تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

يمكنه الخروج من تلك الارض المغصوبة على وجه كان يسعه الصلاة فى خارج الارض قبل خروج الوقت كما لا يخفى ، اما اذا ضاق عليه الوقت صلى وهو اخذ بالخروج ويلزمه الجمع بين الصلاة والخروج ، لكن يجب ان يقتصر فى صلاته على الافعال الغير المؤدية الى المكث الذى يزيد على اصل الخروج ، هذا كله الكلام فى الاضطرار الغير الناشى عن سوء الاختيار ، واما ما كان منه ناشيا عن سوء الاختيار فلا ينبغى الارتياب فى استحقاقه العقوبة على الدخول ، وعلى كل تصرف يحصل منه فى ذلك المكان ولا تصح منه العبادة الا ما تكون اهم فى نظر الشارع من الغصب كالصلاة ، فانها مقدمة على الغصب لكن بالنحو الغير الكامل ، فيأتى بكيفية صلاة الغريق مقتصرا فيها على الاشارة للركوع والسجود ، اذ القدر الثابت من الدليل هو اهمية الصلاة بمعناها الجامع بين الافراد من الغصب دون الفرد الاختيارى.

اللهم إلّا ان يقوم دليل خاص يقضى بلزوم مراعاة الافعال الاختيارية فيها مع هذا الحال ، والفرض خلافه.

بل قد يقال : باستحالة الجمع بين حرمة الغصب وجواز استيفاء الافعال الصلاتية ، اذ لو كانت الصلاة الاختيارية فى نظر الشارع اهم من الغصب لكان يجوز ارتكاب الغصب والدخول فى المكان الغصبى مقدمة للصلاة ، لان المهم يسقط حكمه بمعارضته مع الاهم ، فيجوز بناء على ذلك الدخول فى المكان الغصبى لغرض ايقاع الصلاة فيه ، وبطلان اللازم دليل على بطلان الملزوم هذا.

ولكن التحقيق ان الاهمية لا تستلزم جواز الدخول فى المكان الغصبى ، اذ ترك الصلاة فى ذلك المكان تارة يكون بترك الدخول فيه واخرى بترك التشاغل بالصلاة بعد الدخول فيه ، ويجوز التفكيك بين التركين فى المحبوبية والمبغوضية ، فيكون ترك الصلاة فى ذلك

٣٦١

المكان من ناحية ترك الدخول فيه محبوبا ، فيكون دخوله فيه ولو لغاية الصلاة فيه منهيا عنه ومعاقبا عليه ، إلّا ان ترك الصلاة فيه من غير هذا الوجه يكون مبغوضا ومنهيا عنه ، فلا يجوز له بعد الدخول فى ذلك المكان ان يترك الصلاة فيه ، بل يلزمه الصلاة فيه رعاية لما فيها من المصلحة التى هى اهم واولى بالمراعاة من التشاغل بغير الصلاة من سائر الافعال والحركات ، وهذا غير مستحيل بنظر العقل السليم لو قال دليل يدل على اهمية الصلاة الاختيارية على غيرها من الحركات الغصبية إلّا ان الشأن كله فى قيامه ، ولم نقف بعد الى الآن على ما يدل على ذلك الا قوله (ع) : الصلاة لا تترك بحال (١) وهو انما يمنع عن تركها بما هى صلاة لا بما هى صلاة اختيارية ، فيلزمه اختيار ادنى افراد الصلاة الاضطرارية ، وهى التى تكون بالاشارة والايماء نحو صلاة الغريق ، رعاية للجمع بين النهى عن الغصب والنهى عن ترك الصلاة بحال هذا.

وقد ذكر هنا وجه آخر فى جواز اختيار الفرد الاختيارى من الصلاة من بعد الدخول ، وتقريبه ان المنافى للتقرب فى العمل العبادى ، ليس إلّا مبعديته عن ساحة القرب الى حضرته تبارك وتعالى ، ولا يكون ذلك فى المنهى عنه الا حيث يكون متعلق النهى مقدور الترك للمكلف ، واما اذا اضطر الى ارتكابه يسقط عنه النهى ولم يكن مبعدا قطعا ، ومعلوم ان القدرة على الشىء تارة تكون مطلقة فيكون الشيء مقدور الترك والايجاد من جميع الوجوه واخرى لم تكن مطلقة بل قدرة على الشيء من وجه دون وجه والتكليف تبع القدرة ، فان كانت مطلقة كان مطلقا وإلّا كان مقيدا بقيد القدرة ، وفى مفروض الكلام ليست

__________________

(١) ـ الوسائل ج ٢ ابواب الاستحاضة باب ١ حديث : ٥ فيه لا تدع الصلاة على حال.

٣٦٢

القدرة على ترك الغصب الا من وجه ترك الدخول ، واما من غيره فهو مضطر الى الغصب فليس عليه الا التكليف بترك الدخول ، وقد سقط هذا التكليف بعصيانه فى اختيار الدخول ، وليس عليه تكليف آخر بحثه على ترك الصلاة فى ذلك المكان حتى يكون ذلك مبعدا له ومانعا عن التقرب له فى صلاته فله حينئذ ان يأتى بالصلاة بقصد التقرب بها الى الله تعالى وقد اختار هذا الوجه شيخنا الاستاذ مد ظله.

