مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

الحادي عشر : يدل قوله تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) على أنّ إبراهيم (عليه‌السلام) إنّما كان سؤاله وطلبه لأجل معرفة حقيقة هذين الاسمين الشريفين وبالجواب ظهر تجلّيه تعالى له وجعله مظهرا من مظاهر العزة والحكمة.

٣٤١

بحث روائي

في المعاني عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «استجاب الله عزوجل دعوة إبراهيم (عليه‌السلام) حين قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وهذه آية متشابهة ومعناها أنّه سأل عن الكيفية ، والكيفية من فعل الله عزوجل متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب ولا عرض في توحيده نقص فقال الله عزوجل (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) هذا شرط عام من آمن به ، متى سئل واحد منهم : «أو لم تؤمن» وجب أن يقول : «بلى» كما قال إبراهيم (عليه‌السلام) ولما قال الله عزوجل لجميع أرواح بني آدم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) كان أول من قال بلى محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فصار بسبقه إلى (بلى) سيد الأولين والآخرين وأفضل النبيين والمرسلين ، فمن لم يجب عن هذه المسألة بجواب إبراهيم فقد رغب عن ملّته قال الله عزوجل : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) ثم اصطفاه الله عزوجل في الدنيا».

أقول : الكيفية لها قسمان قسم يضاف إلى الله تعالى من باب الوصف بحال ذاته المقدّسة ، وهذا باطل بلا ريب ولا إشكال للأدلّة العقلية وللنصوص الكثيرة الدالة على نفي الكيفية عنه عزوجل قال (عليه‌السلام) «هو الذي كيّف الكيف ولا كيف له».

وقسم يضاف إلى المخلوق ولا إشكال فيه لكونه معرضا لذلك ، وما

٣٤٢

أثبته (عليه‌السلام) إنّما هو من القسم الثاني دون الأول.

ولعلّ المراد من التشابه تشابه الآية المباركة من حيث احتمال ورود الشك على قلب إبراهيم (عليه‌السلام) وهو باطل. وبقية الحديث ظاهر بأدنى تأمل.

وفي المحاسن عن صفوان بن يحيى عن الرضا (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أكان في قلبه شك؟ قال (عليه‌السلام) : «لا ، كان على يقين ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه».

أقول : روي قريب منه في الكافي وتفسير العياشي وبناء على هذا الحديث يكون الاستفهام بالنسبة إلى عين اليقين لا بالنسبة إلى أصل العلم وحق اليقين.

في تفسير القمي عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) : «أنّ إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البرّ وسباع البحر ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا ، فتعجب إبراهيم فقال : يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال الله تعالى أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أنّ الله عزيز حكيم. فأخذ إبراهيم (عليه‌السلام) الطاووس والديك والحمام والغراب فقال الله عزوجل : فصرهنّ إليك أي قطعهنّ ثم اخلط لحمهنّ ، وفرقهنّ على عشرة جبال ، ثم خذ مناقيرهنّ وادعهنّ يأتينك سعيا ففعل إبراهيم ذلك وفرقهنّ على عشرة جبال ثم دعاهنّ فقال : أجبنني بإذن الله فكانت تجتمع وتتألف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه ، فطارت إلى إبراهيم (عليه‌السلام) فعند ذلك قال إبراهيم : إنّ الله عزيز حكيم».

أقول : صدر الحديث يبيّن الشبهة التي تعرض في جميع الأذهان وهي مشهورة ب (شبهة الآكل والمأكول) ولعلّ ألهم خليل الرحمن (عليه‌السلام) أن يستفهم جواب هذه الشبهة عن الله تعالى ، ويرى الجواب عيانا ليبينه للناس وهذه عادة جميع الأنبياء في مقام الاحتجاج على الخلق.

٣٤٣

وأما أفراد الطيور فقد اختلف في ذلك وسيأتي عن قريب.

وفي العيون عن الرضا (عليه‌السلام) : «أنّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم (عليه‌السلام) إنّي متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم (عليه‌السلام) أنّه ذلك الخليل فقال : ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئنّ قلبي على الخلّة قال : فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثم ادعهنّ يأتينك سعيا واعلم أنّ الله عزيز حكيم. فأخذ إبراهيم (عليه‌السلام) نسرا وبطا وطاووسا وديكا فقطعهنّ وخلطهنّ ثم جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله وكانت عشرة منهنّ جزءا ـ الحديث ـ».

