بحوث في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٢

حالة للمعنى الاسمي ، إذن المصادر أيضا تكون معاني حرفية ، لأن المصادر أيضا ملحوظة بما هي معان لغيرها ، وبما هي حالات لغيرها ، فيلزم انقلاب المصادر إلى المعاني الحرفية ، مع أنه ليس هكذا.

وهذا النقض أيضا لا يمكن المساعدة عليه ، لوضوح أنّ المصدر له وضعان ، لا وضع واحد : فالمصدر مركب من ـ المادة والهيئة ـ فالمادة موضوعة لذات الحدث ، والهيئة موضوعة لمعنى حرفي لا محالة ، خلافا لاسم المصدر الذي لم توضع هيئته لمعنى من المعاني ، وإنما وضعت مادته للحدث صرفا ، وحينئذ أنتم تنقضون بأنه يلزم أن تكون مادة المصدر معنى حرفيا ، وهذا لا يكون ، لإمكان أن يقول صاحب (الكفاية) إنّ مادة المصدر موضوعة لذات الحدث ، لا بما هو حالة لغيره. وهيئة المصدر موضوعة لصدور هذا الحدث. ولكن بما هو حالة لغيره بنحو المعنى الحرفي ، فيكون عندنا دالان ومدلولان : أحدهما اسم ، والآخر حرف ، ـ لفظة المادة اسم ، وتدل على معنى اسمي ، ولفظة الهيئة ، وتدل على معنى حرفي ـ إذن فأين انقلاب المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي!. المادة بقي مدلولها اسميا ، والهيئة بقي مدلولها حرفيا ولا بأس بذلك ، لأن الهيئات دائما مدلولاتها حرفية. فهذا النقض غير وارد في المقام.

الاعتراض الخامس :

وهذا الاعتراض أيضا أفيد من التعليقة (١) للسيد الأستاذ ـ دام ظله ـ وحاصله : إنكار أن يكون اللحاظ الاستقلالي من مميزات المعنى الاسمي ، ودعوى أن اللحاظ الاستقلالي كما قد يتعلق بالمعنى الاسمي ، كذلك قد يتعلق بالمعنى الحرفي.

وأما ما هو مشهور ، وهو أن المعاني الحرفية يتعلق بها اللحاظ الآلي وأنّ المعاني الاسمية هي صاحبة اللحاظ الاستقلالي ، هذا من المشهورات التي

__________________

(١) أجود التقريرات الخوئي : ص ١٥ ـ ١٦.

١٠١

لا أصل لها ، فإنّه بحسب الحقيقة اللحاظ الاستقلالي ، كذلك يمكن أن يتعلق بالمعنى الحرفي ، بحيث يكون تمام التوجه إلى المعنى الحرفي ، وذلك كما لو فرض أن زيدا نعلم بأنه سافر من (كربلاء) إلى (النجف الأشرف) ، ولكن لا ندري هل أنه سافر راكبا سيارة ، أو سافر ماشيا ، فهنا السؤال عن ركوب زيد ، إنما هو عن المعنى الحرفي. فتمام التوجه وتمام اللحاظ انصبّ على هذا المعنى الحرفي ، وهو ارتباط سفر زيد بالسيارة ، أو بغيرها ، فالملحوظ استقلالا للسائل ، إنما هو المعنى الحرفي. وأمّا أصل سفره فهو معلوم ومفروغ عنه ، ومعه يكون اللحاظ استقلاليا ، ومعه لا يصح القول بأن اللحاظ الاستقلالي من مميزات المعنى الاسمي.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور من أنّ المعاني الحرفية لا يعقل اللحاظ الاستقلالي بالنسبة إليها ، وكما هو مقتضى مبنى السيد الأستاذ أيضا ، فقالوا كما سوف يأتي فيما بعد : من أنّ الفرق بين المعاني الحرفية والاسمية ، فرق ذاتي ، وأنّ المعنى الحرفي تبعيته ليست ناشئة من اللحاظ التبعي ، بل هي تبعية ذاتية في حاق ذاته وماهيته ، وأن استقلالية المعنى الاسمي ، ليست ناشئة من اللحاظ الاستقلالي ، بل هي استقلالية ذاتية ناشئة من حاق ماهيته وذاته. وهذا معناه إنّ المعنى الحرفي سنخ معنى ذاتا ، وماهية ، هو تبعي وتعلقي ومرتبط بالغير. ومن الواضح أن الوجود سواء أكان وجودا خارجيا ، أو وجودا ذهنيا ـ وهو المعبّر عنه باللحاظ ـ هو وجود لتلك الماهية ، وإبراز لها على واقعها. فإذا كانت تلك الماهية سنخ ماهية هي ذاتا حتى في عالم الماهوية والمفهوم هي متعلقة ومرتبطة وليس لها استقلال ، إذن كيف يعقل أن توجد تلك الماهية حقيقة بوجود استقلالي!.

والحال إنه لا بد من فرض انحفاظ الماهية في كلا نحوي وجودها الذهني والخارجي ، فإذا ما بنينا على أن المعنى الحرفي ماهيته تعلقي يعني تعلّقيته تعلقية ثابتة له حتى في مرحلة الماهية والمفهوم ، حينئذ يستحيل أن يكون وجود تلك الماهية الذهني والخارجي وجودا استقلاليا ، لأنّ هذا خلف

١٠٢

كون اللااستقلالية مأخوذة في ماهية هذا الموجود ، وفي ذاتيته ، ففرض الوجود الاستقلالي لماهية هي ذاتا غير مستقلة ، أمر غير معقول.

