مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

التفسير

٢٤٦ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى).

الملأ اسم جمع لجماعة من الناس يجتمعون على أمر ولا واحد له من لفظه كلفظ القوم ، سموا بذلك لأنّهم يملؤون العيون منظرا والنفوس عظمة وبهاء.

وبعبارة أخرى : الجمع المعني بهم الناس.

ويأتي بمعنى الخلق ومنه الحديث لما ازدحم الناس على الميضاة : «أحسنوا الملأ فكلكم سيروى» أي أحسنوا خلقكم.

وهذا اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) [النحل ـ ٢٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص ـ ٢٠] ، وقال تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ـ ٣٨] ، وهو من الأمور الإضافية فإنّ لكلّ قوم ملأ ولكل ملإ رأيا.

وتقدم الكلام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ).

والمراد به : ألم تعلم قصة هؤلاء الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى (عليه‌السلام).

١٤١

قوله تعالى : (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

المراد ببعث الملك : إقامته فيهم وإمارته عليهم. أي : طلبوا من نبيّ لهم أن يقيم فيهم ملكا وأميرا تصدر الناس عن رأيه في السلم والحرب والنظام يقاتلون تحت لوائه في سبيل الله.

وقد اختلف المفسرون في اسم هذا النبيّ فقيل : إنّه أرميا النبي. وقيل : إنّه يوشع بن نون. وقيل : إنّه شمعون.

ولكن جميع ذلك لا يمكن المساعدة عليه فإنّ أرميا معاصر لنبوخذ نصّر وسبي بابل وبينه وبين ما ورد في الآية الشريفة زمان طويل يقارب أربعمائة سنة وتسعة أجيال. وأما يوشع بن نون فهو فتى موسى وهو يخالف صريح الآية التي ذكر فيها أنّها كانت بعد موت موسى. وأما شمعون فإن كان هو ابن يعقوب فهو باطل وإن كان غيره فلم يعلم من هو هذا.

ولكن المشهور أنّه اشموئيل الذي هو معرب صموئيل المذكور في التوراة وكتب التاريخ وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه‌السلام) وفي مجمع البيان وهو بالعربية إسماعيل وذكره المحاسبي أيضا هذا ولكن ذكر شيخنا البلاغي (قدس سرّه) أنّ فيه منعا فإنّ إسماعيل في العبرانية (يشمع إيل).

وكيف كان فإنّ طلبهم من نبيهم كان بعد تسلط الملك الجبار عليهم ونالوا منه الذلة والهوان والتشريد عن الديار والأهل فطلبوا منه الجهاد.

والمستفاد من سياق الآية الشريفة وذيلها (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أنّ السبب في ذلك ظلمهم ، فإنّهم عملوا المعاصي وأظهروا الخطايا والأحداث المغيّرة للدّين ، فسلّط الله تعالى عليهم من ينتقم ذلك منهم فأخرجهم من ديارهم وأبنائهم ، فتوسّلوا في ذلك إلى نبيّ لهم ليجاهدوا مع الجائرين.

والملك الذي سلّطه الله عليهم هو جالوت الذي تملكهم وسار فيهم بما أوجب فقد استقلالهم في الحياة وإخراجهم من الديار وبعدهم عن الأهل

١٤٢

والأبناء حتّى بلغ بهم الأمر أن تيقظت فيهم روح العصبية فطلبوا من نبيهم أن يبعث فيهم ملكا يسيرون تحت لوائه ويقاتلون معه في سبيل الله ، ويستفاد ذلك ممّا ورد في التوراة أيضا كما يأتي في البحث التاريخي.

قوله تعالى : (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا).

عسيتم ـ بفتح السين ـ وهي القراءة المشهورة وقرئ شاذا بالكسر.

والمراد بها في المقام : الإشفاق في المكروه أي : هل أتوقع منكم الجبن والتولّي في القتال إذا كتب عليكم.

ويستفاد من الآية الشريفة : أنّ الأمر ليس بيد النبيّ الذي طلبوا منه الملك ، بل أوكل الأمر إلى الله تعالى ولم يصرّح باسمه عزوجل تعظيما ، لأنّ ما أوجب سؤالهم وهو المخالفة كانت مرجوة منهم ولذا ورد الخطاب على نحو الاستفهام وفيه إيماء إلى تولّيهم عن القتال وإنكارهم بعد ذلك لما ذكروه وتعهدوا به وإتمام للحجة عليهم. والآية في كمال الفصاحة والبلاغة.

قوله تعالى : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا).

أي : وما يمنعنا من القتال وقد أخرجنا من الوطن وبعدنا عن الأهل والأولاد ، والإخراج من الديار يوجب ذهاب الاستقلال والوهن في العزيمة والمنع عن التمتع بملاذ الدنيا فقد كنّى سبحانه وتعالى عن جميع ذلك بالإخراج.

وألّا : هي أن المصدرية ولا النافية كما ذكر في العلوم الأدبية.

