تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

ذو الخصوصية غالبة على مصلحة الوجوب ، تحصل ثمة فى الخصوصية الصلاتية وجوب مرتب على الحرمة وصار المحصل ان الكون فى الدار الغصبية محرم منهى عنه ، فلو عصى ذلك النهى وكان فى الدار وجب ان يكون فيها بنحو الخصوصية الصلاتية ، ولا بأس به وكان الوجوب على هذا الوجه لاحقا للخصوصية الصلاتية خاصة دل عليها حكم العقل بلزوم مراعاة المصلحة بالقدر الممكن ، غاية ما فى الباب يجىء الاشكال فى نية القربة وهى مسئلة فرعية فقهية ، تبتنى على المستفاد من لسان الدليل الدال على اعتبار القربة فى العبادات ، فإن دل على اعتبار نية التقرب بتمام العمل بجميع اجزائه امتنعت الصحة فى هذا الفرض ، لتعذر التقرب فيه بغلبة مفسدة النهى ، وان لم يدل على ذلك واجتزى فى مقام التقرب بالعمل العبادى بقصد التقرب بالخصوصية الصلاتية خاصة ، صحت هذه الصلاة وتعلق الوجوب فيها بخصوصية الصلاتية وان كانت هى بخصوصية الغصبية محرمة ، واتجه بذلك القول باجتماع حكمى الوجوب والحرمة فى الصلاة فى الدار الغصبية باعتبار ما لها من الجهتين فتامل.

ثم ليعلم ان نسبة المكان الى صاحبه بالرضا والكراهة ليست من الاعتباريات المحضة التى لا وعاء لها الا الذهن ، كما ربما يستفاد ذلك من عبارة المتن فى المقدمة الثانية التى مهدها الماتن قده لمختاره حيث مثل لهذا السنخ من الاعتباريات المحضة بالملكية والزوجية والحرية والرقية ، فأدرج الغصبية فى جملة الامثلة التى اوردها للاعتباريات المحضة.

وفيه منع ظاهر لا اظن عدم اطلاعك عليه ، لكمال الفرق بين الغصبية والملكية والزوجية ، لانا نجد بالعيان ان الملكية او الزوجية مثلا منوطة بالجعل وبعد الجعل ليس لها وجود فى الخارج ، فإذا ورد امر

٣٤١

بالملكية فان اريد به طلب تحصيلها كان مفاده طلب جعلها ، وان اريد به طلب ابقاءها كان مفاده طلب ايجاد المملوك المجعول ملكيته ، فلا بد من صرف الطلب فى الاعتباريات المحضة الى غيرها مما له وجود خارجى من نفس الجعل او ايجاد المجعول ، اذ الاعتبارات المحضة ليس لها ما بحذاء فى الخارج حتى يجوز تعلق الاحكام بها لتحصيل ايجادها فى الخارج ، ومن ثم تراها متوقفة فى عالم التحقق على اللحاظ والاعتبار الذهنى فلو لم يكن فى العالم لاحظ للملكية والزوجية لم يكن لهما تحقق اصلا كما لا يخفى ، وهذا بخلاف المغصوبية فانها منتزعة من نسبة المكان الى كراهة صاحبه للجلوس والكون فيه فهو نظير نسبة الفوقية المنتزعة من علو شيء بحيث لو لم يكن احدهما اعلى من الآخر لانتزع الفوقية ، ولا يفتقر تحققها على لحاظ لاحظ بل لو لم يكن فى العالم لاحظ اصلا وكان احد الشيئين اعلى من الآخر تحققت الفوقية ، وإلّا فلا وكذلك المغصوب فان الغصبية منتزعة من نسبة المكان المملوك الى عدم رضاء مالكه ، للكون فيه ، ولا ريب ان الكراهة والرضا من الامور الواقعية التى لها حظ من الوجود ، كما لا ريب فى تغير النسبة بتغير المنسوب اليه لظهور ان نسبة المكان الى الرضا غير نسبته الى الكراهة ولا يتوقف حصول مثل هذه النسبة على اللحاظ بل هى متأصلة ومتحققة فى خارجها سواء كان هناك لاحظ او لم يكن فلا ينبغى الحاق الغصبية بالملكية كما صنعه الماتن قده ، وحينئذ جاز فى مثل الغصب والصلاة ان يكونا متعلقين للاحكام باعتبار ما لهما من المصالح والمفاسد ، إلّا ان مفسدة الغصب لما كانت اولى بالمراعاة فى نظر الشارع لكون الغصب راجعا الى حق الناس دون الصلاة ، وجب تقدم جانب النهى فكانت مصلحة الصلاة على هذا مغلوبة فى جانب مفسدة الغصب إلّا ان

٣٤٢

المزاحمة بينهما لم تكن الا فيما يشتركان فيه من جزء الكون ، واما الكيفية والخصوصية اللاحقة له باعتبار الاضافة الى عدم رضاء المالك او باعتبار افعال الصلاة فلا مزاحمة للحكمين فيما بينهما لاختلاف الموضوع فيهما حينئذ ، فتكون الصلاة فى الدار الغصبية ذات جهتين غصبية وصلاتية ، وهى باعتبار ما لها من الكون المنسوب الى عدم رضاء المالك مبغوضة وباعتبار الصلاتية محبوبة ، فان اتى بها بملاحظة ما لها من رجحان الصلاتية كانت صحيحة ان اجتزينا فى العبادة بنية التقرب فى مجرد الخصوصية.