ويمكن الخدشة فيه بأن المبعدية تتبع تنجز التكليف ، ويكفى فى تنجزه قدرته على امتثال النهى بترك الدخول وان سقط عنه الخطاب بعد الدخول لتعذر الخروج عليه حسب الفرض ، إلّا ان اثر النهى من العقوبة والمبعدية له باق عليه ما دام فى ذلك المكان ، فكل فعل يفعله فى ذلك المكان يجرى عليه حكم المعصية والمخالفة للتكاليف المنجزة ولا يجديه امتناع التخلص عن الغصب بعد اختياره الدخول بسوء الاختيار ، فإن الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا فتامل.

ثم ان ما سمعته من الكلام المتعلق بالصلاة فى ذلك المكان ، قد كان مفروضا فيمن لا يستطيع الخروج عنه فلا ريب فى وجوب الخروج عليه ، وهل حركته للخروج تعد مقدمة له او هو نفسه؟ ويتضح لك الحال فى تحقيقه من تحقيق الحال فى الغصب ، فان كان هو من مقولة الاين اى الكون الشاغل للمحل ، كان الخروج بعينه الحركة ، اذ هى عبارة عن تبدل الاكوان والخروج ليس الا كون الجسم فى مكان بعد كونه فى مكان آخر ، وان كان الغصب من مقولة الفعل اى اشغال المحل فى قبال افراغه ، كان الخروج غير الحركة وكانت الحركة مقدمة له لان الحركة سبب لافراغ المحل الغصبى عن الجسم واشغال غيره به ، وبالحركة يتحقق الاشغال والافراغ ، ولا يتفاوت الحال فى ذلك بين

٣٦٣

انحاء الحركة ، فانها تختلف سرعة وبطوءا ، طولا وقصرا ، فإن المقدمية تجرى فى مجموع الحركة المترتب عليها الخروج ، سواء فرض الرجل واقفا شفير المكان الغصبى ، او بعيدا عنه بمقدار يفتقر تحقق الخروج عنه الى طى مقدار من المسافة ، فان الفرضين يشتركان فى المقدمية او الاتحاد على الوجهين.

والحاصل ان الغصب والتخلص عنه بالخروج من واد واحد ، فان كان الغصب من مقولة الاين كان الخروج كذلك ، وكانت الحركة التى هى عبارة عن تبدل الاكوان متحدة مع الخروج ، اذ ليس الخروج الا كون الجسم فى مكان بعد كونه فى مكان آخر وهو بعينه الحركة ، وان كان الغصب من مقولة الفعل اى اشغال المحل الغصبى كان الخروج افراغه واشتغال غيره ، وتكون الحركة على هذا امرا مغايرا للخروج ، لان تبدل الاكوان الذى هو معنى الحركة ليس بعينه الافراغ والاشغال ، بل انما هى سبب لهما فتكون حينئذ مقدمة للخروج ، وكيفما كان لا بد له من الخروج وهذه الحركة المحققة للخروج واجبة عليه عقلا ، اما بمناط المقدمية او ارتكابا لأقل القبيحين ، وهذا لا اشكال فيه وانما الاشكال فى ان هذه الحركة محبوبة او ليست كذلك؟.

وتظهر الثمرة فيما لو اراد الصلاة فى حال الخروج ، فانه بناء على محبوبية مثل هذه الحركة الخروجية يجوز له الصلاة تامة الافعال بمقدار لا يؤدى الى المكث الذى يزيد على اصل الخروج ، وهو لا يسع زيادة على صلاة الغريق فلا محصل لهذه الثمرة الا عدم التزاحم فى صورة المحبوبية ، وبناء على عدمها لا بد له من الاقتصار على صلاة الغريق كما تقدم.

وربما يوجه القول بالمحبوبية بأن المحرم هو الاختيارى وليس مثل هذا الكون فى هذا الحال اختياريا اذ لا يستطيع تركه فى هذا

٣٦٤

الحال ، وانما كان له تركه بترك الدخول وقد عصى بدخوله ، فما يقع منه بعد ذلك من الكون والحركة فى ذلك المكان ، لا يكون مبغوضا ولا مبعدا له ، فيجوز ان يكيفه بكيفية الصلاة ، ويكون ذلك الفعل منه محبوبا كما تقدم شرحه.

والحاصل ان البناء على مبغوضية مثل هذه الحركة بعد العصيان بالدخول يبتنى على عدم التفكيك فى التروك وقد ذكرنا آنفا امكان القول بالتفكيك ، فيكون الفعل من وجه مقدورا على تركه لا من وجه آخر ، فاذا عصى النهى من الوجه المقدور على امتثاله ، لم يبق له تأثير من غير ذلك الوجه المتعذر عليه امتثاله ، ولا يكون ذلك الفعل من غير ذلك الوجه مبغوضا ، حتى يمتنع طرو المحبوبية عليه ، فصح لنا دعوى جواز التقرب بهذه الاكوان والحركات الواقعة من بعد الدخول لو أتى بها فى ضمن الصلاة المطلوبة ، اذ لا يمكن تركها بعد اختيار الدخول ، ومال شيخنا الاستاذ مد ظله الى هذا الوجه ، وفيه نظر يظهر لك مما قدمناه فلا نطيل بالاعادة. نعم لا دخل للتوبة فى جواز الصلاة ، لو تاب وندم عن الغصب جاز له صلاة المختار فى حال الخروج بنحو لا يستلزم المكث الطويل الذى يزيد على اصل الخروج فتدبر.

