تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

على الثانى فانه يختص اشتمالها على المصلحة بحال القدرة خاصة.

ومنه ينقدح لك الحال فيما نحن فيه ، فإن الخطاب وان كان بحكم العقل مختصا بالحاضرين ، إلّا ان المولى لم يؤخذ ذلك قيدا فى متعلق حكمه ، فكان التقييد بالقدرة شىء يقتضيه العقل دون الشرع ، بل المنظور اليه فى الخطاب الذى يتضمن التكليف هو مطلق المكلفين ، حاضرين كانوا او غائبين او معدومين.

وفيه : انا لا نتعقل الاطلاق فى ناحية المادة الواقعة فى حيز الحكم ، بعد اعتبار الحكم متضيقا بحال القدرة اذ لا بد من الموازنة والمساواة بين الحكم وموضوعه ، لا بمعنى تقييد الموضوع بحكمه ، اذ ذلك مستحيل بعد فرض اختلافهما بالرتبة ، بل بمعنى ان يكون الموضوع والمتعلق على حد الحكم ، لا يزيد عليه ولا ينقص ، وانما يكون باعتباره حصة هى توأم مع الحكم ، وهكذا الحال بالنسبة الى من توجه الحكم اليه ، وكان مخاطبا بالكلام ، فانه لا بد وان يكون على حذو التكليف والحكم المتلقى من ذلك الكلام ، فان كان الحكم عاما كان المكلف به كذلك ، وان كان خاصا كان المكلف به كذلك ، فلا معنى للتفكيك بينهما ، بدعوى التضييق فى جانب الحكم واختصاصه بالحاضرين ، والقول بعمومه ملاكا وعدم اختصاصه بهم.

ولئن سلم وقلنا بذلك فى جانب المطلوب ، فلا نسلمه فى جانب المطلوب منه المكلف ، بمقتضى ذلك الحكم ، اذ غاية ما يمكن ان يقال فى وجه الاطلاق فى ناحية المطلوب ، ان التقييد بالقدرة ، تارة يكون من قبيل التقييد المتصل بالكلام ، كما لو كان ذلك القيد ارتكازيا فى الاذهان لا يكاد يخفى على السامع ، اذا سمع الكلام وخوطب به ، واخرى يكون من قبيل القيد المنفصل عن الكلام ، كما اذا فرض اختفاء القيد على وجه ، لا يلتقت اليه ، الا بعد التأمل وتدقيق النظر ، فإن كان من قبيل

٤٤١

الاول ، لم يكن ثمة اطلاق فى الحكم ولا فى متعلقه ، بخلاف الثانى فانه يمكن فيه دعوى الاطلاق وسعة المادة ، على وجه لا يكون لها اختصاص بالقادرين ، بل المصلحة فيها تعم القادر الذى توجه اليه التكليف والعاجز الذى لم يتوجه اليه.

وربما يتفق مثل ذلك فى الموارد المأخوذة فى حيز الاحكام والتكاليف ، فيكون لها اطلاق مادى ، واما بالنظر الى المكلفين ، فلا يكون الا من قبيل الصورة الاولى التى لا يكون الكلام فيها اطلاق بوجه من الوجوه ، فالتزام الاطلاق فيها من ذلك الوجه بعيد غايته ، لظهور انه عند سماع اللفظ ينتقل الذهن سريعا الى اعتبار الحضور فى المخاطب الملقى اليه الكلام ، فلا يتجه فيه دعوى الاطلاق من ناحية المكلفين ، على نحو دعوى اطلاق المادة فلا تغفل.

«فى ثمرة تعميم خطاب المشافهة»

«فصل :» ربما قيل بظهور الثمرة فى هذا النزاع ، بأنه على القول بالتعميم يكون ظهور الكتاب حجة للمعدومين ، كما هو حجة للمشافهين ، وعلى القول الآخر يختص حجيته بالمشافهين ، ورد ذلك بأن التحقيق حجية الظواهر لكل حتى من لم يكن مقصودا بالافهام ، وعليه فلا يتفاوت الحال بين القولين ، فلا ثمرة فى النزاع المذكور ، اذ بناء عليه لو قيل : باختصاص الخطاب للمشافهين ، لا يلزم اختصاص حجية الظواهر بهم ، اذ الحجية اوسع دائرة من الخطاب كما هو المختار.

وربما قيل : بظهور الثمرة بأنه على التعميم يصح التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية ، بخلافه على القول الآخر ، وانما يحتاج تسرية الحكم الى المعدومين الى التمسك بقاعدة الاشتراك ، وهى

٤٤٢

لا تكاد تجدى الا فى رفع احتمال دخل خصوصية اشخاص المخاطبين ، لا رفع احتمال دخل الصفات العرضية التى يختلف بها صنف المكلفين وحدة وتعددا.

ويرد عليه : اولا ان هذا ليس شيئا آخر وراء النزاع فى حجية الظواهر بالنسبة الى خصوص المقصودين بالافهام ، او الى الاعم من ذلك ، وقد عرفت التحقيق فى ذلك وان المختار فيه حجيته بالنسبة الى كل احد حتى الغير المقصودين بالافهام ، وعليه يجوز التمسك بالاطلاق فى حق المعدومين ايضا ، لحجية الظاهر بالنسبة اليهم ، واطلاقات القرآن الكريم نحو من الظهور ، فليكن حجة لغير المقصودين بالافهام من غير المشافهين.