وأمّا ما قد يتراءى في هذا المثال ونظائره من أنّ السائل توجّه لحاظه الاستقلالي إلى المعنى الحرفي ابتداء ، فهذا غير صحيح ، بل هذا المثال وأشباهه لا يخلو من أحد وجهين :

الوجه الأول : أن يكون السائل قد انتزع مفهوما اسميا مشيرا إلى المعنى الحرفي ، وتعلق لحاظه الاستقلالي بذلك المفهوم الاسمي المشير كما لو قال : أسألك عن كيفية ركوبه ، فإنّ مفهوم (الكيفية) هذا ، مفهوم اسمي وليس حرفيا ، لأن كلمة ـ كيفية ـ من الأسماء ، وهذا المفهوم الاسمي أخذه مثيرا إلى واقع المعنى الحرفي ـ واقع النسبة بين السفر والسيارة وغيرها ـ ففي مثل ذلك ، اللحاظ الاستقلالي ، لم يتعلق بالمعنى الحرفي نفسه ابتداء ، بل بالمفهوم الاسمي المشير إلى ذلك المعنى الحرفي ، وهو مفهوم الكيفية.

الوجه الثاني : هو أن لا يكون السائل قد انتزع مفهوما اسميا مشيرا كمفهوم الكيفية والخصوصية ونحو ذلك ، بل يستحضر المطلب نفسه من رأس ويقول : هل سافر زيد في السيارة أو ماشيا؟. وهنا بحسب الحقيقة اللحاظ الاستقلالي لم يتعلق بالمعنى الحرفي ، بل تعلق بطرفه ، أي : بالمعنى الاسمي المتخصّص بالمعنى الحرفي ، وتعلق بالمعني الحرفي بالتبع لا بالاستقلال ، لأن السؤال تعلق بإحدى حصتين في الخارج ـ السفر المقيد بالسيارة ، والسفر المقيد بالمشي ـ مع علم السائل بالجامع بين الحصتين.

إذن فاللحاظ الاستقلالي متعلق بالحصة التي هي المعني الاسمي المقيد بالمعنى الحرفي ، والتحصص والتقيد الذي هو المعنى الحرفي ملحوظ بالتبع ، لأن لحاظ الحصة هو لحاظ ضمني تبعي للتقيد لا محالة.

وعلى هذا الأساس لا يكون هذا المثال وأمثاله شاهدا على تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الحرفي ، بل اللحاظ الاستقلالي إما أن يتعلق بمفهوم

١٠٣

اسمي إجمالي مشير ، من قبيل مفهوم الكيفية والخصوصية ، وإمّا أن يتعلق بالحصة الخاصة المقيدة ، ومن المعلوم أن اللحاظ الاستقلالي للحصة هو ضمنا لحاظ تبعي للتخصّص ، ولكن ملحوظية التحصّص والتقيّد تكون ملحوظية ضمنية ، وتحليلية ، وتبعية ، لا ملحوظية استقلالية. إذن فهذا الاعتراض في غير محله أيضا.

١٠٤

تحقيق الكلام في المسلك الثاني

وتحقيق الكلام في هذا المقام : إن هذه الاعتراضات الخمسة التي تقدمت ، وإن لم تكن صحيحة في نفسها ، كذلك أصل هذا المسلك الثاني فإنه غير صحيح في نفسه ، وغاية الأمر يجب أن يبين الاعتراض بتعبير آخر حتى يكون اعتراضا واردا على هذا المسلك ، وحاصل التعبير المناسب في الاعتراض على هذا المسلك هو أن يقال في قولنا ـ سرت من (البصرة) إلى (الكوفة) ـ أنه يوجد عندنا شيئان :

أ ـ مفهوم الابتداء ، وهو كون السير ابتداء من (البصرة).

ب ـ النسبة الواقعة بين السير و (البصرة).

وهذان الأمران مختلفان حقيقة. فإنّ مفهوم الابتداء من المفاهيم الاستقلالية في ذاتها ، فهو مفهوم قابل لأن يوجد بوجود استقلالي في عالم الذهن ، بحيث كل إنسان يستطيع أن يتصور هذا المفهوم بدون أن يتصور أطرافه بحسب الخارج ، فهو بحسب قائمة المقولات المتعارفة ، قد يقال بأنه أحد المقولات العشرة ، فيندرج في مقولة الإضافة من قبيل الأبوة والنبوة ، ونحو ذلك. فهذا مفهوم صالح وقابل للوجود الاستقلالي. وأمّا النسبة القائمة بين السير و (البصرة) فهي نسبة ليست صالحة للوجود الاستقلالي في عالم الذهن ، كما سوف يتضح ذلك من الكلام في (المسلك الثالث) من أنّ النسب

١٠٥

أمر تعلقي ارتباطي ، ماهية ووجودا ، فهو فقير إلى الغير ، ومرتبط به.

وحينئذ نسأل أصحاب المسلك الثاني : ما ذا يريدون بهذا المعني الواحد الذي قالوا إنه هو معنى الإسم ، وهو معنى الحرف ، ولا فرق إلّا باللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي؟ فهل يقولون إنّ معنى (من) ومعنى (الابتداء) هو مفهوم الابتداء ، أو معنى (من) ومعنى (الابتداء) هو حاق النسبة القائمة بين السير و (البصرة)؟.

فإن قالوا : بأن معنى (من) ومعنى (الابتداء) هو مفهوم الابتداء القابل للوجود الاستقلالي في عالم الذهن ، بمعنى أن الابتداء حينما يلحظ بما هو هو يعبّر عنه بكلمة الابتداء ، وحينما يلحظ بما هو طور من أطوار السير يعبّر عنه (بمن) فلا فرق بين الملحوظ الأول والملحوظ الثاني إلّا في أن اللحاظ في الأول استقلالي وفي الثاني آلي.

قلنا : بأن الابتداء ، وإن كان قابلا لكلا اللحاظين ، لكنه حينما يلحظ بما هو حالة وطور لغيره ، يشتمل لا محالة على فرض نسبة بين الابتداء والمبتدئ منه ، لأن كلا من الابتداء والسير مفهوم استقلالي ، وكل مفهوم استقلالي إذا أنيط بمفهوم استقلالي آخر ، فلا محالة يحتاج إلى رابط ونسبة بين هذين المفهومين الاستقلالين.