«تنبيهان»

«الاول» : انه لا ترجيح للنهى فى نفسه على الامر عند المزاحمة بناء على الامتناع ، وان كان ذلك قولا معروفا عند المانعين ولعله فى خصوص مثال الغصب والصلاة ، بملاحظة ان الغصب من حقوق الناس المقدم على مثل الصلاة التى هى من حقوق الله تعالى ، بل قد يقال

٣٦٥

بخروج الغصب والصلاة عن باب المزاحمة لكون المطلوب فى الصلاة صرف الوجود ، لا بنحو السريان فى جميع الافراد ، فمع سعة الوقت والتمكن من الصلاة فى غير المكان الغصبى لا يكون حينئذ تزاحم بين الصلاة والغصب ، بل الغصب فيه لازم المراعاة فى جميع موارد انطباقه فليس له اختيار الصلاة فى المكان الغصبى ، ولقد دريت الوجه والعلة فى ذلك فى المباحث السابقة ونشير اليه هنا ايضا جديدا ، فانه من المعلوم ان المهم حيث يكون مضيقا هو اولى بالمراعاة من الموسع وان كان اهم فى رعاية المصلحة ويحكم بذلك الحكم العقلى البديهى ، لان رعاية المضيق مع هذا الحال جمع بين المهم والاهم جميعا ، فلو راعى الموسع فاته المضيق ولم يمكنه تداركه ، بخلاف العكس.

نعم اذا كانا كلاهما مضيقين ، كما لو اتفق انحصار الوقت الصلاتى فى آخر الوقت ولم يمكن ايقاع الصلاة فى غير المكان الغصبى ، فانه حينئذ يجىء التزاحم بين المأمور به والمنهى عنه ، وكذا اذا اتفق ان امر بالصلاة بوجه السريان فى تمام الافراد المفروضة فيما بين الزوال والغروب ، فكان الامر الصلاتى على هذا من قبيل النهى عن الغصب ساريا فى تمام الافراد فانه يأتى فيه التزاحم ايضا.

وبالجملة : التزاحم المبتنى عليه الكلام فى هذا المقام لا يتأتى فيما يكون الامر فيه موسعا وكان المطلوب فيه الطبيعة بنحو صرف الوجود ، فان قرع سمعك فى مثال الغصب والصلاة انه من امثلة اجتماع الامر والنهى ، فانما هو على فرض الطبيعة فى جانب الامر ، كما فى جانب النهى من قبيل الطبيعة السارية ، لكن فى مثال الغصب والصلاة لا بد من امتثال الامر الصلاتى عند المزاحمة ، لان الصلاة لا تترك بحال إلّا انه يلزمه امتثاله فى فرد لا يستتبع التصرف بالحركات والسكنات الصلاتية ، ومقتضاه سقوط الافعال الصلاتية وانحصار

٣٦٦

الوظيفة بالنحو الذى يصليه الغريق ، وعلى اى حال مثال الغصب والصلاة فيه مزية الترجيح للنهى من حيث كون متعلقه حق الناس فيترك من اجله افعال الصلاتية ، وانما الشأن فى غير هذا المثال ، فهل هناك دليل يدل على ان الترجيح للنهى حيثما كان ، حتى يكون ذلك كالقاعدة التى لا تخرج عنها بغير مخصص؟

وقد ذكروا فى وجه الترجيح جملة من الامور الموهونة طوينا عن ذكرها اكتفاء بما فى المتن ، ومن الغريب استدلالهم لترجيح النهى ، بأن دلالة الامر على الاستيعاب اطلاقى يفتقر الى تمامية مقدمات الحكمة ، ودلالة النهى عليه وضعى لا يكاد يفتقر الى ذلك ، فيصلح ان يكون بوضعه بيانا لما اريد من الامر بتقييد اطلاقه بغير مورد الغصب ، وفيه ان هذا التقريب انما يناسب التعارض دون التزاحم فلا مساس له بهذه المسألة المبتنية على المزاحمة ، على ان الحكم بترجيح النهى للوضع على الامر الاطلاقى ليس مسلما على اطلاقه ، بل المدار فى التقديم ، على اقوى الظهورين كما سيجيء فى محله إن شاء الله تعالى. وهذه الاقوائية لا تختص بالنهى ، بل قد يكون الامر فى دلالته على الاستيعاب اظهر من النهى.

ويحكى عن بعض الكتب الاستدلالية الاستدلال للترجيح ، بما ورد عنهم (ع) ما اجتمع الحلال والحرام الا وغلب الحرام الحلال ، بتقريب ان المغالبة بين الحرام والحلال ، لا تكون الا حيث يكون للحلية مقتض فى قبال مقتضى الحرمة ، فينحصر مفاد الرواية بمورد المزاحمة خاصة ، فتكون نصا فى حكم هذه المسألة.

إلّا ان الذى يتجه على هذا الاستدلال عدم الوقوف على الرواية

٣٦٧

فيما يحضرنى من كتب الاحاديث (١) ولم اجد فى كلمات الاوائل من اخذ هذه الرواية مستمسكا لتقديم النهى ، وهذا موهن آخر لها.

مضافا الى ان فى بعض الاخبار ما يعارض هذه الرواية بلسان ما حرم حرام حلالا قط (٢) وبغير هذا اللسان فى بعض آخر منها فتأمل.