وثانيا : بعد التسليم والقول بمغايرة النزاع المذكور هنا للنزاع المعروف فى حجية الظواهر ، يمكن منع الثمرة بدعوى ان التمسك بالاطلاق جائز فى حق المعدومين ، حتى على القول باختصاص الخطاب للمشافهين ، اذا لاختصاص انما يمنع من التمسك بالاطلاق فى حق المعدوم ، اذا كان المقصود منه التمسك به لتشخيص حكمه وتعيين وظيفته ، اما اذا كان المقصود منه التمسك به لتعيين وظيفة المشافهين ومعرفة ما يلزمهم من التكليف ، حتى يتسرى منهم الى نفسه بقاعدة الاشتراك ، لم يكن فى ذلك التمسك بذاك الاطلاق مانع ولا محذور ، وحينئذ تبطل الثمرة المذكورة اذ التمسك بالاطلاق جائز على كلا القولين ، قلنا باختصاص الخطاب بالمشافهين ، او لم نقل بذلك ، غاية ما فى الباب انه على القول بالاختصاص انما يتمسك به لا ثبات حكم المشافهين ، ويتسرى منهم الى المعدومين ، بقاعدة الاشتراك ، وعلى القول الآخر يتمسك به لاثبات حكم المعدومين من اول الوهلة ، من غير حاجة الى توسيط قاعدة الاشتراك ، ومجرد

٤٤٣

افتقار النتيجة العملية الى مقدمتين على قول ، والى مقدمة واحدة على القول الآخر ، لا يكاد يصلح ان يكون ثمرة لمثل هذا النزاع المحرر فى هذا الباب.

فإن قلت : فرق بين بين توسيط قاعدة الاشتراك فى التمسك بالاطلاق ، وعدم توسيطها ، اذ على الاول لو اتفق هناك صفة لازمة للمشافهين دون المعدومين ، لم يجز التمسك به فى تعيين حكم المشافهين ، اذ لا يلزم من عدم تقييد الحكم المتعلق بالمشافهين ، بالصفة اللازمة ، نقض غرض اصلا ، حتى يكون فى عدم التقييد دلالة على اطلاق الحكم فى حق المشافهين كى يتسرى منهم الى المعدومين ، ويحكم بالاطلاق فى حق المعدومين ، بخلافه على الثانى ، فان الصفة لما كانت تفارق المعدومين ، كما هو المفروض ، فلو كانت دخيلة فى حكم المتوجه اليهم بلسان المخاطبة معهم ، لكان فى تجرد الحكم عنها وعدم تقييده بها ، نقض غرض يلزم على المولى لو لم يقيد الحكم بها ، فيصح التمسك بالاطلاق فى حقهم.

وبالجملة تظهر ثمرة الفرق بين المسلكين ، فى الصفات اللازمة الغير المنفكة عن المشافهين خاصة ، فانه يجوز للمعدومين ، التمسك ، بإطلاق الخطاب على التعميم ، ولا يجوز لهم التمسك به على القول بالاختصاص ، وكفى بذلك ثمرة للنزاع المذكور.

قلت : هذا انما يتجه لو كان المقصود من مخاطبة المشافهين ، ليس إلّا بيان تكليفهم خاصة ، اما لو كان المقصود من ذلك بيان تكليفهم ، ليكون ذلك التكليف تمهيدا لتكليف غيرهم بما كلفوا به ، حتى يتساوى المشافهون وغيرهم فى التكليف ، فاللازم على المولى ان يذكر القيد اللازم ، دفعا لتوهم الاطلاق بالنسبة الى المعدومين ان يذكر القيد اللازم ، دفعا لتوهم الاطلاق بالنسبة الى المعدومين ،

٤٤٤

فإذا ما ذكره ، دل ذلك على عدم دخالة القيد فى الحكم المذكور ، وان كان هو لازم الحصول بالنسبة الى المشافهين ، ومعلوم ان ظاهر حال الشارع المبعوث الى عامة المكلفين ، يقتضى التعميم وعدم اختصاص البيان والغرض من التكليف بالمشافهين ، فلو جيء بالتكليف وذكر الحكم فى كلامه مطلقا ، كان ذلك حجة على اطلاق الحكم فى حق المشافهين ويتسرى منهم الى المعدومين بذلك النحو ، فيكون الحكم على اطلاقه بالنسبة الى المعدومين ايضا. فانقدح بذلك صحة التمسك بالاطلاق على كل من القولين ، ولم يظهر فى النزاع المذكور ثمرة علمية فأفهم واغتنم وكن من الشاكرين.

«فى تعقب العام بضمير يرجع الى بعض افراده»

«فصل : هل تعقب العام بضمير يرجع الى بعض افراده ، يوجب تخصيصه به ، او لا؟ فيه خلاف.»

وينبغى ان يعلم اولا ، ان تحرير محل النزاع بهذا الوجه غير سديد ، اذ الضمير الواقع فى تلو العام ، انما يكون من توابع العام وملحقا به ، فيكون من قبيل اقتران العام بما يصلح لتخصيصه ، فيخرج بذلك عن ظهوره فى العموم ويصير من المجملات.

اللهم إلّا ان يقال : بأصالة العموم تعبدا ، وهو على خلاف التحقيق ، وحينئذ لا يبقى مجال للنزاع المذكور ، اذ هو فرع ظهور العام على عمومه ، وعدم خروجه عنه الى الاجمال.

