مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أهل البيت (ع)
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٦

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأول : أنّ الإجمال في الصلاة الوسطى وعدم تعيينها بالخصوص لأجل أهمية شأن الصّلوات فإنّ المحافظة عليها كلّها توجب الإصابة بالوسطى منها قهرا ، فيكون كالإجمال في الاسم الأعظم ، وليلة القدر ، وساعة الاستجابة في يوم الجمعة فيهتم الإنسان بجميع أسمائه تعالى حتّى يصيبه وكذا في ليالي شهر رمضان أو ساعات يوم الجمعة.

الثاني : إنّما خص الله تعالى الصّلاة الوسطى زائدا على سائر الصّلوات بالفضل ، لأنّ المحافظة بالوسطى تستلزم المحافظة على طرفيها أو باعتبار وقتها لأنّ وقت الظهر ـ كما في صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) ـ له أهمية كبرى كما مر.

الثالث : أنّ التعبير بالقيام في قوله تعالى : (قُومُوا لِلَّهِ) يدل على لزوم نصب العبد نفسه للعبادة لله تعالى والخضوع له والاستقامة في ذلك والرعاية فيها حق الرعاية بلا اختصاص لها بحالة دون أخرى.

الرابع : أنّ اللام في قوله تعالى : (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) للغاية حتّى يكون

١٠١

القيام ـ أي : مطلق الحركات والسكنات في كلّ عمل ـ له جل شأنه فهو الغاية القصوى صلاة كانت أو غيرها بناء على ظاهر السياق ، وهذا هو معنى قصد القربة المعتبر في كلّ عمل عبادي على ما فصّله الفقهاء في العبادات وغيرها.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) توقيفية العبادات وتوقيفية أسمائه المقدسة ، لأنّ ذكره تعالى لا بد أن يكون باسمه وصفاته عزوجل فقط.

السادس : يدل قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) على أنّ تكليف الصّلاة مطلقا يدور مدار وسع المكلّف وعدم العسر والحرج وأنّ تغيير التكليف بحسب الحالات يكون بيد من كان أصل التشريع بيده كما ثبت ذلك في علمي الفلسفة والكلام.

١٠٢

بحث روائي

في تفسير العياشي عن زرارة ومحمد بن مسلم أنّهما سألا أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قول الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قال (عليه‌السلام) : «صلوة الظهر وفيها فرض الله الجمعة وفيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل خيرا إلا أعطاه الله إياه».

أقول : المأثور عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) في روايات كثيرة أنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة الظهر ، وادعى شيخ الطائفة الإجماع عليه ، وقوله (عليه‌السلام) : «فيها» أي في صلاة الظهر لأنّ الجمعة والظهر واحدة حقيقة وإنّما سقطت ركعتا الجمعة ، لمكان الخطبتين فليستا حقيقتين مختلفتين.

وفي الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) : «عما فرض الله عزوجل من الصّلاة فقال (عليه‌السلام) : خمس صلوات في الليل والنهار. فقلت : فهل سماهنّ وبينهنّ في كتابه؟ قال : نعم قال الله تبارك وتعالى لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ودلوكها زوالها ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سماهنّ وبينهنّ ووقتهنّ وغسق الليل هو انتصافه ، ثم قال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فهذه الخامسة ، وقال الله تعالى في ذلك : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) فطرفاه المغرب والغداة و (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وهي صلاة العشاء الآخرة ، وقال الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وهي

١٠٣

صلاة الظهر ، وهي أول صلاة صلّاها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهي وسط النهار ، ووسط صلاتين بالنهار : صلاة الغداة وصلاة العصر. وفي بعض القراءات «حافظوا على الصّلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قال : ونزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في سفره فقنت فيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : وتركها على حالها في السفر والحضر ، وأضاف للمقيم ركعتين وإنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام».

أقول : قوله (عليه‌السلام) «في بعض القراءات» لا بد أن يكون المراد قراءة غيرهم (عليهم‌السلام) وإنّما ذكر ذلك لبيان أنّ كون الوسطى صلاة الظهر منقولا عن غيرهم أيضا ، ولكن في نفس القراءة أيضا بحث لأنّه يمكن أن يكون محاذرة من الوقت وأهله فيكون الحكم الأول هو المتبع.

في تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنّه قرأ «حافظوا على الصّلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين».

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قريب منه ، ولكن فيه «وكذلك كان يقرأها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)».

