تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

وهو صادر بعد حين؟ ألا ترى الى المنشئات الوضعية فى باب المعاملات كالملكية والحرية وامثال ذلك ، انما تقتضى حصول مضامينها من حين حصول الانشاء ، وجريان الصيغة الانشائية ، لا ما قبل ذلك كما هو ظاهر.

لانه يقال : نعم ما ذكرت جيد متين ، إلّا انه فرق بين المقام ومقام الانشاء الوضعى ، فان المقام من قبيل الحكاية التى يحكيها الراوى عن الامام (ع) او المروى عنه عن الواقع ، وفى مثله يجوز الاعلام بكون الشىء محرما ، مثلا من بدو الامر الى ختمه ، فيصادف ذلك زمان العام من حين صدوره ، ويقع التعارض بينه وبين العام فى جميع ازمنته قبلا وبعدا ، وهذا بخلاف غير هذا المقام الذى يكون انشاء الملكية فيه ، ويكون حكما وضعيا ، فانه انما يترتب الاثر من حين الانشاء ، ضرورة انه يستحيل تقدم المنشا على انشائه لانه كتقدم المعلول على علته.

هذا كله فيما علم تاريخ الخاص ، واما اذا كان مجهول التاريخ ، واحتمل وروده قبل العام وبعده ، وعلى تقدير الثانى يحتمل وروده من قبل حضور وقت العمل بالعام ، ويحتمل وروده بعده ، فإن كان الخاص دالا على تقدم حكمه ازلا بنى فيه على التخصيص ، اذ لا يخرج واقع امره عن واحد من الفروض المحتملة فيه ، والحكم فى جميعها البناء على التخصيص دون النسخ ، واما اذا كان الخاص غير ناظر الى الازلية فيجيء فيه احتمال النسخ ، اذا كان واردا بعد حضور وقت العمل بالعام ، واحتمال التخصيص ، اذا كان واردا قبل حضور وقت العمل بالعام ، او قبل ورود العام ، وحيث لا معين لاحد الاحتمالين ، كان الواجب الرجوع الى الاصول العملية فأفهم واغتنم ، والحمد لله.

٤٦١

«حول المطلق والمقيد»

«المقصد الخامس فى المطلق والمقيد ، والمجمل والمبين.»

«فى تعريف المطلق والفرق بين المذهبين فيه»

«فصل : عرف المطلق بأنه ما دل على شايع فى جنسه». والظاهر ان المراد من الجنس فى هذا التعريف بمعنى السنخ الذى يعم الصنف والنوع ، ولا يختص بإصلاح اهل الميزان والمعقول ، كما ان المراد من الشيوع فيه ، احتمال انطباقه على القليل والكثير من افراده ، وهل هذا الشيوع معتبر فى حقيقة معناه وضعا ، او هو مستفاد منه بالقرينة العقلية المسماة بمقدمات الحكمة؟ فيه خلاف ذهب المشهور الى الاول وذهب سلطان العلماء الى الثانى (١) وتوضيح الكلام فى هذا النزاع ، ان يعلم ان الماهية المتعقلة فى عالم الذهن ، لا بد وان تكون محدودة بحد هو اما حد التجرد عن التقييد ، او حد التقييد ، فمثل رقبة ان لوحظت بما هى رقبة بلا اعتبارها سارية فى تمام الافراد او بعضها ، كانت محدودة بحد التجرد المعبر عنه باصطلاح شيخنا العلامة دام علاه بالماهية الفاقدة ، وهذه الماهية المحدودة ، بمنزلة الفرد الخارجى المحدود بحدود الشخصية ، فكما ان الفرد خارجى يكون مصداقا عن كلية المعرى عن قيد التشخص ، كذلك الماهية المحدودة ، تكون مصداقا من كليها الغير المحدود بواحد من حدى التجرد والتقييد ،

__________________

(١) ـ شرح معالم الدين «للمولى محمد صالح المازندرانى» ويليه حاشية سلطان ص : ٢٧٤.

٤٦٢

وبعبارة اخرى من حدى الفقدان والوجدان ، فكما ان زيدا فرد ومصداق من الانسان الكلى فكذلك الرقبة الملحوظة مجردة او مقيدة بقيد السريان او الايمان ، هى مصداق من الرقبة المهملة الغير الملحوظة بواحد من لحاظى التجرد والتقييد ، فهما من هذا الوجه يتساويان ويتشاركان ، وان كانا يفترقان من ان زيدا جزئى حقيقى لا يكاد ينطبق على القليل والكثير ، بخلاف الرقبة ، فانها تقبل الانطباق على القليل والكثير سواء اعتبرتها مجردة او مقيدة بالايمان ، ومن ثم دخلت الرقبة بهذا الاعتبار وهذا اللحاظ فى المعقولات الاولية ، بخلاف زيد فانه فرد خارجى موجود فى الخارج ، ومتشخص بخصوصية الخارجية ، فلا يكون من المعقولات ، بل من الموجودات الخارجية.