أقول : هذا جواب حسن ذكره (عليه‌السلام) عما يخطر بالبال من الإشكال على قوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ولكن ذلك لا ينافي ما ذكرناه في معنى الاطمينان وهو الوصول إلى عين اليقين إذ لا فرق في الوصول إليه بين أن يكون بمقام الخلّة أو بمقامات أخرى.

وفي العلل والعياشي والمجمع عن الصادق (عليه‌السلام) : «أنّ الطيور كانت : الديك ، والحمامة ، والطاووس ، والغراب» وفي رواية أخرى بدل الغراب «الهدهد» ، وفي ثالثة بدل الغراب «الوزة» وبدل الحمامة «الوزة».

أقول : الروايات في أسماء الطيور مختلفة ، ولا إشكال فيها بناء على ما قلناه من أنّ المراد بالأربعة أربعة أنواع من الطيور ، وفي كلّ نوع أصناف مختلفة وأهمية المعاد وعظمته إنّما تظهر في ذلك وهو أبين لقدرة الله تعالى على الفصل والمعاد بعد تحقق الضم والاتحاد.

وكذلك لا إشكال في هذا الاختلاف في أسماء الطيور لو أريد من الأربعة الطبايع الأربعة المختلفة كما مر.

٣٤٤

بحث عرفاني

الآية الشريفة تدل على كمال الخلّة بين الرب الجليل وإبراهيم الخليل فإنّه قد ارتفع بينهما الستر والحجاب وأزيل الغطاء والنقاب وانتفت المغايرة من البين. وذلك لأنّ العبودية ظهرت بجميع آثارها على إبراهيم (عليه‌السلام) وقد وقعت جميع أفعال جوارحه في مرضاة الله تعالى واستولت العبودية المحضة على خطرات قلبه ، وفدّى جميع شؤونه في حبّ الله عزوجل ومحى تمام ما يتوهم فيه البعد والافتراق ، فشرقت على قلبه الأنوار القدسية فاتخذه الله خليلا وجعل الحبيب من نسله فصار الخليل يفتخر بالحبيب والحبيب يفتخر بالخليل لما بينهما من الجامع القريب من شروق النور الأزلي على قلبهما والوصول إلى مقام الوصال والينبوع الذي لا يعقل فيه النفاد وبمدبر حكيم لا يتصور فيه التغيّر والفساد فكان أن نال رتبة البقاء : «فإنّ آخر الفناء في الله تعالى أول البقاء به» وصدر منه العجائب والغرائب لأنّه مستمد من مدد الغيب الذي لا حدّ له ، فيكون إحياء الموتى على يديه أيسر شيء عليه بل تكون مقاليد الجنة والنار مطروحة لديه ومثله يطفي النيران وتناديه جهنم «جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» هذا بعض مقامه فإنّ اللفظ قاصر عن بيان التمام.

ويمكن أن يستأنس من الآية الشريفة : أنّه لا بد للإنسان أن يزيل عنه الخصال المذمومة ويميتهنّ في نفسه حتّى يتمكن من إحياء الموتى لأنّ في كلّ

٣٤٥

طير من تلك الطيور الأربعة خصلة مذمومة من العجب والحرص والكبر والشهوة ونحوها.

وهي تدل على أنّ المؤانسة مع أولياء الله تعالى توجب الاعتدال في النفوس فيكون قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ) كناية عن العلوّ المعنوي الحاصل بمجرد هذه الإضافة وتصير الأشياء مسخرة تحت أمره.

وبالجملة : إنّ كلّ ما يقال في المكالمة بين الخليلين لا يمكن أن يجعل لها تحديد بأيّ وجه من الوجوه.

وقال بعض المفسرين : إنّ مورد الإحياء خصوص قلب إبراهيم (عليه‌السلام) لأنّه وجد في قلبه محبة ولده فنزل قلبه منزلة الموتى فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). ولكنّه مردود ، لأنّه لا يساعده دليل من العقل والنقل بل هو مخالف لمقام إبراهيم الخليل إن لم يكن سوء أدب بالنسبة إليه. نعم ، حبّ ولده يرجع إلى حبّ الله تعالى كما هو شأن الأنبياء والمخلصين وذلك لا يوجب إماتة القلب.