إذن فهنا بحسب الدقة في الابتداءات الآلية يوجد أمران : الأول الابتداء الآلي ، والثاني النسبة القائمة بين الابتداء وطرفه.

فإن قالوا : بأن (من) موضوعة للابتداء كما هو المفروض.

قلنا : فما ذا يدل على النسبة في المقام! فلا محالة نحتاج إلى دال آخر على النسبة وليس هناك دال آخر على النسبة إلّا الحرف ـ ونقصد بالحرف جميع الحروف والهيئات ـ.

إذن فلا بدّ من القول بأن الحروف موضوعة لمعنى آخر ، وتدل على معنى آخر ، وهو النسبة ، وبهذا يحصل الفرق والتغاير الذاتي بين معنى الإسم ،

١٠٦

ومعنى الحرف ، على ما سوف يأتي توضيحه فيما بعد.

وإن قالوا : بأن هذا المعنى الواحد الذي هو مدلول (من) ، ومدلول (الابتداء) ليس هو الابتداء ، بل هو حاق النسبة بين السير و (البصرة).

قلنا : بأن هذا لا يعقل أن يكون مدلولا عليه بكلمة الابتداء ، لأنها تدل على مفهوم صالح للوجود الاستقلالي في الذهن ، وحاق النسبة لا يقبل الوجود الاستقلالي ، لأن تبعيتها ذاتية.

إذن ، فلا بد من القول بأن كلمة (الابتداء) موضوعة لمفهوم الابتداء وكلمة (من) موضوعة لحاق تلك النسبة ، وهذا معنى التغاير الذاتي بين معنى الإسم ومعنى الحرف ، وهذا الذي كان ينبغي أن يعترض به على مقالة صاحب (الكفاية).

وبهذا تم الكلام في الجهة الأولى من كلام صاحب (الكفاية) ، وهي : إن المعنى الاسمي والمعنى الحرفي واحد ذاتا ، وإنما الفرق بينهما عرضي طارئ ، وهو اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وقد تبيّن بطلان هذه الجهة ، فلا يبقى موضوع للجهة الثانية من كلامه (قده) وهي : هل إنّ اللحاظ الآلي والاستقلالي مأخوذ قيدا في المعنى الموضوع له ، أو مأخوذا في نفس الوضع والعلقة الوضعية؟ فهذه الجهة الثانية صار موضوعها باطلا في نفسه ، إذن فلا موجب للتعرض إلى هذه الجهة الثانية ، من كلام صاحب الكفاية (قده).

المسلك الثالث ـ مسلك التباين :

المسلك الثالث : وهو المسلك المشهور بين المحققين المتأخرين الذي ذهب إليه المحقق النائيني (١) ، والأصفهاني (٢) ، والسيد الأستاذ (٣) وغيرهم (٤) ،

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ص ١٨ ـ ١٩.

(٢) نهاية الدراية ـ الأصفهاني ، ج ١ ص ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) محاضرات فياض ج ١ ص ٧٠ ـ ٧١.

(٤) بدائع الأفكار ـ الآملي ، ج ١ ص ٥٦ ـ ٥٧.

١٠٧

وهذا المسلك له عنوان جامع ، وتحت هذا العنوان الجامع وجوه وتصويرات لهذا المسلك ، حيث أن هؤلاء المحققين ، وإن اتفقوا على عنوان جامع ، لكن كل واحد منهم ادّعى أنّ لهذا المسلك تقريبا خاصا ، ووجها خاصا ، في توضيحه وبيانه.

ولهذا سوف نتكلم أولا في جامع هذا المسلك بنحو يتوضح به حاله ، وبعد ذلك ، نتكلم في الوجوه التي تنسب إلى كل واحد من أصحاب هذا المسلك.

أما الكلام في تصوير وتوضيح هذا المسلك ، يتم من خلال عدة مراحل من البيان :

المرحلة الأولى : إننا حينما نواجه قضية خارجية ، من قبيل قضية اشتعال النار في الموقد ، ننتزع منها مفاهيم عديدة موازية ومطابقة مع الحقائق التي نواجهها في هذه القضية ، فننتزع مثلا مفهوم النار ، ومفهوم الموقد ، وشيئا ثالثا بإزاء العلاقة القائمة بين النار والموقد.

ونحن إذا لاحظنا جملة من هذه المفاهيم ، كمفهوم النار والموقد ، في عالم الذهن ، نراها بالنظر التصوري ، عين حقائقها ، وبالنظر التصديقي غير حقائقها ، كما بيّنا ذلك سابقا ، وقد بيّنا أيضا أن إصدار الحكم على حقيقة ، يكفي فيه ما هو بالنظر التصوري تلك الحقيقة ، ولا يحتاج إصدار الحكم إلى إحضار ما هو بالنظر التصديقي عين الحقيقة ، وحيث أن مفهوم النار ليس نارا بالنظر التصديقي ، فلذلك لا تنشأ في الذهن الخواص التكوينية للنار ، كالحرارة والإحراق ، ولهذا لا يحترق الذهن بإحضار هذا المفهوم ، لأنّ ظهور الخواص التكوينية تابع لكونه بالنظر التصديقي عين الحقيقة ، وهذا بخلاف إصدار الحكم عليه ، فإنه يكفي فيه أن يكون بالنظر التصوري عين الحقيقة.

فإذا عرفنا أن تصحيح إصدار الحكم له ملاك ، وهو أن يكون بالنظر التصوري عين الحقيقة ، وظهور الخواص التكوينية للحقيقة في عالم الذهن له

١٠٨

ملاك آخر مغاير للأول ، وهو أن يكون بالنظر التصديقي عين الحقيقة ، حينئذ نقول ، إنّ هذه المفاهيم التي ننتزعها من النار ، والموقد ، والعلاقة القائمة خارجا ، بعضها ننتزعها من أجل تصحيح إصدار الحكم ، من قبيل مفهوم النار ، لأن الغرض من انتزاعها ليس هو أن يحترق الذهن ، وإنما الغرض هو أن تصحّح إصدار الحكم على النار ، فانتزع مفهوم النار استطراقا حتى أحكم عليها بأنها مشتعلة ، فغرضي هو الاستطراق إلى تصحيح إصدار الحكم ، وهذا الغرض يتأتى بكون المفهوم المنتزع هو عين الحقيقة بالنظر التصوري ، وبهذا يعرف أن تمام المفاهيم التي تستحضر من أجل أن يحكم عليها أو بها ـ يعني النار والموقد ـ تنتزع بنحو بحيث تكون عين الحقيقة بالنظر التصوري ، وإن كانت مغايرة لها بالنظر التصديقي.