نعم الانسان الذى يكون زيد مصداقا له وفردا منه ، يندرج فى المعقولات ، وهو من المعقولات الاولية ، كما ان الرقبة الملحوظة مجردة عن القيدين ، تندرج فى المعقولات الاولية ، وهذه الرقبة بهذا الاعتبار وهذا اللحاظ هى التى صارت معركة للآراء ومحلا للخلاف بين المشهور والسلطان ، فذهب المشهور الى انها هى المعنى الموضوع له ، وذهب السلطان الى ان الموضوع له هو الماهية المهملة الغير المقرونة بلحاظ التجرد او التقييد ، وان كانت لا تنفك فى الذهن عن احد اللحاظين ، إلّا ان كلا من اللحاظين انما هو من لوازم وجودها الذهنى ، ولا يكون داخلا فى حقيقة المعنى ، ويتفرع على ذلك النزاع ان الرقبة المؤمنة التى هى مقيدة بقيد الايمان ، لو استعملت فى الكلام كانت مجازا عند المشهور ، لخروجها عن الشيوع الى خلافه ، وحقيقة على مذهب سلطان العلماء ، لانها فرد من افراد الماهية المهملة المسماة فى اصطلاحهم باللابشرط المقسمى ، فى قبال

٤٦٣

الماهية اللابشرط القسمى ، وهى الماهية الملحوظة مجردة عن قيدى السريان والايمان ، فيكون محصل الخلاف بين الفريقين ان المطلق عند المشهور موضوع للماهية اللابشرط القسمى ، وعند السلطان موضوع للماهية اللابشرط المقسمى ، والماهية بالاعتبار الاول فرد من افراد الماهية بالاعتبار الثانى ، وليس لها بالاعتبار الثانى وجود مستقل فى وعاء الذهن ، وانما هو محفوظ فى ضمن وجودها بالاعتبار الاول ، او بقيد الايمان ، فالرقبة المجردة والرقبة المقيدة بالايمان كلاهما حافظان للرقبة المهملة ، وهى المعنى الموضوع له على راى السلطان ، فلم تخرج الرقبة المؤمنة عنده ، عن كونها فردا من افراد المعنى الحقيقى ، ولا يكون استعمال اللفظ فى ذلك المعنى المقيد ، الا من باب استعمال اللفظ فى معناه الحقيقى المتحقق فى ضمن فرد من افراده ، بنحو تعدد الدال والمدلول ، ومعلوم ان مثل هذا الاستعمال يكون استعمالا حقيقيا لا مجازيا ، كما هو لازم قول المشهور ، لظهور ان المقيد يغاير المجرد الذى يراه المشهور هو المعنى الموضوع له ، فلو استعمل اللفظ فى المعنى المقيد ، كان اللفظ خارجا عن معناه الحقيقى ومتجوزا به عن معناه الاصلى ، فيكون اللفظ مجازا فى الاصطلاح ، لا حقيقة كما يقول السلطان قده.

فإن قلت : كيف يجوز ان يكون الموضوع له هو المعنى الاهمالى ، كما يراه السلطان؟ وكيف يكون ذلك معنى جامعا ومفهوما مشتركا بين الماهية المجردة والمقيدة؟ وليس ذلك إلّا جمعا بين اعتبارى الوجدان والفقدان؟ وهل هذا الا بعينه التناقض المحال؟

قلت : قد اشرنا آنفا الى اندفاع هذه الشبهة ، وبطلانها بما بيناه من ان الماهية الموضوع لها اللفظ ، معنى محفوظ فى ضمن كل من قسمى المجرد والمقيد ، وليس لها فى عالم الذهن وجود مستقل

٤٦٤

بحياله ، حتى يكون ذلك جمعا بين النقيضين.

فإن قلت : كيف لا يكون لها وجود استقلالى فى عالم الذهن والتصور ، وهى معنى قد وضع اللفظ بحذائها ، فان الواضع اذا اراد الوضع ، لا بد له من تصور المعنى اولا ، ثم من بعده يضع اللفظ له ، ومعلوم ان المعنى المتصور والملحوظ قبل الوضع ، هو معنى مستقل بحياله ، لخروج القيود عنه فى ذلك اللحاظ وتجرده عنها ، فيكون المعنى الموضوع له ، عاريا عن قيدى الوجدان والفقدان ، وصالحا لانطباقه على كل من الواجد والفاقد ، ولا يكون ذلك إلّا اذا فرض اشتراك المعنى بين المتناقضين وكان جامعا بينهما وهو محال.

قلت : انما يفتقر الوضع الى تصور المعنى الموضوع له اولا ، هذا التصور تارة يكون استقلاليا ، واخرى تبعيا ، ولا يجب فيه ان يكون استقلاليا خاصة ، وما نحن فيه من قبيل الثانى الذى هو التصور التبعى ، فإن الماهية لدى الوضع اذا حضرت فى الذهن وتصورها الواضع ، لم تكن خارجة عن احد الامرين ، اذ هى اما ان تكون مجردة عن قيد ، او مقيدة به ، إلّا ان اللفظ لم يوضع الا للماهية المحفوظة فى ضمن المجرد والمقيد ، فالماهية باعتبار الوضع معراة عن كل من قيدى التجرد والتقييد ، وان كانت باعتبار اللحاظ غير خارجة عن احدهما فلا تغفل.

فإن قلت : المطلق اذا كان عبارة اخرى عن الماهية المعروضة لواحد من قيدى الوجدان والفقدان ، كان من المعقولات الثانية التى لا تحقق لها فى الخارج ، فلا يجوز التمسك به فى مقام الامتثال للحكم بالاجتزاء بالقليل والكثير.