فالاولى تحرير محل النزاع بما لو كان فى الكلام عام ، ثم تعقب ذلك الكلام ، كلام آخر مشتمل على ذلك العام الاول بلفظه ، ولكن اللفظ الثانى يتعقبه ضمير يرجع الى بعض افراده ، ويقطع من

٤٤٥

الخارج بأن المراد من العامين واحد ، فيقع النزاع حينئذ على ان اللفظ لما كان فى كلام مستقل ، كان باقيا على ظهوره ، ويكون حجة فى مدلوله ، إلّا ان العام الثانى لما كان متعقبا بضمير يرجع الى بعض افراده ، فهل يكون مثل هذا موجبا لتخصيص العام الاول الذى كان ظاهرا فى العموم او لا؟ والتحقيق بقاء العام الاول الذى كان ظاهرا فى العموم ، على ظهوره ، ولا يكاد يسرى الاجمال من العام الثانى اليه ، لكونهما واقعين فى كلامين مستقلين ، حسب الفرض فلا تعلق لاحدهما بالآخر ، حتى يتأتى فيه احتمال السراية فافهم وتأمل.

«فى جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف»

«فصل :» اذا ورد عام كقوله (ع) : خلق الله «تعالى» الماء طهورا لا ينجسه شىء ، الا ما غير لونه او طعمه او ريحه (١) ثم ورد بعده خاص دال بمفهوم المخالفة على اختصاص الحكم ببعض الافراد ، كقوله عليه‌السلام : اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شىء (٢) فانه يدل بمفهوم الشرط على انفعال الماء الذى لم يبلغ قدر كرّ ، فهل يكون مثل هذا الخاص مخصصا للعام او لا؟ فيه خلاف.

وتحقيق القول فى ذلك ، ان العام والخاص ، اما ان يكونا فى كلام واحد او فى كلامين ، وعلى كل من التقديرين اما ان يكون دلالتهما على العموم والخصوص بالوضع معا ، او بالاطلاق كذلك ، او مختلفين ، فهذه ثمانية صور ، فان كانت الدلالة من كل منهما بالوضع ، وكانا

__________________

(١) ـ الوسائل ج ١ ابواب الماء المطلق باب : ١ حديث : ٩.

(٢) ـ الوسائل ج ١ ابواب الماء المطلق باب : ٩ حديث : ٥ ـ ومختلف الشيعة ج ١ ص : ٤.

٤٤٦

فى كلام واحد فقد تزاحم الظهوران ، فإن تساويا فى الظهور كان الكلام مجمل الدلالة من الوجه الذى اختلفا فيه ، وان كان احدهما اظهر من الآخر ، كان المتبع ذلك الاظهر دلالة ، وكذلك ان كانت الدلالة من كل منهما بالاطلاق ، فإن تساويا فى الدلالة الاطلاقية ، كان الكلام مجمل الدلالة ، لسقوط مقدمات الحكمة عن احد الاطلاقين بلا معين فى البين ، فيقع الاجمال فى ذلك الكلام ، وان اختلفا فى الاظهرية دلالة وعدمها ، كان المتبع ذلك الأظهر كما عرفت فى الاول.

واما لو كان دلالة احدهما بالوضع ، ودلالة الآخر بالاطلاق ، فلا بد من الاخذ بما له الدلالة الدلالة الوضعية ، لان دلالته على المراد تنجيزية ، ودلالة المطلق عليه تعليقية ، منوطة بعدم ورود بيان يدل على خلاف الاطلاق ، ومعلوم ان الدلالة الوضعية ، تصلح لان تكون بيانا ودليلا ، على خلاف الاطلاق ، فلا يبقى معها مجال للتمسك بالاطلاق ، سواء كان الاطلاق فى جانب العام او فى جانب المفهوم.

وان كانا فى كلامين ، فان كان المتكلم بالمطلق فى صدد بيان تمام مرامه بكلامه ذلك المشتمل على المطلق ، وبكلام آخر ، جرى فيه الكلام المذكور فيما لو كانا فى كلام واحد ، وان كان بصدد بيان تمام مرامه بخصوص ذلك الكلام المشتمل على ذلك المطلق فقط ، يجىء التعارض بين الظهورين الواقعين فى كلامين ، سواء كانا وضعيين ، او اطلاقيين ، او مختلفين ، لاستقرار الظهور ، وجاء بعد ذلك ظهور على خلافه ، كان اللازم الموازنة بين الظهورين ، ثم اتباع الاظهر منهما ان كان ، وإلّا كان الكلامان بمنزلة الكلام الواحد المجمل الدلالة بالنسبة الى ما يختلفان فيه فقط فتأمل.

٤٤٧

«فى الاستثناء المتعقب للجمل»

«فصل :» اذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، فلم يشك احد من الاصحاب فى رجوعه الى الجملة الاخيرة ، وانما اختلفوا فى تعين رجوعه اليها خاصة ، بلا ضم ضميمة سائر الجمل اليها ، او اشتراك البقية معها فى رجوعه اليها ايضا؟ وظاهر عبارة الاستثناء الواقعة فى كلامهم ، وكذا تسالمهم على رجوع الاستثناء الى الجملة الاخيرة ، هو كون النزاع ومحل الخلاف بينهم فى الاستثناء المتصل خاصة ، دون المنفصل ، اذ لم يعهد التعبير من الاخراج بكلام آخر منفصل عن الكلام الاول ، بعبارة الاستثناء ، كما انه لا ينبغى الجزم بلحوق الاستدراك الى الجملة الاخيرة ، لو كان ذلك بكلام منفصل ، لظهور ان نسبة ذلك الاستدراك المنفصل عن الكلام المشتمل على الجمل المتعددة ، الى جميع الجمل على السوية ، وليس للاخيرة منها مزية على ما قبلها فى الرجوع اليها ، فلو قال المولى : اكرم العلماء واكرم الشرفاء ، ثم قال فى كلام آخر ، لا تكرم الفساق منهم ، لم يتعين فى الفاسق ان يكون مخرجا عن الشرفاء ، وليس هو متيقن الخروج منهم ، بل كما يحتمل خروجه منهم بالخصوص كذلك يحتمل خروجه من الظرفاء او العلماء ، او من جميعهم.