وأما المفاهيم التي تنتزع من العلاقات ، كالمفهوم الذي انتزعناه من العلاقة بين النار والموقد ، فهذا المفهوم وأمثاله ، ليس الغرض من تحصيله إصدار الحكم عليه ، وإنما الغرض أن أنشئ في عالم ذهني ـ بين النار الموجودة في عالم ذهني ، والموقد الموجود في عالم ذهني ـ استحكاما وارتباطا بحيث ترجع هذه المفردات إلى تصور وحداني تركيبي.

إذن فغرضي من انتزاع مفهوم عن هذه العلاقة ، ليس مجرد إصدار الحكم عليه ، بل أن تحصل في ذهني الخصائص التكوينية لهذه العلاقة ، فإنّ من شأنها أن تشدّ شيئا بشيء ، وتربط شيئا بشيء ، وأنا أريد أن اربط في ذهني بين النار والموقد.

إذن فالغرض هذا ، تعلّق بالحصول على الخصائص التكوينية للحقيقة ، لا على مجرد إصدار الحكم عليها ، والحصول على الخصائص التكوينية لا يكون إلّا ما يكون بالنظر التصديقي ، فضلا عن التصوري ، عين تلك الحقيقة ، لأن مجرد العينية بالنظر التصوري لا يكفي لظهور تلك الخصائص التكوينية.

وبناء على هذا ، فإن المفاهيم التي تنتزع بإزاء العلاقات بين الأطراف ، والتي تكون عين الحقيقة ، حتى بالنظر التصديقي ، فضلا عن التصوري ، هي

١٠٩

مفاهيم الحروف ، والمفاهيم التي تنتزع من الأطراف الخارجية ، كمفهوم النار والموقد ، والتي تكون بالنظر التصوري فقط عين الحقيقة هى مفاهيم الأسماء.

إذن حصّلنا فرقا جوهريا ، بين مفاهيم الحروف ، ومفاهيم الأسماء ، فالمفاهيم الاسمية الغرض منها هو إصدار الحكم عليها ، وهذا يكفي لأن تكون عين الحقيقة بالنظر التصوري ، بينما المفاهيم الحرفية الغرض منها هو أن يحصل في الذهن الخصائص التكوينية للحقيقة ، وهذا لا يكون إلّا ما يكون بالنظر التصديقي عين الحقيقة ، فضلا عن النظر التصوري.

وهذا الفرق بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية ، هو أحد معاني القول المعروف : بأن المعاني الاسمية إخطارية ، والمعاني الحرفية إيجادية. ومعنى كون المعاني الاسمية إخطارية ، أنه يكفي فيها انتزاع مفهوم ، بحيث يكون بالنظر التصوري والإخطاري عين الحقيقة ، وإن لم يكن بالنظر التصديقي عينها ، ومعنى كون المعاني الحرفية إيجادية ، أنه لا بدّ وأن يكون المفهوم المنتزع بإزاء العلاقات عين الحقيقة بالنظر التصديقي أيضا ، بمعنى كونه واجدا لحقيقته ، وكاملا ، عنوانا ووجودا.

المرحلة الثانية : وهي فرع عن الأولى ، حيث يتضح أنّ مدلول الحرف ليس هو مفهوم النسبة ، ولا هو مفهوم الربط ، ولا العلاقة ، ولا الابتداء ، ولا أي مفهوم من هذه المفاهيم ، وذلك لأنّ مفهوم النسبة بالنظر التصوري عين النسبة ، لكنه بالنظر التصديقي غير النسبة ، فمفهوم النسبة ، لو نظرناه بالنظر التصوري ، وقيل : ما ذا تصورتم؟ لقلنا : النسبة ، لكن ، لو قيل لنا بالنظر التصديقي أهذا الذي تصوّرتموه ، أهو نسبة بين شيئين؟ لقلنا لا ، بل هو مفهوم بنفسه ، لا يحتاج إلى شيء آخر ليتصوّر معه. وهكذا مفهوم العلاقة بالنظر التصوري علاقة ، لكن بالنظر التصديقي ليس علاقة ، بل هو مفهوم من المفاهيم القائمة بنفسها. وقد قلنا في المرحلة الأولى : إنّ معنى الحرف لا بدّ وأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصديقي ، فضلا عن التصوري ، فهذه المفاهيم لا تصح أن تكون مداليل للحروف.

١١٠

المرحلة الثالثة : نقول : إنّه يوجد ثلاث نسب في ثلاثة أوعية : نسبة النار إلى الموقد في الخارج ، والنسبة الذهنية القائمة بين وجود النار ووجود الموقد في ذهن المتكلم ، والنسبة الذهنية القائمة بين وجود النار ووجود الموقد في ذهن السامع.

وحينئذ نسأل : إنّ هذه النسب والعلاقات الذهنية والخارجية ، هل هي أفراد من ماهية واحدة ، بحيث أن هناك ماهية واحدة محفوظة في ضمن الوجود الذهني والخارجي ، على ما هو متعارف في سائر الماهيات والمفاهيم الأخرى ، من قبيل ماهية النار المحفوظة تارة في الوجود الذهني ، وأخرى في الوجود الخارجي ، بحيث يعقل فرض جامع نوعي ذاتي بين هذه النسب والعلاقات الذهنية والخارجية ، أو أن العلاقة الخارجية مغايرة مع العلاقة الذهنية ، والعلاقة الذهنية في ذهن المتكلم مغايرة مع العلاقة الذهنية في ذهن السامع؟.