«الثانى» : انك قد عرفت الفرق بين ابتناء الخلاف فى المسألة ، على كفاية تعدد الجهة ، وبين ابتنائه الى القول بسراية الطلب الى الافراد والقول بعدم السراية ، وان مثال اكرم العلماء ولا تكرم الفساق انما يدخل فى عنوان النزاع الثانى ، اعنى القول بالسراية دون الاول ، والمعروف تحرير النزاع بينهم بالوجه الاول ، فلا وجه لما فى الكفاية من اندراج هذا المثال فى محل النزاع المذكور فى كلمات القوم فأفهم وتأمل.

«فى اقتضاء النهى الفساد وعدمه»

«فصل» : النهى عن الشيء هل يقتضى الفساد ام لا؟ فيه خلاف وينبغى ان يعلم اولا الفرق الواضح بين اقتضاء الفساد المتنازع فيه فى هذه المسألة ، وبين اقتضائه فى المسألة السابقة اعنى اجتماع الامر والنهى ، اذ الفساد هنا باعتبار خروج المنهى عنه عن المأمور به فهو من باب التعارض دون التزاحم كما فى المسألة السابقة ، وتظهر

__________________

(١) ـ الرواية نبوية ولكنها عامية راجع البحار ج : ٦٢ ص : ١٤٤ وعوالى اللئالى ج ٣ ص : ٤٦٦.

واستدل بها شيخنا الانصارى قده فى الرسائل مبحث البراءة والاشتغال فى بحث الشك فى المكلف به مع العلم بنوع التكليف ص ٢٤٧.

(٢) ـ عوالى اللئالى ج : ٣ ص : ٤٦٥.

٣٦٨

الثمرة فيمن نسى وصلى فى المكان الغصبى ، فانه على التزاحم لا بأس بتلك الصلاة وتكون الصلاة صحيحة ، بخلافه على التعارض ويستعلم الحال من القرائن الحالية او المقالية ، وقد تقدم فى المسألة السابقة بعض الكلام فيما يتميز به التعارض عن التزاحم فى بعض الامثلة ، فلا وجه لما وقع فى بعض الكتب كما فى الكفاية من جعل البحث عن المسألة السابقة من صغريات البحث فى هذه المسألة فلا تغفل.

«التحقيق فى معنى الصحة»

ثم ان الصحة معناها التمامية ومفهومها واحد ، وهى من الامور الاعتبارية الغير المتأصلة فى الوجود فهى من المعقولات الثانية كالملكية المنتزعة عن الاضافة الخاصة الناشية عن الجعل الشرعى ، وهنا كذلك فان الصحة بمعنى التمامية ، منتزعة عن حقيقة التمامية المنتزعة عن موافقة الامر او اسقاط القضاء ، فهاهنا امور ثلاثة مفهوم وحقيقة ومنشأ انتزاع ، وهذا هو الفارق بين الامور الاعتبارية ، والامور المتأصلة ، فإن الامور المتأصلة ليس لها وراء منشأ انتزاعها ، الا حقائقها المتأصلة فى الوجود ، وهذا بخلاف الامور الاعتبارية فان الجعل هو منشأ انتزاع الحقيقة ، ثم من بعد انتزاع الحقيقة ينتزع العقل مفهوما واحدا منطبقا على تلك الحقيقة وهما يشتركان فى اتحاد الحقيقة المنتزعة عن منشأها ، ولا يكون اختلاف المناشئ موجبا لاختلاف الحقيقة ، لخروج المنشأ بواقعه عن الحقيقة المنتزعة ، ومن ثم لم يكن ترادف بين الحقيقة ومنشأ انتزاعها ، وبهذا يبطل القول باختلاف حقيقة الصحة باختلاف منشأ انتزاعها كما ذهب اليه الماتن على خلاف المنقول عن التقريرات.

٣٦٩

«المختار فى المسألة»

واذ دريت ذلك فأعلم الحق ان النهى النفسى المولوى اذا تعلق بالعبادة ، دل على فسادها ، ان استفيد منه المبغوضية النفسية واقعا ولو بالقرنية لا من ظاهر الكلام ، لغلبة ارادة المبغوضية الغيرية من النواهى الواردة بصورة النهى النفسى ، كما فى النهى عن شرب الخمر مثلا ، فإن ظاهره يدل على الحرمة النفسية ، وفى عالم اللب والواقع انما كان مبغوضا ، لانه وسيلة الى العداوة واثارة الشحناء كما نطقت به الآية المباركة «انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون (١)» فلا يجوز الاخذ بظاهر النهى فى النفسية والاستدلال به على المبغوضية النفسية ، بل انما يستفاد ذلك من القرنية ، فاذا اتفق هناك ما يدل على مبغوضية المنهى عنه فى نفسه ، لزم من ذلك الحكم بفساد العبادة لو أتى بها حتى مع الجهل والنسيان كما هو المراد من الفساد فى هذا المبحث ، وجه الملازمة ان المبغوضية لا تتحقق الا حيث يخلو المبغوض عن المصلحة ، واذا خلا عن المصلحة لم يبق فى البين ملاك الصحة فى تلك العبادة ، نعم لو لم تقم قرينة دالة على مبغوضية المنهى عنه نفسا ، امتنع الحكم بفساد العبادة من مجرد تعلق النهى بها لجواز ان تكون مبغوضيتها الواقعية غيرية ، وهى لا تنافى قيام المصلحة فى ذات العبادة فى نفسها ، ويتحقق بذلك ملاك الصحة لو أتى بها مع الغفلة عن النهى المتعلق بها. نعم اذا التفت الى ذلك النهى المتعلق بها ، فلا محيص من الحكم بفسادها إلّا ان هذا فساد ناش من

__________________

(١) ـ المائدة : ٩١.

