تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

الموضوعية ، لعدم تمامية الحجة التى توجب العقوبة على مخالفتها ، اذ العقوبة لا تتسجل على العبد بالمخالفة ، الا بعد انسداد باب الاعتذار عليه من جميع الجهات ، فمتى امكنه الاعتذار من جهة من تلك الجهات ، كان العبد مأمونا من العقوبة ، فلو قال المولى : لا تشرب الخمر ، وشك فى خمرية مائع ، كان ذلك مجرى للبراءة ، لقبح العقاب بلا بيان ، هذا بخلاف المقام ، فان لفظ الخاص حجة فى بيان معناه ، فهو حجة اخرى فى قبال العام يصادمه فى مقتضاه ولا يبقى معه مجال الركون الى العام بالنسبة الى المعنى الخاص ، فزيد ولو كان معلوم العالمية ، إلّا ان حجية العام مقصورة على غير صنف النحويين من العلماء ، وحيث ان زيدا ممن يشك فى نحويته ، لم يلزم الاخذ بمقتضى العام فى الحكم بوجوب اكرامه ، كما انه لو كان حكم الخاص حرمة اكرامه ، كان ذلك مجرى البراءة من الحكم بحرمة اكرامه ايضا لعدم تمامية الحجة بالحكم بحرمة اكرامه ، كعدم تمامية الحجة بالحكم بوجوب اكرامه.

والحاصل ان المهم فى المقام بيان حال الدليل الاجتهادى ، فهل هو حجة فى تمام الافراد المندرجة تحت ظهوره الا من يعلم خروجه عنه ، او ان حجيته مقصورة على بعض الافراد التى يعلم اندراجها فيه ، دون المشكوك اندراجها فيه؟ والثانى هو الاوفق بمقتضى القواعد.

نعم لو كان الظهور الاستغراقى المستفاد من القضية العامة ، امارة على تشخيص حال زيد من كونه غير نحوى ، امكن القول بجواز التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية ، إلّا ان اثبات أماريته على ذلك الوجه فى غاية الاشكال ، هذا كله فى بيان نظر الفريقين.

٤٢١

«التحقيق فى التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية»

والتحقيق فى المسألة الذى يقتضيه النظر الدقيق ، وبالتأمل حقيق ، هو التفصيل بين ما لو كان الباقى من افراد العام بعد التخصيص ، معلوم الحكم بأنه يجب اكرامه ، وبين ما لو لم يكن معلوم الحكم بأنه يجب اكرامه ، فان كان من قبيل الاول كان العام حجة فى الفرد المشكوك نحويته ، وذلك لان العام قد صدرت من الشارع لتشريع الحكم حسب الفرض ، فاذا لم يكن يتكفل رفع الشك من حيث الموضوع ، كان صدوره لغوا من الحكيم ، لان المفروض ان الحكم بوجوب اكرام الغير النحوى من العلماء قطعى ، لا مجال للتعبد فيه بوجوب تصديقه فينحصر مورد التعبد فى رفع الشبهة الموضوعية عن زيد المشكوك نحويته ، فيكون اندراجه فى العام وتناول العام له ، امارة على كونه غير نحوى.

وان كان من قبيل الثانى ، لم يكن العام حجة فيه ، اذ التعبد بكونه غير نحوى ، فرع ترتب الاثر الشرعى على هذا العنوان ، وليس الاثر هنا الا الحكم بوجوب اكرامه ، فلا بد من تقديم الحكم بوجوب اكرام غير النحوى من العلماء ، ولا سبيل الى هذا الحكم ، الا بمعونة التعبد بتصديقه بعد وروده من قبل الشارع ، واذا تعبدنا الشارع بتصديقه بدليل شرعى ، امتنع فى ذلك الدليل التعبد الشرعى ، ان يكون شاملا لما هو مترتب على ذلك الحكم الذى شرعه ذلك الدليل الشرعى.

وبالجملة من شأن العموم ان يكون شاملا لما يندرج فيه ، من الافراد الغير المتوقف صحة شموله له على ذلك الحكم المتعلق بالعام ، فاذا توقف على ذلك ، امتنع فى ذلك الفرد ، ان يكون مشمولا لذلك

٤٢٢

الدليل العام ، بل يفتقر بيان حكمه الى دليل آخر ، وهو مفقود ، فصدق الظهور ، وابن على مطابقته للواقع من حيث الشبهة الحكمية ، يفيد وجوب اكرام غير النحوى من العلماء ، وبعد التعبد بهذا الحكم ، يتجه التعبد بالظهور فى تشخيص حال زيد بأنه من غير النحويين ، ويستحيل ان يكون دليل واحد ، يتكفل الامر بالتعبد بتصديق الظهور من الوجهين ، كما هو ظاهر لا يخفى.

فتحصل مما سبق ان الحكم اذا كان قطعيا فى طرف المستثنى منه ، كان العام حجة فى الشبهة المصداقية.