فتلخص مما قررناه ان البناء على الجواز عند معتبر تعدد الجهة ، لا يكون إلّا حيث تختلف الجهات بالمنشإ ، اما بتمامه كما فى الجنس والفصل ، او ببعضه كما فى المشتقات بناء على اعتبار الذات فى مفهومها ، وكما فى مثال الغصب والصلاة بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الكون فى مفهومهما ، ولا ينقدح فيما ذكر اتحاد الوجود الخارجى فى الجنس والفصل ، اذ ذلك انما يمنع عن تعلق الامر والارادة الفعلية بالشىء الواحد ذى الجهتين المتلازمتين ، اما المحبوبية والمبغوضية ، فلا ضير فى تعلقهما بالشيء الواحد باعتبار ما له من الجهات المتعددة المختلفة ، وان كانت متلازمة الوجود ، بل قد نقول بجواز توارد الامر والنهى على المتلازمات فى الوجود بنحو الترتب ، كما مرت الاشارة اليه آنفا ، فينهى عن ايجاد الجنس اولا فى ضمن اى نوع ، ثم يرد امر آخر مرتب على ذلك النهى ويقول المولى ان عصيتنى وخالفت امرى فليكن ما تأتيه من الجنس الحيوانى فى ضمن نوع الانسان المتميز من غيره من الانواع بالناطقية ، وبالجملة لا ينبغى الارتياب فى جواز الاجتماع بهذا المعنى فى ذى الجهات.

٣٤٣

«فى ذكر وجه آخر للقول بالجواز غير تعدد الجهة»

وهناك وجه آخر للقول بالجواز يبتنى على القول بعدم السراية ، وهذا الوجه غير اعتبار تعدد الجهات ويفارقه مفارقة العامين من وجه ، فانه على اعتبار تعدد الجهة ، لا ينحصر الخلاف فى الجواز وعدمه على خصوص فرض اعتبار الطبيعة ، سارية ، او خصوص فرض اعتبارها غير سارية ، بل يجرى الخلاف على كلا التقديرين فهو عام من هذا الوجه ، وله جهة خصوص من وجه لا بدية الاختلاف فى المتعلق ، اذ على فرض اتحاده لا يكون فى البين مغايرة جهتية حتى يتأتى فيه القول بالجواز المبنى على تعدد الجهة حسب الفرض ، فيكون مثل اكرم العلماء ولا تكرم الفساق خارجا عن محل النزاع بناء على هذا الفرض ، واما بناء على السراية وعدمها فيجوز فيه اتحاد المتعلق ويجرى فيه النزاع ، فيكون عمومه باعتبار شموله لصورتى اتحاد المتعلق واختلافه ، وله جهة خصوص من حيث لزوم اعتبار الطبيعة فيه غير سارية فى تمام الافراد ، بل على ان تكون مأخوذة بنحو يجتزى فى تحققها بصرف الوجود ، اذ على اعتبارها سارية لا بد من القول بسراية الحكم الى الافراد فلا يتأتى فيه الخلاف بالجواز والامتناع ، لابتناء القول بالجواز على هذا الفرض ، على عدم السراية وهذا لا يكون إلّا فيما اعتبرت الطبيعة مطلقة غير سارية فى تمام افرادها ، لما عرفت من اتفاق الفريقين على القول بسراية الحكم من الطبيعة الى افرادها فى الطبائع السارية.

ومن الغريب ما وقع من بعض الاعلام على ما حكى عنه من القول

٣٤٤

بعدم السراية فيما اذا اعتبرت الطبيعة سارية فى تمام الافراد ، وبالجملة يمكن بناء الخلاف هنا على الخلاف المتقدم فى تعلق الاوامر بالطبائع فمن قال : هناك بسراية الطلب من الطبيعة الى الفرد قال : هنا بالامتناع ، ومن قال : هناك بعدم السراية قال : هنا بالجواز بل قد نترقى ونقول : وبالجملة يمكن بناء الخلاف هنا على المتقدم فى تعلق الاوامر بالطبائع فمن قال : هناك بسراية الطلب من الطبيعة الى الفرد قال : هنا بالامتناع ، ومن قال : هناك بعدم السراية قال : هنا بالجواز بل قد نترقى ولم يكن متعدد العنوان إلّا انه لا ريب فى كونه حاملا للطبيعة ومشتملا عليها مع زيادة قيد التشخص والخصوصية الخارجية ، ضرورة ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، ومعلوم ان الشىء ربما يختلف بالحيثيات ، فيكون من حيث ما له الطبيعة محبوبا ، ومن حيث اشتماله على الخصوصية مبغوضا ، اذ ليس من المستبعد ولا من الممتنع العقلى ان يكون هناك مصلحة قائمة بالطبيعة ، ومفسدة قائمة بالخصوصية الشخصية ولا يمتنع اجتماع المحبوبية والمبغوضية فى الشىء الواحد من وجهين ، لا تزاحم بين المفسدة والمصلحة فى عالم المحبوبية والمبغوضية ، قبل بلوغ مرتبته الى درجة البعث والارادة الفعلية المستتبعة للوجود والايجاد.