٣٧٠

المبعدية المنافية لنية التقرب ، وليس هو فساد ناش من انتفاء المصلحة فى العبادة ، والمنظور اليه فى هذا المبحث هو الفساد الثانى دون الاول ، وان كان قد وقع فى بعض كلمات الاواخر ما يظهر منه اندراج الفساد بالمعنى الاول فى محل الكلام فى هذه المسألة ايضا ، إلّا ان ذلك اشتباه وخلط بين المسألتين.

وبالجملة النهى النفسى المولوى المتعلق بالعبادة لا يدل على فسادها ، الا مع قيام قرينة تقضى بالمبغوضية النفسية فى ذلك المنهى عنه ، واما النهى الارشادى فقد يراد منه دفع توهم الوجوب ، وقد يراد منه دفع توهم المشروعية ، وقد يراد منه الارشاد الى فساد العبادة ، ولا كلام فى الصورة الثالثة ، وهى تارة تكون بلسان لا تتكتف فى الصلاة الدال على ان التكتف مانع عن صحة الصلاة ، واخرى بلسان لا تصل متكتفا الدال على اختلال الصلاة المقرونة بالتكتف ، واما الصورة الاولى فليس فيها لسان نفس المشروعية ، فلو قام دليل دال على مشروعية مثل تلك العبادة ، لم يكن بمنطوقه معارضا لهذا النهى ، بل مقتضى الجمع بينهما ان تكون تلك العبادة مسنونة غير واجبة.

نعم اذا لم يقم ما يدل على مشروعية تلك العبادة كان التعبد بها تشريعا محرما وهذا بخلافه على الصورة الثانية فان صريح منطوق النهى يقضى بعدم مشروعية تلك العبادة المنهى عنها ، فهو بمدلوله المطابقى يعد معارضا لما يدل على المشروعية لو فرض قيام الدليل عليها فى رواية اخرى ، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا اذا اختلف الدليلان فى الحكم بالمشروعية نفيا واثباتا ، فكان النافى ينفى فعلية المشروعية والمثبت يثبتها اقتضاء إلّا بالفعل فتكون العبادة على هذا الوجه لها اقتضاء المشروعية ، وان لم تكن مشروعة بالفعل. فتطهر الثمرة فيمن صلى جاهلا بالنهى فإن تلك العبادة تكون صحيحة ، اذ لا اثر

٣٧١

لما تعلق بها من النهى لفرض غفلته عنه او جهله به فلا يصلح النهى فيه مع هذا الحال ان يكون مانعا عن صحة التقرب بتلك العبادة الواحدة لملاك الصحة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن فى البين ما يدل على المشروعية الاقتضائية ، فان العبادة على هذا تكون فاقدة لملاك الصحة ، فلا تصح فى حال الجهل والنسيان فضلا عن حال الالتفات.

هذا كله بيان حال النهى المتعلق بالعبادة نفسها ، اما اذا تعلق بجزئها او شرطها او وصفها ، ففيه تفصيل فإن كان من قبيل الاول اى المتعلق بجزء العبادة يجىء فيه الصور المفروضة فى النهى المتعلق بالعبادة ويعرف حكمها بالمقايسة ، فان كان النهى عن الجزء مولويا ، كشف ذلك عن اشتمال الجزء على مفسدة قائمة فيه نفسه ، فيستدل بذلك على انتفاء المصلحة فيه وخلوه عن ملاك الصحة ، ومقتضاه فساد العبادة المقرونة بذلك الجزء لو أتى بها كذلك ، من غير فرق بين حالتى العلم والجهل.

وان كان النهى ارشاديا اريد منه دفع احتمال توهم الوجوب ، فلا بأس بالعبادة المشتملة على ذلك الجزء اذا ساعد الدليل على مشروعيته ، وعلى هذا القياس يختلف الحكم بالنحو المزبور فى الفرض السابق.

واما ان كان النهى من قبيل الثانى اى المتعلق بشرط العبادة ، فهو كما اذا تعلق بجزئها لا فرق بينهما ، الا فى ان النهى عن الشرط لا يقتضى إلّا ان يكون فى ذلك الشرط مفسدة غيرية ، بخلاف النهى عن الجزء فانه يقتضى اشتمال الجزء على مفسدة نفسية ، والسر فى ذلك ان النهى عن الشرط نهى غيرى ، فيكشف عن مفسدة غيرية ، بخلاف النهى عن الجزء فانه نهى نفسى وهو انما يكشف عن مفسدة نفسية واذا اختلفا فيما يكشفان عنه من المفسدة كانا مختلفين من

٣٧٢

اجل ذلك فى الحكم ، فكان النهى عن الجزء قاضيا بفساد العبادة مطلقا لخلوه عن ملاك الصحة ، بخلاف النهى عن الشرط فانه غير مانع عن قيام المصلحة النفسية فيه التى تصح بها العبادة فى الجملة ، ولو حال الغفلة والنسيان كما هو ظاهر.

وان كان النهى من قبيل الثالث اى النهى المتعلق بصفة العبادة كالنهى عن الجهر فى القراءة ، فمثل هذا العنوان حاك عن جهة غير متحدة مع القراءة ، فكل من الجهر عنوان له بحذاء خارجى لا ينطبق احدهما على الآخر ، فهما متحدان وجودا لا موجودا ، فاذا كان فى الجهر مفسدة قائمة به كان ذلك غير مرتبط بعالم القراءة ، فتكون الحرمة على هذا الوجه مختصة بالجهر ولا تتعدى الى القراءة ، فلو قرء بالجهر كانت قراءته صحيحة ، وان كان عاصيا فى جهره بها.