وكيف كان فربما يستشكل فى رجوع الاستثناء الى الجميع ، لو كان الاستثناء متصلا بالكلام ، كما هو محل كلامهم فيه ، وذلك لان كلمة الا التى هى أداة الاستثناء ، موضوعة للاخراج بالوضع العام ، والموضوع له خاص ، فيكون كل من الاخراجات المفروضة فى ذلك

٤٤٨

الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة ، معنى مستقل بحياله لكلمة الا ، فلو بنى على رجوع الاستثناء الى كل الجمل ، لزم منه استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة ، وهو باطل جدا كما لا يخفى.

ويدفعه : ان الاخراج من الجميع يعد معنى واحدا لاداة الاستثناء لا معانى عديدة حتى يتأتى فيه الاشكال المذكور ، لظهور ان خصوصيات الاخراج ، انما تختلف باختلاف كيفياته ، فإن لوحظ المخرج والمخرج منه متكثرات انضمامية ، كان ذلك معنى واحدا من معانى الا ، وان لوحظا متكثرات انفرادية ، كان ذلك معنى آخر ، فيكون اختلاف هذين النحوين من الاخراج كاختلاف اعتبار العموم مجموعيا او استقلاليا ، ومن ثم لم يتوهم احد فى مثل أداة العموم ، لو استعملت فى استيعاب تلك المتكثرات بأحد النحوين ، ان يكون استعمالها فى ذلك من استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة ، وحينئذ اذا اعتبر الاخراج بأحد النحوين واستعمل لفظ «الا» فى احد المعينين ، كان ذلك استعمال اللفظ فى معنى واحد لا معان عديدة.

نعم لو فرض استعمال كلمة «الا» فى الاخراج بكل من الاعتبارين ، الانضمامي والاستقلالى معا ، كان ذلك من استعمال اللفظ الواحد فى معان عديدة ، واتجه الاشكال ، إلّا ان ذلك خلاف المفروض ، ولا يكاد يقتضيه رجوع الاستثناء الى كل الجمل هذا ، مضافا الى امكان منع المبنى فى وضع الاداة ، اذ هى كسائر الادوات الحرفية موضوعة بالوضع العام والموضوع له عام ، كما حققناه واخترناه فى وضع الحروف وفاقا للماتن ، وان كنا متخالفين فى كيفية اعتبار ذلك المعنى العام ، اذ هو على نظر الماتن قده يراه مفهوما منعزلا عن الخصوصيات ، منطبقا عليها انطباق الكلى على جزئياته ، وعلى مسكنا نراه مفهوما مندكا فى ضمن الخصوصيات ملحوظا معها تبعا ، كما اقمنا البرهان

٤٤٩

عليه وأوضحناه فى محله بما لا مزيد عليه ان شئت فراجع المقام هناك.

وعلى اى حال ، لو استعمل الحرف فى مثل ذلك المعنى العام ، لم يكن للمستعمل فيه ولا له ، مساس بالخصوصيات المتكثرة ، حتى يجىء فيه احتمال الشبهة والاشكال ، اذ الخصوصيات المتكثرة انما هى مرادة ومدلول عليها بدال آخر غير دلالة اللفظ الحرفى ، فلا موقع للاشكال المذكور من حيث الامكان ، على جميع الاقوال والانظار اصلا ، ولعمرى هذا أوضح من ان يخفى.

نعم ربما يقع الاشكال فى موضع البحث ، من حيث الوقوع ، فيتردد الحال فى رجوعه الى غير الاخيرة من الجمل المتقدمة ، والتحقيق انه لا دليل يدل على رجوعه الى غير الاخيرة ، إلّا ان ذلك لا يقتضى بقاء العمومات على ظاهرها من العموم ، حتى يصلح التمسك بها بالنسبة الى مورد الاستثناء «فلا يكون» غير الاخيرة من الجمل «ظاهرا فى العموم ، لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهرا فيه ، فلا بد فى مورد الاستثناء فيه من الرجوع الى الاصول» العلمية ، إلّا اذا اختلف كيفية الدلالة ، فكانت العمومات السابقة ، تدل على العموم بالوضع ، وكان المستثنى دالا على استيعاب افراده بالاطلاق وبمعونة مقدمات الحكمة ، كما لو قال المولى : اكرم كل عالم واكرم كل شريف واكرم كل ظريف ، الا الفاسق ، فانه لا ريب فى انه يجب فى مثل ذلك الاعتماد على ما تقتضيه العمومات السابقة ، من وجوب اكرام جميع العلماء والشرفاء ، من غير استثناء الفاسق منهم ، اخذا بظهورهما فى العموم ، ولا يكون تعقبهما بمثل هذا الاستثناء ، موجبا لا جمالهما فى مورد الاستثناء ، لما عرفت آنفا من ان الدلالة الاطلاقية ، دلالة تعليقية منوطة بعدم ورود ما يصلح ان يكون بيانا على خلاف الاطلاق ، والعام فى المثال المذكور صالح للبيانية ، لان دلالته على العموم دلالة

٤٥٠

تنجيزية مستندة الى الوضع ، فتكون هذه الدلالة لازمة المراعاة بلا تعليق ، ولا اناطة على شىء ، فيرفع بها اليد عما يقتضيه اطلاق المستثنى ، كما انه لو كان فرض المثال بالعكس مما ذكر ، فكان دلالة العمومات السابقة على العموم بالاطلاق ، ودلالة المستثنى عليه بالوضع ، كان اللازم مراعاة الدلالة الوضعية فى جانب المستثنى ، فيكون المتحصل من ذلك البناء على خروج الفاسق من جميع العمومات المتقدمة.

