تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

«تنبيهان»

الاول : انه فرق فى الفصول بين الامر والطلب فجعل متعلق الامر الماهية ومتعلق الطلب الايجاد الخارجى قال قده : ثم اعلم انا نفرق بين ما تعلق به الامر اعنى مفاد اللفظ باعتبار الهيئة وبين ما تعلق به الطلب فالامر عندنا لا يتعلق إلّا بالطبيعة من حيث هى ... الى ان قال : واما الطلب فلا يتعلق إلّا بالفرد وهو الايجاد الخارجى الذى هو عين الوجود الخارجى بحسب الذات ، وان غايره بحسب الاعتبار انتهى موضوع الحاجة من كلامه زيد فى علو مقامه (١).

وتبعه الماتن قده فى ذلك فقال فى جملة كلام له : «فانقدح بذلك ان المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد ، انها بوجودها السعى بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود متعلقة للطلب لا انها بما هى هى كانت متعلقة له ، كما ربما يتوهم بأنها كذلك ليست إلّا هى نعم هى كذلك تكون متعلقة للامر فانه طلب الوجود فأفهم.»

وهذا منهما محل نظر ومنع فان التحقيق الذى يساعد عليه النظر الدقيق ان الطلب كالامر لا يتعلق إلّا بالماهية وان هيئة الامر لا تدل الا على الطلب وانما يستفاد الايجاد من اعتبار الماهية بعينها الايجاد الخارجى ، ولعل نظرهما فى ما بنيا عليه الى اعتبار الماهية فى قبال الخارج ، فالتجئا بذلك الى اقحام الايجاد فيما بين الطلب والماهية واعتباره فى مدلول هيئة الامر متعلقا للطلب دون

__________________

(١) ـ الفصول فى الاصول : ١٠٩.

٣٠١

الامر ويلزمهما على ذلك الفرق بين قول الطالب : صل وبين قوله : اوجد الصلاة ، اذ على التعبير الثانى لا معنى لاعتبار الايجاد فى مدلول هيئة الامر لاداء الى طلب ايجاد ايجاد الصلاة وهو لغو وهذيان ، مع انه امر بالمحال ، وان جردت هذه الصنعة بخصوصها عن معنى الايجاد وتمحضت للدلالة على الطلب كان ذلك مجازا فى القول ، وليس فى اللفظ ما يدل على مجازيته ولا فيه خروج عن مقتضى وضع اللفظ ، وإلّا لاحتيج فى ذلك الى رعاية علاقة وعناية فى مقام الاستعمال وليس فى الكلام منها عين ولا اثر ، هذا مضافا الى ان الايجاد لو كان مأخوذا فى مدلول هيئة الامر ، فان عنى به معنى يقابل المنشأ لزم اعتبار ايجاد آخر يضاف اليه ، وان عنى به ما هو المرآة لمنشئه فليعتبر ذلك فى الماهية من اول الامر ويستغنى بذلك عن ارتكاب تكلف اعتبار الوجود فى مدلول الهيئة ولعله قده لاجل ما ذكرناه ذيل كلامه بفافهم.

«فى تثليث القسمة فى الاوصاف»

الثانى : ان مريد الاتحاد بين الشيئين توجب سريان الصفة من احدهما الى الآخر كما نرى ذلك فى الضياء اذا كان موضوعا وراء زجاجة خضراء او حمراء ، فانه يكتسب ذلك الضياء عند استنارته لون الخضرة والحمرة ، فلا ترى الضياء الا اخضر او احمر ، ومن ذلك الالفاظ اذا كانت تحكى عن معان قبيحة فأنك تجد النفس تستكره سماع اللفظ كما تستكره النظر الى معناه ، وفى قباله الالفاظ الحاكية عن معان حسنة جميلة ، فانك ترى النفس تستلذ بسماع اللفظ كما تستلذ بالنظر الى معناه خارجا ، ومن ذلك متعلقات الاوامر فان

٣٠٢

المطلوبية فى الحقيقة صفة لاحقة للصور الحاكية عن الخارجيات إلّا انه يصح اتصاف الخارج بالمطلوبية ايضا ومنشؤه الاتحاد اللحاظى بين المرآة والمرئى ، وليس توصيف الخارج بالمطلوبية مبنيا على المسامحة بل ذلك توصيف حقيقى ، وان كان منشائه الاتحاد المرآتى بين الصورة المتعلقة للطلب وبين ما بازائها من الخارجيات ، اذ ربما يكون دائرة التوصيف اوسع من دائرة العروض ، مثل التجارة فان عروضها على التاجر لا يكون إلّا حيث يتلبس بحرفة التجارة ، إلّا ان توصيفه بالتاجرية لا يبتنى على ذلك فانه يقال للانسان تاجر وان كان نائما غير متشاغل بالتجارة وقس على ذلك المجتهد والقاضى وامثال ذلك.