اللهم إلّا ان يفهم الارشادية من امثال هذه النواهى المتعلقة بصفات العبادة ، حتى يكون ظاهر النهى فيها دالا على مانعية الوصف المنهى عنه عن صحة الموصوف ، وقاضيا بفساد العبادة المقرونة بتلك الصفة ، ولا يبعد ان يكون مثل هذه الاستفادة غالبية فى النواهى المتعلقة بأوصاف العبادة ، إلّا ان تقوم قرينة صارفة عنه ، كما ربما يدعى قيامها فى مثل النهى فى لا تغصب فى هذه الصلاة ، فان ارتكازية الحرمة التكليفية فى الغصب تدافع الظهور الثانوى فى النهى المتعلق بصفة العبادة وتصرفه الى معنى الحرمة التكليفية فى الغصب حال الصلاة دون المانعية فتأمل (١).

__________________

(١) ـ وجه التأمل انه يمكن ان يقال : ان الحرمة التكليفية لا تختص بحال دون حال بل تشتمل حال الصلاة فتخصيصها به يقضى بأن المراد من النهى هو الارشاد الى المانعية ، ولا اقل من ان يكون ذلك مانعا عن الاعتماد على ما هو مرتكز الذهن فى الحرمة التكليفية.» مؤلف دام ظله

٣٧٣

«الكلام فى النهى المتعلق بالمعاملات»

هذا كله الكلام فى النهى المتعلق بالعبادات ، واما ما تعلق منه بالمعاملات ، فلا ريب ان المنصرف من النهى فيها هو المعنى الارشادى فيراد من ذلك النهى بيان انتفاء المشروعية عن تلك المعاملة وهذا ظهور ثانوى للنهى المتعلق بالمعاملة ، فلو كان فى البين ما يدل بعمومه على شرعية ذلك المنهى عنه وجب تخصيصه بذلك النهى.

نعم ان قام ما يدل على ارادة المولوية فى ذلك المنهى ، لم يكن لذلك النهى دلالة على الفساد بل قيل بدلالته على الصحة ، كما يعزى ذلك الى بعض نظرا الى ان المولوية فى النهى تستدعى القدرة على الامتثال وعلى العصيان بالمخالفة ، ومعلوم ان الاقتدار على طرفى المعاملة وجودا وعدما ، لا يكون إلّا على تقدير صحتها وإلّا لم تحسب تلك المعاملة معاملة فى الحقيقة لو كانت فاسدة.

وبعبارة اوضح ان النهى عن المعاملة الكذائية ، يئول الى النهى عن التسبب الى الانتقال بالسبب الخاص ، فلو لا ان يكون التسبب الى ذلك الانتقال بذلك السبب اختياريا مقدورا للمكلف لما ساغ النهى فى حقه قطعا ولعمرى هذا ظاهر بين لا سترة عليه اصلا كما لا يخفى ، بل قد يستظهر منه الصحة حتى فيما يتعلق منه بالعبادة ايضا ، وانما يكون ذلك فى العبادات الذاتية التى لا يتوقف صحتها فى مرحلة العبادة الى التقرب المحقق لعبادية العبادة ، وانما التقرب يعتبر فى غير العبادات الذاتية ، فلا ريب ان الخضوع الى الله جل شأنه بأى نحو وقع يعد عبادة له تبارك وتعالى ، وان كان هو محرما لو وقع بخصوصية

٣٧٤

خاصة كالتكتف مثلا ، فيكون مثل هذه العبادة صحيحة فى مرحلة التعبد والعبادة ، وان كانت فاسدة فى مرحلة التقرب الى حضرة الحق جل وعزّ فتأمل جيدا.

«البحث حول المفاهيم»

«المقصد الثالث فى المفاهيم مقدمة :» ان اللفظ ان دل على المعنى بالملازمة ، فان كانت دلالته عليه تفتقر الى تأمل وتدقيق نظر فى ذلك المعنى ، ولا يكون الانتقال اليه من الملزوم سهلا وامرا واضحا بينا ، كانت تلك الدلالة من الدلالة الالتزامية الغير البينة ، وان لم تفتقر الا الى نظر تفصيلى بالملازمة ولا يكون الالتفات الى اللازم من بعد الالتفات الى الملازمة بتلك المثابة من الخفاء الذى يحتاج فيه الى نظر تفصيلى آخر يتعلق باللازم ، كانت تلك الدلالة من الدلالة الالتزامية التى هى من البين بالمعنى الاعم ، وان سهل الحال فى الانتقال بجميع مباديه الذى هو الالتفات الى الملازمة والانتقال الى اللازم ، كانت تلك الدلالة من الدلالة الالتزامية البين بالمعنى الاخص.