واما لو فرض دلالة كل من المستثنى وما قبله بالاطلاق ، فان كان فى احد الاطلاقين ، قوة ظهور مرجح على الاطلاق الآخر ، اخذ به وعمل بمقتضاه ، وإلّا كان الكلام مجمل الدلالة بالنظر الى مورد الاستثناء فتفطن.

«فى تخصيص الكتاب بالخبر الواحد»

فصل : اختلفوا فى جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، على قولين ، ونظر المانع الى ان الخبر طنى والكتاب قطعى ، والاول لا يقاوم الثانى.

وفيه ان الخبر وان كان ظنى السند ، إلّا انه قطعى الدلالة ، كما ان الكتاب يكون بالعكس من ذلك ، فكان كل منها ظنيا من وجه ، وقطعيا من وجه آخر ، وان شئت قلت : ان المزاحمة بين الخبر والكتاب انما هى باعتبار دلالتيهما ، ومعلوم ان دلالة الخبر حسب المفروض اقوى من دلالة الكتاب ، فلنقدم دلالة الخبر على دلالة الكتاب ، فيكون الخبر بهذا الاعتبار مخصصا لظاهر الكتاب.

وربما يتوهم المنع بالنظر الى ما ورد فى كثير من الاخبار ، من

٤٥١

طرح المخالف للكتاب ، او انه زخرف او انه لم يقله عليهم‌السلام الى غير ذلك مما يدل على هذا المعنى (١).

وفيه : ان اللازم فى مثل هذه الاخبار ، حملها على المخالفة بنحو التباين خاصة ، لا ما كان بنحو العموم والخصوص المطلق ، لظهور ان صدور المخالف كذلك واقع فى كلماتهم عليهم‌السلام كثيرا ، ولا يكاد يشك فيه احد ، كما ان ظاهر لسان الاخبار الناطقة بطرح المخالف ، آب عن التخصيص جدا ، وكذلك التقييد ، فلا مساغ فيها للقول بأنها مخصصة بغير ما علم صدوره منهم ، فلا محيص من تنزيل المخالفة فيها على ما يكون مخالفة تباينية ، لا مخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق ، وعليه لا يكون فى مثل هذه الاخبار ، دلالة على منع تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، فلم يبق شىء فى البين مما يحتمل مانعيته عن تخصيصه به ، غير دعوى ان كلا من عموم الكتاب وسند الخبر ، يفتقر الى دليل يدل على اعتباره ، وليس اعتبار الخبر بأولى من اعتبار عموم الكتاب ، فدليل التعبد بظاهر عموم الكتاب ، كدليل التعبد بسند الخبر متساويان لا ترجيح لاحدهما على الآخر ، وليس تقديم احدهما على الآخر بأولى من العكس.

وفيه : ان هذه الدعوى لا تختص بمحل النزاع ، بل هى جارية فى كل خاص تعبدى قيس الى عام آخر ، سواء كان ذلك العام من عمومات الكتاب او من غيرها ، وقد بينا فى غير المقام ان الخاص مقدم على العام بقوة دلالته ، لا بما قيل : من ان «الخبر بدلالته وسنده ، صالح للقرينة على التصرف» فى العام ، بخلاف العكس لعدم صلاحية العام لرفع اليد عن دليل اعتبار الخبر ، اذ يتجه عليه ان القرينة انما تكون

__________________

(١) ـ الوسائل ج ١٨ ابواب صفات القاضى باب : ٩ حديث : ١٠ و ١٢ و ١٥.

٤٥٢

حيث يكون اعتبار العام معلقا على عدم ورود الخاص فى قباله ، حتى يكون النسبة بينهما نسبة الورود او لا اقل من الحكومة ، وليس كذلك كما اوضحناه فى بحث التعارض والترجيح ان شئت فراجع ، بل النسبة بينهما نسبة التعارض ، وانما يؤخذ بالخاص ويقدم على العام بمناط اقوى الحجتين ، وترجيحا له على العام بحكم العقل بلزوم مراعاة الاقوى من الدليلين ، ومعلوم ان الاقوائية فى جانب الخاص دون العام فتأمل. (١)

وتوهم اقوائية الكتاب من حيث السند ، قد عرفت اندفاعه آنفا بما بيناه ، من كون المزاحمة والمعارضة المفروضة بين العام والخاص ، لم تكن إلّا بلحاظ الدلالة ، وهى فى جانب الخاص اقوى منها فى جانب العام ، فيجب مراعاتها فى الخاص بترجيحه على العام.

«فى دوران الامر بين التخصيص والنسخ»

«فصل :» اذا ورد عام وخاص متخالفان حكما ، فهل يكون الخاص مخصصا للعام ، او ناسخا لحكمه ، او منسوخا بالعام؟ فيه كلام ، وربما يفصل «بأن الخاص ان كان مقارنا مع العام ، او واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له ، وان كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا.»