نعم هذا حسن على مذهب المشهور ، الذاهبين الى ان المطلق هو الماهية المجردة عن التقييد بالايمان او قيد السريان ، فانه بهذا

٤٦٥

المعنى يقبل الانطباق على القليل والكثير ، لكونه من المعقولات الاولية فهو كالانسان الكلى الذى يجوز انطباقه على الواحد والكثيرين من الافراد الخارجية ، لا ككلية الانسان التى هى من المعقولات الثانوية التى يستحيل صدقها على الخارجيات.

قلت : لا تنافى بين ان يكون المطلق هو ذلك المعنى المعروض ، لقيد التجرد الذى يرى غير قيده ، ويكون هو وقيده اثنين ومتعددين فى عالم الذهن ، وبين ان يكون موضوع حكم العقل بالامتثال ، هو ذلك المعنى المجرد الذى يرى مع قيده شيئا واحدا ، وهذا المعنى الثانى من المعقولات الاولية كالانسان الكلى ، يجوز انطباقه على القليل والكثير من الافراد الخارجية ، وهذا المعنى هو الذى يرومه السلطان ، حيث انه يستدل عليه بمقدمات الحكمة ، فمقدمات الحكمة تكون قرينة عقلية على تعيين المراد من مصداق المطلق ، اذ المطلق على مذهبه محفوظ فى ضمن كل من المجرد والمقيد ، ولا يختص بالمجرد كما يراه المشهور ، فاذا جيء بلفظ الرقبة معرى عن قيدى الايمان والسريان ، لزم بحكم العقل ان يكون المعنى المتصور فى لحاظ المتكلم ، هو المعنى المجرد المتحد مع قيده كاتحاد الماهية مع التشخصات الخارجية ، لانسلاب الاثنينية فيما بينهما.

والحاصل : ان الماهية المجردة انما تكون من المعقولات الثانية ، اذا انحلت الى شيئين وكانت منحازة عن قيد التجرد ، فانها بهذا الوجه وهذا اللحاظ يستحيل انطباقها على الخارجيات ، اذ ما فى الخارج ليس إلّا الواحد بلا اثنينية ، واما اذا لوحظت متحدة مع قيد التجرد وكانت واحدة ، فقد اندرجت فى المعقولات الاولية التى يجوز انطباقها على القليل والكثير ، وهذه الماهية بهذا النحو من اللحاظ والوجود الذهنى ، انما تثبت بمعونة مقدمات الحكمة ، وبالجملة

٤٦٦

الماهية المهملة لا تكون لها وجود فى الذهن ، الا بحد وذلك الحد إما ان يكون هو التجرد او التقييد ، وليس شأن مقدمات الحكمة إلّا اثبات تحديدها بالحد الاول ، وهى بهذا الحد من المعقولات الاولية التى يجوز انطباقها على الخارجيات ، فيكون استفادة التحديد بحد التجرد من القرينة العقلية على مذهب السلطان ، ومن الوضع على مذهب المشهور.

«التحقيق فى بعض الالفاظ التى يطلق عليها المطلق»

واذ تبين لك الفرق بين المذهبين بما لا مزيد عليه ، فأعلم ان المختار عندنا قول السلطان ، بشهادة التبادر والوجدان ، ولنذكر لك «: ما وضع له بعض الالفاظ التى يطلق عليها المطلق ، او غيرها مما يناسب المقام فمنها اسم الجنس كانسان ، ورجل ، وفرس ، وحيوان ، سواد ، وبياض ، الى غير ذلك من اسماء الكليات من الجواهر والاعراض ، بل العرضيات ، ومنها علم الجنس كأسامة والمشهور بين اهل العربية ، انه موضوع للطبيعة ، لا بما هى بل بما هى متعينة بالتعين الذهنى ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.»

وعمدة الاشكال فيه : ان هذا التعيين مما لا يكاد يستفاد من اسامة ، بل لا يستفاد منه الا ما يستفاد من اسد ، والظاهر ان الذى الجأهم الى ذلك ما رأوا فيه ، من جريان احكام المعرفة عليه ، وفى دلالة ذلك على ما ذكروه من اعتبار التعيين فى المعنى ، نظر ، لظهور ان مثل ذلك فى الاحكام ، يبتنى على الورود والسماع ، وليس له منشأ غير ذلك ، وما تراهم يذكرونه من بعض التعليلات النحوية فى كتبهم ، انما هى استحسانات ونكات ذكروها بعد الوقوع. «فالتحقيق انه موضوع

٤٦٧

لصرف المعنى ، بلا لحاظ شىء معه اصلا كاسم الجنس والتعريف معه لفظى ، كما هو الحال فى التأنيث اللفظى.»

وربما يشكل عليه مضافا الى ما سمعت بأن اعتبار التعيين الذهنى فيه ، ينافى انطباقه على الخارجيات فى مثل هذا اسامة مقبلا ، لامتناع انطباق المعهود الذهنى بما هو حاضر فى الذهن على الخارجيات ، الا بتجريده عن خصوصيته الذهنية ، هذا نحو من «التصرف فى المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قيده» وهو «تعسف لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه.»