نعم اذا بلغت مرتبتهما الى مرتبة البعث والارادة يجيء التزاحم بين المفسدة والمصلحة فى عالم التأثير فى الوجود والايجاد ، فلا بد من استعلام الغالب منهما وتمييزه عن المغلوب عنهما ، فان كانت المفسدة غالبة اختصت بالتأثير ولازم ذلك مبغوضية الافراد كلها لان النهى سار فى تمام الافراد على ما بيناه وحققناه فى مبحث تعلق الاوامر بالطبائع ، ولا يتصور فى هذا الفرض اجتماع الامر والنهى ، وكذا اذا كانا متساويين لانتهاء الحال فيه الى التخيير ، فلا يكون فى

٣٤٥

البين امر ولا نهى ، واما اذا كانت مفسدة النهى مغلوبة فى جانب المصلحة القائمة بالطبيعة ، كان التأثير حينئذ للطبيعة إلّا ان تأثيرها لا يكون إلّا بمقدار ما يقتضيه الامر من البعث والطلب وهو انما يقتضى البعث نحو الطبيعة ، ومعلوم ان مطلوبية الطبيعة لا بشرط يستتبع الطلب التخييرى بالنسبة الى الافراد فكل فرد يكون تحت الالزام عند ترك بقية الافراد وتحت الرخصة عند الاتيان بفرد آخر من بقية الافراد وهكذا ، والوجه فيه ظاهر فان الطبيعة اذا كانت هى المطلوبة دون الخصوصيات الشخصية فكل ترك من تروك الافراد اذا كان يستلزم ترك الطبيعة ، يكون مبغوضا ، وذلك لا يكون إلّا عند الاقتصار على فرد واحد منها ، فان ذلك الفرد الواحد المقتصر عليه لو ترك تنتفى الطبيعة بتركه فيكون ترك ذلك الفرد مع هذا الحال مبغوضا ، اما اذا كان تركه مقترنا مع اتيانه ببقية الافراد ، فلا يكون مثل هذا الترك مبغوضا ، لعدم انتفاء الطبيعة بتركه ، فيكون المتحصل من ذلك ان الفرد مطلوب بما له من حد الطبيعة وليس بمطلوب بما له من الحد الشخصى ، فكل ترك يكون مؤديا الى ترك الحد الاول الموجب لانتفاء الطبيعة وعدم تحققها فى الخارج يكون مبغوضا وهو انما يكون حيث يترك الفرد بلا بدل له من سائر الافراد ، وكل ترك لا يكون فيه الا ترك الحد الشخصى خاصة ، لم يكن فيه بأس ، اذ لا رجحان فى الخصوصية ، فتركها حينئذ وعدم تركها على السواء ، فتكون الخصوصية على هذا التقدير مباحة ، وان كانت الطبيعة المتحصلة فيها واجبة ، وهذا هو معنى الواجب التخييرى ، فاذا جاز اجتماع الوجوب والاباحة فى واحد شخصى باعتبار حديه ، فليجز اجتماع الوجوب والاباحة كذلك ، ضرورة ان الاحكام لخمسة كلها متضادة ، ولا اختصاص لذلك بالوجوب والحرمة كما لا يخفى. فلربما تكون

٣٤٦

الخصوصية ذات مفسدة وهى كما قلناه اذا كانت مغلوبة فى جانب المصلحة فانما ينعزل تأثيرها بالنسبة الى مرتبة الزجر خاصة دون مرتبة المبغوضية ، فيكون المجمع مبغوضا وان لم يتنجز فيه النهى بل قد نقول بتنجز النهى فيه ، وان كانت مفسدته مغلوبة فى جانب المصلحة ، فان الطلب البعثى الناشى عن المصلحة الغالبة متعلق بالطبيعة لا بشرط ، فيجتزى فى امتثاله بتحصيل الطبيعة فى ضمن واحد من افرادها ، مخيرا بين الفرد المجمع وغيره ، واما الزجر الناشى عن المفسدة المغلوبة فهو متعلق بالطبيعة السارية فى تمام الافراد ، لما تقدم فى بحث تعلق الاوامر بالطبائع من بيان الفرق بين الامر والنهى ، وعليه. يكون نسبة المنهى عنه الى المأمور به نسبة المهم المضيق الى الموسع الاهم لظهور ان الطبيعة المأمور بها لم تكن مطلوبة التحصيل فى تمام الافراد ، بل فى الجملة فيجتزى فى امتثالها فى فرد واحد ، ولو كان غير المجمع وهذا بخلاف الطبيعة المنهى عنها فإن المطلوب الانتهاء وعنها وتركها رأسا ، فكان المكلف فى سعة من حيث امتثال الامر ، اذ يمكنه امتثاله فى غير الفرد المجمع ، بخلاف النهى فانه يلزمه امتثاله بترك ايجاد المنهى عنه فى تمام الافراد حتى الفرد المجمع ، وقد تقرر فى المباحث السابقة انه يرجح المضيق وان كان مهما على الموسع وان كان اهم ، فلا بد فى عالم الفعلية من الالتزام بصرف البعث الى غير الفرد المجمع ، فلا يكون هذا الفرد المجمع الا منهيا عنه ويكون خارجا عن حيز المأمور به ، ولا يتعلق به الامر إلّا اذا تركت ما عداه من الافراد ، فانه لا بأس فى تعلق الامر به حينئذ بناء على المختار من القول بالترتب ، فيكون قد اجتمع فيه الامر والنهى بما لها من المرتبة البعثية ، ويكون الفرد المجمع على هذا بحده النوعى مأمورا

٣٤٧

به ، وبحده الشخصى منهيا عنه ، واما بناء على منع الترتب ، فلا يكون الفرد المجمع الا مورد اجتماع المحبوبية والمبغوضية دون الامر والنهى والحاصل ان القول بجواز اجتماع الامر والنهى لا ينحصر مبناه بالقول بعدم السراية بل يتأتى ايضا بناء على السراية والقول بالترتب ، واما المحبوبية والمبغوضية فيجوز اجتماعها فى شىء واحد ، سواء قلنا بالترتب او لم نقل به ، لعدم ابتناء المحبوبية والمبغوضية على مقدورية متعلقهما حتى نحتاج فى تصحيح اجتماعهما فى الشىء الواحد الى الترتب كما هو كذلك فى متعلق الامر والنهى.