والقول : بأن المراد من المبدإ هنا ملكة التجارة والاجتهاد وغيره ولم تنفك عنه الملكة.

شطط من الكلام وإلّا لكان يجوز اطلاق التاجر لصاحب الملكة وان لم يكن قد زاول التجارة فى شىء من عمره وكان يتشاغل فى طلب العلم فى تمام عمره والتالى باطل قطعا فالمقدم مثله.

والحاصل انه انا نجد بالوجدان والعيان توسعة حقيقية للتوصيف دون العروض فكان بحق علينا تثليث القسمة فى الاوصاف ونقول : ان منها ما يكون ظرف عروضها واتصافها الذهن خاصة وذلك مثل النوعية والجنسية فأنهما انما يلحقان الماهية وصفا وعروضا باعتبار لحاظها فى الذهن ، ومنها ما يكون ظرف عروضها واتصافها الخارج خاصة وذلك مثل الحرارة والبرودة فأنهما انما يعرضان الشىء بعد وجوده فى الخارج ولا يوصف بهما الا الموجود الخارجى ، ومنها ما يكون طرف عروضها الذهن وظرف اتصافها الخارج ، وذلك مثل الطلب والعلم اللذين هما منشأ انتزاع المطلوبية المعلومية ، فان

٣٠٣

هذين الوصفين ظرف عروضها الذهن وانما الخارج ظرف الاتصاف بهما ، فبطل بذلك قول من الحقهما بالقسم الاول من الاوصاف التى يكون ظرف عروضها واتصافها الذهن خاصة فتدبر جيدا.

«فى عدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب»

فصل : اذا نسخ الوجوب فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الاعم اعنى ما يقابل الحرام ويجتمع مع المكروه ولا بالمعنى الاخص اعنى الاباحة وما يقابل الاحكام الاربعة الباقية ، اذ لا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ عليه بوجه من وجوه الدلالة اما المطابقة فظاهر. واما التضمن فلان الجواز وان كان جزء من معنى الوجوب إلّا انه بعد ارتفاع الوجوب بالناسخ يستحيل بقاء المعنى الاعم ، ضرورة ان بقاء الجنس بلا فصل محال والمعنى الاخص ليس جزءا من معنى الوجوب على انه يفتقر الى فصل ينضم الى جنسه الذى هو الجواز بالمعنى الاعم وليس فى البين ما يدل على ذلك الفصل. واما الالتزام فهو يفتقر الى الملازمة العقلية او العرفية بين النسخ وبقاء الجواز وهى منتفية قطعا ومن ثم لو صرح المولى بالحرمة بعد نسخه الوجوب لم يكن مناقضا فى ظاهر كلامه هذا حال الدليل الاجتهادى.

واما الاصل العملى فليس منه ما يدل على بقاء الجواز إلّا الاستصحاب وهو انما يكون له الدلالة على ذلك حيث يكون معتبرا وهو غير معتبر فى مثل المقام الذى يكون الشك فى البقاء ناشيا عن الشك فى حدوث فرد كلى مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، إلّا اذا كان الحادث المشكوك يعد فى نظر العرف من المراتب الضعيفة للمرتفع نحو الحمرة الضعيفة بالنسبة الى المرتبة القوية منها وليس

٣٠٤

المقام من ذلك القبيل ، لان التضاد بين الاحكام كالنار على المنار وكالشمس فى رابعة النهار فتأمل جيدا.

«الكلام فى الوجوب التخييرى والتحقيق فيه»

«فصل اذا تعلق الامر بأحد الشيئين او الاشياء ففى وجوب كل واحد على التخيير بمعنى عدم جواز تركه الا الى بدل ، او وجوب الواحد لا بعينه ، او وجوب كل منهما مع السقوط بفعل احدهما ، او وجوب المعين عند الله تعالى اقوال» وقد تقدم فى مسئلة الضد شطر من الكلام المتعلق بهذه المسألة وقد عرفت تحقيق الحق هناك وبينا ثمة ان الوجوب التخييرى هو طلب الفعل مع المنع عن بعض انحاء تروكه.