أقول : إنّه يحتمل أن يكون قوله «صلاة العصر» من القرآن فتكون صلاة الوسطى الظهر ، ويستفاد أهمية صلاة العصر أيضا ، كما يحتمل أن يكون تفسيرا للصلاة. لا أن يكون قراءة للقرآن ، ويدل عليه أنّ الجمهور نقلوا في مجامعهم «صلاة الوسطى : صلاة العصر» ومع تعارض القراءتين وعدم ترجيح في البين فالحكم هو التخيير لو لم نقل بكون الوسطى هي الظهر أرجح من جهات كثيرة.

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنيع ، والنسائي ، وابن جرير وغيرهم من طريق الزبرقان : «أنّ رهطا من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت وهم

١٠٤

مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى؟ فقال : هي الظهر ، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال : هي الظهر ، إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصلّي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لينتهينّ رجال أو لأحرقنّ بيوتهم».

أقول : تقدم في التفسير ما يدل عليه أيضا ، ولكن بإزاء ذلك روايات مختلفة مروية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من طرق الجمهور. منها ما يدل على أنّها صلاة العصر ، ومنها ما يدل على أنّها صلاة الصبح ومنها غير ذلك. ومع التعارض لا يصح الأخذ بأحدها بالخصوص ، ولكن تقدّم أنّ الترجيح مع ما يدل على أنّها صلاة الظهر.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قال (عليه‌السلام) : «إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء».

أقول : تقدّم في التفسير أنّ من معاني القنوت الرعاية ، وما ورد في الرواية يكون من باب التطبيق.

وفي المجمع في قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قال : «هو الدعاء في الصّلاة حال القيام ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام)».

أقول : إنّ ذلك من باب التطبيق فلا تعارض في البين أصلا.

وفي الكافي عن عبد الرّحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) قال : «كيف يصلّي؟ وما يقول إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلّي؟ قال (عليه‌السلام) : يكبّر ويومي إيماء برأسه.

أقول : يدل على ذلك الإجماع ونصوص أخرى وهي تدل على تبدل

١٠٥

الصلاة إلى الأبدال الاضطرارية حسب ما تقتضيه الظروف.

في الفقيه عنه (عليه‌السلام) أيضا قال : «تكبّر وتهلّل ، تقول : الله أكبر ، يقول الله : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

أقول : تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.

وفي الفقيه أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) : «إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصّا أو سبعا فصلّ الفريضة وأنت على دابتك».

أقول : المسألة محرّرة في الكتب الفقهية فلا مجال لذكرها هنا.

١٠٦

بحث عرفاني

يستفاد من هذه الآية الكريمة وأمثالها كمال العناية بشأن الصلاة لأنّ فيها إضافة إلى عالم لا نهاية له في الجلال والجمال والإفضال إضافة اختيارية يظهر أثرها على أفعال الجوارح والجوانح توجب عظمة المضاف وارتفاع درجاته ومقاماته المعنوية الأبدية لا سيّما إذا كان المضاف إليه داعيا لإيجاد تلك الإضافة ومرغبا إليها فإنّه من سنخ تعلق المحبوب بحبيبه. ففي الصّلاة هذا السّر المعنوي الذي تدركه العقول بحقائق الإيمان لا الحواس الظاهرة التي في الإنسان.

فالصّلاة هي العمود النوري المتصل بين الحيّ القيوم والعبد الذي هو في معرض الحوادث والآلام ، ولذا أمرنا بالاستعانة بها إذا أهمنا أمر. قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة ـ ٤٥] ، وكانت الأنبياء (عليهم‌السلام) إذا دهمهم أمر استعانوا بالصلاة.

والصّلاة علامة الإيمان بالله تعالى وبها وبقرينتها الزكاة تتحقق الأخوة الدينية ، قال تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة ـ ١١].

وإنّ تاركها من الكافرين ، فعن نبينا الأعظم : «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». وإنّ تركها يوجب الحسرة العظمى في الدار العقبى ، قال

١٠٧

تعالى حكاية عن أهل سقر : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر ـ ٤٤] ، وإنّ إهمالها وتضييعها وقطع تلك الرابطة التي بين العبد والباري يوجب ارتكاب المعاصي واتباع الشهوات ، قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم ـ ٥٩].

