر ، إنما يكون في طول إمكان انتزاع نسبة تقوم بين مفهومين كنسبة الظرفية ، أو الابتدائية ، أو الانتهائية ، أو غير ذلك من النسب. ففي طول ذلك يعقل تحصيص هذا المفهوم ، وتضييق دائرته بلحاظ المفهوم الآخر ، بأن تؤخذ فيه تلك النسبة.

وأمّا إذا تصورنا مفهومين من دون أن نتعقل ، أو أن نفترض أي نسبة بينهما ، فلا يعقل حينئذ تحصيص أحدهما بلحاظ الآخر ، بحيث تتضيق دائرة قابلية أحدهما بلحاظ الآخر ، فمثلا إذا تصورنا مفهوم الإنسان والحصان ، من دون أن ننتزع بينهما نسبة الاقتران ، ولا نسبة الركوب ، ولا نسبة الملكية ولا أي نسبة أخرى من هذا القبيل ، ففي مثل ذلك لا يعقل أن يتحصص الإنسان بالحصان ، إذ لا معنى حينئذ لهذا التحصيص ، إذن فتحصيص الإنسان بالحصان دائما ، لا يعقل إلّا في طول افتراض نسبة ، وانقسام الإنسان إلى ما يكون طرفا لها ، وإلى ما يكون فاقدا لها ، حينئذ في طول ذلك يعقل التحصيص.

حينئذ نسأل : ما هو مرادكم من كون الحرف موضوعا لضيق المعنى الاسمي ، وتحديده ، وحصره بلحاظ المفهوم الآخر ، كضيق الضرب بلحاظ الدار؟

فإن كان مرادكم بذلك أنّ الحرف موضوع لمنشا هذا الضيق وملاكه ، وهو النسبة القائمة بين الضرب والدار ، وهي النسبة الظرفية التي في طول تعقلها يقبل الضرب التحصّص إلى حصتين ويتضيق ، حينئذ مرادكم هذا ، هو عين ما بيّناه في المسلك الثالث ، من كون الحروف موضوعة للنسب الظرفية منها ، والابتدائية ، والانتهائية ، وغيرها ، ولا يكون هذا وجها مستقلا في مقابل ما ذكرناه.

وإن كان مرادكم بذلك : إنّ الحرف موضوع لنفس التحصيص والضيق ،

١٢٨

لا للنسبة التي هي منشأ التحصيص والضيق ، بحيث يكون الضيق نفسه والتحصيص نفسه ، هو مدلول الحرف ابتداء ، حينئذ مرادكم هذا يكون مطلبا جديدا غير ما قلناه ولكن يرد عليه :

أولا : إنّ هذا التحصيص لا يعقل فرضه إلّا بلحاظ فرض نسبة في المرتبة السابقة كما بيّناه ، وحينئذ ننقل الكلام إلى تلك النسبة ، ونقول : إذا كان الحرف موضوعا للضيق الذي هو من تبعات تلك النسبة ، إذن فما هو الدال على تلك النسبة؟.

فإن قيل : بأن هناك دالا آخر على تلك النسبة ، فليس هناك من دال آخر على تلك النسبة غير الحرف.

وإن قيل : إن الدال عليها هو الحرف نفسه فقد انتهينا إلى أن الحروف موضوعة للنسب ، ومعه لا حاجة إلى مسألة الضيق والتضيق.

فابتداء نقول إنّ الحروف موضوعة للنسب ، فلا يدخل التضيق في تصوير المعنى الحرفي ، بل يكون إدخاله لغوا صرفا.

ثانيا : إنّ التحصيص قد يتفق في المعنى الحرفي ، وقد لا يتفق. فهو ليس أمرا دائميا في المعنى الحرفي ، وذلك لأن قوام المعنى الحرفي بالنسبة ، والنسبة قد يتولد منها التحصيص والتضييق في دائرة الصدق على الأفراد ، وقد لا يتولد منها ذلك أصلا. لهذا نرى أن التحصيص ليس ملازما مع المعاني الحرفية. وهذا شاهد على أن الحرف ليس موضوعا بإزاء التحصيص.