ثم ليعلم ان طرفى التخيير اما ان يكونا متواطيين او يكونا من قبيل المشكك المختلفين قلة وكثرة ، فالأول نحو التخيير بين افراد الانسان فان لكل فرد حصة من الطبيعة غير الحصة الاخرى الموجودة فى ضمن الفرد الآخر بالمغايرة الحيثية والمرتبة وان توافقا ذاتا.

والثانى مثل التخيير بين القصير من الخط وطويله ، ونحو التخيير بين التسبيحة الواحدة والثلث وقد يكون التخيير بين المتباينات كالتخيير فى خصال الكفارة.

فهذه اقسام ثلاثة للتخيير ولا ريب فى جواز التخيير بأقسامه الثلث بنحو الارشاد العقلى ولكن وقع النزاع بينهم فى تصوير الالزام بنحو التخيير فيما يكون الطرفان فيه من الاقل والاكثر ، فقيل : بإمكانه وقيل : بامتناعه وينبغى التفصيل بين الصور المفروضة فى الاقل والاكثر ، فان الاكثر قد يعتبر بشرط لا بمعنى اشتراطه بعدم انضمامه الى ما يزيد عليه نحو التسبيحات الاربعة الموظفة فى الركعة

٣٠٥

الاخيرتين فانه لا يجوز للمصلى ان يزيد على ثلث مرات بعنوان الجزئية وفى مثله يجوز الامر بإيراد التسبيحة مخيرا بين المرة والثلث ولا مانع منه ، اذ المانع المتوهم فى المقام ليس إلّا ان الاقل لا بد من تحصيله ولا يجوز تركه قطعا فإذا حصلت انطبقت الطبيعة المطلوبة عليه وحصل الغرض ومقتضاه سقوط الامر والتكليف فلا يبقى حينئذ مجال للتكليف بالاكثر بنحو التعيين ولا بنحو التخيير ، وهذا المانع لا يتأتى فى مثل هذا الفرض الذى اخذ فيه الاكثر مشروطا بعدم انضمام ما يزيد عليه ، اذ الاقل والاكثر لم يخير بينهما إلّا باعتبار حديهما من القلة والكثرة فليست ذات الاقل تحت الطلب التخييرى بل بما هى محدودة بحد القلة ، فتمام الغرض انما يترتب على الاقل إذا اتحد بحد القلة ، واما قبل ذلك فليس لذات الاقل الا جزء من الغرض اقتضى الالزام به تعيينا فهو امر ضمنى تعيينى متعلق بذات الاقل المندكة فى ضمن المحدود بواحد من حدى القلة والكثرة ، فيكون للامر جنبين جنب تعيينى بملاحظة مطلوبية ذات الاقل على كل من التقديرين وجنب تخييرى بملاحظة عدم لزوم مراعاة خصوص الحد الأقلّي لجواز العدول عنه الى حد الاكثر.

فإن قلت : لا مناص للمكلف من اختيار احد الحدين بعد التزامه بالمحافظة على ذات الاقل فلا يجوز ان يتعلق امر والزام تخييرى باختيار احد الحدين لان مفاد الوجوب التخييرى على ما تقدم هو طلب الفعل مع المنع عن بعض انحاء تروكه ، ومن المستحيل تعدد التروك فى طرفى الاقل والاكثر حتى يمنع عن بعضها ويرخص فى بعضها ، اذ ترك الاقل المحدود بحد القلة واحد لا تعدد فيه كما ان ترك الاكثر بحد الكثرة لا تعدد فيه ايضا ، فلا يجوز ان يمنع عن ترك الاقل عند ترك الاكثر ، لان ارتكاب الاقل بحده يكون حينئذ ضروريا بعد الالتزام

٣٠٦

بالمحافظة على ذات الاقل كما ان ارتكاب الاكثر بحده يكون حينئذ ضروريا بعد ترك الاقل بحده والالتزام بالمحافظة على ذات الاقل.

وبالجملة ينحل الواجب التخييرى الى وجوب احد الابدال عند ترك البديل الآخر ، ومثاله فى خصال الكفارة انه يجب عليك الصيام اذا تركت العتق والاطعام وهذا انما يجوز اذا لم يكن المأتى به لازم التحصيل عند ترك البديل الآخر فى مسئلة الصيام فى خصال الكفارة واما اذا كان لازم التحصيل وضرورى التحقق عند اختيار ترك البديل الآخر فظاهر عدم جواز الامر به الزاما مولويا تخييرا ولا تعيينا.

نعم يجوز ذلك ارشادا كما فى التخيير بين المتناقضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما.