اقول : هذا التفصيل يبتنى على مقدمتين غير مسلمتين عندنا.

إحداهما : قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يصلح الخاص الوارد بعد حضور زمان العمل ، ان يكون مخصصا للعام ، وإلّا لزم

__________________

(١) ـ اشارة الى ان لا يكون الاقوائية دائما ابدا فى طرف الخاص ، بل قد يكون بالعكس كما لا يخفى مؤلف دام ظله.

٤٥٣

تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهى نقض غرض ، وقبيح لا يصدر عن عاقل فضلا عن الحكيم تعالى.

وفيه : ان مثل هذا التأخير لا بأس به ، اذا كان هناك مصلحة ، تقتضى اخفاء الواقع وبقاء المكلف على ظاهر تكليفه ، من التمسك بظاهر العام ، الى ان يرتفع عنه المانع ويبين له التكليف الواقعى بالخاص ، وليس ذلك بعزيز فكم ، وكم له نظير فيها! قد اقتضت الحكمة الالهية بقاء العباد على جهلهم بالواقعيات ، لمصالح خفية لا يعلم بها الا علام الغيوب ، فأنظر الى اصالة الحل والطهارة قد ضربتا قاعدتين للمكلفين يعملون بهما حتى يتبين لهما واقع الواقعة بالعلم او العملى ، وليس عليهم تفحص وان امكنهم ذلك ، بل ربما يعاتب على التفحص كما فى الخبر ، ومن الجائز فى العموم والخصوص ان يكونا من هذا القبيل ، بأن يكون هناك مصلحة تدعو الى العمل بظاهر العموم برهة من الزمان ، ثم بعد ذلك يذكر الخاص ، ويكون العمل عليه ، ولعل التوهم نشاء من اختلاط تأخير البيان عن وقت حاجة المولى ، لبيان مرامه ومقصوده ، وتأخيره عن وقت حاجة المكلف للعمل ، فان التأخير فى الصورة الاولى قبيح ، لمنافاته الغرض ، دون الثانى.

ثانيهما : ان النسخ رفع للحكم الفعلى الثابت فى الواقعة المنسوخة ، فلا يصلح الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل بالعام الا وان يكون مخصصا ، لامتناع النسخ مع هذا الفرض المفروض فى هذه المقدمة.

وفيه : ان النسخ فى الاحكام ، كالبداء فى التكوينيات ، اذ كما يجوز ان يظهر الله تعالى لنبيه وقوع شىء فى عالم التكوين لمصلحة ، ثم يظهر له خلافه كذلك ، يجوز ان يظهر له الحكم المشروط بشىء ، ثم يظهر له بعد ذلك خلافه قبل تحقق شرطه ، فيكون ذلك نسخا لحكم

٤٥٤

غير فعلى ، بناء على ما اختاره المشهور فى الواجب المشروط ، من ان الحكم فيه غير حاصل قبل حصول شرطه ، فيكون الشرط بوجوده الخارجى سابقا على فعلية الحكم ، واما بناء على ما اخترناه من ان الحكم فيه فعلى وان الارادة متحققة فعلا بنحو الاناطة كما اوضحناه فى محله ، فالنسخ فيه نسخ لحكم فعلى ، واوضح منه نسخ الحكم فى الواجب التعليقى ، فان الحكم فيه فعلى بلا اشكال ولا خلاف ، فلا مانع حينئذ من نسخه قبل حضور وقت العمل به.

وقد انقدح لك بما ذكرنا ان كلا من التخصيص والنسخ ، محتمل فى الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ، او قبله ومثل ذلك ما لو ورد العام «بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فانه كما يحتمل ان يكون الخاص مخصصا للعام يحتمل ان يكون العام ناسخا له.»

نعم فيما يكون الخاص مقرونا بالعام ، لا يحتمل النسخ فى ذلك الخاص ، بل يتعين فيه التخصيص ، اذ لا معنى لبيان حكم المنسوخ ، ويكون نسخه مقرونا بذلك البيان ، لافتقار النسخ الى امد يمضى على الحكم المنسوخ مجردا عن بيان الناسخ ، حتى يكون فى ذكر المنسوخ بذلك الحال مصلحة داعية الى ذكره بذلك الحال ، فاذا لم يذكر المنسوخ الا مقرونا بالناسخ ، كان ذلك فى قوة ذكر الناسخ وحده بلا ضم المنسوخ اليه ، ويكون ذكر المنسوخ وضمه الى الناسخ مستقبحا ومستهجنا فى نظر العقل والعقلاء وهذا ظاهر لا يكاد يرتاب فيه ذو مسكة.

فتلخص مما ذكرنا ان ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام وبعد حضوره ، سيان فى احتماله التخصيص والنسخ ، ما لم يكن الخاص مقرونا بالعام ، فانه لا يحتمل فيه الا التخصيص ، وكذلك يحتمل الامر ان فيما لو ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، واذ

٤٥٥

احتمل الامران فى غالب الموارد ، بل فى جميعها التى يكون الخاص واردا بكلام منفصل عن العام ، فلا وجه للقول بالتخصيص واعتبار رعايته مقدما على النسخ ، الا ما قيل : من ان التخصيص اشيع من النسخ ، وهو ضعيف لابتناء ذلك على امتياز موارد التخصيص عن موارد النسخ ، وهذا انما يكون بعد تمامية المقدمتين المزبورتين ، وقد بينا بطلانهما ، فلم يبق بعد ذلك الا «الرجوع الى الاصول العملية.»