وقد ذكر في الآية الشريفة سببان للقتال :

أولهما : كونه في سبيل الله وأنّه دفاع عن الحق والعقيدة وهذا أهمّ دافع في الجهاد.

الثاني : الظلم عليهم بإخراجهم من الديار والبعد عن الأولاد ومنعهم عن

١٤٣

التمتع بضروب الحياة فلا عذر بعد ذلك في ترك القتال ولا سبب عقليّ يتصوّر في الجبن والتولّي.

قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

التولّي : هو ترك العمل بالتكاليف بلا عذر.

أي : فلما فرض عليهم القتال وبعث الملك لهم بسؤال النبي من الله تعالى أعرضوا وتخاذلوا وجبنت نفوسهم لما رأوا العدوّ وفترت عزائمهم الا قليلا منهم ثبتوا على ما عاهدوا عليه واستمرت عزائمهم على القتال في سبيل الله تعالى.

ويستفاد من هذه الآية : أنّ إشفاق النبي عليهم في المخالفة لأجل أنّهم كانوا أهل الدّعة والعيش الرغيد وقد طلبوا الحرب بعد أن ثارت في نفوسهم الحمية الوقتية وأنفت نفوسهم من الظلم ولم يكن عن عقيدة راسخة ، والتجربة تقضي بأنّ كلّ من كان كذلك يفتر عند الحرب وينقاد إلى الطبع حين الشدة. أو كان عن وحي من الله تعالى إليه بأنّهم سيتولّون عن القتال.

وكيف كان ففي الآية المباركة العبرة العظيمة والإرشاد إلى الثبات والاستقامة على العهد والذمام وعدم الاغترار بالنفس في هيجانها وحماسها ولكنّها في الواقع لم تكن مستعدة ولم يثبت العزم فيها وإلى ذلك يشير ما ورد عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا».

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

أي : والله يعلم بالذين ظلموا من قبل ذلك ، والظلم ينطبق على التولّي عن أوامر الله تعالى وهو يوجب استحقاق العقاب عقلا ، فهذه الآية الشريفة تفيد قضية عقلية مشتملة على العلة والمعلول أي : يجازيهم على ظلمهم لأنّه تعالى عالم بصدور ذلك منهم باختيارهم فتمت الحجة عليهم باستحقاقهم العقاب ، وتسمّى مثل هذه القضية في علم الفلسفة بالقضايا التي قياساتها معها.

١٤٤

٢٤٧ ـ قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً).

طالوت : هو من ملوك بني إسرائيل ويدعى المختار ، لأنّه اختاره الله تعالى ملكا عليهم ، ليجمعهم تحت سلطة واحدة ويمنعهم عن أعدائهم.

وكان أطول من سائر الناس من كتفه فما فوق وذلك من المحاسن المأثورة لدى العبرانيين ، ففي سفر صموئيل الأول : «من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب» ولعلّه لذلك سمّي في القرآن الكريم بهذا الاسم وإلّا فإنّه يدعى في كتب التاريخ والعهد العتيق ب (شاءول).

وهو ممنوع من الصّرف للتعريف والعجمة.

وفي نسبة البعث إلى الله تعالى وتأكيده تنبيه لهم بأنّ اختيار الملك وإقامته إنّما يكون من الله تعالى وإرشاد لهم بأنّ الطلب لا بد أن يكون منه عزوجل وإن كان بواسطة النبي.

قوله تعالى : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ).

أنّى : أداة استفهام للسؤال عن الحال والمكان ، وهي تدل على تحيّرهم في اختياره ملكا عليهم مع أنّ الملك بزعمهم يجب أن يكون من بيت الشّرف والعزّة وأن يكون واسع المال ، ولم يتوفر في طالوت ذلك فكان سببا في اعتراضهم على هذا الاختيار.

ولا يختص ما زعموه بهم ، بل كلّ ملإ إذا أعرض عن الحقيقة وغفل عن قضاء الله وقدره واقتصر على المحسوس الظاهر يذعن بأمور هي مخالفة للواقع ، ففي المقام إنّهم اقتصروا على الظاهر وما اعتاد عليه الناس من أنّ الملك إنّما يكون ملكا إذا كان شريفا من بيت العزّ والشرف ذا مال يمكنه أن يؤسس ملكه عليه ويديره به وهما كانا منتفيين في طالوت ولذا اعترضوا على اختياره.

وقال بعض المفسرين : إنّ سبب إنكارهم أنّهم كانوا من أولاد لاوي أو

١٤٥

بهوذا اللذين اجتمع فيهما النبوة والملك وطالوت كان من أولاد بنيامين وأنّه كان فقيرا معدما.

ولكن ذلك غير صحيح :

أما الأول : فإنّ طالوت كان من أولاد شمعون كما في سفر التكوين ـ ٤٦ / ٩ أو من بني قهات كما في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاح السادس : ٣٤ ولم يكن من أولاد بنيامين بل هذا هو بولس الرسول الذي كان اسمه شاءول أيضا كما هو مذكور في كتب التاريخ وسيأتي في البحث التاريخي مزيد بيان لذلك.