٣٤٦

سورة البقرة

الآية ٢٦١ ـ ٢٧٤

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ

٣٤٧

فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

الآيات الشريفة تبيّن ما يتعلّق بالإنفاق من فضله ، وموضوعه ، ومورده ، والغرض منه ، وكيفيته ، وبعض شروطه وآدابه ، وهي أجمع آيات وردت في هذا الموضوع.

وقد حث الله تعالى الناس على الإنفاق في سبيل الله بضرب الأمثال والتحريض على الإخلاص فيه فضرب أولا المثل لزيادته ونموه وبيّن أنّه جلّت عظمته يضاعفه إلى سبعمائة أو أزيد كما في مثال السنبلة.

ثم نهى سبحانه وتعالى عن الإنفاق للرياء أو الإنفاق لغرض الأذية والمنّ فذكر أنّه لا ثمرة فيه ولا يوجب الزيادة وضرب لذلك مثل الصفوان الذي عليه تراب فإذا أصابه المطر أزاله ، كذلك الإنفاق إذا عقبه المنّ والأذى فإنّهما يوجبان زوال الأثر منه ويحبطان عظيم أجره.

كما ضرب مثلا ثالثا لمن ينفق أمواله في سبيل مرضاة الله تعالى واعتبره كالجنة التي تكون فوق مرتفع يصيبها المطر فإنّها تنمو وتزداد بهجة وسرورا.

ثم حث على الإنفاق في سبيل الله مرّة أخرى وضرب لذلك مثلا يصوّر فيه الإنسان في غاية الحاجة والإعواز.

٣٤٨

وبيّن عزوجل أنّ الإنفاق يجب أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه. كما أمرنا بالابتعاد عن البخل فإنّه من وساوس الشيطان.

وذكر أنّ مورد الإنفاق هو الفقراء المحصرون في سبيل الله تعالى وأنّ لهذا الإنفاق أجرا عظيما عنده تبارك وتعالى.

كما ذكر أنّ كلّ إنفاق ونذر إنّما يكون في علم الله تعالى فلا يضره الستر والإخفاء وإنكار المنفق عليه وفي ذلك تسلية للمنفقين مما يصيبهم في هذا الأمر من مثبطات توهن عزائمهم.

وبيّن أنّ زمان الإنفاق لا فرق فيه بين أن يكون في الليل والنهار سرّا أو علانية ، وأرشدنا إلى أنّ الإنفاق في السرّ هو الخير للإنسان.

فالآيات الشريفة بمجموعها ترشد إلى أهم موضوع اجتماعي فيه الخير للفرد والمجتمع ويكون فيه التزكية للنفوس واعتبر عزوجل أنّ ذلك من الحكمة التي هي الكمال الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء من خلقه.

وما ورد في الآية الشريفة هو الحد الفاصل بين ما يقال في هذا الأمر الاجتماعي المهم وبين غيره ، وظاهر الآيات المباركة أنّها نزلت دفعة واحدة فإنّ الغرض منها بيان ما يرتبط بالإنفاق كما عرفت.

وعقب الآيات السابقة التي كانت في إحياء الموتى بهذه الآيات للدلالة على أنّ للإحياء نحوا آخر يتضمن الحياة الاجتماعية والفردية وحياة النوع.

٣٤٩

التفسير

٢٦١ ـ قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

المثل : تبين أحد الشيئين بالآخر لما بينهما من المشابهة والمناسبة ، وفي الحديث : «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل» أي الأشبه بهم من حيث الشرف وعلو المرتبة أو المنزلة.

وأصل الكلمة من المثول : وهو القيام ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار» أي يقومون له.

والأمثال قديمة ومعروفة عند العرب ، وكلمات الفصحاء والفلسفة العلمية والعملية مشحونة بالأمثال ، ولها من الفوائد والآثار الكبيرة في تنشيط الذهن وتوضيح المراد وتأكيد المطلوب ، والترغيب ، والتحريض ، والإنذار ، والتخويف والتذكير ما هو معلوم في المحاورات ، وقد كثر ضرب الأمثال في القرآن الكريم قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر ـ ٢١] ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) [الروم ـ ٥٨].