ثم نقول : نلحق بذلك فى حجيته فيها ايضا ، ما اذا كان الحكم قطعيا فى طرف المستثنى خاصة ، كان علم ان النحوى لا يجب اكرامه ، إلّا ان اكرام غيره من العلماء كان مشكوكا ، ففى مثل ذلك يجب اتباع العام ، فيمن شك فى نحويته من العلماء اذ العام لما كان مورد التعبد بالعمل على مقتضى ظهوره ، لكونه مشكوك المطابقة للواقع وكان صالحا لان يكون مشمولا لدليل التعبد بتصديق ظهوره ، فهو مع ملاحظة دليل تعبده يقتضى حكمين ، حكما واقعيا ، وهو الذى يستفاد منه بمقتضى ظهوره ، ويكون ذلك مؤداه ، وحكما ظاهريا وهو الذى يستفاد من دليل التعبد بالعمل على ظاهره ، فيجب على المخاطب اكرام كل عالم نحويا كان او غيره ، إلّا ان الجزم بعدم وجوب اكرام النحويين ، منع من التعبد بظهوره فى وجوب اكرام النحويين ، فانحصر التعبد بذلك الظهور فى غيرهم من العلماء ، وزيد لما كان عالما حسب الفرض ، فكان مشمولا لحكم العام فيجب اكرامه حتى يعلم خروجه عن حكمه ، ولا يعلم خروجه عنه حتى يعلم اندراجه فى النحويين ، ولم يعلم ذلك كما لا يخفى.

فان قلت : زيد العالم اذا كان محتمل النحوية وغيرها ، وكان

٤٢٣

محكوما بحكم العام ظاهرا وتعبدا ، امتنع الحكم عليه بعدم وجوب الاكرام ، لبطلان اجتماع الحكمين المتناقضين ، ومن الواضح ان زيدا اذا كان نحويا فى الواقع ، لا يجب اكرامه بمقتضى حكم الخاص المقطوع به ، فيلزم من اندراج زيد فى عموم حكم العلماء ، ان يكون زيد النحوى واقعا يجب اكرامه ، بمقتضى التعبد بحكم العام ، ولا يجب اكرامه بمقتضى حكم الخاص المقطوع به ، وهذا محال وممتنع بالبديهة ، فلا مناص من بطلان احد الحكمين ، ولا سبيل الى بطلان حكم الخاص ، لكونه قطعيا حسب الفرض ، فلا بد وان يكون الباطل منهما ، الحكم الظاهرى الذى يقتضيه دليل التعبد بالاخذ بظهور العام ، فيتمحض زيد للحكم بعدم وجوب اكرامه ، ويخرج عن عموم حكم العلماء كما هو واضح.

قلت : قد تقرر فى غير المقام جواز الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، سواء كانت متباينة او متماثلة ، وعليه فلا بأس باجتماع الحكمين المتناقضين فى زيد ، اذا كان عالما نحويا فإن الحكم بوجوب اكرامه ليس إلّا حكم ظاهرى قضى به دليل التعبد بظهور العام ، وهو لا ينافى عدم وجوب اكرامه واقعا لكونه نحويا فى الواقع ، نعم ما ذكرت من تنافى بين الحكمين انما يكون ممنوعا عنه لو كان الحكمان فى رتبة واحدة ، كأن يكونا فى رتبة الظاهرية او الواقعية ، لا فيما اذا كانا فى رتبتين ظاهرية وواقعية ، ومن هنا ينقدح لك الوجه فيما قلناه فى صدر الكلام ، من تقييد اعتبار العام بالنسبة الى الشبهة المصداقية ، بما اذا كان الخاص قطعيا ، اذ لو كان الخاص غير قطعى كالعام ، يجىء التنافى بين الحكمين فى رتبة واحدة ، وهى رتبة الظاهرية ، بتقريب ان زيدا العالم اذا كان يشك فى نحويته ، يكون مورد التعبد بحكمى العام والخاص معا ، فيقال : زيد لو كان نحويا

٤٢٤

لا يجب اكرامه ظاهرا ، بمقتضى التعبد بحكم الخاص الغير المعلوم مطابقته للواقع حسب الفرض ، ولو لم يكن نحويا يجب اكرامه ظاهرا ايضا بمقتضى التعبد بحكم العام ، فيجيء من ذلك توارد الحكمين المتنافيين على زيد ، واجتماعهما فيه مع اتحاد الرتبة ، وهو محال بالبديهة ، فيسقط اعتبار كل من العام والخاص فيه ، لبطلان الترجيح بلا مرجح ، وحينئذ لا يكون العام حجة فى المصداق المشتبه ، وهذا هو الوجه الفارق بين صورتى كون حكم الخاص قطعيا او غير قطعى.

وبالجملة : اذا كان الخاص مقطوع الحكم لم يكن له ، الا حكم واقعى كان مقطوع الانطباق على زيد ، لو كان زيد نحويا بالجزم واليقين ، ومحتمل الانطباق عليه لو كان يشك فى نحويته ، ومفروض المقام ان زيدا مشكوك النحوية فيحتمل انطباق الحكم السلبى عليه ، فيكون محكوما بعدم وجوب الاكرام ، وعلى تقدير انطباقه عليه لم يكن ذلك الا حكما واقعيا لا ظاهريا ، اذ ليس الخاص مورد التعبد حتى يكون حكمه حكما ظاهريا ، وظاهر ان الحكم الواقعى لا ينافى الحكم الظاهرى بوجوب اكرامه ، وهذا بخلاف ما اذا كان الخاص غير مقطوع الحكم ، وكان مورد التعبد به ، فلا ريب ان الحكم بعدم وجوب اكرامه يكون ظاهريا ، وهو مناف لحكم العام الذى مفاده وجوب اكرامه ظاهرا.