قلت : ليس الامر هنا كما فى المتناقضين كما توهمت فان للاقل بحده تركين تركا فى ضمن اختيار الاكثر المجرد عن ضميمة الزيادة ، وتركا فى ضمن اختياره مع الزيادة فمن لم يأت بالتسبيحة الواحدة تارة يختار الثلث ، واخرى يختار الاربع والممنوع عنه من هذين التركين هو الترك الثانى دون الاول وكذا فى جانب الاكثر فإن تركه يتحقق فى ضمن اختيار الاقل بحده ويتحقق فى ضمن اختيار ما يزيد على الاكثر بأن يكرر التسبيحات اربع مرات والممنوع عنه من التركين هو الترك الثانى دون الاول وهذا بعينه الواجب التخييرى.

ولا ينبغى توهم تصوير ترك ثالث لكل من الاقل والاكثر يكون ممنوعا عنه ايضا وهو ترك الواجب بالمرة وعدم الاتيان به رأسا ، فإن هذا المعنى من الترك وان كان متصورا إلّا انه ليس ممنوعا عنه بمقتضى الوجوب التخييرى بل بمقتضى الوجوب التعيينى الضمنى المتحصل من الوجوب التخييرى ، لما قدمناه من ان ذات الاقل المندكة فى كل من الحدين مطلوبة على كلا التقديرين من اختيار الاقل او

٣٠٧

الاكثر ، فلا يجوز المخالفة فى تركها لادائه الى عصيان الامر التعيينى الضمنى دون التخييرى وان حصلت المخالفة للامر التخييرى ايضا بالتبع.

لا يقال : على هذا يلزم تعدد العقاب فى ترك الاقل بذاته لمخالفة التكليفين التعيينى والتخييرى ، لا يلتزم به قائل.

فانه يقال : قد عرفت منا فيما تقدم ان مناط العقوبة وحدة وتعددا على وحدة الغرض وتعدده ولا تعدد فى الغرض فى مثل هذا النحو من التخيير وإلّا لتعلق بذات الاقل امر تعيينى مستقل وهو خلاف الفرض اذ المفروض فى البين ليس إلّا امرا واحدا عن غرض واحد تعلق بالمأمور به بأحد حديه.

فتلخص مما قررناه ان التخيير الالزامى جائز بين الاقل والاكثر اذ اعتبر الاكثر مشروطا بشرط تجرده عن ضميمة الزيادة.

واما اذا اعتبر مشروطا بعدم الزيادة فى لحوق صفة الوجوب بمعنى عدم اتصاف ما يزيد عليه بصفة الوجوب وان لم يكن ممنوعا إلّا ان الزائد يكون خارجا عن حيز الحكم الوجوبى فلا يجوز فى مثل ذلك التخيير الالزامى مرددا بين الاقل والاكثر ، اذ لا يكون للاقل من بعد المحافظة على ذاته الا ترك واحد وهو الترك المستتبع لاتيان الاكثر ، وكذا الاكثر لا ترك له بعد المحافظة عن ذات الاقل الا ترك واحد وهو الترك المستتبع لاتيان الاقل بحده ، ومثله فى عدم جواز التخيير مولويا اذ اعتبر الاكثر بشرط لا بمعنى ثالث ، وهو ان يكون الزائد موصوفا بصفة الوجوب استقلالا فكل ما يأتى به من الزيادة يكون واجبا استقلاليا ، فيكون هناك وجوبات متعددة بتعدد ما يختاره من الزيادات فهذا التخيير بين الاقل والاكثر اذا اعتبر الاكثر بهذين النحوين من الاعتبارين الاخيرين ، لا يجوز ان يكون بنحو الالزام و

٣٠٨

البعث المولوى على ارتكاب احد الطرفين اذا لم يؤت بعديله.