وسبيل الله : كلّ ما فيه رضاء الرّحمن وأوجب كمال الإنسان والتباعد عن

٣٥٠

الشيطان ، وسبل الله كثيرة ومتعددة ولا تنحصر في جهة خاصة وأمر خاص ، وهو يجتمع مع كلّ أمر ما لم يكن نهي شرعي في البين فهو الكمال الفعلي الدائمي القابل للنمو والتعالي وفيه يقول عزوجل (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) وهو روح العمل والسرّ في بقائه ودوامه بل هو شعاع من عالم الغيب على القلوب المنزّهة عن الشك والريب ، وهو الجذبة الروحانية التي تحيط بالعبد إذا تحققت الشرائط التي منها الوقوف عند الشريعة المقدّسة والعكوف على حدودها والعمل بأحكامها وهو الذي إذا حصل جعل العمل مباركا وإذا فقد كان العمل فاسدا والسّعي ضلالا والتجارة خاسرة خسرانا مبينا.

والمعنى : إنّ المثل الذي يضرب لمن ينفق في سبيل الله في جزائهم المضاعف يكون كما ذكره تعالى.

قوله تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ).

الحبة ـ بالفتح ـ واحدة الحب اسم جنس لكلّ ما يقتاته الإنسان والطّير وغيرهما من الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات وبزور الرياحين قال تعالى : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام ـ ٩٥].

والحبة ـ بكسر الحاء ـ بذور البقول مما لا يكون قوتا وفي الحديث : «فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» وهو ما يحمله من الغثاء والطين.

والسنابل جمع سنبلة على وزن فنعلة : وهي ما علا الزرع من الحب أي : مثل الذي ينفق في سبيل الله في الجزاء المضاعف الكبير كمثل تلك الحبة التي زرعت في أرض خصبة فأنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة وقد أسند الفعل (أنبتت) إلى بعض الأسباب.

والممثل به من الأمور المتحققة في الخارج وإن كان قليلا وليس هو فرضا موهوما كما يدعيه بعض المفسرين.

وإنّما أتى سبحانه وتعالى بجمع الكثرة في «سبع سنابل» مع أنّ القاعدة تقتضي الإتيان بجمع القلّة في التمييز. كما في قوله تعالى : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) [يوسف ـ ٤٣] ، لبيان إثبات الكثرة في كلّ ما يمكن أن يتوهم في

٣٥١

المقام فأتى بالعدد ثم بالجمع ثم بالكثرة ثم بالضعف.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ).

أي : والله يزيد زيادة كثيرة لا حدّ لها لمن يشاء من خلقه كما في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة ـ ٢٤٥].

والمضاعفة أعم من أن تكون في الكمية أو الكيفية أو هما معا مثل ما أنفقه المنفق أو من غير مثله ، وتختلف اختلافا كثيرا بحسب الأفراد والخصوصيات.

وذكر بعض المفسرين أنّ هذه المضاعفة محدودة بسبعمائة. وهو مردود لأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة وتحديد في جوده وكرمه ، وإنّما يضاعف بحسب درجات الإخلاص في العمل والإقبال على الخير فإنّه الجواد الذي لا نهاية لجوده ، والغني المطلق الذي لا ينقصه البذل والعطاء كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد ـ ١٠] ، وقد يضاعف الجزاء بغير حساب قال تبارك وتعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [البقرة ـ ٢١٢].

ويصح أن يراد بالعدد ـ أي السبعمائة ـ أنّه مقتضى لطف الله تعالى وعنايته على نحو الاقتضاء لو لم تكن موانع تمنع عن البركات وتوجب النقص والحرمان.

ولم يبيّن سبحانه وتعالى صفة من يضاعف له في هذه الآية الشريفة وإنّما ذكرها على الإجمال في آية أخرى ، قال عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف ـ ٩٦] ، مع أنّ ذلك من أسرار القضاء والقدر التي لا يحيط بها غيره ، كما أنّه لم يقيّد عزوجل الجزاء بالدنيا أو الآخرة فهو يشملهما ، وهذا هو مقتضى سعة رحمته وجوده أيضا ، فإنّه يقبل اليسير ويعفو عن الكثير.