ويمكن ترجيح التخصيص على النسخ بوجه آخر غير ما ذكروه ، من اشيعية الاول من الثانى ، وذلك بأن يقال : انا نجد فرقا بينهما فيما لو اتفق خروج اكثر الافراد من العام ، فانه يرى مستهجنا فى الكلام ، بخلافه فى النسخ فانه لو اتفق فيه خروج اكثر الأزمان لم يكن مستهجنا ، وذلك ظاهر فى مثال اكرم العلماء ثم يخرج منه اكثر افراد العلماء حتى يبقى منه فرد او فردان ، فانه يكون اكرم العلماء حينئذ فى قوة اكرم زيدا ، او اكرم زيدا وعمروا ، ويكون قد عبر عن ذلك بعبارة العموم ، وهو مستهجن جدا ، وهذا بخلاف فرض النسخ فى مثال اكرم زيدا دائما ثم ينسخ هذا الحكم بعد يوم او يومين ، فانه لا يرى فيه استهجان ، واستنكار عرفى ، وسر الفرق فى ذلك يبتنى على تمهيد مقدمة :

وهى انك قد عرفت فى بعض المباحث السابقة ، ان المتكلم ربما يلقى كلامه الى المخاطب من دون ان يكون له فيه ارادة معنى ، ولم يكن له غرض فيه ، إلّا ان يتلقاه المخاطب على ما له من الظهور ، ويتبع ظهوره من غير ان يستعمله المتكلم فى معناه ، وربما يذكر اللفظ ويستعمله فى غير معناه الحقيقى ، بل فى معناه المجازى ، ومثل هذا يكون تصرفا فى دلالة اللفظ ، وفيه يتحقق الاستهجان العرفى ، لو ذكر اللفظ الاستغراقى واراد به واحدا او اثنين من افراده ، وربما يلقى

٤٥٦

المتكلم الى مخاطبه كلاما ، لم يكن له فيه اذعان وتصديق بمقتضاه ، وانما غرضه تصديق المخاطب به ، كما يكون ذلك فى الاخبار الكاذبة ، فإن صدرت ممن لا يجوز عليه الكذب القبيح ، كان ذلك اخبارا بخلاف الواقع ، لمصلحة من تقية او امتحان ، او غير ذلك ، ومنه الاخبار المحمولة على التقية ، ويسمى ذلك عندهم بالتصرف فى الجهة ، فإن ظاهر المتكلم فى كلامه ان يكون بصدد بيان الواقع لا خلافه ، فإذا ظهر من قرينة انه قد اخبر المخاطب بخلاف الواقع ، لم يكن قد ارتكب المجازية فى كلامه ، لان كلامه ذلك لم يجز عن محله الذى وضعت له الفاظه ، وانما وقع التصرف فى جهة الكلام ، وما توجه اليه من بيان الواقع الذى يقتضيه ظاهر حال المتكلم ، ومثل هذا لا يكون مستهجنا فى الانظار ، ومنه النسخ ، والشاهد على كونه من هذا القبيل ، مادريت من عدم استهجان النسخ فى نظر العقل والعقلاء ، ولو كان الخارج بالنسخ من بقية الازمنة اكثر من الداخل.

وربما يذكر الكلام بقصد اعلام المخاطب ، بمعتقد المتكلم ، غاية ما فى الباب ان كان معتقده مطابقا للواقع كان صدقا واخبارا يقينيا. وان كان مخالفا له كان كذبا وجهلا مركبا.

وبعد هذا نقول : اذا دار الامر بين التخصيص والنسخ ، كان ذلك راجعا الى دوران الامر بين التصرف فى الدلالة او التصرف فى الجهة ، فاللازم ان يبحث عن ان اى التصرفين يكون مقدما على الآخر عند الترديد؟ والمعروف تقديم التصرف فى الدلالة على التصرف فى الجهة ، بل هذا متسالم عليه فيما بينهم لا يكاد يظهر منهم مخالف فيه ، وان اختلفوا فى وجهه ، من كون التخصيص اشيع من النسخ ، لكنك قد عرفت ان ذلك يبتنى على مبنى غير مسلم عندنا ، فمن ثم عدل بعضهم عن هذا الوجه الى وجه آخر وقال : ان اصالة الجهة

٤٥٧

مرعية فى الكلام الصادر من كل متكلم ، كما ان اصالة الظهور مرعية فى الالفاظ الظاهرة فى معانيها ، فاذا دار الامر بين رفع اليد عن إحداهما ، كان رفع اليد عن الاصل الثانى متعينا ، وذلك لان التعبد بالظهور يبتنى على الفراغ من التعبد بأصالة الجهة ، بل والسند ايضا ، لوضوح ان الجهة والسند اذا لم يكونا معتبرين ، لم يكن وجه للتعبد بالظهور ، اذ لا معنى للاخذ بالظهور فى الكلام الذى لم يثبت صدوره عن الامام (ع) ، او صدر صدوره عنه (ع) لكنه لم يثبت صدوره لبيان حكم الواقعى ، فيكون اعتبار الدلالة بعد الفراغ عن اعتبار السند والجهة ، فعند الدوران بينهما ، لا بد من رعاية الجهة والسند اولا ، ثم يراعى الدلالة ثانيا ، وحيث انه لم يكن الجمع بينهما ، كان اعتبار اصالة الجهة مقدما على اعتبار اصالة الظهور ، اذ لا معنى للتعبد بظهور الكلام الذى لم يثبت اعتبار جهته او صدوره ، فاذا روعى حال الجهة ، وبنى على ان الكلام صدر لبيان الواقع ، امتنع فيه حمل الخاص على كونه ناسخا للعموم ، بل لا بد وان يكون محمولا على انه مخصص للعام لا ناسخ له هذا.