كما أنّ الملوكية لم تكن في بني إسرائيل قبل طالوت وهو أول ملك فيهم فكيف كانت في أولاد يهوذا.

وأما الثاني : فإنّ المذكور في كتب التاريخ أنّه لم يكن فقيرا معدما بل حصل جانبا من ثروة أبيه وظاهر الآية الشريفة يدل على أنّه لم يكن واسع المال وهو أعم من الفقر ، وأنّهم أحق بالملك لأنّهم الملأ من بني إسرائيل أصحاب عزّة وشرف وقد جبّل في نفوسهم إنكار من لم يكن مثلهم في العزّة والشرف والغنى.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ).

الاصطفاء : الاختيار أي : اختاره لتدبير شؤونكم وإصلاح أموركم وتحقيق طلباتكم.

ويستفاد منه : أنّ الملوكية مزية خاصة يجعلها الله تعالى في بعض الأفراد لما فيه من الاستعداد والقابلية للتصدي لها. وفيه رد لمزاعمهم وأنّ الفضل ما فضله الله تعالى والشريف من شرّفه عزوجل. والملك هبة ربانية ومنحة إلهية يمنحها لبعض عباده ولو كان خاملا حسب الحكمة المتعالية.

قوله تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).

البسطة : السعة ، أي : أعطاه الله سعة في العلم وعظم الجسم وهما

١٤٦

صفتان ينبغي وجودهما في كلّ ملك وقائد ، فإنّ بالأول يدير النظم ويدبر الأمور وهما يتطلبان معرفة المصالح والمفاسد والعلم بخصوصيات الإدارة فإنّ الملك عبارة عن تدبير الرعية واستقرار السلطة عليهم بما يوجب وصولهم إلى الكمال اللائق بهم.

وبالثاني يمكن بسط نفوذه وهيبته في المجتمع وتحقيق إرادته وسلطته وهذه الآية تشير إلى ما هو القوام في كلّ ملك ورأي من العلم والشجاعة وأحدهما مكمّل للآخر فإنّ بالأول تساس الرعية بالصلاح وبالأخير يجلب الأمن والأمان في البلاد.

ومن ذلك يستفاد : أنّه لا دخل للمال ولا الشرف في الملك بل الملوكية الحقة تستلزم إيجاد المال لتدبير الملك.

قوله تعالى : (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ).

حصر للملكية به تعالى وحده وبيان أنّ جميع المناصب الدنيوية تحت مشيته المباركة وإرادته المقدسة ، فهو الذي يفيض الملك على من يشاء ويمنعه عمن يشاء وليس لأحد الاعتراض عليه فهو السبب المطلق ، وتبيّن ذلك عدة آيات منها قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران ـ ٢٦].

فلا يمكن أن ينال الملك بالمكر والحيلة والخديعة والكذب ، فإنّ الخلق عباد الله ولا يرضى لعباده ذلك.

هذا إذا كان الملك من قبل الله تعالى لأوليائه وأصفيائه قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص ـ ٦٨] ، وأما الملك الظاهري الدنيوي فإنّه أمر اعتباري يدور مدار تحقق أسبابه ولكنّه أيضا لا بد أن ينتهي إلى قضاء الله وقدره اللذين يعمان كلّ ممكن ولكن رضاه وارتضاءه أخص منهما.

وهذه الإرادة والمشيئة وإن كانت مطلقة إلا أنّه تعالى لا يفعل ذلك

١٤٧

جزافا من غير حكمة بل هو الحكيم العليم يفعل وفق الحكمة المتعالية يراعي في أفعاله صلاح العباد وكمالهم ويدل على ذلك أيضا عدة آيات.

كما لا يفيض فيضا على أحد إلا بالأسباب الظاهرية فإنّه تعالى : «أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها» وتشهد لذلك الأدلة العقلية ، ولهذا اعتبر سبحانه في الملك البسطة في العلم والجسم وهو الموفق بتسخير الأسباب له.

فالآية بصدرها وذيلها تبيّن أهم القواعد في النظام الأحسن فهو المفيض المطلق على العباد بما يرجع إلى مصالحهم ولكن الإفاضة لا تكون إلا بالأسباب الظاهرية لئلا يختل النظام ويعطل الإنسان عن العمل ويبطل قانون الجزاء.

قوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

أي : والله واسع في الفضل والتصرف والقدرة إذا شاء أمرا يقع لا محالة ولا يمنعه شيء.

عليم بوجوه الحكمة يفعل بما تقتضيه الحكمة في كلّ مقام.

والواسع من أسمائه الحسنى يستعمل في كلّ جهاته المتصوّرة فيه جل شأنه ذاتا وصفة وفعلا ولهذا اللفظ سعة استعمالية يستعمل في الواجب والممكن الجوهر والعرض. وإذا أطلق عليه سبحانه وتعالى يراد به أنّه ليس له حد محدود.