٣٥٢

قوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

الواسع بالنسبة إليه تعالى يراد به عدم الحد لقدرته ، وعلمه ، ورحمته ، وجوده ، وغيرها من الصّفات العليا.

أي : إنّ الله تعالى واسع في رحمته وجوده وجزائه لا يحده شيء ولا يغلبه أمر ، عليم بالأعمال والنيات ومن يستحق الجزاء الأوفى.

٢٦٢ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

تقدم الكلام في ذلك ، ومقتضى الإطلاق شمول الإنفاق لكل أعمال الخير ، فلا يختص بخصوص مورد معيّن ، وسبيل الله عام يشمل كل سبل الخير الموصلة إلى مرضاته كما عرفت ، فتتصف جميع الأفعال المباحة إذا أضيفت إليه تعالى بكونها من سبيل الله تعالى لأنّ سبيله كرحمته لا حدّ لكلّ واحد منهما بلا فرق بين أن تكون مع العوض أو بدونه فالاتجار بالمال إذا كان بقصد أن يعود به على نفسه أو أهله وأراد به وجه الله تعالى فهو من سبيل الله ، وكذا التزويج إذا كان بقصد رضاء الله فهو من سبيله عزوجل ، فهو يجتمع مع كلّ شيء إذا لم يكن منهيّا عنه شرعا ، وعن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ولتكن لك في كلّ شيء نية» أي نية القربة لله تعالى.

والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته هو السبب التام في نموّ العمل وزيادة الأجر والثواب فلو لم يكن الإنفاق في سبيل الله ولم يقصد به وجه الله وكان لغرض خاص ولو كان نبيلا فإنّما يكون شخصيّا عائدا إلى شخص المنفق ولم يتعدّاه وربما يستلزم آثارا جانبية تؤثر على المنفق والمنفق عليه أو المجتمع فيكون وبالا عليه.

والمال كلّ ما تميل إليه النفس ، فيشمل إنفاق الأعيان والمنافع بل الانتفاعات.

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً).

الإتباع : اللحوق والإلحاق. والمنّ ، والمنّة : بمعنى النعمة الثقيلة

٣٥٣

العظيمة وعظم النعمة وثقلها تارة : تكونان بحسب الذات وأخرى بالقول كأن يقول لمن أعطاه ألم أعطك أو تثقيل النعمة وتعظيمها وإكبارها وثالثة : بالفعل كأن يتطاول المعطي على من أعطاه.

والأولى : إذا كانت النعمة ممن اتصف بالجود والعظمة والكبرياء حسن وهي من صفات الله تعالى ومن أسمائه الحسنى المقدّسة «المنان» وقد وردت مشتقات هذه المادة في القرآن الكريم في موارد كثيرة ، ولعلّ من أعذبها وأعظمها قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص ـ ٥] ، وقوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران ـ ١٦٤].

والثانية والثالثة : مذمومتان وهما من مساوئ الأخلاق ، وفي الدعوات المأثورة عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) الاستعاذة بالله العظيم من المنّ على الغير ، ففي الصحيفة الملكوتية السجادية «وأجر للناس عليّ الخير ولا تمحقه بالمن».

والأصل في معناه : القطع كأنّ المعطي بالمنّ يقطع الصلة بينه وبين عمله ويمحقه.

والأذى : كلّ ما يصيب الإنسان من ضرر ومكروه سواء كان جسمانيا أو معنويا ، ولهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

والمعنى : الذين ينفقون أموالهم ويبذلونها يقصدون بذلك وجه الله ويطلبون مرضاته ولا يلحقون إنفاقهم المنّ على من أحسنوا ولا يتبعونه الأذى بهم لهم عند ربّهم الأجر الجزيل.

ويستفاد من هذه الآية الشريفة : أنّ شرط ترتب الثواب أمور ثلاثة : قصد وجه الله تعالى ، وكونه في سبيله عزوجل ، وترك المنّ والأذى.

وإنّما كرر «لا» في الآية المباركة لبيان أنّ كلّ واحد من الأمرين منهيّ

٣٥٤

عنه ويوجب الإحباط وعدم استحقاق الأجر الجزيل ، ويدل عليه قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة ـ ٢٦٤].