ثم ليعلم ان القضية شرطيها وحمليها ، لها ظهور فى اختصاص الموضوع بما لها من الحكم التى تتضمنه ، ومن ثم اشتهر بينهم القول بالتنافى بين ظاهرى الدليلين الوارد احدهما بلسان المطلق والآخر بلسان المقيد ، مع العلم بوحدة المطلوب كما فى اعتق رقبة ، واعتق رقبة مؤمنة ، لاقتضاء الاول اختصاص الرقبة بما هى رقبة فى حكم العتق ، والثانى بما هى مؤمنة ، فالتجئوا من هذه الجهة الى الجمع بينهما بجمل المطلق على المقيد ، ولو لا دلالة القضية بظاهرها على اختصاص الموضوع

٣٧٥

بالحكم ، لما جاء التنافى ، ولما كان فى الجمع بينهما خروج عن ظاهر المطلق ترجيحا لا ظهرية المقيد لجواز ان يكون الموضوع اضيق دائرة من حكمه ، او يكون اوسع فهذا اقوى شاهد على ظهور القضية فى نفسها باختصاص الموضوع بذلك الحكم المذكور فيها ، غاية ما فى الباب ان حكمها شخصى متساوى المقدار مع موضوعه ، ولا ينافى ذلك ان يثبت مثل هذا الحكم الشخصى لموضوع آخر ففى مثال ضرب زيد ، يكون لظاهر القضية دلالة على اختصاص شخص هذا الحكم فى زيد ، ولا ينافى ذلك ان يثبت لعمرو ضرب شخصى نظير ما ثبت لزيد وليس الثابت لعمرو بعين ما ثبت لزيد بل مثله ، والفرق بين المثلية والعينية على ذوى البصائر.

والحاصل ان هذا المقدار من استفادة اختصاص الموضوع بشخص الحكم المذكور فى القضية ، مما لا اشكال فيه ولا شبهة يعتريه ، وانما الاشكال كله فى ان هذه القضية هل تدل على اختصاص الموضوع بالحكم بتمام مراتب الحكم المطلق المستلزم لانحصار الحكم فى جميع مراتبه ووجوده فى زيد ، حتى يمتنع بظاهر اللفظ ان يثبت الحكم لغير زيد من الموضوعات الخارجية؟ او تدل على اختصاص الموضوع بالحكم فى الجملة اى بمطلق الحكم الصادق على الشخصى منه بنحو القضية المهملة التى لا يمتنع انطباقها على واحد شخصى؟ ولازم ذلك انتفاء المفهوم والقول بعدم دلالة القضية عليه ، وهذا هو المراد من قولهم : ان القضية هل تدل على اختصاص سنخ الحكم بالموضوع او شخصه؟ فان المراد من السنخ هو الدلالة على الحكم المطلق دون مطلق الحكم الذى هو فى معنى القضية المهملة التى هى فى قوة الجزئية والشخصية ، كما ان المراد من شخص الحكم هو الدلالة على انتساب شخص الحكم الى ذلك الموضوع فى تلك القضية ،

٣٧٦

فتكون القضية على هذا قضية شخصية وبحكمها المهملة الدالة على انتساب مطلق ، فاذا كان للقضية ظهور او قرينة تقتضى الدلالة على انتساب سنخ الحكم الى موضوعه كان لتلك القضية مفهوم ، وذلك المفهوم اما ان يكون مفهوم لقب او مفهوم غاية او مفهوم شرط او مفهوم صفة.

وربما يحتوى الكلام على تلك المفاهيم كلها بالقرينة او بظاهر اللفظ ، كما لو قيل : ان جاءك زيد العالم فاكرمه الى يوم الجمعة مثلا ، فان مثل هذا الكلام يشتمل على لقب وصفة وشرط وغاية ، فإذا دل الكلام بظاهره او بمعونة قرينة على ان الحكم المنتسب الى زيد العالم المعلق حكمه على المجيء المغيى ذلك الحكم بيوم الجمعة ، يراد منه سنخه فإن اريد السنخية بالقياس الى تمام المذكورات ، كان له مفاهيم اربعة فيكون مفاد الكلام انتفاء وجوب الاكرام عن زيد من بعد يوم الجمعة وانتفائه عن غير زيد مطلقا ، كما انه لو اريد السنخية من الحكم باعتبار انتسابه الى بعضها خاصة ، كان لذلك الكلام دلالة مفهومية بذلك الاعتبار خاصة.

ثم ان الجزاء فى القضية الشرطية تارة يكون بمادته دالا على الوجوب كما فى يجب فى نحو ان جاءك زيد يجب اكرامه ، واخرى يكون بهيئته دالا عليه كما فى اكرم فى قول المولى لعبده ان جاءك زيد فأكرمه ، فان كان من قبيل الاول فلا اشكال فى تعليق الجزاء على الشرط ، وان كان من قبيل الثانى ، فربما يستشكل فى التعليق فى بدو النظر فانه اذا قيل ان جاءك زيد فاكرمه استفيد منه وجوب الاكرام معلقا على المجيء ، ولا اشكال فى استفادة ذلك منه بمقتضى المتفاهم العرفى ، إلّا ان تطبيقه على الصناعة العلمى وقواعده غير ظاهر بناء على ما ذكروه فى المعانى الحرفية من انها غير مستقلة

٣٧٧

بالمفهومية ، وانها آلة لتعرف حال الغير ، فان التعليق انما يقتضى الاستقلال بالمفهومية ، فانه ما لم يكن الذهن متوجها الى اعتبار التعليق وارتباط شيء بشيء لا يمكن تحقق الربط والارتباط فى الجمل الكلامية ، فلا بد للمتكلم من ان يكون ناظرا الى التعليق ويلحظه قبل الاستعمال وقبل ايراد الكلام بصورة الجملة الشرطية ، وهذا ينافى اعتبار الوجوب معنى حرفيا بالنحو الذى ذكروه فى شرح المعنى الحرفى وبيانه.