«فى العبادات المكروهة»

ومما تقدم من البيان يظهر لك الحال فى النواهى المتعلقة بالعبادات المكروهة ، فانها باقية على ظاهرها من الحزازة ولا يلزم صرفها الى اقلية الثواب. وهذا واضح فيما له بدل منها ، فان الممنوع عن تركه منها ما يكون فى تركه ترك الطبيعة وهو الترك لا الى بدل ، والحائز الترك هو الترك الذى لا يستتبع ترك الطبيعة وهو الترك الى بدل ، فمثل هذا الترك اذا كان جائزا لم يمتنع فيه ان يكون راجحا فيختلف بذلك متعلق الوجوب والكراهة ، فالواجب هو الطبيعة والمكروه هو الخصوصية ، وتقول ان ترك الطبيعة مرجوح وترك الخصوصية راجح ، وبهذا الوجه نقول بالجمع بين الرجحان والمرجوحية فيما لا بدل له من العبادات المكروهة كصوم يوم عاشورا ، فان الصوم فى نفسه راجح وان كان ايقاعه فى ذلك اليوم مرجوحا ، وعليه فيكون النهى المتعلق به ، راجعا الى ايقاعه فى ذلك الزمان لا الى الصوم الموقع فيه ، بمعنى ان النهى ليس متوجها الى المجموع الملتئم

٣٤٨

واضافته الى الزمان المخصوص بل الى خصوصية الاضافة المعبر عنه بالاين.

«المختار فى المسألة»

هذا تمام الكلام فى مقدمات المقصود ، وقد ظهر منها المختار المقصود بيانه فى هذه المسألة ، فانك قد عرفت جواز الجمع بين المحبوبية والمبغوضية فى الشىء الواحد باعتبارين جهة او حدا.

نعم لا نتحاشى عن القول باستحالة الجمع بين البعث والزجر فى الشىء الواحد بناء على القول بالسراية اما بناء على عدمه فلا مانع من اجتماعهما ايضا ، وخلاصة الكلام وفذلكة المرام فى تنقيح المقام ، ان الخلاف فى جواز اجتماع الامر والنهى وامتناعه ، ان كان بمناط تعدد الجهة فلا ينبغى الشك فى امتناعه لو اريد من الامر والنهى مرتبة البعث والزجر من غير تفاوت بين جميع الفروض المفروضة فى تعدد الجهة ، كما انه لا ينبغى الشك فى امتناعه فى مرتبة المحبوبية والمبغوضية ، اذا اختلفا جهة واتحدا منشأ ، ولا ينبغى الشك ايضا فى جواز الاجتماع لو اختلفا من الوجهين جهة ومنشأ نحو اختلاف الجنس والفعل ، واما اذا اختلفا جهة واتحدا فى بعض المنشا كما فى مثال الغصب والصلاة بناء على انهما يتفقان فى جزء هو الكون ، ويختلفان بنحوي الاضافة فقد عرفت ، جواز اجتماع الامر والنهى فى الجهة التى يختلفان فيها ، دون ما يتحدان فيه من جزء الكون ، سواء كان المثال من قبيل صل ولا تغصب مما تكون النسبة بين العنوانين بالعموم من وجه ، او من قبيل صل ولا تغصب فى هذه الصلاة مما يكون النسبة بينهما بالعموم والخصوص المطلق ، واما بناء على اختلافهما بتمام

٣٤٩

المنشا على ان يكون كل من الغصب والصلاة من مقولة مستقلة ، فلا ريب فى جواز تخالفهما بتمام المنشا فى الرجحانية والمرجوحية كما لا ريب فى عدم جواز تخالفهما فى ذلك لو اتحدا فى حقيقة الكون ، واختلفا بالاعتبار كما هو ظاهر الكفاية ، حيث ادرج الغصبية فى مثال الاعتباريات المحضة التى ليس لها ما بازاء فى الخارج نحو الملكية ، فانه على هذا المبنى يستحيل تخالفهما فى الرجحانية والمرجوحية اذ هما من حيث الكون واحد يمتنع اتصافه بالضدين ، ومن حيث الاختلاف بالوجه الاعتبارى يمتنع اختلافهما رجحانية ومرجوحية ، اذ المتصف بهما ما له حظ من الوجود ، والاعتباريات المحضة لا حظ لها من الوجود ، فاذا لم يكن لهما حظ من الوجود ، لم يكن تتحمل المصالح والمفاسد ، حتى يترتب على ذلك الاتصاف بالرجحانية والمرجوحية فان المصالح والمفاسد انما تقوم بالخارجيات لا بالاعتباريات المحضة هذا.

ولكن الاشكال كله فى صحة المبنى فان الغصبية ليست كالملكية من الاعتباريات المحضة الغير الموجودة فى الخارج ، فان الغصب ينتزع من نسبة الكون فى المكان الى عدم رضاء المالك ، ومعلوم ان هذا لا يتقوم امره باللحاظ كما هو كذلك فى الاعتباريات بل له فى نفسه واقعية كان هناك لاحظ او لم يكن ، ومجرد كون الرضاء وعدمه من الامور الباطنية الغير المحسوسة بالعيان لا يصير الغصبية من سنخ الاعتباريات ، هذا لو كان الخلاف فى الجواز والامتناع بمناط تعدد الجهة وعدمه ، ولا يبعدان يكون خلافهم فى ذلك مبتنيا على هذا المناط لا غيره ، اذ لم يوجد لغيره فى كلامهم عين ولا اثر ، إلّا ان مرجع النزاع فى ذلك الى النزاع فى الصغرى ، اى ان الجهتين هل يختلفان بالمنشإ او هما متعدان فيه؟ فمن بنى على الاختلاف قال :