وقد قرن لفظ (واسع) بالعلم في عدة آيات ، ولعله كناية عن السعة العلمية لجميع ما سواه ويستلزم ذلك السعة الوجودية والغناء عن كلّ شيء واحتياج الكلّ إليه أي : فوق ما نتعقله من معنى السعة لأنّ العلم عين الذات فإذا كان للذات سعة فيكون العلم كذلك ، ولكن لا يمكن درك هذه السعة.

فكما أنّ أسماء الله المقدسة توقيفية لا بد في إطلاقها عليه جل شأنه من ورود الإذن من الشرع وليس لأحد استعمال كلّ لفظ فيه جلّت عظمته وإن كان مدحا ، فكذلك المعاني في تلك الأسماء الواصلة إلينا من الكتاب والسنة

١٤٨

المقدّسة وليس للعقول تحديدها بما تتعقّلها فهو جلّت عظمته واسع في جميع شؤونه وجهاته فوق ما نتعقله من معنى السعة ولهذا كان الأولى تحديدها بالمعنى السلبي أي : لا يحده ولا يعجزه شيء. وإنّما التحديد يكون في المتعلّق. ولا نقص في العقل إن عجز عن درك ذلك بل كمال العقل الاعتراف بالتقصير والعجز أمام عظمته وكبريائه تعالى.

٢٤٨ ـ قوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ).

الآية : هي العلامة الظاهرة والحجة المعروفة الدامغة. والتابوت : صندوق من الخشب يوضع فيه ما يراد حفظه وستره.

وهذا التابوت كان له شأن كبير في بني إسرائيل ، وقد وصفه العهد العتيق بأوصاف متعدّدة غريبة ويستفاد منه أنّ له أصلا أصيلا وموقعا محترما لدى الأنبياء بل كانت أمة موسى (عليه‌السلام) يتبركون به ويتوسلون إليه في الشدائد ويغلبون به على أعدائهم.

ويقال : إنّه الصندوق الذي وضعت أم موسى ابنها فيه بعد ولادته وألقته في اليمّ بوحي من الله تعالى كما حكى الله قصتها في القرآن الكريم.

وروي أنّ بني إسرائيل كانوا في مأمن به من الأخطار والشدائد تحترمهم الأمم والشعوب ما داموا مهتمّين باحترام التابوت وتعظيمه وبقدر احترامهم تلك الآية الربانية كانوا معزّزين محترمين حتّى عصوا واستخفوا به فغلبوا على أمرهم وانتزع منهم فوقع فيهم الأحداث وتشتت جمعهم ثم رده الله تعالى إليهم تحمله الملائكة.

وذكر بعض المفسرين : أنّ الأصل في هذا التابوت النزعة الوثنية التي كانت عند بني إسرائيل التي عرفوها من أيام المصريين الوثنيين.

ولكن ذلك باطل نشأ من الجهل بالتاريخ ، بل المستفاد من الأدلة الواصلة إلينا أنّ التابوت من المقدسات الدينية التي كانت محترمة حتّى عند الأنبياء كغلاف المصحف الشريف الذي هو مقدّس عند المسلمين لكونه حاويا

١٤٩

لأعلى المعارف الإلهية وأسناها وكل مقدّس ديني ـ كالحجر الأسود مثلا ـ إذا استهين به يرفعه الله تعالى بلا فرق بين أمة وأمة أخرى ، ولم يلاق المسلمون ما لا قوه إلا من جهة استهانتهم بالقرآن الكريم وما أنزله الله تعالى وقد ورد في بعض الأخبار «لتتبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتّى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» وتشهد به التجربة أيضا وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بالتابوت.

ويستفاد من الآية الشريفة : أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به نبيهم عليهم فجعل لهم علامة تدل على أنّ طالوت مختار من قبل الله تعالى ومؤيد منه وستتحقق به أمانيهم وترد إليهم عزّتهم وشوكتهم ووحدتهم فيكون التابوت من أدلة صدق ذلك الملك كما هو كذلك في جميع الدّعاوى ، لأنّ نسبة التابوت في أمة موسى (عليه‌السلام) كنسبة المقدّسات الدينية في سائر الأديان السّماوية فإذا ظهر على يد أحد وهو يعمل بما فيه يكون ذلك دليلا على صدقه.

قوله تعالى : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

السكينة : من السكون ، ويراد منها ما تسكن إليه النفس فقد تكون موهبة ربانية كالحكمة توجب سكون النفس وقوة العزيمة تنبث على الجوارح والجوانح فتصدر الأفعال والأعمال وفق الحكمة والشريعة قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [الفتح ـ ٤].

وقد تكون السكينة مكتسبة مما أنزله الله تعالى من الأحكام والمعارف ، لأنّها توافق الفطرة فتطمئنّ النفس إليها وتبتعد عن الاضطراب والشكوك والأوهام.