والصّلاة هي آية الإنسانية الكاملة لأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر فتتحقق بها التخلية عن الرّذائل وتتجلّى فيها الفضائل فيكون المصلّي المحافظ عليها هو الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه جميع الصّفات الحسنة.

والصلاة هي الرادع الباطني في الإنسان تمنعه عن ارتكاب الجرائم والآثام ، وتوقظ الضمير الإنساني فيردعه عن ركوب الشهوات وتضييع الحقوق فيعظم الحق ويكبر عليه تركه إلى غير ذلك من الصفات الحميدة والآثار الرفيعة التي لو أردنا ذكرها لما وسعه المقام.

وقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) على إيجازها تكفي في الاهتداء إلى عالم النور العالم الذي يرى فيه الإنسان آثار أعماله بل يجد فيه حقيقة نفسه وفطرته ، ويلتذ بما يشاهد من مقامه الرفيع.

وهو يعم جميع أوامر الله جل جلاله وأحكامه المقدسة ويرشد إلى ترك نواهيه حتّى يصير الفرد من الله وإلى الله ، وتنهدم فيه الأهواء النفسانية ولا يبقى في نفسه سوى حبه جلّ شأنه وهذا الإطلاق موافق لإطلاق قول نبينا الأعظم «إنّما الأعمال بالنيّات» وتقتضيه أذواق المتألهين والعرفاء الشامخين ، ولعل أولياء الله تعالى وأحبّاءه اقتبسوا من هذه الآية الشريفة ما أبرزته قلوبهم عند مناجاتهم لخالقهم منها ما نسب إلى الحسين بن عليّ (عليهما‌السلام) : «إلهي أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتّى لم يحبوا سواك ولم يلجؤا إلى غيرك ، وأنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم ، ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك». وما ذكره (عليه‌السلام) من أهم آثار القيام لله من كل جهة قانتا له

١٠٨

وخاضعا لربوبيته ، فالقيام بامتثال أوامر الله تعالى وترك نواهيه والاستقامة فيه غاية آمال المخلصين والعارفين به تعالى.

وهذه الآية المباركة من أهم الآيات التي تحن إليها قلوب ذوي البصائر والأحلام ، وتزل دون الوصول إليها الأقدام إلا من عصمه العليم العلام.

١٠٩

سورة البقرة

الآية ٢٤٠ ـ ٢٤٢

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

الآيات المباركة تتمة لما جاء في الآيات السابقة في أمر الطلاق والعدة.

والآية الأولى تبين حكم الزوجة أثناء عدة الوفاة ولا بد من ملاحظتها مع ما ورد في ما سبق من الآيات فيها أيضا. ويبيّن عزوجل في الآيتين الأخيرتين وجه الحكمة في إنزال الأحكام الإلهية والشرايع الدينية.

١١٠

التفسير

٢٤٠ ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً).

أي : والذين يتمون مدة حياتهم ويشرفون على الوفاة ويتركون أزواجا وقد تقدم مثل هذا التعبير في آية (٢٣٥) فراجع ما ذكرناه هناك.

قوله تعالى : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ).

كلمة وصية مفعول مطلق لمقدّر أي : يوصون وصية. ومتاعا منصوب بفعل مقدّر أي : يمتعون أزواجهم متاعا. وجملة : (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل من متاعا بدل البعض من الكل.

وقيل : إنّ متاعا بدل من وصية بمعنى الموصى به (غَيْرَ إِخْراجٍ) صفة المتاع ليعم السكنى.

والمعنى : والذين يموتون ويتركون أزواجا ليوصوا وصية لأزواجهم ويمتعوهنّ متاعا تمام مدة الحول المبتدإ من حين الوفاة من غير إخراج لهنّ من البيوت.

ويمكن أن يكون تعريف الحول لأجل كونه مدة الحداد في الجاهلية فنزلت الآية توصي الأزواج أن يمتعوهنّ في مدة الحداد مالا يتمتعن به في بيوت الأزواج من غير إخراجهنّ منها.

١١١

ويحتمل أن يكون تحديدا شرعيّا لهذا الحكم ولم تكن مدة الحداد لعدة الوفاة فإن شاءت أن تبقى في بيت زوجها فلها الإنفاق والسكنى.