وإنّما عبّر عزوجل ب «ثم» للدلالة على أنّ الإنفاق الذي غلب فيه مرضاة الله تعالى إذا تعقبه المنّ أو الأذى أوجب حبطه فكيف إذا كان الإنفاق متصفا بأحدهما أو كليهما حين صدوره فإنّه لا يكون في سبيل الله ، ولا يدخل المنفق فيمن أنفق أمواله في سبيل الله ولم يسلك في زمرة السالكين في مرضاة الله تعالى ولا يعتد به وبإنفاقه.

والآية الشريفة ترشدنا إلى خلق كريم من مكارم الأخلاق التي أمرنا بالاتصاف بها ، وفي هذه الخصلة الحميدة تجتمع مصلحة النوع ومصلحة الفرد ، وبمراعاته يتحقق التآلف بين أفراد الناس الغني والفقير على حدّ سواء وهو يكشف عن حسن نية المنفق وعطفه ورأفته على الغبر ولم يطلب من إنفاقه سوى رضاء الله تعالى فلا يتفاضل الغنيّ على الفقير ، بل يكون قبول الفقير لما أنفق عليه موجبا لدخول السرور على المنفق لأنّه أوجب دخوله في رضوان الله تعالى ، ويشكر الفقير الغنيّ لأنّه الواسطة في فيض الله تعالى ، وكذا كلّ إعانة تصدر من كلّ معين إلى المحتاج المستعين ، فهو خلق كريم من ذوي النفوس القدسية والهمم الرفيعة الأبية.

قوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

الخوف : توقع الضرر وهو قابل للشدة والضعف وغالبه يرجع إلى الاعتقاد ، وهو قد يحصل عن مباد حقيقية كالخوف من عقاب الله تعالى وعظمته وقهاريته ، وقد يكون عن مباد ظنية خيالية.

والحزن ـ بسكون الوسط ، أو بفتحتين ـ غمّ يحصل للنفس ، وهو أيضا قابل للشدة والضعف وله مباد واقعية وظنية.

والآية تبيّن أنّ الجزاء المضاعف للمتقين محفوظ عند الله تعالى ، فيفيد الترغيب على الإنفاق ، ويكون أهنأ للنفوس ، وإنّما أضافهم إلى ربّهم تشريفا

٣٥٥

لهم وإعلاء لشأنهم وتعظيما لعملهم.

والمعنى : الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله ويبتغون مرضاته ولا يتبعون إنفاقهم بالمنّ ولا بالأذى فإنّ لهم أجرهم الكبير محفوظا عند ربّهم ولا يصيبه الفناء والزّوال ولا يصيبهم خوف عن أهوال القيامة ولا حزن عما يكون في المحشر.

والآية الشريفة تبيّن حكما فطريا وهو أنّ الارتباط مع من لا نهاية لعظمته في الجمال والجلال يوجب استكمال من يرتبط به فإنّ المضاف ربما يكتسب الشرف ، وهذه الإضافة هي إضافة الإنفاق في سبيل الله تعالى الحاضر لدى المنفق ولا ريب في أنّ العبد يصل بها إلى أعلى درجات يمكن أن يصل إليه الممكن إن خلصت الإضافة عن المادة واشتدت بالنسبة إلى الله تعالى.

٢٦٣ ـ قوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً).

المعروف اسم لكلّ ما يعترف العقل أو الشرع بحسنه فعلا كان أو قولا بخلاف المنكر ، والمراد به في المقام الرد الجميل المستحسن.

ومادة (غفر) تأتي بمعنى الصّون عن الدنس ، وبمعنى العفو عن العذاب ، والمغفرة والغفران مصدران أي : إنّ الرد الجميل بالقول والمجاملة مع السائل والفقير بما لا يوجب كسر قلبه إذا لم يقترن سؤاله بما يسيء الأدب مع المسؤول عنه ، والعفو والإغماض عما يقترن بالسؤال أو الحال بما هو خلاف الواقع أو الإلحاح في السؤال بما لا ينبغي الإلحاح فيه لغير الله جلّ جلاله ، أو الحلف بالمقدّسات الدينية في شيء يسير من الدنيا الدنية أو الإساءة في السؤال أو زمانه أو مكانه ، أو الإزعاج ونحو ذلك مما يكبر على النفوس ، فإنّ الرد كذلك من غير عطاء خير عند الله تعالى من صدقة يتبعها أذى.