وكان التابوت يشتمل على ألواح موسى (عليه‌السلام) وما أنزل الله تعالى على أنبياء بني إسرائيل وقد رأوا منه العجائب والغرائب في حياتهم في سلمهم وحربهم ، فأوجب فيهم السكينة واطمينان القلب وربط الجأش وغيرها

١٥٠

من الصّفات الحميدة وما ورد في الروايات من أنّ فيها ريحا هفافة من الجنّة كلّها مصاديق وإشارات إلى ما يوجب السكون.

ولا ريب في أنّ هذه السكينة بأيّ معنى أخذت تشتمل على لطيفة ربانية هي معجزة ، فتكون بمنزلة الروح بالنسبة إلى الأجساد كما يسمّى القرآن والوحي السّماوي روحا قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى ـ ٥٢] ، وقال تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [المؤمن ـ ١٥] ، وإدراك هذا الرّوح يختص بمن كان مؤمنا له الأهلية لذلك ، وهذا هو المستفاد مما وصل إلينا من النصوص.

قوله تعالى : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ).

آل الرجل : خاصته ، ويطلق على الفرد تعظيما كإطلاق الأمة عليه. وآل موسى وآل هارون نفسهما ومن يتبعهما في العمل بما أتيا به ، وهذا الإطلاق صحيح لا ريب فيه.

وبقية آل موسى وآل هارون : تشمل البقايا الجسمانية والمعنوية وآثار النبوة كعصا موسى وبعض ثياب الأنبياء (عليهم‌السلام) التي كانوا فيها يعبدون الله تعالى ويجاهدون في سبيله عزوجل لإزالة الشرك والعدوان والألواح وغيرها من الآيات.

وهي موجودة كسائر آثار الأنبياء (عليهم‌السلام) ولا تقدر الطبيعة على إزالتها وفنائها وإنّها باقية مدى الدّهر وستظهر إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ).

جملة حالية من يأتيكم. وهي تدل على أهمية التابوت وعظمته وفيها إشارة إلى أنّ التابوت بمكان من القداسة لا يليق بكلّ يد أن تلمسه لما فيه من السّكينة من الله فإنّه لا يمسّه إلا المطهّرون من الأقذار المعنوية والظاهرية لا سيّما في شريعة موسى (عليه‌السلام) التي بنيت على التشديد ولذلك كانت

١٥١

تحمله الملائكة ولم يكن أحد يرى الملائكة إلا أنبياء الله تعالى وأصفياؤه وهم الأقلون.

وقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية الشريفة ما لا يليق بكلام الله تعالى وقداسة هذه المأثرة النبوية الخالدة فإنّ أغلب ما ذكروه هو من الإسرائيليات التي وردت في العهد القديم وهي غير سليمة من التحريف.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أي : إنّ في الإخبار بأنّ طالوت جعل ملكا وإتيانه بالتابوت الذي فيه السكينة وآثار النبوة وغير ذلك علامة مشخصة على أنّه منصوب من الله تعالى إن كنتم من المؤمنين بالله وآياته لا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإنّهم لا تنفعهم آيات الله تعالى ودلائله ، إذ المنافق عرف بالجحود واللجاج فلا ينفعه البرهان والاحتجاج.

وفي الآية الشريفة دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم الآية على صدق دعواه.

٢٤٩ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي).

فصل الجنود : إخراجهم عن مقرهم والسير إلى الحرب. والفصل يأتي بمعنى القطع والمفارقة ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام ـ ٥٧] ، كما أنّ منه مفارقة المكان قال تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) [يوسف ـ ٩٤] ، ومنه الفصل المعروف في العلوم لانقطاع ما قبلها عما بعدها.

والجنود جمع جند وهو : بمعنى المجتمع القوي من كلّ شيء ، وسمي العسكر به لتزاحم الأفراد فيه وقوتهم. وفي الكلمة دلالة على كثرة عددهم.

والابتلاء : الاختبار قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة ـ ١٢٤].

والنّهر : مجرى الماء الفائض وجمعه أنهار ، والنّهر ـ بفتحتين ـ لغة في النهر بالفتح والسكون ، والنّهار : الوقت الذي ينتشر فيه الضوء ، فالفيضان

١٥٢

والانتشار مأخوذ فيهما لكن الأول في الماء والثاني في النور.

والشرب معلوم : وهو تناول الماء بالفم وبلعه.

والمعنى : فلما ملك طالوت وجنّد جنوده من بني إسرائيل خرج بهم عن معسكرهم وقال لهم : إنّ الله يمتحنكم في طريقكم بنهر ليبين المطيع من العاصي.

ويستفاد من الآية الشريفة : أنّ بني إسرائيل بعد أخذ المواثيق من نبيهم وفوا بما قاله لهم واتخذوا طالوت ملكا عليهم فنظّم الجنود ورتبهم حسب درجاتهم ومراتبهم واستعرضهم ليعرف مقدار استعدادهم وأرشدهم إلى الحقّ واختبرهم ، لمعرفة الرّوح المعنوية فيهم وتمييز الثابت على إيمانه والحافظ لذمامه عن غيره.