فمثلا : حرف العطف ، حينما نقول : جاء الإنسان والحيوان ، المراد بالإنسان الحصة الخاصة التي هي مع الحيوان ، والمراد بالحيوان الحصة الخاصة التي هي مع الإنسان ، يعني تلك الحصتين جاءتا معا.

ولكن ما ذا تقولون في قولنا) الحرارة والبرودة لا يجتمعان ، فهنا هل المراد بالحرارة الحصة المقترنة مع البرودة ، وبالبرودة الحصة المقترنة مع الحرارة ، بحيث كلتا الحصتين لا تجتمعان؟.

١٢٩

ليس هذا هو المقصود ، بل المراد بيان أنهما لا يقترنان أصلا ، فحرف العطف هنا لم يكن مؤثرا في تحصيص الحرارة ، ولا في تحصيص البرودة بحصة خاصة من حصص هذه الطبيعة. وسبب ذلك أن الحرف ليس موضوعا ابتداء بإزاء التحصيص ، وإنما هو موضوع لنسبة ، والنسبة التي هي بإزاء حرف العطف ، لا توجب التحصيص على ما يأتي توضيحه.

وكذلك حرف الاستثناء في قولنا : تصدّق بالدراهم العشرة إلّا واحدا. فحرف الاستثناء بأي شيء يوجب تحصيص العشرة؟ هل يوجب تحصيص العشرة بالتسعة؟ فيما العشرة في نفسها لم يكن لها حصتان حصة تسعة وحصة عشرة ، حتى يقال بأن (إلّا) تدل على تحصيص مفهوم العشرة بالعشرة الناقص واحد. فإن العشرة الناقص واحد ليس عشرة أصلا ، وليس فردا من أفراد مفهوم العشرة. فالتحصيص هنا غير معقول ، بينما المعنى الحرفي معقول ، لأن النسبة الاستثنائية بنفسها لا تتضمن التحصيص هنا على ما يأتي.

ويقال الشيء نفسه في حروف الإضراب ـ اضرب زيدا ، بل عمرا ـ وفي حروف التفسير ـ عندي إنسان أي حيوان ناطق ـ وهكذا كثير من الحروف لا يتعقل في مفادها تحصيص المعنى الاسمي ، وليس ذلك إلّا لأن تحصيص المعنى الاسمي من نتائج المعنى الحرفي ، لا إنه هو المعنى الحرفي.

وأمّا معنى الحرف فهو النسبة والنسبة أحيانا توجب التحصيص وتضييق دائرة الانطباق على الأفراد ، وأحيانا لا توجب ذلك.

إذن فالصحيح في المقام أن الوجه الثالث لا يكون مقبولا إلّا بعد إرجاعه إلى المسلك العام ، وذلك بأن نقول : بأن المراد من وضع الحرف للضيق في دائرة صدق المفهوم الاسمي ، يعني لملاك ومنشأ هذا الضيق ، وهو النسبة ، فيكون تعبيرا مسامحيا عن المسلك الثالث.

نعم يحتمل أن يكون هناك توجيه دقيق لكلام السيد الأستاذ ، إلّا أن

١٣٠

كلامه لا يفي بإثباته ، ولا ببيانه ، وهذا التوجيه سوف نذكره في تحقيق الحال في (المسلك الثالث).

تحقيق الحال في المسلك الثالث :

لقد تحصل من توضيح المسلك الثالث المشهور ، بوجوهه المتعددة ، أنّ الحرف موضوع بإزاء ماهية النسبة ، وواقع النسبة القائمة في أفق الذهن ، المتقومة بشخص وجود الطرفين ، والتي ليس لها تقرر ماهوي بقطع النظر عن عالم الوجود ، فكأن في هذا المسلك يرى أن القضية المعقولة في قولنا : النار في الموقد ، موازية للقضية الخارجية. فكما أن في الخارج يوجد مظروف ، وظرف ، ونسبة بين النار والموقد ، كذلك في الذهن يوجد ثلاث وجودات ذهنية : النار ، والموقد ، والنسبة. غاية الأمر أن اثنين منها موجودان في نفسهما ، وهما النار والموقد ، والثالث : موجود لا في نفسه ، وهي النسبة القائمة بين الطرفين في أفق القضية المعقولة.