فإن قلت : اذا كان الخاص مقطوع الحكم ، وكان انطباقه على زيد محتملا ، كان مجال للتعبد بحكم الخاص ، كما كان مجال لذلك فيما لو لم يكن كذلك ، اى لم يكن حكم الخاص مقطوعا به ، فإن كان الثانى محكوما بحكم ظاهرى كان الاول مثله ، فما وجه الفرق بينهما والقول بأن حكم الخاص فى الاول واقعى وفى الثانى ظاهرى؟

قلت : الوجه فى ذلك اختلاف الشبهة فى المقامين ، اذ الشبهة فى مقطوع الحكم ليست إلّا موضوعية ولا دليل على انطباق عنوان

٤٢٥

الموضوع ، على ما يشك انطباقه عليه ، حتى يتسرى الحكم المقطوع اليه ، وهذا بخلاف الشبهة فى غير مقطوع الحكم فانها شبهة من جهتين ، من جهة الموضوع والحكم ، ولا ريب ان التعبد بحكم الخاص تقتضى بالبناء على مطابقة حكمه للواقع ، وهذا البناء ظاهرى ينافى البناء على مطابقة حكم العام للواقع ، فيما يحتمل انطباق كل من الحكمين عليه ، كزيد العالم اذا احتمل فيه النحوية وعدمها ، فان المتحصل من الحكمين ، يكون مفاده ان زيدا العالم لو كان نحويا واقعا يجب اكرامه بمقتضى التعبد بحكم العام ، ولا يجب اكرامه لو كان نحويا واقعا بمقتضى التعبد بحكم الخاص ، وهذا تناقض محال نشأ من التعبد بحكمى الخاص والعام فى الشبهة الحكمية ، بعد الفراغ عن ثبوت اعتبار العام فى الفرد الذى يشك انطباق عنوانه عليه ، فلا بد من رفع اليد عن احد التعبدين ، وحيث لا مرجح يسقط كل منهما عن الاعتبار فى الفرد المحتمل نحويته وغير نحويته وهذا بخلافه فى مقطوع الحكم ، فان الجهة التى تحتمل التعبد فيه ، ليست إلّا حيثية اشتباه الموضوع ، ولا دليل على التعبد بالخاص من هذه الجهة ، فيتعرى عن جهة التعبد من حيثيتى الحكم والموضوع ، اما الحكم فلكونه قطعيا ، واما الموضوع فلعدم دليل على التعبد به من هذا الوجه ، فاذا انطبق حكم الخاص على زيد المحتمل نحويته لم ينطبق عليه إلّا بما له من الحكم الواقعى ، بخلاف ذلك فى غير مقطوع الحكم ، فان فيه جهة تعبد من حيث الحكم ، فاذا انطبق على زيد المحتمل نحويته ، انطبق عليه بما له من الحكم الظاهرى بالتعبد ، بمقتضاه والبناء على مطابقته للواقع ويتأتى فيه المنافاة للحكم الظاهرى الثابت للعام ، ويجىء فيه محذور التناقض ، بخلافه فى مقطوع الحكم فانه ليس إلّا اختلاف بين الحكم الظاهرى والواقعى ، وهو جائز كما قرر فى غير المقام.

٤٢٦

فتلخص مما قررناه وحققناه ، ان العام حجة فى الشبهة المصداقية فى صورتين ، إحداهما : فيما يكون الحكم المتعلق بالباقى من افراد العام ، قطعيا من الخارج ، دون الحكم المتعلق بالخاص ، وثانيهما : بالعكس من ذلك بأن يكون الحكم المتعلق بالخاص قطعيا كذلك ، اى بمقدمات خارجية ، دون الباقى من افراد العام ، وقد تبين لك مما سمعت فى تقريب الاستدلال ، ان الصورة الاولى مبنية على ان يكون المتكلم فى بيان رفع الاشتباه الموضوعى كما يقتضيه ظاهر حال الخطاب الشرعى الوارد فى بيان التشريع والتعبدية ، فانه لا مجال للتعبد فى الحكم حينئذ ، لكونه قطعيا حسب الفرض ، فلا بد من صرف التعبد الى حيثية رفع اشتباه الموضوع ، وهذا بخلافه فى الصورة الثانية فإن الاشتباه فيه من جهتى الحكم والموضوع معا على خلاف الخاص ، فانه مقطوع الحكم دون الموضوع وقطعية حكمه ، كانت مانعة عن التعبد فى الحكم ، ولم يقم برهان يقتضى اعتباره فى رفع اشتباه الموضوع ، فيبقى الموضوع المشتبه بحاله مندرجا فى افراد العام ، لانطباق عنوانه عليه جزما ويكون محكوما بحكمه اخذا بظاهر العموم ، ولا يختص هذا الوجه من التقريب المذكور للصورة الثانية بما يكون المخصص فيه لبيا ، بل يجرى فى كل مقطوع الحكم سواء كان مخصصا لبيا او لفظيا ، فتخصيص الماتن قده ذلك باللبى منه غير ظاهر الوجه ، ولعله لغلبة القطعية فى اللبى وندرتها فى اللفظى فتفطن.

٤٢٧

«ايقاظ»

ورد فى الاخبار عن الائمة عليهم صلوات الله الملك الجبار ، ان حد يأس المرأة خمسون سنة ، كما فى رواية (١) وفى رواية اخرى ان حد يأسها ستون سنة (٢) وفى رواية ثالثة اذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلّا ان تكون امرأة من قريش (٣) فكانت الاخبار فى تحديد اليأس على طوائف ثلث ، طائفتان منها مطلقتان ، وطائفة ثالثة مفصلة بين القرشية وغيرها ، فجمعوا بينها بحمل المطلق منها على التفصيل المذكور فى الرواية الثالثة ، والحكم ظاهر فى معلومة الانتساب ، اما اذا كانت مجهولة وشك فى قرشيتها وعدم قرشيتها فمقتضى ما سمعته من الكلام المتقدم فى حكم الشبهة المصداقية عدم الحاقها بإحداهما ، لسقوط اعتبار كل من ظهورى العام والخاص فى المصداق المشتبه ، فيما لم يكن احداهما مقطوع الحكم كما فى المقام.