وأضاف الاختبار إلى الله تعالى ليعظم ذلك في قلوبهم ، ولأنّه ولي الجميع ومن عنده النصر والظفر ، وكان إبلاغ الاختبار قبل وقته لتتم الحجة به عليهم ، ولا بد أن تكون الظروف والحالات هي التي أوجبت أن يكون الاختبار بالشرب من النهر حتّى يكون مناسبا لحالهم ، وقد ورد في التاريخ : أنّهم كانوا في مفازة وكان الوقت حارا فشكوا قلة الماء فابتلاهم الله بالنهر وشرب الماء منه ، كما هو مذكور في الآية الشريفة.

ويمكن أن يكون المرشد له إلى هذه الأمور هو النبي الذي نصبه ملكا على بني إسرائيل ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) لأنّ مخالفة الأمر توجب سلب الانتساب عن المخالف فيسلك حينئذ في مسلك العدو.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي).

الطعم : تناول الغذاء ونسبته إلى الطاعم كنسبة الأكل إلى الآكل ، وقد يطلق على ما يتناول أيضا قال تعالى : (وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) [المائدة ـ ٩٦] ، ويطلق الطعام على البرّ كثيرا كما في الاستعمالات الفصيحة ففي

١٥٣

الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في صدقة الفطرة : «صاع من طعام أو شعير».

وتستعمل المادة في شرب الماء على الطعام إما لأجل التغليب أو لأجل أنّ طعم الماء لا يدرك غالبا إلا في هذه الحالة ، وقد أطلق على ماء زمزم أيضا كما قال نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّه طعام طعم وشفاء سقم».

ولا يختص الطعام بالجسمانيات بل يشمل المعنويات أيضا ، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أبيت عند ربّي فيطعمني ويسقيني ربّي» وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أيضا : «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب ، فإنّ الله يطعمهم ويسقيهم» وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [عبس ـ ٢٤] ، أي : إلى علمه عمّن يأخذه.

والمراد به في المقام : الذوق ، أي : ومن لم يذقه فإنّه من أصحابي وسيكون معي.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).

الغرفة ـ بالضم ـ : المقدار الذي يتجمع في الكف ، والاغتراف : الأخذ من المائع باليد ونحوها ، والاستثناء من الشرب ، فيكون المنهي عنه هو الشرب بحيث يرتوي الشارب إلا من أخذ غرفة بيده.

والآية تدل على أنّ الامتحان كان بالشرب بحيث يرتوي من الماء فالذين شربوا منهم كذلك هم الخارجون الذين تبرأ منهم ، ومن لم يشرب كذلك كان من المؤمنين المطيعين وهذا القسم على درجات في الصبر فمنهم من لم يتذوق الماء أصلا وهم على أكمل وأعلى درجات الإخلاص والاعتماد على الله تعالى ، ومنهم من اغترف الماء بيده فقط وهم أدنى من الطائفة السابقة في الإيمان والصّبر.

قوله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً).

أي : فخرج أكثرهم من الابتلاء عاصين إلا قليلا منهم وفوا بما عاهدوا

١٥٤

الله عليه وقد ثبت فيهم الإيمان وهذه الطائفة قليلون في كلّ عصر ، ولا بد أن يجتاز الإنسان الامتحان ليعرف المؤمن الخالص عن غيره قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت ـ ٣] ، فليس كلّ من يدّعي الإيمان يكون صادقا في إيمانه إلا إذا خرج من الامتحان الإلهيّ مطيعا ثابتا. وامتحاناته تبارك وتعالى كثيرة لا حدّ لها ولا حصر يمتحن بها عباده حسب الاستعداد ومراتب الإيمان.

واختلفوا في عدد الذين ثبتوا معه والمروي أنّ عددهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ويأتي في البحث الروائي ما يتعلّق به.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ).

الطاقة : القوة والقدرة. وجالوت هو القائد الفلسطيني المشرك الذي أذل اليهود وأخرجهم من ديارهم والضمير في (جاوزه) يرجع إلى النّهر.

والجواز : التخطي والمفارقة عن المكان قال تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) [يونس ـ ٩٠].

أي : فلمّا تخطّى طالوت وجنوده المؤمنون به النّهر قال بعضهم لبعض : لا قدرة لنا على محاربة جالوت وجنوده لكثرة عددهم وعدتهم.

ويستفاد من تعقيب هذه الآية بعد الامتحان بالكيفية السابقة أنّ المغترفين هم الذين قالوا هذا الكلام لأنّهم لم يكونوا على اليقين الذي عليه الطائفة التي لم تطعم الماء أبدا.

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ).

الظن يستعمل في القرآن الكريم بمعنى اليقين ، وبمعنى مطلق الرجحان ، وبمعنى الوهم ، والفارق القرائن وتقدم في آية (٤٦) ما يرتبط بالمقام.