والتحقيق يتضح من خلال ثلاث كلمات :

الكلمة الأولى : إنّ تحصيل الجامع الحقيقي الذاتي بين الأفراد ، يكون بالتحفظ على ما به الامتياز من المقومات الذاتية للأفراد ، وبإلغاء الخصوصيات العرضية للأفراد ، فحينما نستحضر زيدا ، وعمروا وخالدا ، ونريد أن ننتزع الجامع الذاتي فيما بينها ، لا بد أن نتحفظ على المقومات الذاتية لهذه الأفراد ـ الحيوانية والناطقية ـ ونلغي الخصوصيات العرضية مثل البياض والطول ، والقصر ، ونحوها ، وبهذا نحصل على الجامع الذاتي بين الأفراد.

الكلمة الثانية : إنّ كل نسبة من هذه النسب الثلاثة لها مقوماتها الذاتية المغايرة للمقومات الذاتية التي هي للنسبة الأخرى ، لأنّ كل واحدة من هذه النسب طرفاها المقوّمان لها عبارة عن شخص هذا الوجود للنار ، وشخص هذا الوجود للموقد. ومن المعلوم أنّ شخص هذا الوجود للنار في ذهن المتكلم ،

١١١

مغاير مع شخص هذا الوجود للنار في الخارج ، وفي ذهن السامع ، وإن كانت هذه النيران متحدة مفهوما لكن أشخاص هذه الوجودات متغايرة ، والنسبة القائمة في ذهن المتكلم متقومة بشخص هذا الوجود من النار ، وبشخص هذا الوجود من الموقد ، وليست متقومة بالمفهومين بما هما ، لأن النسبة لا توجد إلّا بوجود طرفيها ، كما أنّ النسبة الذهنية القائمة في ذهن السامع ، متقومة بشخص النار الذهنية في ذهن السامع ، وبشخص الموقد الذهني الموجود في ذهن السامع. ويقال الشيء نفسه عن النسبة الخارجية.

إذن فكل واحدة من هذه النسب قوامها وجود طرفيها ، ووجود الطرفين هنا غير وجود الطرفين هناك ، فكلاهما وجود مستقل عن الآخر.

الكلمة الثالثة : عند ما نريد أن ننتزع الجامع الذاتي بين هذه النسب ، هل نتحفظ على المقومات الذاتية للأفراد ، أو نلغي هذه المقومات؟.

إن تحفّظنا على المقومات الذاتية للأفراد ، إذن قلنا في الكلمة الثانية ، بأن المقومات الذاتية متغايرة ، فعندنا أشياء متغايرة ، فكيف يعقل انتزاع الجامع فيما بينها مع كونها متغايرة؟.

وإن ألغينا هذه المقومات الذاتية ، إذن فلم يكن هذا الجامع جامعا ذاتيا ، وإنما هو جامع عرضي ، لأن الجامع الذاتي لا بد وأن تنحفظ فيه المقومات الذاتية للأفراد ، وعليه فلا يعقل انتزاع الجامع الذاتي النوعي بين هذه النسب ، والعلاقات.

إذن فبحسب الحقيقة العلاقة الخارجية ، والعلاقة القائمة في ذهن المتكلم ، والعلاقة القائمة في ذهن السامع ، هي ذوات متباينة ذاتا وحقيقة ، وليس فيما بينها جامع ذاتي نوعي.

المرحلة الرابعة : وهي فرع عن المرحلة الثالثة ، فبعد أن ثبت عدم الجامع الذاتي بين النسبة الذهنية القائمة في ذهن المتكلم ، بين النار والموقد ، وبين غيرها من النسب الأخرى ، يتبين أنّ النسبة الذهنية القائمة في ذهن

١١٢

المتكلم ، ليس لها تقرّر ماهوي في المرتبة السابقة على الوجود ، وبقطع النظر عن عالم الوجود ، بينما المفاهيم الاسمية لها تقرّر ماهوي في المرتبة السابقة على الوجود وبقطع النظر عن عالم الوجود.

وتوضيح ذلك : إنه بالإمكان عقد قضية موضوعها الماهية ، ومحمولها الوجود فنقول : النار وجدت في ذهن المتكلم ، وإن كانت الماهية والوجود بحسب الخارج هو شيء واحد ، لكن بالنظرة التحليلية ، نحلل هذا الوجود الذهني للنار إلى ماهية ووجود ، ونشكل قضية تحليلية موضوعها الماهية ، ومحمولها الوجود. ومعنى هذا : إنّ النار فرضت موضوعا في هذه القضية التحليلية ، ولوحظت بما هي فيها ، ثم يحكم عليها بالوجود ، وإنّ مفهوم النار في مرتبة وقوعه موضوعا ، له تقرّر في نفسه ، بقطع النظر عن الوجود ، وهذا ما نقصده بالتقرّر الماهوي ، فإنّ ما نقصده هو إمكان عقد قضية بالنظر التحليلي ، بحيث يكون موضوعها الماهية ، ومحمولها الوجود ، فيكون لماهية النار نحو من التقرر الماهوي في مرتبة وقوعها موضوعا لهذه القضية ، قبل أن يحكم عليها بالوجود.

وهذا التقرّر الماهوي ، يجري في باب المفاهيم الاسمية من قبيل مفهوم النار. وأما في المفاهيم الحرفية فهذا النحو من التقرر الماهوي غير معقول ، لأن النسبة الذهنية في ذهن المتكلم ، كما تقدم ، هي متقومة بشخص وجود طرفيها. ففي المرتبة السابقة على الوجود ، ليس لها تقرر ماهوي وذاتي ، فتقررها الماهوي في طول الوجود ، لا في مرتبة سابقة على الوجود ، ولو قطع النظر عن الوجود أصلا لا تقرر ماهوي لها ، يعني لا يمكن أن نفرضها ثم نقول : إنها موجودة تارة ، ومعدومة أخرى ، في حين أن النار يمكن فيها ذلك فنقول مثلا : النار موجودة ، أو معدومة.