وإذا أردنا أن نحاسب هذا المسلك حسابا دقيقا ، فلا بد من النظر إلى عناصر القضية الخارجية ، والذهنية :

القضية الخارجية ، والذهنية :

حينما ننظر إلى القضية الخارجية وهي ـ النار في الموقد ـ قالوا : إنه يوجد هناك نار وهذه فرد من أفراد مقولة الجوهر ، وهناك موقد ، وهو فرد من أفراد مقولة الجوهر أيضا ، وهناك ربط خارجي ـ وهو الشيء الموجود لا في نفسه ـ الذي يربط بين النار والموقد ، وهناك ظرفية الموقد ومظروفية النار للموقد. وهذه الظرفية والمظروفية مفهومان مقوليان داخلان عندهم في مقولة الإضافة من قبيل الأبوة والبنوة ، وهناك هيئة وجودية ، فالشيء باعتبار تمكنه وارتباطه بالمكان ، يحصل له هيئة وجودية. وهذه الهيئة الوجودية من مقولة الأين. هذا هو الموجود في الخارج على أكثر التقادير.

وقد نتصور روابط أخرى في المقام ، لأن كل عرض من الأعراض ،

١٣١

مربوط بموضوعه لا محالة ، ولكن ما ذكرناه هو اقتصار على محل الحاجة.

والآن إذا انتقلت هذه القضية إلى الذهن ، فلا إشكال أن تصوري لها لا يشتمل على تصور الظرفية ، والمظروفية ، والأينية ، التي هي مفاهيم اسمية. نعم هذه المفاهيم ، تدخل في التصور لو جئنا بلفظة ظرفية ، ومظروفية ، وأينية ، ولكن في المرتبة الأولى حينما أتصور ـ النار في الموقد ـ هذه المفاهيم خارجة عن تصور هذه القضية ، نعم بنظره ثانوية ننتزع عنوان الظرفية من الموقد ، وعنوان المظروفية من النار ، في مرتبة منشأ الانتزاع ، في المرتبة الأولى ، تصوري لم يكن تصورا لمفهوم الظرفية والمظروفية ، بل تصورا لشيء هو منشأ انتزاع ، بحيث يمكنني بنظر آخر أن أنتزع منه مفهوم الظرفية ، ومفهوم المظروفية ، والمكانية.

إذن لم يبق من هذه القائمة الخارجية إلّا الثلاثة الأولى : النار ، والموقد ، والربط.

وهنا نريد أن نبرهن على أن في عالم الذهن لا يوجد وجودان ذهنيان يوازيان وجودين خارجيين للنار والموقد. وذلك لأنه لو كان عندنا وجودان ذهنيان متغايران : أحدهما صورة ذهنية للنار ، والآخر صورة ذهنية للموقد ، فحينئذ لا يخلو الأمر من أحد احتمالات :

الاحتمال الأول : أن لا يكون بين هاتين الصورتين نسبة ، وهذا باطل لأن قولنا : النار في الموقد ، يصير من قبيل قولنا : النار الموقد. والحال إنه في القول الأول يوجد شيء ثالث غير موجود في القول الثاني.

الاحتمال الثاني : أن يكون بينهما نسبة ، وتكون هذه النسبة هي مفهوم النسبة المكانية ، لا واقع النسبة المكانية. وهذا أيضا باطل لأنه مفهوم اسمي كما تقدم توضيحه.

الاحتمال الثالث : أن يكون بينهما نسبة ، وهي النسبة المكانية الواقعية ، أي نسبة واقعية مماثلة للنسبة الخارجية. فكما أن النار الخارجية مظروف ،

١٣٢

والموقد الخارجي ظرف ، وبينهما نسبة الظرفية ، كذلك بين ناري الذهنية ، وموقدي الذهني نسبة الظرفية. وهذا أيضا غير معقول ، وغير صحيح. وذلك لأن النار الذهنية والموقد الذهني ، صورتان ذهنيتان من مقولة الكيف النفساني ، وليس أحدهما مكانا للآخر حقيقة ، فهذه الصور الذهنية كلها أعراض ، فهي ليست مكانية ، بل هي مجردة عن المكان. فالنسبة المكانية الواقعية بلحاظ الصور الذهنية أمر غير معقول.