نعم يكون ذات الاقل مطلوبا تعيينيا بالطلب الاستقلالى فيحرم عليه تركه بترك كلا الطرفين بل يلزمه الامتثال فى ضمن احد الحدين مخيرا بينهما بالتخيير الارشادى العقلى لان الاقل والاكثر على هذا من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما لا يجوز التخيير بينهما الا على سبيل الارشاد ، ومثله الحال فى المتناقضين بل امتناعه فى الضدين والمتناقضين اولى منه فى ما نحن فيه اذ ما نحن فيه من الاقل والاكثر يجوز خلو المكلف عنهما دون مثل المتناقضين والضدين اللذين لا ثالث لهما لاستحالة انفكاك الانسان عنهما فلا يجوز تكليفه بنحو التخيير ويلزم بإتيان الحركة عند ترك السكون او بالعكس اذ الحركة ضرورية الحصول عند ترك السكون وبالعكس وهذا واضح لا ينبغى الارتياب فيه من ذى مسكة ان لم يكن اعتبر احدهما تعبديا وإلّا فذلك يختلف بحسب المبانى والمسالك ، فعلى القول بصحة اعتبار القربة فى المأمور به يجوز من المولى الالزام باختيار العمل القربى اذا ترك نقيضه او ضده اذ ليس العمل القربى حينئذ لازم الحصول عند ترك النقيض حتى يمتنع الالزام به فلو كانت الحركة مثلا قد اعتبر فيها التقرب جازان يقول المولى الحكيم : ان تركت السكون يلزم الحركة متقربا ولا بأس به اصلا ، بل مآل هذا حينئذ الى الضدين اللذين لهما ثالث لامكان الخلو عنهما بالتلبس بالحركة الخالية عن نية التقرب.

وعلى مختار الماتن قده يشكل القول بجواز التخيير الالزامى فى ذلك اذ المطلوب على مختاره هو العمل نفسه وانما القربة قد اعتبرت فى طريق الامتثال فيكون المتعلق للطلب الالزامى ساذجا معرى عن القيد ، باقيا على اطلاقه ، ومن المعلوم بل البديهى استحالة التكليف بمثل هذا النحو من العمل عند ترك نقيضه لما عرفت من عدم مناص

٣٠٩

للمكلف عن مثل هذا العمل بعد ترك نقيضه فيستحيل البعث نحوه الزاما مولويا ولا بأس به ارشادا.

واما على ما اخترناه فى القربة من خروجها عن المأمور به مع كون العمل المأمور به ليس معتبرا الا على وجه الاهمال بنحو يكون تواما مع القربة ، فربما يتوهم فيه جواز التخيير مولويا لتخصص العمل حينئذ فما هو المأمور به حصة غير الحصة الاخرى الغير المتعلق بها الامر فيصح ان يقال : ان تركت النقيض فاختر الحصة التى هى توأم مع القربة دون الحصة الاخرى.

وفيه : ان باب العمل هنا مع القربة باب الاقل والاكثر فيكون العمل متعلقا للامر على كل حال وانما الشك فى اعتبار شىء آخر دخيلا فى حصول الغرض ، فهو انما يفترق عن سائر موارد الاقل والاكثر بأنه فى سائر الموارد يكون الزائد على تقدير اعتباره مأخوذا فى المأمور به على وجه الشرطية او الشطرية ، وهنا ليس يحتمل اعتباره فى المأمور به وانما المحتمل اعتباره فى الغرض ، ومن ثم قلنا فى محله ان المرجع لدى الشك فى اعتبار القربة فى المأمور به ، هو البراءة دون الاشتغال فلو كان مآله الى الترديد بين الحصتين كان ذلك ترديدا بين امرين متباينين لا يجوز معه الرجوع الى البراءة ، بل كان المحكم فيه قاعدة الاشتغال.

إلّا انه لا يخفى على الخبير ان الشك فى اعتبار القربة وعدمه ليس من قبيل الشك الدائر بين المتباينين بل الاقل والاكثر ، وحينئذ نقول هنا ان تعلق الطلب التخييرى بالعمل القربى معناه اذا تركت النقيض يلزمك الاتيان بالعمل القربى ولا ريب ان العمل القربى قد فرض اعتباره مهملا لا مطلقا ولا مقيدا وكما لا ينفك المكلف عن اختيار العمل المطلق بعد اختياره ترك النقيض كذلك لا ينفك عن

٣١٠

اختيار العمل المهمل بعد اختياره ترك النقيض فيستحيل البعث نحوه.

فتلخص انه نحن والماتن قده فى القول باستحالة تعلق الطلب التخييرى بالعمل العبادى اذا كان عدلا لنقيضه او ضده المنحصر بلا ثالث فى البين ، وان اختلفنا فى كيفية اعتبار العمل لدى تعلق الامر العبادى به مطلقا على راى الماتن قده ومهملا على المختار فتأمل فيما ذكرنا فانه دقيق وبذلك حقيق كما لا يخفى.

واحتمال ان الطلب التخييرى لا يدعو الى اتيان العمل على تقدير ترك نقيضه بل الى ضم القربة اليه ومثل هذا جائز فى العقل وليس فيه محذور.