٣٥٠

فى المسألة بالجواز ، ومن بنى على الاتحاد قال فيها بالامتناع. واما ان كان الخلاف فى المسألة مبتنيا على الخلاف فى السراية وعدمها ، فقد عرفت ان القائل بالجواز يقول به ، حتى مع فرض اتحاد العنوان الواقع متعلقا للامر والنهى ، كما فى مثال اكرم العلماء ولا تكرم الفساق فى العامين من وجه ، او اكرم العالم ولا تكرم العالم الفاسق فى العام والخاص المطلق ، كما انه قائل بالجواز حتى فى مرتبة البعث والزجر ، ولا يختص قوله ذلك فى مرتبة المحبوبية والمبغوضية ، كما كان ذلك بناء على اعتبار تعدد الجهة والوجه فى ذلك ظاهر ، لان القول بالجواز بناء على اعتبار تعدد الجهة ، ناظر الى اختلاف المتعلق ، فلا يجرى مع فرض اتحاده كما انه ناظر الى اجتماع الجهتين فى وجود واحد ، ومعلوم ان الوجود الواحد لا يجوز ان يكون مورد البحث والزجر معا.

واما بناء على الخلاف فى السراية وعدمها ، فمن يقول بالجواز يبتنى قوله ذلك على القول بعدم السراية ، وظاهر انه مع عدمها يجوز توارد البعث والزجر على امرين مختلفين بالاضافة ، وان اتحدا فى المضاف كما فى مثال اكرام العلماء وعدم اكرام الفساق ، بل يمكن البناء على جواز الاجتماع فى المحبوبية والمبغوضية فى متحد العنوان بناء على القول بالسراية ايضا ، اذ لا يمتنع اختلاف الوجود الواحد فى المحبوبية والمبغوضية باعتبار اختلاف حديه بالبيان المتقدم فلا نطيل بالاعادة ، فيكون هذا العالم الفاسق الخارجى محبوب الاكرام لعلمه ، ومبغوضه لفسقه ولا ضير فيه اصلا ، اذ ليس مرتبة المحبوبية والمبغوضية بالغة حد البعث والزجر اللذين يمتنع فرض اجتماعها على وجود واحد.

نعم يمكن قصد التقرب فى ذلك الوجود بما له من الجهة المحبوبة ،

٣٥١

فلو كان ذلك المأمور به من العبادات صحت العبادة مع قصد التقرب بتلك الجهة لا بتمام جهات ذلك الوجود ، إلّا ان ذلك يبتنى على الاجتزاء بمثل هذا التقرب فى بعض جهات الوجود ، والظاهر تسالمهم على خلافه ، فأنهم يعتبرون التقرب فى الوجود الواحد بتمام حدوده وجهاته فالثمرة عديمة فى العبادات.

نعم هى ظاهرة فى التوصليات الغير المفتقرة الى نية التقرب ، لكن لا مطلقا بل اذا كانت المصلحة فيها غالبة على المفسدة ، واما اذا انعكس الامر فكانت المصلحة مغلوبة فى جانب المفسدة فقد عرفت ان حكمه حكم المضيق الذى زوحم بالموسع يجب فيه مراعاة النهى وامتثاله مقدما على الامر الموسع.

«فى ان اجتماع الامر والنهى من باب التزاحم دون التعارض»

«بقى فى المقام امور :» الاول : ان الخلاف فى هذه المسألة مفروض فيما يجوز فيه تحقق المقتضى والملاك فى الامر والنهى ، وبذلك يفترق المقام عن مسئلة التعارض ، فانه على التعارض لا يكون المقتضى للحكم موجودا الا فى واحد منهما ، او كان يحتمل انتفائه عن احدهما حتى يتأتى فيه احتمال الصدق والكذب فى كل من الدليلين ، فيلتمس المرجح الذى يستعلم به الصادق منهما ويمتاز به عن الكاذب ، وهذا بخلاف المقام فان الكلام مفروض فيما يكون مقتضى الحكم الوجوبى الذى هو المصلحة ، ومقتضى الحكم التحريمى الذى هو المفسدة ، كلاهما مجتمعين فى المجمع الذى يتصادق فيه العنوانان المتعلقان للامر والنهى ، كما فيما مثلوا به من الصلاة والغصب ، فان الصلاة فى الدار المغصوبة التى هى مجمع العنوانين ،

٣٥٢

قد اشتملت على مصلحة صلاتية ومفسدة غصبية ، ويقع التزاحم بينهما ، ويتأتى فيه الخلاف فى جواز الاجتماع بين الحكمين وعدمه ، وقد عرفت ان القول بالجواز هو المختار ، اذا كان المقصود من ذلك اجتماعهما من حيث المحبوبية والمبغوضية دون مرتبة الفعلية بعثا وزجرا ، إلّا بناء على عدم السراية ، فانه يجوز بناء عليه الذهاب الى اجتماعهما فى مرتبة الفعلية بعثا وزجرا ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله فراجع.