وعلى الاحتمال الأول تكون الآية المباركة منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث وهذا هو المشهور بين الفقهاء والمفسرين ، ويدل عليه بعض النصوص ، وهو من حسن التدبير في جعل القانون بأن يقرّر جاعله بعض القوانين السابقة ثم ينسخها بالتدريج والإمهال فإنّ في ذلك الوصول إلى المطلوب مع جلب القلوب.

وعلى الثاني فلا نسخ في البين بل هو حكم أدبي نظير قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة ـ ١٨١].

وإذا كان نسخا فهو لوجوب الوصية وأما رجحانها فلا نسخ فيه وهذا هو الظاهر من الآية الشريفة وقد تقدم في آية ١٨١ من هذه السورة ما يرتبط بالمقام.

قوله تعالى : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ).

أي : فإن خرجن من بيوت أزواجهنّ من عند أنفسهنّ بلا جبر وإكراه فلا إثم عليكم ـ على أهل الزوج وعشيرته ـ فيما فعلن في أنفسهنّ من حيث الزواج أو ما تختار بحسب المعروف وما يوافق حالهنّ لأنّ ذلك حق لها يجوز تركه.

وإخراج الزوجة من بيت زوجها المتوفّى إما أن يكون جبرا وعلى كره منها أو يكون بالتماس منها أو يكون برضائها بلا إكراه والتماس والمتيقّن من الآية الشريفة على فرض عدم النسخ هو الأول ، لما ذكرنا.

والآية المباركة في مقام الترخيص لهنّ في استعمال ما هو المعروف سواء كان في الزواج أو استعمال الزينة ولكن بشرط أن تنقضي أربعة أشهر وعشرا إن قلنا بعدم نسخ الآية.

١١٢

قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أي : والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه حكيم يراعي في أحكامه مصالح العباد.

٢٤١ ـ قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

المتاع : ما يتمتع به وهو يدور في المقام بين أن يكون المراد منه المتعة التي تقدمت في آية (٢٣٦) أو المهر كما في آية (٢٣٧) أو نفقة المطلقة الرجعية والأخير هو المتيقن ، لأنّ الأولين يستلزمان التكرار كما لا يخفى وإنّ ذكر المطلق وإرادة بعض أفراده قسم من الاستخدام الذي هو من المحسنات البديعية فيكون المراد من قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) مطلق الحق الشامل للواجب والمندوب ولما هو أدبي محض والخصوصيّات تعلم من الجهات الخارجية من باب تعدد الدال والمدلول.

وذكر المتقين ليس من باب التخصيص بل لبيان أنّ المتقين أهل للايتمار وللإشعار بأهمية هذه الصفة.

٢٤٢ ـ قوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

المراد من الآيات في القرآن الكريم : ما يفرق به بين الحق والباطل ، وكل ما ينزله تبارك وتعالى حق ، لما أثبتوه بالأدلة القاطعة أنّه جلّ شأنه حق محض بذاته وجميع صفاته وأفعاله وما ينسب إليه.

ولعلّ في المقام : في معنى التعليل أي يبينها لكي تعقلوا وترتفع بذلك نفوسكم عن حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية الكاملة ، ويستفاد من هذه الآية الشريفة أمور :

الأول : أنّ العقل بذاته لا يكفي في نيل السعادة والوصول إلى الكمال إلا أن يؤيد من عالم الغيب والحق المطلق فيكتسب من ذلك نورا يمشي به في ظلمات المادة.

الثاني : أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ غاية إرسال الرسل وإنزال الشرايع

١١٣

الإلهية ليست إلا لأجل تعقل الإنسان وتفكره في أنّه لماذا ، وإلى أين مسيره ومال أمره ، وهل أنّ عمله دليل على أنّه من السعداء أو يدل على أنّه من الأشقياء ، ويشير إلى ذلك ما ورد عن علي (عليه‌السلام) : «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» فإنّ ما سوى ذلك وهم زائل وخيال محض لا حقيقة له في الدنيا فضلا عن الأخرى.

الثالث : أنّ ما أنزله الله تعالى إنّما يرجع نفعه إلى الإنسان والله هو الغني المطلق.

الرابع : أنّ التعقل النافع هو التعقل في آيات الله تعالى من حيث الإضافة إليه عزوجل ليعرف بذلك الخالق والمعبود ، وأما التعقل في ذوات الأشياء من حيث هي فإنّ فطرة الإنسان داعية إلى ذلك لا يحتاج إلى ترغيب منه عزوجل.