يدفعه ان هذا فى المعنى يرجع الى جواز تعلق الامر بالقربة وفيه كلام بين الاعلام وقد حققناه بما لا مزيد عليه فى مسئلة اصالة التعبدية او التوصلية ان شئت فراجع.

ان قلت : قد ذكره شيخنا الانصارى قده فى باب المخالفة الالتزامية ما يكون الامر دائرا بين الوجوب والتحريم اذا لم يكن احدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال (١) فان هذا التذييل بما اذا لم يكن احدهما المعين تعبديا يعتبر فيه قصد الامتثال ، قاض بأنه مع فرض اعتباره قصد الامتثال فى احدهما المعين لا تكون المخالفة فيه مخالفة التزامية بل مخالفة قطعية للتكليف المعلوم الدائر امره بين وجوب الفعل تعبديا او حرمة الترك ومقتضى ذلك جواز التخيير فى مرحلة التكليف بين الاتيان بالشىء بنحو التقرب وبين تركه ، فيظهر منه قده بهذا البيان انه يرى جواز التخيير الزاما بين الفعل والترك اذا كان احدهما عباديا يعتبر فيه قصد الامتثال ، وهو لا يرى اعتبار

__________________

(١) ـ الرسائل : ١٩.

٣١١

القربة فى المأمور به على ما هو المعروف من مذهبه ويدل عليه كلامه فى رسائله.

قلت : المخالفة القطعية للتكليف المعلوم لا تستلزم التخيير الالزامى فى مرحلة ثبوت التكليف فى نفس الامر والواقع بل يجوز ان يكون التكليف فى واقعه تكليفا تعيينيا الزاما بواحد يجهله المكلف فى ظاهر الحال فيحتمل فيه ان يكون تكليفا الزاميا بخصوص الفعل على وجه القربة ، ويحتمل فيه ان يكون تكليفا الزاميا بخصوص الترك توصليا ، فدور ان الامر فى مقام الامتثال بين اختيار الفعل بقصد الامتثال او تركه لا بقصد الامتثال شيء ، والتخيير الزامى بين الفعل القربى وتركه شيء آخر فلا مساس لهذا الكلام منه قده فى ذلك الباب بما نحن فيه.

وقد انقدح لك مما تقدم من الكلام ان التخيير ان كان بين النقيضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فهو تخيير ارشادى ومنه التخيير بين الاقل والاكثر اذا اعتبر الاكثر مشروطا بشرط لا بالمعنيين الاخيرين ، وان لم يكن بين النقيضين او الضدين اللذين لا ثالث لهما فهو تخيير مولوى ومنه التخيير بين الاقل والاكثر اذا اعتبر الاكثر بشرط لا بالمعنى الاول.

نقول : هنا علاوة عما تقدم ، ان التخيير المولوى تارة يكون فى مسئلة فرعية كالتخيير فى خصال الكفارة ، واخرى يكون فى مسئلة اصولية كالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، فانه بأيهما اخذ من باب التسليم وسعه ، وكان ذلك المأخوذ حجة على المكلف يلزمه العمل بمقتضاه ايجابا او تحريما ، فهو نظير التخيير بين المجتهدين المتساويين فى الاجتهاد والاعلمية والاورعية لا يجوز للمقلد العمل بقول احدهما الا بعد اختيار احدهما المعين للتقليد ، فيشترط فى

٣١٢

تنجز التكليف عليه فى العمل بمقتضى احد الخبرين او قول احد المجتهدين اختيار الاخذ بواحد منهما وهذا لا يفترق الحال فيه بين القول بالتخيير الابتدائى او الاستمرارى ، اما الاول فظاهر اذ لا يلزمه الالتزام باستمرار العمل على طبق احدهما الا من بعد البناء فى اول الامر على اختيار واحد منهما على التعيين ، واما على الثانى فهو وان جاز له العمل دائما ابدا بكل من الخبرين او القولين إلّا ان ذلك مشروط بمسبوقية العمل باختيار الاخذ بالمعلول به من احد الخبرين او القولين وهذا الشرط مفقود فى التخيير الفرعى كما فى خصال الكفارة كما لا يخفى.

وتظهر الثمرة بينهما فى مقام القصد ونية الامتثال ففى التخيير الاصولى يقصد الامتثال التعيينى بما اخذه من احد الخبرين او القولين ، وفى التخيير الفرعى يقصد الامتثال التخييرى.