وانما الكلام هنا فى بيان ما يستعلم به المورد الذى يقع فيه التزاحم بين الملاكين ، ويمتاز به عن مورد التعارض فنقول وبالله نستعين فانه خير معين : ان علم بطريق يقينى باجتماع الملاكين فى مجمع واحد ، بنى على ان ذلك من مورد التزاحم ويجىء فيه الخلاف المذكور فى مسئلة اجتماع الامر والنهى ، وان علم بعدم تحقق ازيد من ملاك واحد فيه ، كان ذلك من مسئلة التعارض ويجرى عليه احكامه ، وان لم يعلم بشيء من ذلك امكن استعلام الحال من ظاهر الدليل القائم على الحكمين ، فان قوله (ص) صل ، كما يدل بالمطابقة على وجوب الصلاة ، يدل بالالتزام على قيام المصلحة فى متعلق الحكم بلا اختصاص لها فى قيامها بمورد دون مورد كما هو قضية الاطلاق ، وكذا قوله (ع) لا تغصب كما يدل بالمطابقة على حرمة الغصب ، يدل بالالتزام على ان فيه مفسدة قائمة به لا تختص بحال دون حال ، كما هو قضية اطلاق المقال ، فاذا اتفق اجتماع العنوانين وتصادقهما على مصداق واحد ووجود فارد ، جاء التزاحم بين الملاكين وجرى فيه الخلاف المحرر فى المسألة ، لكن يختص هذا النحو من الاستظهار فى مختلفى العنوان لا متحده ، فلو ورد صل فى دليل وورد فى دليل آخر لا تصل ، كان ذلك من باب التعارض لا محالة ، لاستحالة اشتمال

٣٥٣

العنوان الواحد على مصلحة ومفسدة يترتب عليهما الحكمان المختلفان وجوبا وتحريما ، فلا بد من ان يكون احد الحكمين واردا بلا ملاك ومنشإ يقتضيه فيكون غير مطابق للواقع ، فيلتمس الترجيح لاحد الدليلين حتى يتشخص الحجة الفعلية منهما المطلوب تصديقه ويميز به عن غير الحجة كذلك ، وقد يتفق فى مختلفى العنوان ما تكون هناك قرينة عقلية قاضية ، بأن الحكمين لم ينشأ الا عن ملاك واحد ، كما اذا فرض دلالة احد الدليلين على الوجوب ودلالة الآخر على عدم الوجوب بشرط ان يكون دلالتهما على ذلك بالمطابقة دون الالتزام ، مثلا لو فرض قيام دليل دل بمنطوقه على وجوب الصلاة ، وقام دليل آخر دل بمنطوقه على عدم وجوب الغصب ، كان قضية الدليل الاول تحقق ما يقتضى الوجوب فى المجمع ، وقضية الدليل الثانى انتفاء مقتضيه فى ذلك المجمع ، ومن المستحيل ان يكون فى شىء واحد مقتضى الوجوب وعدم مقتضيه لاستحالة اجتماع النقيضين ، فلا بد من ان يكون احد الدليلين صادقا فى مؤداه دون الآخر ، فيقع التعارض بينهما ويلتمس الترجيح ويخرج عن مسئلة اجتماع الامر والنهى. والنكتة فى التقييد بالمطابقة دون الالتزام فى مورد الفرض ، هو الاحتراز عن معارضة تورد هنا ، فيقال : ان الاختلاف فى الدلالة على الوجوب وعدمه ، جار فى مثال المختلفين بالحكم الوجوبى والتحريمى ايضا لان دليل التحريم كما هو دال على حرمة متعلقه ، كذلك هو دال على عدم وجوبه ايضا فيجيء فيه الكلام المذكور فى تقريب التعارض ايضا. ويدفعه الفرق بين المقامين ، فان الدليل القائم على الحرمة وان دل بالالتزام على انتفاء الوجوب ، إلّا ان دلالته عليه من جهة اشتمال المتعلق على ما يزاحم الوجوب فى مورد يتصادق فيه العنوانان ، وذلك المزاحم هو المفسدة القاضية بالتحريم ، لا لخلوه عن مقتضى

٣٥٤

الوجوب.

فتلخص مما قررناه ان ظاهر الدليل قاض بالبناء على المزاحمة ، الا فيما تقوم القرينة على خلافه ، وقد قامت القرينة على الخلاف فى مقامين :

احدهما : فى متحد العنوان والآخر : فى مختلفه ، واختلاف الحكم مطابقة بالوجوب وعدمه على اشكال فى الثانى ، لا مكان منع دلالة دليل النافى للوجوب على انتفاء مقتضيه ، بل يجوز ان يكون انتفاء الوجوب فى ذلك العنوان مستندا الى حصول ما يقتضى انتفائه ، كما قد يتفق ذلك فى بعض المستحبات التى هى بحسب الاقتضاء الاولى ، ينبغى ان يكون من الواجبات ، نحو التمسوك بالمسواك ، إلّا ان مصلحة التسهيل تكون مانعة عن الالزام به ، فتضمن الدليل نفى الوجوب الاعم ، من كون المتعلق مشتملا على ما يقتضى عدم الوجوب او لا يكون مشتملا عليه ، ولا دلالة للعام على الخاص كما لا يخفى ، ولا يكون من باب التعارض الا على تقدير الثانى المفروض فيه دلالة الدليل على عدم تحقق مقتضى الوجوب ، والدلالة على ذلك ممنوعة فتأمل.

اللهم إلّا ان يدعى استظهاره من الدليل كما ادعاه شيخنا العلامة دام ظله وفيه نظر هذا.

وقد ذكر الماتن قده فى الامر التاسع ما ملخصه ان الحكمين اذا كانا فعليين كانا من باب التزاحم على القول بالجواز ، لثبوت المقتضى للحكم كليهما ، واما على القول بالامتناع يكون من باب التعارض ، اذ بناء عليه يمتنع بقاء الحكمين على فعليتهما ، واذا لم يبقيا على الفعلية فلا يكون فى البين ما يدل على وجود المقتضى لكل منهما ، اذ كما يجوز ارتفاع الفعلية من الحكم بحصول المانع عن فعليته بعد وجود مقتضيه ، كذلك يجوز ان يكون ارتفاعه لانتفاء مقتضيه.