الاحتمال الرابع : أن يكون بين الصورتين نسبة أخرى غير النسبة المكانية ، كنسبة الاقتران الزماني ، ففي زمان واحد تصورنا النار والموقد ، ولكن من المعلوم أن هذه النسبة مباينة مع النسبة المكانية الخارجية ، فكيف يعقل أن تكون حاكية عنها؟.

إذن فجميع الاحتمالات باطلة ، وبهذا يتبرهن أن النار والموقد ليسا موجودين في الذهن بوجودين متغايرين ـ اثنين ـ كما هو الحال في الخارج ، بل هناك وجود واحد في الذهن ، وهذا الوجود الذهني الوحداني ، هو وجود لماهية. وهذه الماهية إذا حلّلناها نقول : نار ، ونسبة ، وموقد.

فالنسبة جزء تحليلي في ماهية هذا الوجود الوحداني ، لا إنّ النسبة موجودة حقيقة في أفق هذه القضية المعقولة ، بحيث يوجد في الذهن ثلاث وجودات ، فكما أن الحيوانية والناطقية جزء تحليلي في ماهية وجود زيد الواحد في الخارج ، كذلك النسبة جزء تحليلي لهذا الوجود الذهني الوحداني ، لا جزء وجودي لهذا الوجود الذهني.

إذن فرق بين النسبة الواقعية ، والنسبة التحليلية ، فالمعنى الحرفي إن ادّعي أنه هو النسبة الحقيقية ، بحيث أن هناك في الذهن ثلاث موجودات وواحد منها هو النسبة فهذا غير صحيح.

ولعلّ هذا الذي دفع السيد الأستاذ أن يضرب عن المسلك المشهور وينتقل منه إلى تعبيرات التحصيص ، والتضييق ، ويحتمل أن يكون نظره إلى

١٣٣

هذا المطلب ، إلّا أنّ عباراته لا تفي به. إذن إن أريد وضع الحرف للنسبة التحليلية مع كون الموجود في الذهن أمرا واحدا ، فهذا صحيح ، ولا محيص عنه.

المختار في باب المعاني الحرفية :

صار واضحا أنه يوجد ثلاث نسب : وهي النسبة الواقعية الخارجية ، والنسبة الواقعية الذهنية ، والنسبة التحليلية التي هي في مقابل كلتا النسبتين الواقعيتين الخارجية والذهنية.

والنسبة الواقعية سواء أكانت خارجية أو ذهنية ، تستدعي لا محالة في صقع وجودها خارجا ، أو ذهنا ، أمرين وجوديين يكونان طرفين لها ، وتكون هذه النسبة شدا وربطا بين هذين الأمرين الوجوديين لأحدهما بالآخر. والنسبة التحليلية لا تستدعي وجود طرفين وجوديين لأنها ليست نسبة واقعية ، بل معنى كونها نسبة تحليلية ، أن هناك وجودا وحدانيا ذهنيا ، وهذا الوجود الذهني الواحد ، هو وجود لماهية لها ثلاث أجزاء تحليلية : واحد منها هو النسبة ، ونسبة هذه النسبة إلى الوجود الذهني الوحداني نسبة الجنس أو الفصل إلى الوجود الوحداني لزيد الثابت في الخارج.

فكما أن الحيوانية ليست جزءا وجوديا لزيد الخارجي ، كذلك ليست هذه النسبة جزءا وجوديا لهذا الوجود الوحداني الذهني.

وبناء على هذا يتبين أن الحروف موضوعة للنسبة التحليلية ، لا للنسبة الواقعية الذهنية ، فضلا عن النسبة الواقعية الخارجية.

وبحسب الواقع ، ما قلناه ينطبق على النسب الأولية للحروف ، لا على النسب الثانوية ، حيث أن النسب على قسمين : أولية وثانوية ، وتوضيح ذلك كما يلي :

إن في باب المفاهيم الاسمية يوجد معقولات أولية ، ومعقولات ثانوية ، كما هو الحال في المنطق. فالمعقولات الأولية من المفاهيم الاسمية هي