وحاول الماتن الحاقها بغير القرشية بمعونة «الاصل الموضوعى» فحكم عليها «بحكم العام ، وان لم يجز التمسك به بلا كلام» بتقريب «ان اصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش ، يجدى فى تنقيح انها ممن لا تحيض الا الى خمسين ، لان المرأة التى لا تكون بينها وبين قريش انتساب ، ايضا باقية تحت ما دل على ان المرأة انما ترى

__________________

(١) ـ «مثل رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى عبد الله (ع) قال : حد التى قد يئست من المحيض خمسون سنة» الوسائل ج ٢ ابواب الحيض باب : ٣١ حديث : ١.

(٢) ـ «مثل رواية عبد الرحمن بن الحجاج ايضا عن ابى عبد الله (ع) فى حديث قال : قلت : التى قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض؟ قال اذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض» الوسائل ج ٢ ابواب الحيض باب : ٣١ حديث : ٨.

(٣) ـ الوسائل ج ٢ ابواب الحيض باب : ٣١ حديث : ٢.

٤٢٨

الحمرة الى خمسين ، والخارج عن تحته هى القرشية» ثم قال : «فتأمل تعرف.»

ولعله اشار بالتأمل الى امكان تطرق المناقشة فيما ذكره من التقريب ، بأنه غير واف بالدعوى ، إلّا اذا كان المنظور اليه فى العام تعميم الحكم لحالات الافراد علاوة على ما له من العموم الافرادى ، فيكون له عموما افرادى واحوالى ، وليس الحال فى المثال المذكور على هذا المنوال ، لاختصاص عمومه باستيعاب الافراد دون الاحوال.

وتوضيحه : ان الانتساب الى قريش لم يذكر فى طرف المستثنى الا عنوانا مشيرا الى الخارج من افراد العام ، اذ لا يمكن تعريفه الا بهذا العنوان ، ومن ثم جرى نسق التعبير فى لسان الرواية بقوله (ع) الا امرأة من قريش بصورة الاخراج الفردى دون الاحوالى ، وإلّا لقال : الا فى حالة انتسابها الى قريش ، وحينئذ يكون الباقى فى العام سائر الافراد مع الغض والسكوت عن التعرض لحالها ، من كونها غير منسوبة الى قريش ، فلا يكون هذا العنوان متعلق حكم العام ، فلا يكاد يجدى فى تنقيحه الاصل الموضوعى ، اذ هو انما يقضى باندراج مجراه فى متعلق الحكم ، فيختص جريانه فى صورة يكون الحالة المتنقحة به من متعلقات حكم العام ، وهو على خلاف الفرض ، اذ لا عموم احوالى فى المثال المذكور ، فلا وجه لتسرية الحكم المذكور فى القضية الى تلك الحالة كما رامه الماتن فى تقريبه.

نعم يمكن ان يقال : بجواز التمسك بالاستصحاب فى نفى حكم الخاص ، اذ الخاص لما كان محكوما بأحكام الحيض كان الواجب فى ترتيب تلك الاحكام ، احراز عنوانه ، من كون المراءة امرأة من قريش اى منسوبة الى قريش ، وهو غير محرز ، بل استصحاب عدم الانتساب الازلى جار فيه ايضا ، ويكفى فى جريان مثل هذا الاستصحاب ، ترتب

٤٢٩

الاثر الشرعى على نقيض المستصحب ، فعدم الانتساب الى قريش وان لم يكن موضوع اثر شرعى إلّا انه لمكان ان الانتساب الى قريش ، موضوع الحكم الشرعى ، جاز استصحاب نقيضه.

ان قلت : لا حكم شرعى فى الازل قبل وجود المراءة فكيف يصح جريان الاستصحاب فى شىء ، لا يكون له ولا لنقيضه حكم شرعى فى الزمن السابق.

قلت : من المقرر المبرهن عليه فى باب الاستصحاب ، انه يكفى فى جريانه فى ذلك الشىء ، اذا كان لبقائه اثر شرعى كما فى المثال المذكور ، فإن الاثر يترتب على بقاء صفة عدم الانتساب الى قريش الى حين وجود المرأة.

فان قلت : ان الانتساب مما يتقوم بطرفين وقد كان فى السابق معدوما لعدم المنسوب اليه ، وفى اللاحق معدوما لعدم المنسوب فتغايرت القضية المتيقنة والمشكوكة ، ومن المقرر فى محله ان شرط جريان الاستصحاب فى شىء اتحاد القضيتين.

قلت : ليس مثل هذا الاختلاف اختلافا فى القضية ، بل القضية السلبية واحدة ، وانما الاختلاف فى اسبابها ، اذ العدم الازلى بنفسه وشخصه ، مستمر بحكم الاستصحاب الى زمان الشك ، وان اختلف السبب فى دوامه واستمراره ، وان هو الا كالخيمة المنصوبة على الدوام مع اختلاف فى اعمدتها المنصوبة عليها فلو حصل تغيير وتبادل فى تلك الا عمدة ، لم يكن يقع اختلاف فى الخيمة كما لا يخفى.