ومن مقابلة الأذية للقول المعروف والمغفرة يعرف أنّها سوء المقال أو سوء المقابلة.

٣٥٦

والآية الشريفة باختصارها تبيّن جملة من مكارم الأخلاق الاجتماعية وترشد الإنسان إلى ما هو الخير له في أفعاله وأقواله دون ما يعتقده خيرا مهما عظم في عينه وهو في الواقع ليس بخير ، وتبيّن قبح المنة على الخلق والتأكيد على الابتعاد عن هذه الرذيلة فإنّ آثار السيئات ومفاسد الأخلاق تبقى ولا تفنى حتّى تظهر في هذه الدنيا ، وتنقلب من العرض إلى الجوهر في العقبى ، وفي بعض الأحاديث إنّها تظهر في النسل ولو بعد سبعين بطنا ، وكذا آثار الحسنات ، وذلك من مكنون علم الله جلّ جلاله الذي لا يحيط به غيره ، فكم من ذرية سادت بفعل الآباء وكم منها ذلت بطغيان الآباء ولا معنى للربوبية العظمى إلا هذا ، ويرشد إلى ذلك القاعدة المعروفة «كما تدين تدان» التي قرّرتها الشريعة.

وبالجملة إنّ هذه الآية ترشدنا إلى أهم الأحكام الاجتماعية التي لوحظ فيها المصلحة الفردية والمصلحة العامة فإنّ قول المعروف والمغفرة من الآداب العامة التي تبتهج بها النفوس وتميل إليها القلوب وتحث على العمل وتبعث العزيمة على البذل وتوجب نمو الإنفاق والزيادة ، وهذا معنى الخيرية فيهما دون الأذى فإنّه من موانع القبول ومن مثبطات العمل وموهنات العزائم تجلب البغضاء بين الأفراد.

وقد وردت في القول المعروف الذي يرد به السائل والمغفرة عن إسائته روايات كثيرة منها ما عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار ولين إما ببذل يسير ، أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خوّلكم الله تعالى» ويدل على صحة ما ورد في هذه الآية الشريفة قصص وحكايات تكفي واحدة منها للعبرة والاعتبار لمن كان من ذوي البصيرة والرشاد ونعم ما قيل :

لا تهيننّ الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

قوله تعالى : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ).

الغني والحليم من الأسماء الحسنى لله جلّ جلاله ، وكلّ منهما من

٣٥٧

أسماء الذات الحقيقية.

والأول : عام بالنسبة إلى جميع جهات الكمال فلا يختص بشيء ويمكن إرجاعه إلى نفي الإمكان وفي بعض الدعوات المأثورة «يا من يستغني من كلّ شيء ولا يغني عنه شيء» فهو تعالى غنيّ ملكا وعلما وقدرة وحكمة وتدبيرا إلى غير ذلك من صفات الجلال والجمال.

وأصل الحلم : ضبط النفس عن هيجان الغصب ويطلق على غير الله تعالى قال جلّت عظمته : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة ـ ١١٤].

وإذا اطلق عليه تعالى يراد عدم التعجيل في عقوبة العصاة ، لأنّه لا يستخفّه شيء من عصيان العباد ولا يستفزّه الغضب عليهم.

وفي تعقيب الآية الشريفة بهذين الاسمين الشريفين للدلالة على أنّه غنيّ بالذات ـ وما سواه يرجع إليه ولا يعظم عليه ما أنعم على عباده ـ فلا يطلب صدقة يتبعها أذىّ لعباد الله أو أنّ جزاء الصدقة يرجع إليهم فإنّه مع غناه يستقرض من عباده الصدقة لأجل مصالحهم وتطهير نفوسهم يغني من يشاء من عباده فهو الجواد ولا يبخل عن شيء حليم لا يعجل في عقوبة المسيء إليه ، ففيها دلالة على لزوم التخلق بأخلاقه سبحانه وتعالى في إعطاء الصدقة.

وفي الآية الشريفة تسلية للفقراء عما يكابدون من الفقر ، وإرشاد للأغنياء إلى نبذ الانتقام والتحلّي بالعفو والمغفرة.

٢٦٤ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى).

أي : لا تحبطوا صدقاتكم بالمنّ والأذى فإنّ رذيلة المنّ والأذى ومفسدتهما تذهبان فضيلة الإنفاق وتهدمان الغاية الشريفة منه.