١٣٤

المفاهيم المتحصلة والموازية ، لما في الخارج من قبيل مفهوم ، إنسان ، وبقر ، وهواء وبياض ونحو ذلك ، والمعقولات الثانوية هي المفاهيم المتحصلة في طول المعقولات الأولية من أفق وجود المعقولات الأولية ، وذلك بعد أن نتصور البقر ، والحيوان ، والناطق ، حينئذ نفصّل فنقول : البقر نوع ، والحيوان جنس ، والناطق فصل ، فالفصلية والحيوانية والناطقية ، مفاهيم اسمية ومعقولات ثانوية. وهذا الموجود نفسه بالنسبة للمفاهيم الاسمية في المنطق ، يتصوّر شبيه له بالنسبة للمفاهيم الحرفية ، والنسب الحرفية ، فإنّ النسب الحرفية على قسمين :

القسم الأول : النسب الحرفية التي توازي ما في الخارج من قبيل نسبة الظرفية بين النار والموقد ، التي موطنها الأصلي هو الخارج. وهذه نسميها بالنسب الأولية ، حيث أنّ الذهن طفيلي فيها على الخارج ، والبرهان المتقدم على أنّ مفاد الحروف هو النسب التحليلية لا النسب الواقعية ولو ذهنا ، هذا منظور فيه هذا القسم ، وهو النسب الأولية من قبيل (في) الموضوعة للنسبة الظرفية في قولنا : النار في الموقد. وكذلك من قبيل (عن ، على ، من ، إلى) ، ونحو ذلك من النسب التي ، أصل موطنها هو الخارج ، والذهن عيال فيها على الخارج ، فإنّ في مثل هذه النسب ، البرهان الذي ذكرناه ، لا محيص عنه ، حيث أننا إذا أحضرنا في الذهن شيئين متغايرين ، استحال الربط بينهما كما تقدم بالبرهان.

القسم الثاني : النسب الحرفية التي موطنها الأصلي هو الذهن ، وهذه نسميها بالنسب الثانوية ، فهي بحسب الحقيقة ليست متحصلة ومنتزعة من الخارج ، بل من نفس أفق الوجود الذهني للقضية ، من قبيل النسبة الاستثنائية ، والتوكيدية ، والتحقيقية ، والإضرابية ، وكثير من هذه النسب.

فمثلا : النسبة الإضرابية التي هي مدلول لحرف الإضراب في قولنا : جاء زيد بل عمر ، فالحرف هنا يدل على النسبة الإضرابية ، وهذه النسبة الإضرابية موطنها الأصلي هو الذهن ، وليس الخارج. إذ لو لم يكن ذهن وحاكم ،

١٣٥

ومتصوّر ، لما كان معنى للإضراب في عالم الخارج. فالنسبة الإضرابية ليس لها وعاء في الخارج ، وهذه النسبة الثانوية المدلول عليها بحرف الإضراب ، هي نسبة واقعية ذهنية ، لا نسبة تحليلية. ففي قولنا : (جاء زيد بل عمر) ، يختلف عن قولنا : (النار في الموقد). فهنا ليس في ذهننا وجود واحد هو وجود لزيد ولعمر معا ، بل وجودان ذهنيان متغايران : وجود ذهني للمضرب عنه وهو زيد ، ووجود ذهني آخر للمضرب إليه وهو عمر ، وبين الوجودين الذهنيين تقوم نسبة فنائية اندكاكية ، وهي النسبة الإضرابية.

ولا يأتي البرهان المذكور ، لأن النسبة الإضرابية قائمة في الذهن مع فرض طرفين وجوديين متغايرين ، بحيث يمكن إنشاء الربط بينهما ، لأن حاق النسبة ، هو عالم الذهن ، فهو موطنها. فهي تحصل بين الصور الذهنية بما هي حاكية عن الخارج ، وهذا بخلاف النسبة الظرفية ، والمكانية ، فإنه يستحيل قيامهما بين الصورتين الذهنيتين ، لا بما هما هما ، ولا بما هما حاكيتان ، لأن الصور الذهنية أعراض ، ويستحيل قيام النسبة المكانية بين عرضين.

إذن فالمختار في باب المعاني الحرفية : إنّ القسم الأول ، وهو النسب الأولية التي أصل موطنها هو الخارج ، يتعين فيه أن يكون مفاد الحروف النسب التحليلية ، لا النسب الواقعية الذهنية.

وإنّ القسم الثاني وهو النسب الثانوية التي ، أصل موطنها هو عالم الذهن ، يتعين فيه أن يكون مفاد الحروف النسب الواقعية الذهنية.