وربما يمكن التفصى عن هذا الاشكال الثانى ، بأنه مبنى على ان يكون خصوصية العهدية الذهنية قد اخذت قيدا دخيلا فى معنى علم الجنس ، وليس كذلك بل انما هى اخذت مرآة لتعريف حال ذلك المعنى الذى وضع له علم الجنس ، فيكون فيها اشارة وتنبيه ، على ان معناه ليس الطبيعة بما هى هى ، بل بما هى حصة منها على وجه تكون مساوقة لتلك الخصوصية الذهنية ، بنحو خروج القيد والتقييد ، كما سمعت نظيره فى المعانى الحرفية ، وهذا معنى لا يكاد يمنعه العقل ولا يحيل انطباقه على الخارجيات ، فلو ادعاه مدع وذهب اليه ذاهب لم يرد عليه شىء غير المطالبة بالبرهان على وقوعه ، وليس ، فليس.

«فى المفرد المعرف»

«ومنها المفرد المعرف باللام» ويجىء فى المعرف بلام الجنس منه الكلام المذكور فى علم الجنس ويزيد عليه بأن البناء على معرفية اللام فيه للجنس يؤدى الى اجتماع تعريفين على معرف واحد فى قولك هذا الانسان نوع ، مشيرا الى الطبيعة النوعية ، فلا بد وان

٤٦٨

تكون اللام فيه «للتزيين كما فى لفظ الحسن ، والحسين عليهما‌السلام

ولعلك تقول لا يجوز فى اسم الاشارة ، إلّا ان يشار به الى محسوس خارجى لا ما يكون من قبيل المعانى الغير المحسوسة بالعيان ، ولكنك غفلت عن ان ذلك واقع فى كلماتهم تنزيلا منزلة المحسوس ، كما يقال : ضربنى زيد وهالنى هذا الضرب.

فان قلت : انسلاخ التعريف عن اللام ، ليس بأولى من القول بانسلاخه عن اسم الإشارة.

قلت : اسم الاشارة كاد ان يكون نصا فى التعريف ، فارتكاب التأويل فيه مستبعد جدا فلا يصار اليه بخلاف اللام.

ومنها : الجمع المحلى باللام وهل دلالته على العموم والاستغراق بالوضع او بالاطلاق؟ فيه خلاف بين الماتن قده وغيره ، وقد تقدم الكلام فيه فى بحث العموم وعرفت ثمة انه انما يدل على العموم بالوضع ، لا بالاطلاق وفاقا للمعظم وخلافا للماتن ، ووافق شيخنا الاستاذ دام علاه فى ذلك الماتن ، وهل هذه الدلالة الاستغراقية ناشية من دلالته على التعيين «حيث لا تعيين الا بمرتبة المستغرقة لجميع الافراد» او هى مستندة الى وضعه كذلك لا الى دلالة اللام على الاشارة الى المعين ليكون به التعريف؟» فيه وجهان.

٤٦٩

«فى النكرة»

«ومنها النكرة مثل رجل ، فى جاء رجل من اقصى المدينة (١) او فى جئنى برجل.»

وينبغى اولا ان يعلم ان مفهوم الواحد والوحدة ، يغاير مفهوم النكرة المبحوث عنها ، من وجوه :

احدها : ان النكرة تقيدت فيها الطبيعة بالخصوصية الخارجية ، وحيث لا تحديد لتلك الخصوصية الا بكونها واحدة لا عشرة مثلا ، كان لفظة النكرة مترددة بين كثيرين ، وليس ذلك من باب انطباق مفهومها على كثيرين حتى تندرج فى قسم الكليات ، كما هو شأن مفهوم الوحدة والواحد ، اذ الواحد مفهوم يصلح انطباقه على فرد ، كما يصلح انطباقه على افراد ، إلّا ان انطباقه على الافراد ، ليس إلّا بلحاظ آحادها ، لا بلحاظ تشكلها بالهيئة الاجتماعية ، فمثل العشرة ان اعتبرتها مؤتلفة من مجموع اعداد خاصة ، لم يصح انطباق مفهوم الواحد على اعدادها ، وان اعتبرتها مؤتلفة من آحاد كل واحد منها واحد ، كان مفهوم الواحد ينطبق على آحادها ، وهذا بخلاف النكرة فإن النكرة جزئى حقيقى لتقومها بالخصوصية الخارجية التى يستحيل انطباقها على كثيرين ، ولعل هذا هو السر فى ان جعلوا النكرة من قسم الجزئى واسم الجنس من قبيل الكلى.

ثانيها : ان الواحد مفهوم كالانسان ينطبق على افراده قليلة

__________________

(١) ـ القصص : ٢٠.

٤٧٠

وكثيرة ، بخلاف النكرة ، فانه ينحصر فى القليل ، لتخصصه بالخصوصية الخارجية التى لا تتعدى عن موردها الخاص الخارجى ، فلو قيل اكرم واحدا واتفق للمخاطب اكرامه آحادا ، كان كل واحد منها مورد الامتثال ، وتحقق الامتثال باكرام الجميع ، بخلاف ما لو قال اكرم رجلا ، فانه لو اكرم رجالا لم يعد ممتثلا الا فى اكرام احدهم لا جميعهم.