وهذا الكلام ، بحسب الحقيقة من نتائج عدم إمكان تصور الجامع الذاتي النوعي بين النسب الثلاثة ، الذي بيناه في المرحلة الثالثة. فبعد البرهان على استحالة هذا الجامع ، قلنا : إنّ كل فرد له مقومات ذاتية مغايرة للمقومات

١١٣

الذاتية للفرد الآخر ، وللنسبة الأخرى ، فبقطع النظر عن الوجود ، هو فاقد لمقوماته الذاتية ، فليس له تقرر ماهوي ، وهذا بخلاف مفهوم النار والإنسان ، فإن المقومات الذاتية لهذه النار ، أو لهذا الإنسان ـ هو الحيوانية والناطقية ـ فبقطع النظر عن وجودها يمكن فرض حيوان ناطق ، ثم يحكم عليه بعد هذا بأنه موجود أو غير موجود ، فالمقومات الذاتية للمفهوم الاسمي ، مقومات مفهومية ، ولهذا كان لها تقرر مفهومي في مرتبة سابقة على الوجود. وأمّا المقومات الذاتية لشخص النسبة هو شخص وجود طرفيها ، فقبل وجود الطرفين لا ماهية أصلا لا إنه لا وجود

وهذا معنى من المعاني للقول المعروف : بأن المعاني الحرفية إيجادية ، والمعاني الاسمية إخطارية.

فالمعاني الاسمية إخطارية باعتبار أنها مفاهيم ، مقوماتها الذاتية مفهومية ، بحيث يمكن انحفاظها وأخذها موضوعا للقضية قبل أن يحكم عليها بالوجود أو بالعدم.

وأمّا أشخاص النسب ـ المعاني الحرفية ـ فمقوماتها هي أشخاص وجودات أطرافها ، فبقطع النظر عن هذه المقومات ، لا ذات أصلا ، لأن الذات إنما تنحفظ بمقوماتها ، فبقطع النظر عن عالم الوجود الذهني ، وعن مرتبة الوجود الاستعمالي لا ذات أصلا ، لا أن الذات محفوظة بمقوماتها ، لكنها غير موجودة.

المرحلة الخامسة : وهي آخر هذه المراحل ، وهي أيضا من فروع المرحلة الثالثة ، حيث تقدم البرهان على عدم إمكان انتزاع الجامع الذاتي بين هذه النسب ، وحاصل ذلك ، أنه يظهر فرق آخر بين المعاني الاسمية والحرفية ، فحينما أتصور النار ، والتفت إليها بقيد وجودها الذهني ، بما هي موجودة في ذهني ، تكون نسبتها إلى النار الخارجية ، نسبة الجزئي إلى الجزئي ، ونسبة المماثل إلى المماثل ، لأن هذا فرد ذهني وذاك فرد خارجي. لكن إذا التفت إلى النار في ذهني ، بقطع النظر عن قيد وجودها في ذهني. فالنسبة هي نسبة

١١٤

الجامع إلى الفرد ، والكلي إلى المصداق ، لا نسبة المماثل إلى المماثل ، هذا في المفاهيم الاسمية.

أما في المفاهيم الحرفية : فالنسبة بين النسبة الموجودة في ذهن المتكلم ، والنسبة الموجودة في الخارج ، هي دائما نسبة المماثل إلى المماثل ، وليست نسبة الكلي إلى الفرد ، وذلك لأنه إن أخذت بما هي موجودة في لوح الوجود ، إذن هي فرد وذاك فرد آخر ، وإن التفت إليها بقطع النظر عن الوجود ، فهذا خلف ، لأنه ليس لها حينئذ تقرّر ماهوي.

إذن فلا يمكن أن تكون النسبة بين النسبة الذهنية هذه ، والنسبة الخارجية ، هي نسبة الكلي إلى الفرد ، بل هي متمحضة في نسبة المماثل إلى المماثل.

وهذا معنى ثالث من معاني القول المعروف : بأن معاني الحروف إيجادية ، ومعاني الأسماء إخطارية.

فالمعنى الاسمي يكون منطبقا على الخارج على حد انطباق الكلي على الفرد ، فكأنه أخذ من الخارج وأخطر في الذهن من الخارج.

وأمّا المعنى الحرفي لا يعقل انطباقه على الخارج ، بل هو فرد مماثل للخارج.

وحينئذ يعترض بسؤال ، وهو : إنه إذا كان المعنى الحرفي مغايرا ، وليس منطبقا على الخارج ، فكيف يحكي عنه؟.

والجواب : هو إنّ حكايته عنه ، إنما هي بتبع حكاية أطرافه ـ المعنى الاسمي ـ لأن المتكلم حينما ينظر إلى النار والموقد بالنظر التصوري ، يراها عين النار الخارجية ، وعين الموقد الخارجي. فهو يرى أن ناره هي الخارج ، وأنّ موقده هو الخارج. إذن فهو بهذا النظر يرى أنّ النسبة الذهنية هي عين النسبة الخارجية ، فهو يرى أنّ نسبته هي الخارج ، وهذا هو معنى حكاية المعاني الحرفية الذهنية عن النسب الخارجية.

١١٥

وبعد أن انتهينا من هذه المراحل الخمسة لتبيان المسلك الثالث المشهور بين المتأخرين ، يتضح من خلال ما تقدم معنى القول المعروف في هذا المسلك : بأن المعاني الحرفية إيجادية في مقابل كون المعاني الاسمية إخطارية ، وصفوة القول في ذلك أن الإيجادية لها ثلاثة أركان :

الركن الأول : هو إن المعنى الحرفي إيجادي من حيث أن الغرض منه لا يتأتى ألّا بأن يكون عين الحقيقة بالنظر التصديقي.