ويرد على هذا الوجه ان المقصود من اعتبار كل من الجهة والصدور والدلالة ، هو العمل بمقتضى ما يتلقاه المخاطب من المتكلم ، ومعلوم ان هذه الجهات نسبتها الى العمل على السوية ، كنسبة الاجزاء التركيبية الى المركب المؤتلف منها ، ليس لبعضها تقدم على البعض الآخر ، فلا وجه لرعاية الجهة والصدور قبل الدلالة ومقدما عليها ، كما هو مبنى الوجه المذكور ، فلا بد من سد ثغور الدليل من الجهات الثلث ، حتى ينتهى الحال الى العمل ومقام الامتثال ، ألا ترى ان المركب لو انفقد منه بعض اجزائه ، لا يكاد يجدى الباقى من اجزائه فى الاثر المترتب على المركب بتمام اجزائه ، وهاهنا لو لم تتم الدلالة ، لم يكد

٤٥٨

يجدى اعتبار الجهة ولا الصدور فى الغاية المطلوبة من ذلك الخبر ، اذ العمل بمقتضاه على ما ينبغى وكما هو صادر لبيانه وعلى حسب ظاهره ، موقوف على تمامية الجهات الثلث ، فاذا اختل واحد منها ، لم يكد يترتب عليه ذلك العمل المطلوب منه والمرغوب اليه ، فالقول بلزوم رعاية بعض الجهات على بعض آخر منها ، استنادا الى هذا الوجه كالاستناد الى سابقه ، غير وجيه.

مضافا الى ان الوجه المذكور لو سلم تماميته ، فانما يتم فى الدليل الواحد لو تعارض فيه جهتا الدلالة والجهة ، لا فى الدليلين كما هو مفروض المقام.

فالتحقيق الذى يساعد عليه النظر الدقيق ان يقال : فى وجه تقديم رعاية التخصيص على النسخ ، ان الخاص ان كان مقدما على العام ، فأصالة العموم فى ناحية العام ، انما تجرى اذا لم يكن فى البين ما يكون حجة اقوى على خلاف العموم ، والمفروض ان الخاص اقوى دلالة من العام ، فلو بنى على التخصيص ، كان ذلك تخصصا فى اعتبار العموم ، لا تخصيصا ، بخلاف ما لو بنى على النسخ واعتبر العام ناسخا للخاص ، فانه يكون ذلك تخصيصا فى اصالة الجهة الجارية فى ناحية الخاص ، ومعلوم انه يجب البناء على التخصص اذا دار الامر بينه وبين التخصيص.

وان كان الخاص متأخرا عن العام ، فان ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، لزم فيه البناء على التخصيص دون النسخ ، لابتناء النسخ على اعتبار اصالة الجهة فى ناحية العام ، وهى غير معتبرة فيه قبل حضور وقت العمل به ، لعدم ترتب اثر شرعى على ذلك ، ما لم يجئ وقت العمل.

وان ورد بعد حضور وقت العمل بالعام ، كان اللازم فيه معاملة

٤٥٩

النسخ ، لان اصالة الجهة فى ناحية العموم جارية الى حين ورود الخاص بلا معارض ولا مزاحم ، ومن بعد وروده لا بد من بناء العمل على مفاد الخاص على كل من تقديرى التخصيص والنسخ ، فيكون ذلك فى المعنى تبعيضا فى جهة العام ، اذ هو قبل ورود الخاص محكوم عليه ، بأنه قد صدر لبيان حكم الواقعى المنتهى امده الى حين ورود الخاص ، ويكون حكمه بالنسبة الى بقية الازمنة المتأخرة عن زمان ورود الخاص ، صادرا على غير جهة بيان الواقع ، بلحاظ فرد الخاص الخارج عنه ، ويكون المتحصل من ذلك ، انا متوافقون مع القوم فى البناء على التخصيص ، او النسخ ، فى الموارد التى بنوا فيها على احدهما ، إلّا ان اختلافنا معهم ، انما هو فى مدرك الحكم ، حيث ان مدركه عندنا اعتبار اصالة الجهة فى العام فى الجملة ، بالنظر الى الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ، وعدم اعتبارها فيه بالنظر الى الخاص الوارد قبل حضور وقت العمل به ، ومدركه عندهم امتناع التخصيص فى الاول وامتناع الآخر فى الآخر «اى النسخ فى الثانى» بناء منهم على المقدمتين اللتين قد فرغنا عن بطلانهما فتأمل.

ثم ليعلم ان الخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام ، تارة يكون دالا على محكومية الخاص بحكمه من حين صدور حكمه مع السكوت عن حكمه قبل ذلك ، وهذا هو الذى انه قد عرفت بحكم الناسخ يجب فيه بناء العمل على الخاص من حينه خاصة ، واخرى يكون دالا على محكوميته بحكمه من الازل ، اى من قبل صدوره الذى ، هو زمان العمل بالعام ، وفى هذه الصورة تقع المعارضة بين الخاص والعام من حين صدور العام ، وحيث ان الخاص اقوى دلالة من العام ، وجب تخصيص العام به ، ولزم بناء العمل على التخصيص دون النسخ.

لا يقال : كيف يكون للخاص دلالة على توسعة فى حكمه من الازل

٤٦٠