ثالثها : ان الخصوصيات الخارجية نحو الزيدية والبكرية مثلا ، خارجة عن حيز الطلب فى اكرم واحدا بخلافه فى اكرم رجلا ، فهذه الوجوه الثلث هى الوجوه الفارقة بين النكرة واسم الجنس ، وان كانا يتشاركان فى صحة جريان مقدمات الحكمة فيهما ، اذ النكرة وان لم يكن لها سعة انطباق على متكثرات افرادية ، إلّا ان ورودها بغير اقتران بحالة خاصة ، ولا شرط خاص ، يقضى بإطلاق الحكم وعدم اختصاصه بما يتوهم اختصاصه فيه.

ثم ان ما تراه من الفرق بين مثالى النكرة فى جاء رجل وجئنى برجل ، انما هو ناش من الفرق فى الكلام الاخبارى والانشائى ، لما هو المعلوم من ان الاخبار يحكى عن واقع معلوم ، بخلاف الانشاء ، فانه طلب تعلق بالمطلوب الذى لا تعين فيه فى عالم الخارج ، بل هو مردد بين افراد كثيرة ، فالفرق بين النكرتين عرضى ناش عن الخصوصية الكلامية ، لا ذاتى ، منشؤه اختلاف الحقيقة والمفهوم فلا تغفل.

٤٧١

«فى استفادة السريان من المطلق بمقدمات الحكمة»

«فصل :» المطلق كما تقدم لا دلالة له الا على الماهية المبهمة ، فيحتاج استفادة الشيوع والسريان منه الى قرينة حالية او مقالية ، وقد يستفاد ذلك من قرينة عقلية ، بملاحظة ان المتكلم اذا كان فى مقام بيان تمام مراده ، ولم يقم ما يدل على تعيين مراده ، مع انتفاء قدر المتيقن فى مقام التخاطب ، فلا بد وان يكون مراده الماهية الشائعة فى جميع الافراد ، وهذا حكم عقلى يحكم به العقل حكما جزميا ، اذا كانت المقدمات الثلث كلها جزمية ، وإلّا كان حكما ظنيا معتبرا ، لاستناده الى ظهور حال او مقال.

وربما يستشكل فى اطلاق القول بأن المقدمات ، اذا كانت جزمية كان الشيوع فى الماهية جزميا كذلك ، لجواز التفكيك بين واقع المراد وبين ما يلقى الى المخاطب ، ليكون حجة فى حقه يعمل به حتى يرد دليل على خلافه ، فإن ما يتلقاه المخاطب من المتكلم انما يكون حجة له ، وعليه اذا لم تقم حجة اقوى على خلافه ، فاذا ظفر بالمقيد ينكشف لديه حال واقع المراد ، وانه على خلاف ما القى اليه من الكلام الذى كان حجة على الاطلاق عنده قبل الظفر بالمقيد ، فجاز حينئذ تخلف الحجة عن الواقع ، ولم يكن يستفاد من المقدمات الثلث ، الا صحة الاحتجاج بالكلام على الاطلاق.

فان كانت المقدمات الثلث كلها جزمية ، كانت حجية الاطلاق المستنتجة منها جزمية ، سواء وافقت الحجة للمراد الواقعى او خالفته ، وان كانت المقدمات كلها او بعضها ظنية ، كانت حجية الاطلاق

٤٧٢

المستنتجة منها ظنية ايضا ، فمقام الحجية مقام ، ومقام الواقع مقام آخر.

ولقد اشار الماتن قده الى هذا بقوله «ان المراد بكونه فى مقام بيان تمام مراده ، مجرد بيان ذلك واظهاره وافهامه ، ولو لم يكن عن جد ، بل قاعدة وقانونا ، لتكون حجة فيما لم يكن حجة اقوى على خلافه ، لا البيان فى قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يكون الظفر بالمقيد ، ولو كان مخالفا كاشفا عن عدم كون المتكلم فى مقام البيان ، ولذا لا ينثلم به اطلاقه وصحة التمسك به اصلا فتأمل جيدا.»

ولعله اشار بأمره بالتأمل اخيرا الى امكان الخدشة فيما ذكره ، بأن كونه فى مقام بيان تمام مراده ، اذا كان مقطوعا به ومعلوما على وجه الجزم واليقين ، كان ذلك دليلا جزميا ، على ان الحكم فى واقع الامر على الاطلاق ، فاذا ورد مقيد على خلافه ، لزم طرحه او تأويله ، ولا يكون من باب تعارض الحجتين ، حتى يلتمس الاقوى منهما ، بل من باب تعارض الحجة واللاحجة ، والسر فى ذلك ان حجية الاطلاق ليس إلّا بكشفه عن مرام المولى الذى تكلم بالمطلق ، وليست حجيته منوطة بقصد الحجية ، حتى يتوهم التفكيك بين الحجية والكاشفية عن واقع الارادة ، بل ليست الحجية ، إلّا باعتبار كاشفية الاطلاق ، عن واقع الإرادة ، فاذا كانت مقدمات الكاشفية يقينية مجزوما بها ، كانت الكاشفية جزمية ايضا ، وإلّا فلا ، فحينئذ لا وجه للتفكيك ، وما تراهم من التزامهم بالتقييد بعد الظفر بالمقيد ، فانما ذلك من جهة عدم احراز المقدمات على وجه اليقين ، بل بأصل عقلائى ، وهو انما يركن اليه اذا لم يظفر بالمقيد وبعد الظفر به يجب اتباعه ، ورفع اليد عن مقتضى الاصل فيكون الظفر به كاشفا عن عدم كون المتكلم فى مقام البيان.