الركن الثاني : هو إنّ المعنى الحرفي سنخ معنى ليس له تقرّر ذاتي وماهوي ، بقطع النظر عن الوجود ، وفي مرتبة سابقة على الوجود الذهني للقضية في ذهن المستعمل والمتكلم ، فليس للمفهوم الحرفي تقرر ذاتي وماهوي أصلا ، لأنه ذاتا وماهية متقوم بشخص وجود الطرفين في أفقه. فبقطع النظر عن وجود القضية في ذهن المستعمل ، فليس للمفهوم الحرفي تقرر ذاتي وماهوي ، بخلاف المفهوم الاسمي الذي هو متقرر ذاتا ، وماهية ، بقطع النظر عن عالم الوجود.

الركن الثالث : هو إنّ المعنى الحرفي ليس نسبته إلى الخارج نسبة الكلي إلى الفرد ، بل نسبة الوجود إلى الوجود ، ونسبة المماثل إلى المماثل.

التقريب المشهوري لهذا المسلك الثالث :

لقد ذهب مشهور المحققين المتأخرين في تقريب هذا المسلك ، مذاهب شتّى : فذكر في تقريبه وجوه متعددة. ولعل التأمل والتدبر يؤدي إلى الجزم بأنّ ما سوف نذكره من الوجوه بحسب التحليل ، ترجع كلها إلى معنى واحد. فقد ادّعي أن هذا المسلك حقّق فيه كل من المحقق النائيني (١) ، والأصفهاني (قده) (٢) ، والسيد الأستاذ (٣) ، فذهب كل واحد منهم إلى وجه خاص في تقريبه. لكن بعد

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

١١٦

التأمل فيما ذكرناه في المراحل الخمسة ، يتضح أنّ هذه الوجوه المذكورة للأعلام ، ترجع إلى أمر واحد ، ولا نزاع فيما بينهم إلّا حول الاصطلاحات والألفاظ. والوجوه الثلاثة المذكورة هي كما يلي :

الوجه الأول :

إنّ الوجه الأول في تقريب المسلك الثالث ، هو ما نسب إلى المحقق النائيني (١) (قده) ، فإنه نسب إليه قوله بالمسلك الثالث ، وأنه يختلف عن صاحب (الكفاية) حيث يرى أنّ المعاني الحرفية متميزة ذاتا عن المعاني الاسمية. وقيل في توضيح مدّعاه ومراده إنه : يرى أن ما بإزاء الحرف هو الربط الكلامي ـ يعني الربط الحاصل في مرحلة الكلام بين لفظة النار ولفظة الموقد في قولنا : النار في الموقد. فهذا الربط الحاصل في مرحلة الكلام بين هاتين الكلمتين ، فرد من الربط ، وهذا الفرد من الربط هو مدلول الحرف ، وبإزاء كلمة (في).

ومن هنا كان الحرف إيجاديا في نظر الميرزا بحيث أن كلمة (في) هي التي أوجدت الربط الكلامي ، إذ لو لاها لما كان هناك ارتباط بين كلمة النار ، وكلمة الموقد. فالربط من معلولاتها وآثارها ، فهي إذن توجد معناها وهو الربط الكلامي.

وأمّا ما قيل في توضيح برهانه على مدّعاه ، فقد قيل : بأن الميرزا (قده) يرى بأن المعاني على قسمين (٢) ولا ثالث لهما : فهي إمّا إخطارية وإمّا إيجادية ، والمعنى الحرفي لا يعقل أن يكون إخطاريا ، فيتعين أن يكون إيجاديا ، لأن الإخطارية معناها هو أن يكون للفظ معنى قابل للحاظ الاستقلالي قبل التكلم ، والإيجادية هو أن يكون الحرف بنفسه موجدا للمعنى في مرحلة اللفظ والكلام. فلو كان معنى الحرف إخطاريا ، فهذا معناه أنه مفهوم قابل للحاظ الاستقلالي في نفسه ، وهذا غير معقول ، فيتعين أن يكون إيجاديا في مرحلة اللفظ والكلام.

__________________

(١) فرائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ / ص ١٦ ـ ١٧ ـ ١٨ ـ.

(٢) فوائد الأصول ج ١ ص ١٤.

١١٧

وقد اعترض (١) السيد الأستاذ على الميرزا مدّعى وبرهانا ، فأمّا اعتراضه على مدّعى الميرزا بالمعنى الذي فسّره هو أنّ كلمة (في) وإن كانت موجدة للربط الكلامي في مرحلة الكلام ، ولكن من الواضح أنّ هذه الكلمة لا توجد الربط الكلامي بالإعجاز والمعجزة ، وإنما توجده باعتبار دلالتها على معنى.

إذن لا محالة يكون الربط في عالم الكلام ، انعكاسا لربط قبلي في عالم قبلي ، فدلالة الحرف على المعنى في ذلك العالم القبلي هو المنشأ في إيجاد الربط في عالم الكلام ، فدعوى أنّ الحرف معنى إيجادي ، غير صحيح ، لأن إيجادية الحرف للربط الكلامي فرع دلالته على معناه ، إذن ففي رتبة سابقة لا بد من تنقيح معنى للحرف ودلالة للحرف على ذلك المعنى ، فيحصل ببركة ذلك ، الربط في عالم الكلام ، لا ، أن الربط الكلامي هو مدلول ابتدائي للحرف ، بل هو من نتاج دلالة الحرف على معناه في ذلك العالم القبلي.

وجواب السيد الأستاذ على مدّعى الميرزا في غاية المتانة والصحة إذا كان الميرزا يدّعي هذا المطلب الذي فسّر به كلامه ، وهو أن الحرف إيجادي ، وليس له ما بإزاء سوى الربط الحاصل في عالم الكلام ، فلا معنى لأن يقال بأن معنى (في) هو الربط الكلامي ؛ أليس المتكلم قبل أن يتكلم توجد في نفسه قضية كاملة فيها موضوع ، وموصوف ، ونسبة؟ إذن فذاك الربط الحاصل في عالم ذهن المتكلم ، ما هو الدال عليه إذا فرض أن الحرف لم يكن هو الدال عليه؟.