اذا عرفت ما تلوناه عليك يظهر لك ان فى عبارة الماتن قده مواقع للنظر منها قوله : «والتحقيق ان يقال : انه ان كان الامر بأحد الشيئين بملاك انه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما بحيث اذا اتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا يسقط به الامر ، كان الواجب فى الحقيقة هو الجامع بينهما وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك لوضوح ان الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع فى البين لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول ، وعليه فجعلها متعلقين للخطاب الشرعى لبيان ان الواجب هو الجامع بين الاثنين.»

انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد فى علو مقامه.

فإن البناء على التخيير العقلى فى مثل هذا الفرض المذكور فى كلامه قده ، يبتنى على القول بعدم سراية الطلب الى الافراد ، وقد

٣١٣

عرفت فى مبحث تعلق الاوامر بالطبائع ان التحقيق عندنا هو القول بالسراية ، وعليه فالتخيير شرعى لا عقلى كما مر توضيحه بما لا مزيد عليه.

ومنها قوله «وان كان بملاك انه يكون فى كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض فى الآخر بإتيانه كان واحد واجبا بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه الا الى الآخر وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما» انتهى فإن قوله اخيرا والعقاب على تركهما ان اراد به تعدد العقاب على تركهما فهو لما سبق منه قده فى مسئلة الضد حيث انه قده انكر التعدد فى ذلك المبحث وقال : لا اظن ان يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق فى صورة مخالفة الامرين من العقوبتين ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد انتهى.

فإن هذا الكلام منه اعتراف بدوران العقوبة وحدة ، وتعددا مدار القدرة على الامتثال وعدم القدرة عليه ، ولا ريب ان القدرة على استيفاء الغرضين بامتثال التكليف متعذرة فى المقام كما هى متعذرة فى مسئلة الترتب ، وان اراد به وحدة العقاب على تركهما اتجه النظر عليه بما سبق غير مرة من تبعية العقوبة فى الوحدة والتعدد لوحدة الغرض وتعدده اذا كان قادرا على امتثال التكليف او اسقاطه عنه بوجه غير ممنوع عنه شرطا.

ومنها قوله بالتخيير بين الاقل والاكثر مع اعتبار الاقل بشرط لا كما صرح به فى بعض كلماته قائلا : بأنه «لا يكاد يترتب الغرض على الاقل فى ضمن الاكثر وانما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ومعه كان مترتبا على الاكثر بالتمام» انتهى فانه ان اراد بالتخيير هنا ما يعم التخيير الارشادى فهذا مناف لما صدر به عنوان المسألة

٣١٤

فى كلامه بأنه اذا تعلق الامر بأحد الشيئين او الاشياء ، ضرورة ان التخيير الارشادى لا يكون ناشيا عن تعلق الامر بأحد الشيئين او الاشياء.

ان قلت : لا يختص الامر بالمولوى بل يجوز ان يكون امرا ارشاديا يفيد التخيير الارشادى.

قلت : انما يريد بالامر فى صدر كلامه الامر المولوى خاصة بقرينة التفريع عليه بقوله : ففى وجوب كل واحد على التخيير الخ فان الوجوب لا يتأتى إلّا من قبل الاوامر المولوية دون الارشادية ، وان اراد بالتخير هنا التخيير المختص بالمولوى اتجه عليه النظر بأن هذا النحو من التخيير المولوى لا يجوز فى الاقل والاكثر الا فى بعض الصور فكان ينبغى له التفصيل بينهما ولا يطلق الكلام فيها كما يقتضيه عبارته.

وكيف كان فالامر سهل بعد ما اتضح لك حقيقة الحال بما بيناه آنفا فتأمل فيه جيدا.

«الكلام فى الواجب الكفائى»

«فصل فى الواجب الكفائى» وهو قريب من الواجب التخييرى انما يطلب فيه الفعل على تقدير دون تقدير وانما يفترقان فى ان التخيير فى الواجب التخييرى واقع بين اشياء كلها متعلقات للامر وفى الواجب الكفائى واقع بين اشخاص المكلفين ، فأيهم اتى بالمأمور به سقط التكليف عن الباقين ومنشأ سقوطه عنهم تارة لعجزهم عن الامتثال من غيرهم ، واخرى لارتفاع الموضوع المحقق لتعلق التكليف بهم كما فى تغسيل الميت فانه لو غسله واحد ارتفع موضوع وجوب

٣١٥

تغسيله عن الباقين ، فلا يبقى حينئذ مجال لتكليفهم بالتغسيل ثانيا وثالثة ، لقيام الغرض بالجامع الذى يتحقق من امتثال احدهم فيرتفع بذلك مقتضى التكليف عن الباقين ، وثالثة لاشتراط الامتثال من احدهم بعدم امتثال غيره ، وفرق بين هذه الصورة الاخيرة وما قبلها فانه على الصورة الاخيرة تمتنع امتثال الجميع دفعة واحدة بخلافه على الصورة المتقدمة كما هو ظاهر لا يخفى. وفى الصورة الاخيرة يجوز اعتبار عدم امتثال الغير شرطا فى الواجب كما يجوز اعتباره شرطا فى الوجوب ، فينبغى النظر فى الدليل.