١٥٥

وقيل : إن استعمل مع (أنّ) المؤكدة يكون بمعنى اليقين ، ويمكن أن يكون ذلك قرينة.

وهو في المقام : بمعنى اليقين ، والقرينة على ذلك ملاقاة الله تعالى أي : غلبهم الشوق إلى لقاء الله تعالى واستيقنوا بالموت الذي يرفع به الحجاب عنهم وعن ملاقاة ربّهم فيجازيهم.

وهذه هي الطائفة التي لم تطعم من الماء ولم يغترفوا منه.

قوله تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ).

الفئة : الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض.

والإذن بالنسبة إليه عزوجل : يستعمل في العلم والقدرة والإرادة ، والأولان من صفات الذات والأخيرة من صفات الفعل ، فيستعمل الإذن في كلّ من صفات الذات وصفات الفعل وإن كان استعماله في الإرادة أغلب.

والعلم والقدرة والحكمة وإن كانت مفاهيم مختلفة لكنها بالنسبة إليه تعالى ترجع إلى شيء واحد ، لأنّ علمه جلّ شأنه عين ذاته الأقدس ، وقدرته العليا ترجع إلى علمه وكذا الحكمة ، وأما إرادته فإنّها عين فعله والفعل منبعث عن العلم والحكمة ، فيرجع الجميع إلى شيء واحد ، والفرق بينها في القرآن العظيم يستفاد من القرائن التي منها سياق الآية المباركة بملاحظتها مع نظائرها.

ويستفاد من الآية الشريفة : أنّ كثرة الجنود أو القوى الدافعة ليست بأنفسها منشأ للغلبة ، بل هي من بعض الأسباب الظاهرية والسبب الحقيقي إرادة الله جلّت عظمته ، والأدلة العقلية والنقلية ، بل التجربة تدل على ذلك ، وفي الكلام احتجاج على الخصم لإقناعه ببيان بعض المصاديق.

قوله تعالى : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وعد منه عزوجل بالمعية مع الصابرين ، وهذه المعيّة معيّة قيّومية لا يعقل معها الهزيمة فإنّها من الخلف.

١٥٦

وفيه بشارة للصابرين بالجزاء الجميل وتلقين الجنود الصّبر والثبات عند تقلب الأحوال وتوارد الأهوال فتزداد شوكتهم وتشتد عزائمهم.

٢٥٠ ـ قوله تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

مادة (برز) تأتي بمعنى : الظهور في الفضاء ، والظهور من الأمور الإضافية ، له مراتب كثيرة ، وهو إما تكوينيّ كقوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف ـ ٤٧] ، أو اختياري كقوله تعالى : (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) [النساء ـ ٨١] ، ومنه مبارزة الصفوف للقتال ، والمقام منه أو تسخيري مثل قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [ابراهيم ـ ٤٨].

والإفراغ : الصب السيال بحيث يخلو المحل منه ، وأصل الفراغ الخلو ، شبّه الصّبر بالماء الذي في وعاء وهو كناية عن كمال الصّبر ونهايته ، فطلبوا إفراغه عليهم.

والمراد منه : إفاضة الصّبر عليهم بتمامه.

والتنكير فيه لأجل شمول أنحائه من القتل والجرح والجوع وفراق الأهل والأحبة وغير ذلك.

ومادة (ثبت) في أي هيئة استعملت تدل على اللزوم والاستقرار فهي ضد الزوال والمحو في جميع استعمالاتها وهي كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد ـ ٣٩] ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء ـ ٧٤] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد ـ ٧] ، وقال جلّ شأنه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [ابراهيم ـ ٢٧] ، إلى غير ذلك مما هو كثير في القرآن والسنة الشريفة والعرف ، والمراد به الاستقامة في الحق.

وثبوت الأقدام الذي هو الفاصل بين الإنسان وغيره والاستقامة من أعلى منازل السالكين إلى الله عزوجل ، وهي أول مقامات السير في الربوبيّة

١٥٧

العظمى المطلقة والأحدية التي لا يعقل تحديدها بحد.

والنصرة : العون ، واللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران ـ ١٢٦] ، وقال تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) [آل عمران ـ ١٦٠] ، والنصير من الأسماء الحسنى.

والمعنى : ولما ظهر طالوت وجنوده المؤمنون في ساحة الحرب والقتال مع أعدائهم جالوت وجنوده لجأوا إلى الله تعالى يطلبون منه الصّبر في الوغى والثبات على الحق والجهاد والعون والنصرة على القوم الكافرين ولم يعتمدوا على أنفسهم مهما بلغوا في الإيمان والطاعة.

وإنّما قدّموا الصّبر على الثبات والنصرة لأنّ بالصّبر يتحقق الثبات على الحق وبه تتحقق النصرة على الأعداء فيكون ترتب النصر على الاستقامة من قبيل ترتب المعلول على العلة ، فهم راعوا الترتيب الطبيعي.