فإن قلت : الانتساب وجودا وعدما يفتقر الى موضوع يشار اليه ، فيقال : هذه المرأة منسوبة الى قريش ، او ليست منسوبة اليه ، ومن الواضح ان هذه المرأة لم تكن فى الازل ، حتى يصح ان يشار اليها بأنها ، ليست منسوبة اليه.

٤٣٠

قلت : ذات المنسوب اليه وماهيته لها تقرر فى الواقع قبل وجودها ، فمن ثم يقال : الذات موجودة ومعدومة ، وموضوع الاثر هى الذات ، فيتجه الاشارة اليها بأنها غير منسوبة الى قريش فى الازل ، وهى بهذا الحال وهذا الوصف يصح فيها جريان الاستصحاب باستصحاب عدم الانتساب اليه الى زمان الشك ، ويكون المقصود بذلك نفى الاحكام المترتبة على عنوان الخاص ، لا ترتيب احكام العام ، إلّا اذا كان حكم العام نقيضا لحكم الخاص ، فانه يمكن التمسك بالاستصحاب المذكور ، لترتيب كل من حكمى الايجابى والسلبى ، اذ نفى تشريع احدهما بعينه تشريع الآخر ، كما ان تشريع احدهما بعينه نفى تشريع الآخر ، فلو قال : المولى : يجب اكرام العلماء ثم استثنى الفساق منهم بدليل منفصل فقال : لا يجب اكرام الفساق من العلماء وشك فى فسق زيد العالم ، فلو استصحب عدم فسقه الازلى ، كان عدم وجوب اكرامه غير مجعول فى حقه ، وهو بعينه جعل الوجوب فى حقه ، وكذا لو فرض المثال بالعكس من ذلك فقال : لا يجب اكرام العلماء ثم قال : يجب اكرام العدول منهم ، فانه لو استصحب عدم عدالة زيد العالم المشكوك عدالته ، فقد افاد انتفاء وجوب اكرامه على حسب ما افاده حكم العام.

واما اذا كان اختلاف الحكمين بالتضاد دون التناقض ، فلا يكاد يجدى الاصل الا فى ترتيب ما يقتضيه من الحكم المترتب على الخاص ، من دون تعرض له الى نفى حكم العام او اثباته ، اذ استفادة ذلك من الاصل المذكور مبنى على القول باعتبار الاصولى المثبتة ، ولا نقول به.

فتلخص مما ذكرناه انا والماتن قده متوافقان عملا فى الاحكام المتناقضة ، دون الاحكام المتضادة ، اذ الماتن يقول : بانسحاب حكم العام الى المشكوك مطلقا ونحن نقول : باشتراك حكم المشكوك مع سائر الافراد المندرجة تحت الباقى من الافراد فى المتناقضين ، ركونا

٤٣١

الى الاصل العملى ، لا على انه مندرج فيها ومشمول لحكمها ، حتى يكون ذلك من باب التمسك بالدليل الاجتهادى فى اثبات حكم المشكوك ، بل من باب التمسك بالاصل العملى فى اثبات حكمه ، فيكون ذلك اختلافيا ، علميا لا عمليا.

واما الاحكام المتضادة فلا يتأتى فيها ، الا الركون الى الاستصحاب فى نفى حكم الخاص ، لا اثبات ضده من الحكم المتعلق بالعام ، فالاختلاف بيننا وبينه فيها علمى وعملى كما هو ظاهر فافهم وتأمل فانه دقيق وبذلك حقيق.

«وهم وازاحة»

«ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات ، فيما اذا شك فى صحة الوضوء او الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل .. اوفوا بالنذور فيما اذا وقع متعلقا للنذر بأن يقال : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر ، للعموم وكلما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ، للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به.»

ويدفعه الفرق بين العموم والاطلاق ، فان العام بعد التخصيص لا يتغير عنوانه عما هو عليه قبل طرو التخصيص عليه ، فانه كان قبل التخصيص معنونا بعنوان يكون ذلك العنوان تمام الموضوع لحكمه ، وهو باق على ذلك الحال بعد التخصيص ، فلو قال المولى : اكرم العلماء ثم جاء دليل آخر افاد تخصيصه بإخراج فساق العلماء ، كان الباقى تحت العام افراد العلماء بما هم علماء ، لا بعنوان كونهم علماء غير فاسقين ، او علماء عدولا مثلا ، فتكون العالمية تمام الموضوع للحكم بوجوب الاكرام ، وهى باقية على ما كانت عليه قبل التخصيص ،

٤٣٢

فان التخصيص لم يكن الا من قبيل انعدام جملة من افراد العام ، فلو مات من العلماء فرد او فردان ، فهل ترى تغيرا فى عنوان العام؟ كلا بل العام هو بعنوانه باق وهو بذلك العنوان موضوع الحكم بوجوب الاكرام فافهم.