١١٤

بحث روائي

في تفسير العياشي عن معاوية بن عمار قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال (عليه‌السلام) : منسوخة نسختها آية : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ونسختها آية الميراث».

وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير في قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ـ الآية ـ قال (عليه‌السلام) : «هي منسوخة قلت : وكيف كانت؟ قال (عليه‌السلام) : كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث ، ثم نسختها آية الربع والثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها».

أقول : قد ورد في عدة روايات عن الأئمة الهداة (عليهم‌السلام) أنّ هذه الآية منسوخة وهي على فرض النسخ لا يضرها تقدم آية عدة الوفاة في التلاوة لما ذكرنا في أحد مباحثنا أنّ التقدم والتأخر والتقارن لا يعتبر كلّ ذلك في النسخ.

ثم إنّ النسخ في المقام لا يستلزم أن يكون بالنسبة إلى أصل التشريع بل يجوز أن يكون بالنسبة إلى الوجوب والإلزام ويبقى أصل التشريع وحسنه

١١٥

بحاله وبذلك يمكن أن يرتفع الاختلاف بين الكلمات وقد تقدم في التفسير ما ينفع المقام فراجع.

في الكافي عن حفص البختري عن الصادق (عليه‌السلام) : «في الرجل يطلق امرأته أيمتعها؟ قال (عليه‌السلام) : نعم أما تحب أن يكون من المحسنين أما تحب أن يكون من المتقين!!».

أقول : هذه الرواية عامة تشمل جميع المطلقات سواء كنّ مدخولا بهنّ أولا ، وسواء فرض لهنّ المهر أولا ، وهو أيضا أمر ممدوح ويشهد له قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) في قول الله عزوجل : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال : متاعها بعد ما تنقضي عدتها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، وكيف لا يمتعها وهي في عدتها ترجوه ويرجوها ويحدث الله عزوجل بينهما ما يشاء؟ قال (عليه‌السلام) : إذا كان الرجل موسعا عليه متع امرأته بالعبد والأمة. والمقتر يمتع بالحنطة والزبيب ، والثوب ، والدراهم ، وإنّ الحسن بن عليّ (عليهما‌السلام) متّع امرأة له بأمة ولم يطلّق امرأة إلا متعها».

أقول : كلّ ذلك يدل على الرجحان وأنّ متاع المطلقة من محاسن الأخلاق ومن الحقوق المجاملية. وأما استفادة الوجوب بنحو الإطلاق فمشكلة فلا بد من مراعاة القرائن الخارجية ، وقد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق بذلك.

١١٦

سورة البقرة

الآية ٢٤٣

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣))

الآية الشريفة في أسلوبها الرائع وبلاغتها الخلابة تبيّن آية من الآيات الإلهية التي وقعت في الأمم السابقة للعبرة والموعظة. وقد ذكرها سبحانه وتعالى في ختام آيات الأحكام لتثبيت ما ورد فيها من الأحكام التي لوحظ فيها مصلحة الفرد والنوع وتوطئة لما يأتي من الآيات التي تدعو إلى بذل النفس والإنفاق.

وترشد الإنسان إلى الرجوع إلى الله تعالى في مواضع الخطر وأنّ الموت والحياة بيده جلّ شأنه وأنّ الحذر لا يقي القدر.

وتبيّن أنّ جميع التدبيرات الأرضية مقهورة تحت إرادة السماء وهي التي تحفظ الإنسان من جميع الشرور والأخطار فيجب شكره تعالى ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون.

١١٧

التفسير

٢٤٣ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ).

ألم أداة استفهام تستعمل في مقام التعجب ولم تأت في القرآن الكريم غالبا إلا وهي معدّاة ب (إلى) وإن كانت هي في نفسها متعدية فيستفاد منه أسلوب خاص يستعمل في الأمثال.

والرؤية في المقام بمعنى العلم حيث نزّل علم المخاطب بما فيه من الإيمان واليقين أو ما عليه من الظهور منزلة الرؤية بالبصر.

والديار جمع الدار وهي المنزل وتستعمل في البلد أيضا بل الدنيا والآخرة يقال الدار الدنيا والدار الآخرة قال تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل ـ ٣٠] ، وقال تعالى : (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد ـ ٢٤].

والمراد بجملة : (وَهُمْ أُلُوفٌ) هو الكثرة الموجبة للاستغراب ويضرب به المثل للكثرة.