ويمكن التفصى عن الاشكال المذكور بمنع اعتبار الالية فى المعانى الحرفية ، اما بالقول المختار فيها من كونها من سنخ الاضافات والنسب ، وهى فى مدلول الهيئة الامرية يراد بها معنى الارسال الى جانب المادة فيراد من مثال اكرم معنى يشاكل الارسال الخارجى الى الاكرام ويكون هذا المعنى هو المقصود فى هيئة الامر ، وهو يلازم الطلب القائم بنفس الطالب المتعلق بالمطلوب ، وحينئذ يكون التعليق فى ظاهر الجملة الشرطية راجعا الى ذلك الطلب المستفاد بالالتزام ، وهو معنى خارج عن المدلول المطابقى للهيئة الامرية ، او يكون راجعا الى المدلول المطابقى الذى هو معنى الارسال ، وهو معنى مطلق يقبل التقييد الجائى من ناحية التعليق فى القضية الشرطية.

واما بالقول الغير المختار فأنهم مختلفون فى معناه فقد قيل انها معان تلحظ تبعا للذات وان كانت مستقلة باللحاظ وبناء عليه لا مانع فيها من التعليق المؤدى الى تقييد المعنى الحرفى ، فانها على هذا القول كالقول المختار يمكن تقييدها.

وقيل : ان المعنى الحرفى موضوع بالوضع العام والموضوع له ، خاص ، والخصوصية لاحقه لا من قبل الانشاء فجاز فى المنشأ اعتبار الكلية والاطلاق القابل للتقييد من قبل التعليق بالشرط.

٣٧٨

وقيل : انها معان تلحظ آلة للغير وعليه يبتنى الاشكال المذكور ، إلّا ان مبناه على اتحاد زمان التعليق واللحاظ الآلي ، وليس كذلك بل يلحظ المعنى الجزائى معلقا على الشرط ، ثم يستعمل اللفظ فى ذلك الملحوظ بنحو الالية فيكون التعليق ملحوظا قبل اللحاظ الاستعمالى المحقق للمعنى الحرفى.

وقيل : ان المعنى جزئى انشاء ومنشأ ويشكل الحال على هذا القول الاخير ، إلّا انه ضعيف غير واضح المأخذ ولم يتحقق قائله ، وان عزى ذلك الى شيخنا الانصارى قده على ما يظهر من كلام بعض افاضل مقررى بحثه (١) فتحصل مما قررناه ان الاشكال على التعليق فى ظاهر الامر غير وارد على جميع الاقوال غير القول الاخير فتدبر جيدا.

«فى مفهوم الشرط»

فصل : «الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام ام لا؟ فيه خلاف بين الاعلام» ولقد دريت ان البحث والخلاف بين القوم فى القول بالدلالة على المفهوم والقول بالعدم ، يرجع الى الاختلاف فيما يستفاد من المحمول او الجزاء المذكور فى تلك القضية ، فهل يدل بظاهره على السنخية او الشخصية؟ لا فيما يستفاد من الشرط من الدلالة على العلية التامة المنحصرة وعدم الدلالة عليها كما ذكر فى الكفاية ، فان الشرط بالنسبة الى الجزاء فى الشرطيات ، كنسبة الموضوع الى محموله فى

__________________

(١) ـ لم نعثر عليه.

٣٧٩

الحمليات ، يشتركان فى دلالة القضية فيهما على انحصار المتقدم موضوعا او شرطا فى المحمول او الجزاء ، وانما الشك والتشكيك فيما يستفاد من ذلك الجزاء او المحمول من السنخية او الشخصية ، فمن ذهب الى السنخية قال بالمفهوم ، ومن ذهب الى الشخصية او الاهمال لم يقل بالمفهوم.

وكيف كان فهل الجملة الشرطية تدل على الانتفاء عند الانتفاء او لا؟ فيه خلاف والذى يظهر من كلام شيخنا الاستاذ دام ظله الميل الى القول بعدم الدلالة ، اذ الجملة لو خليت ونفسها ولم يلحظ معها القرائن الحالية او المقالية ، لم يكد يستفاد منها غير التعليق والترتب بين الجزاء والشرط ، وما يتراءى فى كثير منها من الدلالة على ذلك فانما ينشأ ذلك من انضمام القرائن الخفية فى الكلام على وجه تؤدى الى اللبس والاشتباه فى ذلك التبادر ، فيتخيل السامع انه قد استفاد المفهوم من حاق اللفظ ، وليس هو كذلك ، وربما يكون لكيفية التعبير بحسب جوهر الصوت وطريقة التكلم دخالة فى الاستفادة المذكورة ، وربما يكون لاطلاق الحكم قرينية على ذلك ، فتكون مقدمات الحكمة الارتكازية هى الباعثة على الدلالة على المفهوم ، اما باستفادة العلية المنحصرة فى الشرط كما بنى عليه الماتن قده الخلاف فى المسألة ، او باستفادة السنخية من الحكم الجزائى كما بنينا عليه الخلاف فيها.

وقد ذكر فى تقريب الاستفادة المذكورة بمعونة الاطلاق وجوه فلنذكرها ونذكر الصحيح منها والسقيم ، وليعلم اولا قبل الشروع فى تعداد الوجوه المذكورة ، انا والماتن قده متوافقان على ان الجملة الشرطية لا دلالة فيها على انحصار العلية فى الشرط ، ولكن الماتن بنى على اختصاص الشرطية بظهورها فى الدلالة على محض الملازمة

٣٨٠