فلو وقع شك او ترديد فى خروج فرد من افراده بعد التخصيص ، كان مجال للتمسك باندراجه فى افراد العام ، بانطباق عنوانه عليه ، وترتب عليه حكمه المتعلق به بذلك العنوان ، فزيد العالم لو شك فى فسقه لم يكن يخرج بذلك الشك عن كونه مصداقا من مصاديق العلماء ، لانطباق عنوان العالمية عليه بالجزم واليقين ، وقد كان هذا العنوان بعينه موضوع الحكم بوجوب الاكرام ولم يتغير عما هو عليه بعد التخصيص ، فليجب اكرامه حتى تقوم الحجة على خلافه ، ولعله الى ذلك نظر القائل بجواز التمسك بالعام فى الشبهة المصداقية ، ونحن الآن لسنا بصدد تأييده وتشييده ، فان التحقيق عندنا كما عرفت هو التفصيل المزبور ، وانما المقصود فى المقام التنبيه على ان العام بعنوانه محفوظ وباق على ما هو عليه قبل التخصيص وبعده ، وهذا بخلاف المطلق فإن الرقبة قبل التقييد ، كانت هى الموضوع للحكم بوجوب الاعتاق ، وهى بهذا العنوان تمام الموضوع قبل ورود دليل التقييد ، واما بعده فيتغير العنوان وتصير الرقبة جزء الموضوع ، لا تمامه ، بل تمامه هو الرقبة المؤمنة ، وتحقيقه سيجيء إن شاء الله تعالى فى باب المطلق والمقيد فانتظر له.

واذ قد تبين لك الفرق بين العموم والاطلاق ، ظهر لك الحال فى التوهم المزبور ، وانه على خلاف التحقيق ، فان دليل الوفاء بالنذور بمنزلة المطلق قاض بوجوب الوفاء به ، بعنوان النذرية ، فلما جاء دليل التقييد وافاد تقييده بالرجحان ، خرج النذر بذلك عن كونه تمام

٤٣٣

الموضوع للحكم بوجوب الوفاء به ، وصار جزء الموضوع ، فلا يجوز التمسك بعنوان النذر وحده ، للحكم بوجوب الوفاء ، ما لم يحرز انضمامه الى قيد الرجحان ، ويبطل بذلك قول المتوهم وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر ، اذ ليس النذر بعنوانه تمام موضوع الحكم بوجوب الوفاء بل مقيدا بالرجحان ولا رجحان فى الوضوء كذلك ، اى بمائع مضاف.

ومن هذا البيان يظهر لك عدم الفرق فى العنوان بين كونه من العناوين الاولية ، او الثانوية ، فما وقع فى الكفاية من رد المتوهم «بأنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لا حكام العناوين الثانوية ، فيما شك من غير جهة تخصيصها ، اذا اخذ فى موضوعاتها احد الاحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الاولية» مخدوش فيه ، لظهوره فى تسليم جواز التمسك بالعنوان الاولى لو كان ذلك من قبيل المطلق ، ومقتضاه جواز التمسك بالاطلاق فى الشبهة المصداقية ، لو كان العنوان من العناوين الاولية ، وهو شيء لم يقل به احد ولا يساعد عليه دليل ، ولعمرى لا يكاد ينقضى تعجبى كيف صدر هذا من مثله ، إلّا ان الخطاء والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان ، عصمنا الله تعالى من زلل الاقدام والاقلام ، فى كل ورطة ومقام بمحمد سيد الانام ، وآله مصابيح الظلام.

وكيف كان فلو شك فى ايمان رقبة ، لم يجز الحكم ، بوجوب اعتاقها ، تمسكا بالاطلاق.

وربما يكون نظر الماتن قده فيما ذكره من البيان الظاهر فى التفصيل بين العناوين الاولية والثانوية ، الى الرد على وجه المماشاة مع المتوهم فى ظاهر كلامه ، حيث يظهر منه ان المثال الذى ذكره من قبيل العموم ، وليس كذلك ، بل هو من قبيل الاطلاق ، فكان الماتن قده

٤٣٤

بنى جوابه على التسليم وفرض المثال من امثلة العموم ، ثم قال بالفرق بين العناوين الاولية والثانوية.

«فى دوران الامر بين التخصيص والتخصص»

«بقى شىء لو لم يشك فى حكم زيد وقد علم بأنه غير واجب الاكرام ، ولكن شك فى كونه من العلماء حتى يجىء فيه ارتكاب التخصيص لو قال المولى : اكرم العلماء ، او ليس هو من العلماء حتى يكون خروجه تخصصيا لا تخصيصيا ، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم فى الحكم بأنه جاهل غير مندرج فى افراد العلماء ، او لا يجوز؟ فيه اشكال ينشأ ، من ان المتيقن من بناء العقلاء فى اتباع ظهور العام ، ما يجوز به حكمه بالنسبة الى معلوم الفردية ومشكوك الحكم ، دون العكس ، ومن الوقوف على كثير من الموارد التى تمسك العلماء فيها ، بأصالة العموم لما هو مفروض الكلام.

منها : تمسكهم فى اثبات وضع الصلاة للصحيح ، بقوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) فانه لو لا وضع اسم الصلاة للصحيح ، يلزم ارتكاب التخصيص فى هذا العموم ، واصالة العموم تنفيه فافهم.

ومنها : تمسكهم لطهارة ماء الاستنجاء المعلوم جواز شربه ، بعموم ما دل على محظورية شرب الماء المتنجس فانه لو لا طهارة ماء الاستنجاء ، للزم ارتكاب التخصيص فى ذلك العموم ، وهو على خلاف الاصل فتأمل.

__________________

(١) ـ العنكبوت : ٤٥.