ومادة (حذر) تأتي بمعنى الاحتراز عما يخاف منه ، ولها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران ـ ٢٨].

١١٨

وهو إما مفعول له أي : خرجوا حذر الموت ، أو مفعول مطلق أي : يحذرون الموت حذرا.

والخطاب وإن كان موجّها إلى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لكن يراد به الأمة أيضا وكلّ من بلغه لأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واسطة الفيض.

والمعنى : ألم تعلم أيّها الرسول أو من يبلغه الخطاب إلى حال الذين خرجوا وهم على كثرة تثير الدهشة والعجب فرارا من الموت. ولم يبيّن سبحانه وتعالى سبب الموت في المقام هل هو مهاجمة الأعداء أو شيء آخر.

قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ).

تعبير عن الإرادة التكوينية بالأمر بالموت لبيان تمام قدرته ونفوذ أمره وهذا لا ينافي أن يكون الموت بسبب من الأسباب الطبيعية كالطاعون ـ على ما ورد في الأخبار ـ أو الغرق أو استيلاء الأعداء ونحو ذلك. ثم أحياهم بعد موتهم للعيش إما إتماما للحجة أو لأجل اعتبار الأمم اللاحقة من ذلك ، أو لبيان تمام قدرته ونحو ذلك من المصالح لأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

ولعلّ عدم ذكر إحدى تلك المصالح في المقام كما هو دأب القرآن في بلاغته في غير المقام أيضا لبيان الشمول وعدم انحصارها بأمة بل يمكن أن تجري في جميع الأمم ويرشد إلى التعميم قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) في ذيل الآية المباركة وفضله يعم ما سواه تعالى من الوجودات والعدميات مطلقا ولا يختص بشيء دون آخر ولا قوم مخصوصين.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).

الفضل هو الزيادة الممدوحة عن حد الإقتصاد والاستحقاق ، وجميع عطاياه تبارك وتعالى ومواهبه فضل ، وما سواه مفتقر إليه عزوجل بالذات وبجميع الشؤون وما كان كذلك كيف يعقل فيه الاستحقاق على الله تعالى.

إلّا أن يقال إنّه تعالى يجعل الاستحقاق لعباده على نفسه وهو الذي يفضل عليهم في هذا الجعل كما يظهر من مواضع متعددة من القرآن الكريم

١١٩

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ـ ١١١] ، ومن المعلوم أنّ كلّا من المشتري وملكه وقدرته وأوصافه حتى صفة الاشتراء ترجع إليه تعالى بنحو الاقتضاء وجميع ذلك فضل منه عزوجل فهو تعالى يعرّف عباده قدرته ويحوطهم بألطافه ، ويجللهم برحمته ونعمائه ، ويرشدهم إلى مواعظه وأحكامه.

والفضل والجود والرحمة مفاهيم مختلفة وهي من صفاته الحسنى فإنّه تعالى جواد رحيم ذو الفضل ، فالمفاهيم وإن كانت مختلفة لكنّها متصادقة فيه عزوجل ، والفرق إنّما يكون بالاعتبار.

ولعلّ الفرق أنّ الرحمة والجود يعمّان جميع الموجودات ، والفضل يختص بالإنسان ، هذا إذا لوحظت الرحمة بالمعنى العام وأما إذا لوحظت بعنوان الرحمانية والرحيمية فقد تقدم الفرق بينهما في أول سورة الفاتحة.

وإنّ فضل الإنسان لا بد أن يرجع إلى كمال عقله العلمي والعملي وتأدبه بآداب الله وتخلّقه بمكارم الأخلاق فإنّه حينئذ يدوم بدوام الحيّ القيوم وما سوى ذلك كظلّ زائل ونجم آفل.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وضع الظاهر (النّاس) موضع المضمر لبيان أنّ الأكثر من جميع الناس لا الطائفة السابقة الذين أحياهم الله تعالى.

وهذه هي الأكثرية المذمومة في جملة من الآيات الشريفة الذين وصفهم عزوجل بأوصاف مختلفة قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنعام ـ ٣٧] ، وقال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) [غافر ـ ٥٩] ، وقال تعالى : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الفرقان ـ ٥٠] ، إلى غير ذلك من الآيات.

وشكر الله واجب عقلي وما ورد في الآيات إرشاد إلى حكم العقل وإتمام الحجة ليصح الجزاء ثوابا على الفعل وعقابا على الترك.

١٢٠