٣٥٥

اقول : اما ما بنى عليه من لا بدية القول بالتزاحم بناء على القول بالجواز ، ففيه ان القائل بالجواز لم يقل به باعتبار مرتبة الفعلية لاستحالته على وجه لا يكاد يخفى ذلك على فاضل فضلا عن عالم ، وانما ذهب الى الجواز باعتبار مرتبة المحبوبية والمبغوضية ، والرجحان والمرجوحية. نعم يجوز القول بالجواز بلحاظ الفعلية بناء على القول بعدم السراية ، لكن ذلك خلاف مختار الماتن قده.

وربما يتخيل من قوله بالتخيير العقلى فى افراد الطبيعة المأمور بها ، اختياره القول بعدم السراية ، وإلّا لكان التخيير بينهما شرعيا ، إلّا انه خيال فاسد جدا ، اذ ذلك تخيير عقلى بلحاظ الخصوصيات الشخصية ، دون ما تنضم اليه من الحصص الفردية ، فان الحصص الفردية محكومة بحكم الطبيعة ، ويسرى اليها الحكم بفعليته من جامع الطبيعة ما لم تكن ذلك الحكم مزاحما بحكم آخر فعلى مثله كما فى مثل المقام ، فإن الحكمين الفعليين ايجابا وتحريما ، يستحيل تواردهما بما لها من الفعلية على مورد التصادق ، وما هو المجمع لمتعلقى الحكمين ، واذا ارتفعت الفعلية ، لم يبق ما يدل على وجود المقتضى للحكمين ، حتى يكون ذلك من باب التزاحم فتدبر.

واما ما بنى عليه من التعارض على القول بالامتناع ، ففيه ان ظاهر الدليل يقتضى فى مثله بالبناء على المزاحمة دون المعارضة ، لان مانع التضاد بين الحكمين انما منع من تنجزهما فى مرتبة البعث والزجر ، فهذه قرينة عقلية قاضية بتعذر الفعلية والتنجز فى الحكمين ، فيقتصر عليها فى مقدار قرينيتها ويبقى ظهور الدليل فى قيام المصلحة والملاك فى المتعلق بحاله لا يصادمه شيء يدل على خلافه ولا ينثلم ظهوره بتلك القرينة الفعلية المنفصلة ، فيكون المجمع المنطبق عليه العنوانان قد اشتمل على مصلحة ومفسدة ، وهما

٣٥٦

متزاحمان فيه لا متعارضان وهو ظاهر لا اظن ان يخفى على طلبة.

«حكم صلاة الغافل والجاهل والناسى فى الدار المغصوبة»

«الامر الثانى :» لا خلاف بينهم فى صحة الصلاة فى الدار المغصوبة مع الغفلة عن الموضوع ، او اعتقاد الخلاف جهلا مركبا ، وكذلك الحال فى نسيان الحكم او جهله عن قصور لا تقصير ، والوجه فيه امكان التقرب بالصلاة مع هذا الحال ، ولو برجاء محبوبيتها ورجحانها بمغلوبية مفسدتها فى جنب المصلحة ، او بنية التوصل بها الى الغرض ، او اعتقاد المطلوبية فى الجهل المركب.

وربما يعارض ذلك بمن صلى قبل الوقت بزعم دخول الوقت ، فان صلاته باطلة قطعا ، من غير خلاف بينهم فى ذلك ، وهو كمعتقد الخلاف فى مفروض المقام ، لا فرق بينهما من حيث الجهل المركب ، فلا يتجه التفكيك بين المقامين بالحكم بالصحة فى الجاهل بالغصبية او ناسيها كما هو مفروض المقام ، وبالحكم بالبطلان فيمن صلى قبل الوقت.

ويدفعه ان الفرق بينهما ترتب الغرض هنا على الصلاة ، اذا اتى بها برجاء المحبوبية او اعتقاد المطلوبية فان هذا المقدار ، كاف فى حصول القربة المعتبرة فى العبادة ، وهذا بخلاف غيرها من الشرائط المعتبرة فى العبادة ، فان الغرض المطلوب من تلك العبادة ، لا يحصل إلّا مع تحقق ذلك الشرط واقعا ، ولا يكفى فيها احتمال التحقق او اعتقاد تحققه جهلا مركبا.

والحاصل انه فرق واضح بين القربة وغيرها من الشرائط ، فان غيرها يعتبر تحققه واقعا ، بخلاف القربة فانها اوسع دائرة من غيرها

٣٥٧

من الشرائط ، لانه يكفى فيها اتيان العبادة برجاء المحبوبية او اعتقاد الخلاف المطلوبية هذا.

وربما يوجه الصحة فيما فرض من الغفلة او اعتقاد الخلاف او نسيان الحكم او جهله ، بأن الغفلة لما كانت مانعة عن فعلية الحكم ، فلم يكن فى البين ما يزاحم المصلحة فى تأثيرها بالارادة ، فكانت الصلاة على هذا ممحضة للارادة والطلب ، فيجوز التقرب بامتثال امرها ، وتكون صحيحة ، وهكذا الحال فى نسيان الحكم والجهل المركب به ، واوضح من ذلك نسيان الموضوع ، لانتفاء القدرة معه على امتثال النهى ، فيسقط التكليف النهيي بالعجز ، وتبقى المصلحة على تأثيرها فى التكليف الصلاتى.