٤٣٥

ومنها : تمسكهم فى باب الزكاة ، لكونها متعلقة بالذمة (١) لا بالعين ، بأنه من المعلوم المتسالم عليه ان اختيار التعيين فيها للمالك فلو لا تعلقها بالذمة ، لكان ذلك تخصيصا فى عموم سلطنة الناس على اموالهم ، وهو خلاف الظاهر ، الى غير ذلك من الموارد التى عدد شيخنا الاستاذ الاكبر دام ظله فى مجلس الدرس ، ولم يحضرنى منها غير ما تلوته عليك ، ولعلك تقف الى ازيد من ذلك ، اذا تتبعت ، ولكنك خبير بأن كلها قابل للخدشة فيها فيعين الوجه الاول ، ولم يسعنى المجال فعلا لذكر الخدشات فيه وسنذكره فيما بعد فى الهامش فلاحظ.

«فى جواز العمل بالعام قبل الفحص»

«فصل :» هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فيه خلاف ، والقول الفصل فى هذا الفصل ، ان ينظر فى العام ، فان كان فى معرض التخصيص لم يجز العمل به قبل الفحص ، وان لم يكن فى معرضه ، فإن كان العام من العمومات التى علم اجمالا بطرو التخصيص عليها ، كالعمومات المتداولة فيما بأيدينا ، وجب الفحص بمقدار يخرج العام عن احد اطراف المعلوم بالاجمال ، بمعنى انا نعلم ان لنا عمومات ، لو تفحصنا عن مخصصها ، لعثرنا عليه ، فيلزم الفحص حتى يعلم حال ذلك العام ، فإن كان من اطراف المعلوم كذلك وكان له مخصص لوقفنا عليه ، خرج ذلك العام عن اطراف المعلوم بالاجمال ، ولم يبق فيه إلّا احتمال تخصيصه باحتمال بدوى تنفيه اصالة العموم ، «واما اذا لم يكن العام كذلك» اى فى معرض التخصيص

__________________

(١) ـ المعتبر : ٢٦٥. نقلا عن الشافعى واحمد

٤٣٦

«كما هو الحال فى غالب العمومات الواقعة فى السنة اهل المحاورة ، فلا شبهة فى ان السيرة على العمل به بلا فحص عن المخصص كما لا يخفى.»

«فى الخطابات الشفاهية»

«فصل :» اختلفوا فى اختصاص الحاضرين بخطاب المشافهة ، او عدم اختصاصهم به؟ بل يشترك معهم الغائبون والمعدومون؟

وينبغى اولا ان يعلم ان نحو الخطاب فى الكلام مختلف ، فتارة يكون بنحو يا زيد يجب على المسافرين كذا وعلى الحاضرين كذا ، ومثل هذا الحكم المستفاد من هذا الكلام يعم الحاضرين وغيرهم من الغائبين والمعدومين بلا نزاع فيه من احد ، واخرى يكون بنحو المواجهة مع الغير بأداة الخطاب ، بنحو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) ويجب عليكم كذا ، وافعل كذا ، ونحو ذلك مما يفيد بظاهره اختصاص الحكم المستفاد منه ، بالمواجهة بالكلام ، ومثل هذا كثير فى لسان الآيات والاخبار ، فيقع فى مثله النزاع المذكور ، لكن مثله وان كان لا يكاد ينكر ظهوره فى اختصاص الحكم بالحاضرين فى مجلس التخاطب ، بل من توجه اليه ذلك الخطاب من بين الحاضرين ، إلّا ان بناء الاصحاب رضوان الله تعالى عليهم فى جميع ابواب الفقه ، على الغاء الخصوصية ، ولا يبعد ان يكون هذا البناء جاريا فى المحاورات العرفية ايضا ، فيكون للكلام حينئذ ظهور ثانوى فى صيرورة الحكم المستفاد منه ، كالقاعدة المضروبة الجارية فى حق الحاضرين وغيرهم من الغائبين

__________________

(١) ـ البقرة : ١٨٣.

٤٣٧

والمعدومين.

وثالثة يكون من قبيل يا ايها الذين آمنوا ، ويا ايها الناس ونحو ذلك مما اشتمل الكلام فيه على كلمتين ، كل منهما ظاهرة فى غير ما عليه الاخرى ، فان كلمة «يا» اى حرف النداء ، ظاهرة فى حضور المنادى بها ، بخلاف كلمتى الذين آمنوا ، والناس فانهما يعمان الحاضرين وغيرهم ، فيقع النزاع فى الاخذ باى واحد من هذين الظهورين حتى يرتكب التصرف فى الظهور الآخر ، ويرفع اليد عنه بقرينة غيره ، والوجه فيه انه كسائر الخطابات التى يلغى فيها الخصوصيات المكتنفة بالكلام ، فيكون الحكم المستفاد من ذلك الكلام ، غير مختص بالحاضرين ، بل يعمهم وغيرهم من الغائبين والمعدومين وربما يستشكل فى تعميم الحكم الى المعدومين ، بأن الحكم اذا كان الزاميا وتكليفا فعليا ، امتنع فيه التعميم الى المعدومين ، اذ المعدوم الذى لم يكن شيئا مذكورا ، يمتنع تكليفه بمضمون الخطاب ، فإن نسبة المكلف «بالفتح» الى التكليف كنسبة المكلف به اليه ، فكما يمتنع التكليف ، بشرب اللبن ، اذا لم يكن فى الخارج لبن يشرب ، كذلك يمتنع تكليف المعدوم الغير الموجود فى الخارج.