٤٧٣

«فى اقسام الاطلاق»

«بقى هنا امور ينبغى التنبيه عليها»

«الاول :» ان الاطلاق يختلف حاله تارة يكون اللفظ مطلقا من وجه دون وجه ، واخرى يكون مطلقا من جميع الجهات ، فإن المتكلم تارة يكون نظره فى اطلاق اللفظ من حيث الافراد خاصة ، واخرى من حيث الحالات كذلك ، وثالثة من حيث الموارد كذلك ، ورابعة من حيث الاسباب كذلك ، وخامسة من حيث الجهات كلها ، ومقتضى الاصل هو الاخير ، ما لم يكن فى الكلام ما يدل على انصراف النظر الى جهة واحدة منها ، وإلّا فالمتبع اطلاقه من تلك الجهة لا غيرها ، ويبقى اللفظ مهملا من غير تلك الجهة ، فلا يجوز التمسك بإطلاقه من غير تلك المنظور اليها ، وبهذا يفترق الحال بين قولى المشهور وسلطان العلماء ، اذ على قول المشهور لا يجوز التفكيك فى الاطلاق من حيث الجهات ، لاستناد الاطلاق عندهم الى الوضع دون القرينة العقلية ، بخلافه على مذهب السلطان فإن الاطلاق عنده مستند الى القرينة ، وهى تختلف بحسب نظر المتكلم ، فربما يكون نظره الى الاطلاق الافرادى خاصة ، فيكون اللفظ حجة فيه خاصة دون غيره من الاطلاق الاحوالى ، مثلا لو ورد سؤر الهرة لا بأس به (١) كان ذلك دليلا على طهارة سؤرها من كل هرة ، ولكن لا يدل ذلك على طهارة سؤرها ولو كان فمها متلوة بالدم ، حينما تأكل من الشىء الذى بقيته يسمى

__________________

(١) ـ مثل ما فى الوسائل ج ١ ابواب الاسئار باب : ٢ حديث : ٢.

٤٧٤

سؤرا ، لان الرواية وان كان ناظرة الى الاطلاق من حيث الافراد ، إلّا انها لم يكن لها نظر الى الاطلاق الاحوالى ، فلا يجوز التمسك بها لهذا الوجه من الاطلاق نعم لو اتفق ان حالات الافراد غالبا لا ينفك عنها الافراد ، يسرى الحكم من الافراد الى الحالات ايضا ، ويشتركان فى حكم الاطلاق الافرادى ، كما فى مثالنا هذا ، لو شك فى ان زوال عين النجاسة عن فم الهرة مطهر لفمها او لا؟ فانه يجوز البناء على مطهريته ، اخذا بهذا الاطلاق الافرادى المفروض تحققه فى هذه الرواية ، لان مثل هذه الحالة فى الهرة غالبية لا تنفك عنها ، الا نادرا ، فانها لا تزال تأكل الفأر والطيور ويتلوث فمها بالدم ثم يزول عينه عن فمها ، فلو لا ان يكون زواله مطهرا لفمها ، لكان الاطلاق فى نفى البأس عن سؤر الهرة ، منزلا على النادر ، من افراد الهرة التى لا تأكل الفار والطيور ، وهذا قلما يتفق فى افراد الهرة ، فلا بد فرارا عن تنزيل الاطلاق على النادر من افراده ، من ان يرتكب التعميم فى نفى البأس ، من غير فرق بين الافراد والحالات فتأمل حقه.

«فى عدم افادة الاطلاق عما كان القيد من لوازم الافراد»

«الثانى» : قد عرفت ان الحمل على الاطلاق ، يفتقر الى امور : منها انتفاء ما يدل على تعيين المراد بذكر القيد ، كمؤمنة فى اعتق رقبة مؤمنة ، فانه اذا ذكر اللفظ خاليا عن مثل هذا القيد ، وجيء بالرقبة مجردة عن قيد الايمان ، وكان المتكلم فى مقام البيان ، كان ذلك حجة على اطلاق الحكم فى الرقبة ، من غير فرق بين كونها مؤمنة او كافرة ، لكن هذا انما يتجه لو لم يكن القيد من لوازم الافراد المحكومة بالحكم ، وإلّا فلو كانت الافراد لا تنفك عن ذلك القيد ولو عادة ،

٤٧٥

لم يكن فى تجرد اللفظ عن ذكر القيد ، دلالة على اطلاق الحكم وشموله لصورتى وجود القيد وفقده ، فلو كان زيد من عادته الوضوء فى جميع اوقاته ولا تنفك عن الطهارة عادة ، وامر بالصلاة اذا دخل المسجد ، لم يكن فى مثل ذلك الامر الخالى عن اشتراط الطهارة ، دلالة على اطلاق الحكم ، ولا يجوز التمسك به للقول بجواز الصلاة فى المسجد بلا طهارة ، ومن هذا الباب الاحكام المتعلقة بالمشافهين لو قيل باختصاص الخطاب بهم ، فانه لا يجوز الاخذ باطلاقها حتى يحكم بانسحابها الى الغائبين ، بدليل اشتراك التكليف بينهم ، اذ من الجائز ان يكون ذلك الحكم مشروطا بشىء لا ينفك عن المشافهين ، مثل تشرفهم بحضور الامام عليه‌السلام ، او كونهم فى زمانه «ع» ، وانما لم يذكر ذلك الشرط معتبرا فى الحكم للاستغناء عن ذكره بملازمتهم له «ع» او كونهم فى زمان الحضور ، مثل ما ورد فى اخبار الترجيح من الامر بالارجاء حتى تلق امامك (١) فتدبر جيدا.