وفي الآية التأكيد على الابتعاد عن هاتين الرذيلتين ، والمبالغة في التنفير عنهما والحث على تركهما.

٣٥٨

قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ).

أي : إنّ المتصدق الذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى كالمرائي الذي تكون أعماله باطلة.

والرثاء والرياء والمراءاة بمعنى واحد وهو العمل لأجل إراءة الغير مباهيا به فيكون عمل المرائي وعمل ذي المنّ والأذى مشتركين في عدم القبول وعدم الصحة ، وإنّما الفرق بينهما أنّ عمل المانّ والمؤذي يقع صحيحا ثم يعرض عليه البطلان بخلاف عمل المرائي فإنّه باطل من حينه.

قوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

أي : إنّ المرائي إنّما يعمل لأجل أن يراه الناس ولا يعمل ابتغاء مرضاة الله ورجاء ثوابه والخشية من عقابه.

ويستفاد من هذه الآية المباركة : أنّ الرياء في العمل يستلزم عدم الإيمان بالذي يدعو إلى العمل لليوم الآخر الذي يتجلّى فيه جزاء الأعمال ، ومن حيث عدم كون المرائي مؤمنا لم يعلّق النهي في الآية على الرياء كما علّق النهي على المنّ والأذى باعتبار كون الخطاب للمؤمنين والمرائي غير مؤمن وفي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «اتقوا الله في الرياء فإنّه الشرك بالله ، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر حبط عملك وبطل أجرك فلا خلاص لك اليوم ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

قوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً).

المثل مضروب للمرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس. والصفوان (والصّفا) : الحجر الأملس وجمعه صفيّ وقيل : إنّه جمع واحده صفوانة كسعدان وسعدانة ، ومرجان ومرجانة.

والوابل : المطر الشديد ، والصّلد : الحجر الذي لا ينبت فيه شيء لصلابته.

٣٥٩

والمعنى : إنّ مثل المرائي في إنفاقه المنافق في عمله مثل ذلك الحجر الصلب الذي عليه التراب فإذا أصابه المطر الغزير أزال عنه ذلك التراب وجعله أملس ليس عليه شيء ، فتكون حقيقة المرائي كالحجر الصّلد الذي لا ينفعه كلّ ما هو سبب للحياة من المطر والتراب كذلك المرائي لا تنفعه الأعمال الصالحة والطاعات التي يتقرّب بها إلى الله تعالى وتجلب السعادة له فيكون بفعله قد سلب الاستعداد عن نفسه ، والا فإنّ الإنفاق في سبيل الله من الأسباب التي تجلب السعادة في الدارين ولكنّه رائى في فعله فسلب القابلية عن فعله.

وحقيقة هذا المثل إنّما هي شرح ما تكون عليه الدنيا والآخرة فإنّ الأولى هي دار كون وفساد ، وتبدّل وانقضاء وانصرام ، وبرق خاطف يبرق ثم يذهب ، لذتها حليف الألم ، وفرحها أليف الحزن والسقم ، بخلاف الثانية فإنّها دائمة بدوام الحيّ القيوم نعيمها لا يفنى وبركاتها لا تتناهى ، والإنسان مخيّر بينهما فإن اختار الدنيا فبئس الحليف وإن اختار الآخرة فنعم القرار ونعم المعين ، ولو دل مخلوق مخلوقا آخر على مثل ما أرشدنا الله جلّ جلاله من كشف الحقائق وبيان الدقائق لاستحق التعظيم والتجليل ، فكيف بما إذا أرشدنا الله تعالى إليه العالم بحقائق الأشياء والخالق للسّموات والأرض وما فيهما.

قوله تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا).

الضمير في لا يقدرون راجع إلى من ينفق ماله رئاء الناس ، لأنّه في معنى الجمع والجملة بيان لوجه الشّبه بين المشبّه والمشبّه به أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة فلا يقدرون على شيء من أعيان أموالهم التي أنفقوها ولا على شيء من الأجر والثواب فقد أبطلوا أعمالهم بالرياء فذهبت الأعيان وبقيت الحسرات.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

الآية الشريفة في موضع التعليل : أي : إنّ المرائي كافر ، والله لا يهدي

٣٦٠