ويدفعه : ان الممتنع من التكليف ما يكون تعلقه بالمكلفين بنحو الفعلية ، لا ما يكون بنحو التعليق وفرض الوجود فان الخصوصية ، اذا كانت ملغاة فى ظاهر الكلام ، بالظهور الثانوى ، كان التكليف مأخوذا بنحو التعليق وفرض وجود المكلفين ، فهو فى قوة القول بأن الذى يوجد من المكلفين ويتأهل التكليف ، يكون مكلفا بمضمون ذلك الكلام فهو نظير واجب المشروط بالنظر الى المكلف به.

وبالجملة العمدة فى الحكم بالتعميم الى الغائبين والمعدومين ، هو الذى سمعته من دعوى انعقاد ظهور ثانوى فى خطاب الشارع ،

٤٣٨

بل وغيره على الغاء الخصوصية المتراءاة من ظاهر الخطاب القاضى فى بدو النظر باختصاص الحكم بالحاضرين ، فالمختار عندنا فى هذه المسألة هو القول بالتعميم وعدم اختصاص الحاضرين بالحكم الذى يتضمنه خطاب المشافهة.

وربما يحتج للمختار فيها بوجوه أخر غير ما ذكرناه.

الاول : ان المخاطبة تفتقر الى موجود حاضر فى مجلس التخاطب ، ولكن لا يلزم فى ذلك الموجود ان يكون موجودا حقيقيا ، بل اعم من ذلك ومن الموجود بالوجود التنزيلى ، فالمعدومون يفرض وجودهم اولا وينزلون منزلة الموجودين الحاضرين ، فيلقى اليهم الكلام ، كما يلقى الى الحاضرين بالحقيقة ، فيكون الخطاب متوجها الى ما يعم الحاضرين وغيرهم من الغائبين والمعدومين.

وفيه : ان ذلك مما يكذبه الوجدان الحر السليم ، كما لا يخفى على الخبير المطلع على المكالمات العرفية ، فأنك تريهم لا يخاطبون الا من حضر لديهم فى مجلس التخاطب بالحضور الحقيقى دون الادعائى والتنزيلى.

الثانى : ان كلمة «يا» فى النداء ، موضوعة للخطاب الايقاعى الانشائى ، وهو لا تختص بالحاضرين ، بل يعمهم وغيرهم.

وفيه : انه كسابقه مخدوش فيه ، بأنه لو سلم ذلك فانما هو بالوضع الاولى ، وظاهر اللفظ على اختصاصه بالخطاب الحقيقى ، وهو يستدعى حضور المخاطبين فى مجلس الخطاب كما هو ظاهر بين.

الثالث : ان ظاهر أداة الخطاب وان كان على اختصاصه بالحاضرين ، إلّا ان ذلك لم يكن تقييدا فى مصلحة الحكم ، حتى يتوهم منه القول باختصاص مصلحة الحكم بالحاضرين فى مجلس الخطاب ، بل دائرة المصلحة اوسع من دائرة الحكم ، كما يكشف عنه اطلاق

٤٣٩

المادة ، اى متعلق الحكم والتكليف ، اذ التكليف بالشىء وان كان يعتبر فيه القدرة على ذلك الشىء ، إلّا ان التقييد بذلك ليس إلّا من ناحية العقل الحاكم بقبح التكليف بغير المقدور ، فاذا امتنع حصول المكلف به لجهة من الجهات ، اما من ناحية الشىء المكلف به بتعذره ، او من ناحية المكلف بانعدامه ، فقد بطل التكليف ، إلّا ان بطلانه بالتعذر والعجز ، لا يوجب سقوطه رأسا ، بل يدور مدار القدرة وعدمها ، فاذا كان الشىء ممتنع الحصول من اول الامر ، ثم صار مقدورا ، جرى الحكم بحاله ، لتحقق ملاكه ، اذ اعتبار القدرة عقلا غير اعتبارها شرعا ، فإن اعتبارها العقلى ، لا يمنع من تحقق الملاك والمصلحة فى غير المقدور ، بخلافه فى القدرة المعتبرة فى لسان الشارع ، فانها تقتضى اختصاص المصلحة بها ، ولا يتعدى الى حالة العجز ، ومن ثم ترى المحققين يذهبون فى الضد المزاحم بالاهم الى صحته لو كان من قبيل العبادات ، فلو ترك الازالة واشتغل بالصلاة صحت صلاته ، لتحقق ملاك الصحة فيها ، ولو كانت مزاحمة بالاهم ، اذ مثل هذه التزاحم انما يرفع فعلية التكليف بالمهم ، ولا يرفع واقعه عنه فالتكليف الواقعى بحسب اطلاقه يعم القادر والعاجز ، إلّا ان فعليته منوطة بالقدرة عقلا ، وهذا هو المراد من اطلاق المادة ، فانه لما ذكر الكلام غير مقيد بالقدرة ، يكون ذلك دليلا على ان مناط الحكم وملاكه ، يعم حالتى القدرة والعجز ، فلو قال المولى : اقم الصلاة ، كان ذلك دليلا على ان الصلاة فى حد نفسها ذات مصلحة هى متحققة فيها ، سواء كانت مقدورة او غير مقدورة ، وهذا لا ينافى اعتبار القدرة عقلا فى صحة التكليف بها.

والحاصل انه فرق بين ان يقول الشارع ويجىء التقييد بالقدرة من ناحية العقل ، وبين ان يقول : اقم الصلاة ان كنت قادرا ، فانه على الاول تكون الصلاة ذات مصلحة فى حالتى العجز والقدرة ، بخلافه

٤٤٠