وقد لوحظ في الآية الشريفة ما هو المطلوب في أدب الدعاء وهو أمور :

الأول : استعمال لفظ (الرّبّ) فإنّه يدل على قربه مع مربوبه ومعيته معه ، وقد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلق به وقلنا : إنّه يستعمل في دعوات الأنبياء ومن يتلو تلوهم عند انقطاعهم إلى ربّهم.

الثاني : طلبهم جميعا العون والثبات والنّصر منه تعالى ، قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ* وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [آل عمران ـ ١٤٧].

الثالث : مراعاة الترتيب في كيفية الدعاء كما ذكرنا وتدل على كل واحد من هذه الأمور السنة الشريفة.

١٥٨

٢٥١ ـ قوله تعالى : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ).

الهزم والدفع والحطم والكسر والخرم نظائر ، والفرق بينها بالاعتبار ، ويمكن أن يجعل الجامع الفصل والقطع ، ولم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلا في موضعين أحدهما المقام والثاني قوله تعالى : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) [ص ـ ١١].

والمراد بإذن الله هنا : إرادته القاهرة الغالبة في استجابة دعوتهم وهزيمة عدوّهم.

وإنّما قدّم سبحانه الهزم مع أنّه يكون بعد قتل جالوت عادة للدلالة على سرعة استجابة دعائهم ، فإنّ الدّعاء حين تحقق الابتلاء أقرب إلى الاستجابة لانكسار القلوب وتوجهها إلى الواحد الأحد المحبوب ، وإنّ النصر حليف ثبوت الاستقامة والجد والاجتهاد ، والأخبار في ذلك متواترة عن نبينا الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وآله الطّاهرين (عليهم‌السلام).

قوله تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ).

أخر ذكر القتل ليكون ما ذكره عزوجل لداود من الفضائل على وتيرة واحدة ونسق متحد ، فإنّه أبلغ في التمجيد ولبيان عظم النعمة عليه.

والمراد بالملك الملك الظاهري ، كما أنّ المراد بالحكمة الملك المعنوي سواء أريد بها النبوة ، أو المعارف الإلهية.

وحكمة داود وآله معروفة في السير والأحاديث ، وقد ورد فيها : «أنّ زبور داود كان مائة وخمسين سورة كلّها مواعظ وحكم وتمجيد ليس فيها حكم من الأحكام» وقد علّم سبحانه داود فصل الخطاب وما يتطلبه الملك والحكم والإدارة والتدابير الظاهرية.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).

الآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية الواقع في النوع

١٥٩

الإنساني ، كما تذكر وجها من وجوه الحكمة في مشروعية القتال والجهاد مع أعداء الله تعالى.

والمعنى : ولو لا دفع الله أهل البغي والشر والظلم بأهل الصّلاح والإيمان لعمّ الطغيان والفساد الأرض وأهلها ، ويفسد المجتمع الإنساني باستيلاء أهل الشرور والآثام.

والآية تبيّن حقيقة من الحقائق وهي أنّ فساد النوع الإنساني يوجب فساد الأرض وما عليها بالتبع كما أنّ صلاح الأرض إنّما يكون بصلاح أهلها ، ويدل على ذلك آيات متعدّدة مثل قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف ـ ٩٦].

وذلك لأنّ الله تعالى خلق الأرض وما فيها من القوى المادية الطبيعية وجعل بينها تجاذبا طبيعيا تسير وفق النظام الأحسن وحكمة متعالية لا يمكن التخلف عنها ، وهي تتحرّك نحو الكمال المعدّ لها ، فلو اختلت هذه الوحدة المجعولة بينها لاختل النظام الكوني ونتج منه خلاف المطلوب هذا بالنسبة إلى النظام الكوني.

وأما بالنسبة إلى الإنسان الذي خلقه فوق هذه البسيطة وسخر له عالم المادة بجميع أجزائها وجزئياتها ليتمتع بها وقد جعله مختارا في أفعاله يفعل وفق إرادته ولكنّ الله تعالى أنزل التشريعات السّماوية وأودع العقل في الإنسان ليهديه إلى سبل السعادة ويرشده إلى الكمال الذي يتوخاه في سعيه ، ولا يمكن الوصول إلى السعادة إلا بالاتحاد والتعاون بين أفراد المجتمع الإنساني وباختلال تلك الوحدة يغلب الفساد على النوع ومن ثمّ يسري إلى الأرض التي سخرها له ، وإنّما تختل الوحدة في النوع الإنساني لغلبة أهل الشر والفساد على أهل الصّلاح والإيمان ويعم الظلم أرجاء العالم ولا يمكن رفعه الا بدفع أهل الشر والفساد والغلبة عليهما ليمكن إعادة الوحدة بين الأفراد وتتحقق السعادة بها ، فهي إنّما تقوم على أساس المغالبة بين الأفراد والا كانت إرادة كلّ فرد من أفراد المجتمع هي الملزمة ولا يمكن للآخر دفعها وفي ذلك

١٦٠