«وهم ودفع»

«الثالث :» قد ذكرنا فى صدر المبحث ان من شرائط التمسك بالاطلاق ، انتفاء تحقق القدر المتيقن فى مقام التخاطب ، وربما يستشكل فى اطلاق هذا الشرط ، فيقال : ان المتكلم تارة يكون فى مقام بيان تمام مرامه بما يورده من الكلام المشتمل على المطلق ، او مع غير ذلك الكلام ولم يكن له غرض فى تفطن المخاطب والتفاته الى ان ذلك الشىء المفهوم من الكلام هو تمام مرامه ، واخرى يكون

__________________

(١) ـ الوسائل ج : ١٨ ابواب صفات القاضى باب : ٩ حديث : ١.

٤٧٦

فى بيان تمام مرامه فى خصوص ما يورده ويذكره من الكلام المشتمل على المطلق ، ولم يكن له غرض فى تفطن المخاطب الى ان ذلك هو تمام مرامه ، وثالثة يكون فى مقام بيان تمام مرامه بخصوص ما يذكره من الكلام المشتمل على المطلق ، ويكون قد تعلق غرضه بأن يتفطن المخاطب ، ويلتفت الى ان ذلك هو تمام مرامه ، ولا يتم هذا الشرط الا على الفرض المذكور فى الصورة الثانية ، اذ على الفرض الاول لم يعتبر فى القدر المتيقن المانع من التمسك بالاطلاق ، ان يكون متيقنا فى مقام التخاطب ، بل كل متيقن ثبت تيقنه من حاق حقيقة الكلام ، او من خارجه يكون قادحا فى الاخذ بالاطلاق ، اذ لا يلزم منه منافاة للغرض لو كان ذلك المتيقن تمام مراد المتكلم ، فلو كان للكلام مثل هذا المتيقن الذى اقتضاه ظاهر الخطاب او غيره لم يجز البناء على اطلاق الحكم فى مثل ذلك الكلام ، فلا يتجه فيه اعتبار التيقن فى مقام التخاطب كما هو مبنى الشرط المذكور ، كما انه على الفرض الاخير لا يكون وجود المتيقن ، مانعا عن التمسك بالاطلاق ، ولو كان ذلك المتيقن متيقنا فى مقام التخاطب ، اذ لو كان تمام المراد واقعا هو ذلك المتيقن ومع ذلك لم ينبه المخاطب بأنه تمام مراده ، لكان ذلك منافيا لغرضه ، فلا بد وان يستكشف عن عدم التنبيه والاعلام ، بأن الحكم مطلق لا يختص بالقدر المتيقن الثابت تيقنه من ظاهر الخطاب ، او من غيره ، هذا حاصل ما يمكن ايراده فى المقام اشكالا على الشرط المذكور.

وفيه : ان الشرط المذكور انما اعتبر فى الكلام الخالى عن قرينة دالة على واحدة من الفروض المزبورة ، فانه اذا خلى الكلام عن القرينة ، كان الاصل فيه البناء على الاطلاق بالنحو المفروض فى الصورة الثانية خاصة ، اذ على الفرض الاول يكون الكلام غير واف بتمام

٤٧٧

المرام ، وهذا امر لا يساعده ظاهر الحال فى كل متكلم يبرز مقاصده بكلامه ، فإن ظاهر حاله يقتضى ان يكون كلامه ذلك وافيا بمقاصده التى تعلق غرضه ببيانها ، وان لا يكون له غرض إلّا بأن يبين مرامه بما يورده من الكلام ، لا به او بغير ذلك الكلام ، كما انه على الفرض الاخير يكون لاعلام المخاطب وتنبيه على ان المفهوم من الكلام هو تمام مرامه ، دخل فى الغرض المقصود فى ذلك الكلام ، وهذا مما يندر اتفاقه ، اذ قلما يتفق توقف المصلحة على ذلك ، فلم يبق إلّا ان يكون غرض المتكلم بيان مرامه بالنحو المفروض فى الصورة الثانية ، وعليه جرى بناء العقلاء فيما يتلقونه من المطلقات ، فكان ذلك اصلا عقلائيا متبعا فى موارد الشك ، وهذا النحو من البيان يقدح فيه وجود المتيقن المستفاد من مقام التخاطب ، فاتجه بذلك الاشتراط المذكور ولم يرد على اطلاقه محذور فافهم.