فمن الواضح أنّ إيجادية الحرف للربط الكلامي ، إنما هو من نتاج دلالته على معناه ، ففي مرتبة سابقة لا بدّ من تنقيح هذا المعنى. ولكن نحن نستبعد جدا أنّ يكون هذا المطلب هو مقصود الميرزا ، (قده) والمظنون أنّ الميرزا لا يقول بإيجادية الحروف ، بل يقول بإيجادية المعاني الحرفية ـ أي بأنّ المعنى الحرفي الثابت في أفق ذهن المتكلم حين الاستعمال ، هذا معنى إيجادي ـ نعم

__________________

(١) محاضرات فياض ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥.

١١٨

أحيانا ، يعبّر فيقول : بأنه موجد للربط في عالم الكلام ، إلّا أنّ مراده ـ مظنونا ـ من إيجاد الربط في عالم الكلام ، إيجاده بلحاظ مدلول الكلام ، لا الكلام بما هو أصوات خارجة في الفضاء ، لأنه بما هو أصوات ، ليس فيما بينها ربط وارتباط ، بل الربط بلحاظ مدلول الكلام ، وبلحاظ أفق القضية الذهنية القائمة في ذهن المتكلم.

فرجع بحسب الحقيقة إلى أن المعنى الحرفي القائم في أفق ذهن المتكلم ، والمستعمل ، معنى إيجادي ، في مقابل المعنى الاسمي القائم في هذا الأفق.

إذن فمعنى الإيجادية في مقابل الحرفية ، هو ما تقدم في الأركان الثلاثة التي أهمها الركن الثاني ، وهو أن المعنى الحرفي سنخ معنى ، يكون تقرّره الماهوي في طول عالم الوجود ، بينما المفهوم الاسمي يكون له تقرر ماهوي بقطع النظر عن عالم الوجود ، لأن المفهوم الحرفي متقوّم بشخص وجود الطرفين في أفق ذهن المتكلم ، فبقطع النظر عن هذا الأفق من الوجود ، ليس له تقرر ذاتي أصلا ، فتمام النكتة هو أن التقرر الماهوي للمعنى الحرفي في طول عالم الوجود ، بينما التقرر الماهوي للمفهوم الاسمي ثابت بقطع النظر عن عالم الوجود.

هذا هو معنى الإيجادية والحرفية وهذا معنى دقيق وصحيح ، لا يحتمل أن يرفضه السيد الأستاذ نفسه فإنه معنى ينساق إليه البرهان حسب المقدمات التي بيّناها ، إذن فمراد الميرزا يتطابق مع أصل المراحل الخمسة التي قلناها ، وليس شيئا آخر مغايرا لها.

وأمّا ما اعترض به السيد الأستاذ على برهان الميرزا (قده) فحاصله أنّ القسمة الحاصرة للمعاني بأنها إما إخطارية وإما إيجادية ، هذه القسمة ليست متعينة ، وليست حاصرة ، بل هناك شق ثالث لا هو إخطاري ، ولا هو إيجادي. وذلك بناء على تفسير الإخطارية والإيجادية من أن الإخطارية عبارة عن أن يكون للمفهوم معنى قابل للحاظ الاستقلالي في الذهن ، والإيجادية عبارة عن

١١٩

أنّ الحرف ليس له ما بإزاء أصلا إلّا في عالم الكلام ، فحينئذ ، هنا شق ثالث لا إخطاري ولا إيجادي ، وذلك بأن يكون للحرف معنى قبلاني في عالم الذهن ، وقبل الكلام. وهذا المعنى لا يقبل اللحاظ الاستقلالي ، بل هو دائما يوجد بوجود تبعي ، إذن فلا يتبرهن الإيجادية بإبطال الإخطارية.

وهذا الاعتراض إنما يرد بناء على هذا التفسير للإخطارية والإيجادية ، أمّا بناء على ما بيّناه فلا يرد الاعتراض ، لأن معنى الإخطارية عند الميرزا ليس هو أن يكون المعنى معنى قابلا للحاظ الاستقلالي ، وللوجود الاستقلالي. بل الإخطارية معناها أن يكون للمفهوم تقرر ذاتي في عالم المفهومية ، بحيث كأنه شيء يخطر في الذهن في مقابل الإيجادية الذي لا يكون للمفهوم الإيجادي أي تقرر إلّا في نفس مرحلة وجوده وتحققه في أفق ذهن المتكلم ، وإلّا ففي مرحلة قبل هذه المرحلة ، ليس له تقرر ماهوي.

فبناء على هذا ، تكون القسمة حاصرة ، فالمعنى إما إيجادي وإما إخطاري ، إما أن يكون له تقرر ماهوي في مرتبة سابقة على الوجود ، وإما أن لا يكون له تقرر ماهوي في مرتبة سابقة على الوجود.

ونحن برهنا على أن المعنى الحرفي يستحيل أن يكون له تقرر ماهوي في مرتبة سابقة على الوجود ، كما بينا ذلك في المرحلة الثالثة من المراحل الخمسة. حيث قلنا هناك : إن المعنى الحرفي متقوم ذاتا بشخص وجود الطرفين ، فكيف يعقل أن يكون له تقرر مفهومي ، وانحفاظ لذاتياته المفهومية ، بقطع النظر عن عالم الوجود ، إذن فيبطل كونه إخطاريا ، ويتعين كونه إيجاديا. فمرام الميرزا نعم المرام ، وبرهانه نعم البرهان ، وليس له كلام إلّا هذا العنوان المشهور ـ إلّا المسلك المشهور ـ فقد تطابق هذا المسلك مع كلامه ، وليس في كلامه إضافة إلّا ما قلناه ، وما قلناه مأخوذ من إفادته.

الوجه الثاني :

وهذا الوجه الثاني هو ما نسب إلى المحقق الأصفهاني (قده) حيث ذكر

١٢٠