١٣٦

المقام الثاني

تشخيص مفاد الجمل التامة والناقصة

مسلك المشهور

مسلك السيد الأستاذ :

والآن ندخل في بحث المقام الثاني وهو تشخيص مفاد الجمل التامة من قبيل قولنا : زيد عالم ، أو الجمل الناقصة من قبيل قولنا : زيد العالم.

ويوجد في المقام مسلكان : مسلك منسوب إلى المشهور ، ومسلك للسيد الأستاذ.

التصوير اللفظي لكلا المسلكين :

ذهب المشهور إلى أنّ مفاد الجملة هو النسبة بين الطرفين ، فمفاد قولنا : زيد عالم ، هو النسبة بين الموضوع والمحمول ، وكذلك مفاد قولنا : زيد العالم ، هو النسبة بين الوصف والموصوف.

غاية الأمر أنّ أصحاب هذا المسلك الذين ذهبوا إلى وضع الجملة للنسبة ، قالوا : بأن الجملة التامة موضوعة للنسبة التامة ، والجملة الناقصة موضوعة للنسبة الناقصة ، فكأنه يوجد سنخان من النسبة : أحدهما يسمى بالنسبة التامة ، والآخر يسمى بالنسبة الناقصة. ولهذا يقولون بأن ـ زيد عالم ـ جملة يصح السكوت عليها ، وجملة ـ زيد العالم ـ لا يصح السكوت عليها.

١٣٧

وفي مقابل المشهور مسلك آخر اختاره السيد الأستاذ ، حيث استشكل في مذهب المشهور ، وادّعى عدم تعقل وضع الجمل للنسب ، فلم يتعقل التمامية والنقصان ، واعترض على المشهور بعدة اعتراضات ، وجعلها برهانا على مدّعاه ، حيث ذهب إلى أن الجمل التامة الخبرية ليست موضوعة للنسب ، بل موضوعة لأمر نفساني ، وهو قصد الحكاية عن ثبوت الشيء (١) ، أو نفيه. فقولنا : زيد عالم ، مفاده قصد الحكاية عن ثبوت العلم لزيد. وقولنا : زيد ليس بعالم ، مفاده قصد الحكاية عن نفي العلم عن زيد ، كما ذهب إلى أن الجمل الناقصة موضوعة للتحصيص والتضييق. فهيئة الوصف في قولنا : زيد العالم ، موضوعة لتحصيص زيد وتضييقه بنحو يكون مقيدا بالعالمية ، فليست الجمل الناقصة موضوعة للنسب بل للتحصيص.

وسوف يتضح حال هذين المسلكين وما هو الصحيح ، وذلك من خلال الاعتراضات التي وجهها السيد الأستاذ :

الاعتراض الأول : وحاصله كيف تقولون بأن الجملة موضوعة للنسبة ، مع أنه في بعض الموارد لا يتعقل ، ولا يتصور النسبة أصلا ، كما هو الحال في قولنا : شريك الباري ممتنع. فإنه لا يتعقل نسبة خارجية بين شريك الباري والامتناع لأن تحقق النسبة فرع تحقق طرفيها ، وهنا لا يعقل أن يتحقق شريك الباري لكي تنشأ نسبة بينه وبين الامتناع.

وكذلك الحال في قولنا : العنقاء ممكن ، لا يعقل فرض نسبة بين العنقاء والإمكان ، لأن قيام النسبة في الخارج بين هذين الطرفين فرع وجود الطرفين ، مع أن العنقاء لا وجود لها في الخارج.

ففي أمثال هذه الجمل لا تتصور النسبة مع أنها صحيحة ، نحويا ولغويا.

فهذا دليل على أن مفاد الجملة ليس هو النسبة ، بل هو أمر نفساني ،

__________________

(١) محاضرات فياض : ج ١ / ص ٨٥ ـ ٨٨.

١٣٨

وهو قصد الحكاية عن ثبوت شيء لشيء ، أو نفيه.

وهذا الاعتراض مما لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنه ما هو الملحوظ من النسبة في المقام؟.

فإن كان الملحوظ هو النسبة الخارجية ، كما هو صريح كلامه ، حيث نسب إلى المشهور قولهم بوضع الجملة التامة للنسبة الخارجية.