«فى تعارض العام والاطلاق»

«الرابع :» انه قد يذكر فى الكلمات ان العام مقدم على الاطلاق عند التعارض ، وعللوه بأن العام يدل على العموم بالوضع ، والاطلاق بمقدمات الحكمة ، وهى لا تجرى بأسرها فى المطلق اذا كان فى قباله العام ، لانثلام بعض هذه المقدمات على هذا الفرض ، لما دريت من ان من جملة المقدمات انتفاء ما يدل على التعيين والتقييد ، والعام بوضعه صالح للتقييد لكونه دليلا تنجيزيا على مؤداه غير معلق على شىء ، بخلاف المطلق فان دلالته على الاطلاق منوط على عدم ورود البيان على خلافه ، والعام صالح للبيانية على الخلاف جدا.

وفيه : انه غير تام على اطلاقه ، اذ هو انما يتم لو كان المتكلم فى

٤٧٨

مقام بيان مرامه بما يورده من الكلام الاطلاقى ، او غيره ، فانه على هذا التقدير لو ورد عام فى قبال المطلق ، كان من باب تعارض المقتضى التنجيزى الذى هو العام ، والمقتضى التعليقى الذى هو المطلق ، دائما ابدا يكون المقتضى التنجيزى هو المتقدم على التعليقى ، اما اذا فرض كون المتكلم فى مقام بيان مرامه بخصوص الكلام الاطلاقى لا غيره ، فاللازم مراعاة اقوى الظهورين ، لاستقرار ظهور المطلق بانقطاع الكلام عليه ، غير مقترن بما يدل على تقييده ، ويكون حينئذ كالعام مقتضيا تنجيزيا ، فهو والعام على حد سواء من هذه الجهة ، فإن كانت مقدمات الاطلاق كلها او بعضها ظنية كان الاطلاق دليلا ظنيا معتبرا دالا على اطلاق الحكم ، فإن ساوى العام فى دلالته تعارض الدليلان والتمس المرجح السندى او الجهتى ان كان ، وإلّا بنى على التخيير ، وان كان فى احدهما اقوائية ظهور من الآخر ، ارتكب التأويل فى الظاهر منهما لا محالة بقرينة الاظهر.

وان كان مقدمات الاطلاق كلها قطعية ، كان اطلاق اللفظ دليلا قطعيا على اطلاق الحكم ولزم ارتكاب التأويل فيما يخالفه ، نصا كان او ظاهرا عاما او خاصا ، وان لم يكن التأويل فيه يطرح ، لان الظنى لا يعارض القطعى حسب الفرض.

«فى قادحية الانصراف فى التمسك بالاطلاق»

«الخامس :» انه قد ينصرف المطلق الى بعض افراده ، فيكون ذلك قادحا فى التمسك بإطلاقه ، إلّا ان ذلك فى غير الانصراف البدوى ، فان للانصراف مراتب ثلث ، اذ هو تارة يكون على وجه غير ثابت ويكون زائلا بالتأمل ، وهذا يسمى فى اصطلاحهم بالانصراف

٤٧٩

البدوى ، ومثله لا يمنع التمسك بظاهر الاطلاق ، واخرى يكون على وجه مؤد الى تيقن بعض افراده فى الارادة ويقع التشكيك فى ارادة غيره من بقية الافراد ويسمى هذا بالمضر الاجمالى ، لادائه الى الاجمال وخروج اللفظ عن صلاحية التمسك بإطلاقه ، وان كان حجة فى القدر المتيقن بلا كلام ، وثالثة ان يكون على وجه مؤد الى تعين فرد من افراده فى الارادة ، وهذا هو المسمى بمبين العدم ، اذ فيه بيان لعدم ارادة غير ذلك الفرد المنصرف اليه اللفظ ، ومنشأ الاختلاف فى هذا النحو من الانصرافات ، اختلاف مراتب الاستعمال ، فانه ربما يغلب استعمال اللفظ فى شىء حتى يكون ثمة انس بين اللفظ وذلك المستعمل فيه ، فهو فى اول درجته ، ينصرف اللفظ الى المستعمل فيه بالانصراف البدوى ، وفى الدرجة الثانية ينصرف اللفظ اليه مع التشكيك فى ارادة غيره ، وفى الدرجة الثالثة ينصرف اللفظ اليه مع تعين ارادته ، ولا اظن ان يخفى عليك الفرق بين الاول والاخيرين عملا ، لظهور ان بناء العمل فى الاول على الاطلاق ، بخلافه على الاخيرين ، فإن بناء العمل فيهما على المنصرف اليه متعينا كان او متيقنا.

وربما يفترقان عند المعارضة فإن المطلق المنصرف بالانصراف المضر الاجمالى لو عارضه مطلق آخر يوافقه فى الحكم الاثباتى مع كشف وحدة المطلوب ، وجب الاخذ بظاهر الثانى ، لانه بظاهره حجة على غير المتيقن ، وليس فى المطلق الاول ، دلالة على عدم ارادة غير المتيقن من افراده ، فيكون ذلك من قبيل تعارض الحجة واللاحجة ، وهذا بخلافه فى المطلق المبين العدم ، اذ هو حجة على عدم ارادة غير المنصرف اليه اللفظ ، فلو ورد فى قباله مطلق آخر لا انصراف فيه الى فرد من افراده ، كان ذلك من باب تعارض الحجتين ، فيلتمس

٤٨٠