ويرد على هذا الوجه ان المصلحة لما كانت فى العالم الواقع ونفس الامر ، مغلوبة فى جنب المفسدة ، تمحض العمل للمبغوضية والكراهة فى نفس الامر والواقع ، فلم يحرز تعلق الارادة بالصلاة فى مرتبة الفعلية فضلا عن مرتبة التنجز ، ويمتنع التقرب فيها بنحو امتثال الامر الجزمى ، بل بنحو المتقدم من رجاء المحبوبية ، او التوصل به الى الغرض فتأمل.

«الكلام فى الاضطرار»

«الامر الثالث» : اذا اضطر الى الكون فى مكان غصبى وقد حل وقت الصلاة عليه ، فتارة يكون اضطراره بغير سوء اختياره ، واخرى بسوء اختياره وعلى كلا التقديرين ، اما ان يكون المغصوب الارض خاصة دون الفضاء ، واما ان يكون الامر بالعكس ، واما ان يكون المغصوب الارض والفضاء كليهما ، وعلى جميع التقادير اما ان

٣٥٨

يستمر الاضطرار فيه الى آخر الوقت ، او لا يكون مستمرا كذلك ، فإن الاضطرار بغير سوء الاختيار وكانت الارض هى المغصوبة دون الفضاء ، فليس له ترك الصلاة ، ضرورة ان الصلاة لا تترك بحال ، فهى اولى بالمراعاة من الغصب لكن يجب الاقتصار فيها على المقدار الواجب ، مما يلزم ايجاده ، فلو تمكن من الصلاة قائما على رجل واحدة ، تعين عليه ذلك مما لم يستلزم عسرا ، والا صلى على رجليه ، وهكذا يتنزل من الاقل تصرفا فى الدار المغصوبة الى الاكثر منه وليس له اختيار الصلاة المستوفاة لتمام ما يلزم مراعاته فى حال الاختيار ، إلّا اذا لم تكن اضطراره مستمرا الى آخر الوقت ، فانه يلزمه على هذا التقدير ، انتظار الساعة التى يتخلص فيها عن الغصب حتى يؤدى الصلاة فيها على الوجه الاختيارى ، وان كان المغصوب هو الفضا دون الارض ، صلى صلاته على وجه الاختيار اذ لا يتفاوت التصرف باختلاف المفروضة فى الصلاة قياما وقعودا واضطجاعا ، اذ لا بد من مشغولية مقدار من الفضاء بقدر جسده ، وهو لا يختلف بين انحاء الحالات والكيفيات ، فمن يكون قائما على قدميه يشغل من الفضاء بمقدار جلوسه لو جلس ، لان القعود يأخذ من جوانب الجالس بمقدار ما يأخذ القيام من جانب العلو والارتفاع وهكذا فى سائر الحالات ، وهذا مما لا يخفى على المعتبر المتفطن ، واذا كان ذلك كذلك فمتى تضيق عليه الوقت ولم يكن له مندوحة من التخلص من الغصب ، جاز له الصلاة الاختيارية ، ومثله الحال مع سعة الوقت لو علم باستمرار اضطراره الى آخر الوقت ، فانه يجوز له الصلاة فى اول الوقت بصلاة مستوفاة الافعال ولا ضير فيه ، بل يجوز له ذلك حتى مع فرض علمه بعدم استمرار الاضطرار الى آخر الوقت ، لان الصلاة بعد ان كانت مطلوبة فى هذا الحال ولم يكن يتفاوت الحال عليه فى

٣٥٩

اختلاف اوضاع الصلاتية ، ولم تكن كيفية الصلاة بما هى كيفية لها تفتقر الى كون زائد على ما يقتضيه اصل الكون الغصبى ، لم يكن بأس فى التقرب بالصلاة ، إلّا ان تقربه ذلك انما يكون بالكيفية الصلاتية لا بالكون الغصبى ، لاشتماله على المفسدة المانعة عن صلاحية التقرب به ولا ضير هنا فى التقرب بإتمام العمل لا تمامه ، اذ لم يقم اجماع على اعتبار التقرب بالتمام الا فى حالة الاختيار دون الاضطرار فتأمل.

فتحصل انه على هذا الفرض من غصبية الفضاء خاصة لا يتفاوت الحال بين صورتى استمرار الاضطرار الى آخر الوقت وعدمه.

وان كان المغصوب الارض والفضاء معا صلى صلاته مع الركوع دون السجود ، لانه فى السجود يلزم التصرف الكثير الذى يزيد على القدر اللازم من الكون الغصبى ، وكذا يأتى ببقية الافعال الصلاتية غير السجود ، لما عرفت من عدم استلزامه التصرف فى الارض والفضاء بما يزيد على ترك الاتيان بتلك الافعال ، لو لم نقل بأن نفس القراءة والركوع تصرف زائد على ما يقتضيه اصل الكون ، وكيف كان فبناء على العدم يسقط ما كان مقدمة لغيره كالهوى الى السجود بسقوط ذى المقدمة ، لظهور سقوط الطلب الغيرى عند تعذر الغير مطلقا ، فيصلى صلاة مستوفاة الافعال لا ينقض منها شيئا من افعالها الا السجود ومقدماته سوغ ذلك له الاضطرار لكن بشرط استمراره الى آخر الوقت ، اما مع عدم استمراره كذلك فلا يسوغ له الصلاة حتى ترتفع عنه الضرورة ويأتى بها غير ناقصة كما هى مطلوبة منه ، لان الاضطرار عن الصلاة الاختيارية ، لا يكون إلّا على تقدير استيعاب العذر الوقت بتمامه فلا يسوغ له التنزل الى الصلاة الاضطرارية مع التمكن من الاختيارية فى بعض اجزاء الوقت ، كما لا يسوغ له ذلك ايضا لو كان

٣٦٠