فيرد عليه أولا : إنّ المشهور لا يريدون بالنسبة في المقام ، النسبة الخارجية. وهذا الكلام شبيه بما صدر منه في المقام الأول ، حيث فسّر كلام المحقق الأصفهاني في بيان المعاني الحرفية ، بأن مراده من النسبة هناك ، الوجود الرابط الخارجي ، بينما المشهور لم يريدوا هناك الوجود الرابط الخارجي ، ولم يريدوا هنا بالنسبة ، النسبة الخارجية ، بل يريدون معنى آخر أعمق وأدق.

ويرد عليه ثانيا : إنه لما ذا خصّصتم النقض بجملتين أو أكثر؟ فإنه بحسب الحقيقة النسبة الخارجية غير موجودة في تمام القضايا الحملية المبنية على الهوهوية. ففي قولنا : زيد عالم ، لا يوجد نسبة خارجية ، لأن النسبة الخارجية فرع الاثنينية الخارجية بين الطرفين ، وهنا ـ عالم ـ هو عين زيد ، ووصف اشتقاقي متحد مع زيد على ما يأتي توضيحه في بحث المشتق.

إذن ففي قولنا هذا فضلا عن قولنا : شريك الباري ممتنع ، لا يعقل قيام النسبة الخارجية بين الموضوع والمحمول ، فكان ينبغي تعميم الإشكال لا النقض بخصوص هذه الأمثلة.

وإن كان الملحوظ هو النسبة بين المفاهيم في عالم الذهن ، فسوف يأتي تصوير هذه النسبة بنحو يكون محفوظا حتى في مثل قولنا شريك الباري ممتنع.

١٣٩

الاعتراض الثاني :

وهذا الاعتراض مبني على مسلكه في باب الوضع ، حيث ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن التعهد ، ومن الواضح أنّ الواضع لا يتعهد إلّا بما يكون تحت مقدوره واختياره. أمّا ما لا يكون تحت الاختيار ، فلا معنى للتعهد به ، وعلى هذا فالنسبة بين (زيد) و (عالم) ليست تحت اختيار الواضع ، ولا تحت اختيار المستعمل ، فلا يستطيع الواضع أو المستعمل أن يجعل زيدا عالما وبكرا جاهلا ، فمثل هذا التعهد فضولي ، لأنه خارج عن الاختيار ، وما يمكن أن يكون تحت الاختيار ويتعهد به ، إنما هو أمر نفساني ، وهو قصد الحكاية عن علم زيد مثلا ، فهو مطلب يرجع إلى الواضع أو المستعمل ، فيمكنه أن يتعهد به.

وهذا الاعتراض غريب ، لأننا إذا جارينا هذا الطراز من التعبير ، فحينئذ ما ذا نقول عن الحروف التي قال السيد الأستاذ فيها : إنها موضوعة لتحصيص المفاهيم الاسمية!. فهل إن التحصيص تحت الاختيار حينما نقول مثلا : الإنسان في السماء ممكن؟. وما ذا نقول عن المفاهيم الإفرادية.

فمثلا كلمة (زيد) موضوعة لابن خالد ، فهل إنّ ابن خالد تحت اختيار الواضع؟. وحلّ هذه المغالطة بناء على مسلك التعهد ، أنه لا إشكال في أن المتعهّد به ، وما هو تحت الاختيار ، هو أمر نفساني دائما ، ففي الكلمات الإفرادية (زيد ، أو نار) المتعهّد به هو القصد النفساني ، هو قصد انتقاش صورة زيد في ذهن السامع ، تصورا ، أو إخطار صورة النار في ذهن السامع تصورا ومعنى قولنا إنّ (من) موضوعة للتحصيص ، أنه تعهدنا بأن نقصد إخطار صورة التحصيص تصورا في ذهن السامع. وحينئذ في الجملة التامة (زيد عالم) المشهور يقولون إنّها موضوعة للنسبة ، وهذا لا ينافى التعهد ، إذ لو قلنا بالتعهد ، فمرجع هذا إلى أن الواضع تعهد بأن يقصد إخطار صورة هذه النسبة تصورا في ذهن السامع ، وهذا أمر معقول.

١٤٠