وتظهر الثمرة بين الاعتبارين فى صورة الشك فى قيام الغير بالمأمور به ، فان كان عدم امتثال الغير شرطا فى الوجوب بنى على البراءة عن التكليف المشكوك لعدم احراز شرطه ما لم يكن فى البين اصل موضوعى يتنقح به عدم صدور الامتثال وإلّا فيلزمه القيام بأداء المأمور به لتمامية الحجة عليه.

وان كان ذلك العدم شرطا للواجب لزمه القيام بأداء المأمور به والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، لانه يشك فى سقوطه عنه بقيام الغير به وليس شاكا فى اصل التكليف ، فيفترق الاعتبار ان من هذا الوجه ، إلّا ان هذا الفارق مبنى على الفرض والتقدير اذ قلما يتفق مورد لا يجرى فيه اصل موضوعى يتنقح به الشرط المترتب عليه التكليف ، واما لو شك فى قيام الغير بالمأمور به على الصور الثلاثة المقدمة فالحكم فيها كما فى الصورة الاخيرة لو كان الشرط فيها شرطا للواجب يجب الاحتياط ومراعاة الامتثال حتى يعلم بقيام الغير بالمأمور به ، لانه شاك فى القدرة على الامتثال والعقل حاكم فى مثله بلزوم الاحتياط حتى يحصل له اليقين بالعجز.

٣١٦

«فى الواجب الموقت»

فصل لا يجوز الامر بشىء فى وقت يقصر منه إلّا اذا كان الوقت وقتا مضروبا لبعض المطلوب ومن هذا الباب من صلى فى آخر الوقت ولم يدرك من الوقت الا مقدار ركعة فانه يجب عليه الاقتصار بالواجبات فى هذه الركعة ويجوز له الاطالة فى سائر الركعات.

واما الامر به فى وقت يساويه او يفضل عنه فجائز عقلا كما هو واقع شرعا ، فمن الاول الامر بالصيام من طلوع الفجر ، الى الليل ، ومن الثانى صلاة اليومية فانها مضروبة فى اوقات موسعة.

وتعليل الامتناع فى الثانى بأنه مؤد الى ترك الواجب ، كلام شعرى لا يصغى اليه.

ولا يهمنا البحث فى ان الوقت شرط الوجوب او شرط الواجب بعد ان كان الوقت امرا غير اختيارى الحصول ولا ينوط تحققه باختيار العبد فإن حضر الوقت لزمه اداء التكليف وإلّا فلا.

نعم انما يجدى ذلك لو كان يمكن عادة رد الوقت او تعجيله قبل او انه ، والمفروض خلافه ، وما صدر عن مولانا امير المؤمنين صلوات الله عليه بمقتضى النقل بأنه رد الشمس كما ردها سليمان (ع) فانما ذلك كان معجزة منه عليه الصلاة والسلام.

إلّا انه ربما قيل بأن فيه ايماء الى شرطية الوقت للواجب دون الوجوب ، اذ لو كان الوقت شرطا للوجوب لكان التكليف ساقطا عنه (ع) بخروج الوقت فاهتمامه بالمحافظة على الوقت بحسب ما يمكنه (ع) من رد الشمس دال على ان الوقت شرط للواجب اذ هو الذى يجب

٣١٧

المحافظة عليه دون شرط الوجوب هذا.

ولقائل ان يمنع الدلالة والايماء بذلك على شرطية الواجب لجواز ان يكون ذلك منه عليه‌السلام شوقا الى العبادة فكان يحب ادراج نفسه فى موضوع التكليف فرد الشمس لكى يتوجه عليه التكليف الادائى وقد يستأنس لذلك بما روى عنه عليه‌السلام انه قال : الجلسة فى الجامع خير لى من الجلسة فى الجنة لان الجنة فيها رضا نفسى والجامع فيه رضا ربى (١).

ثم انهم اختلفوا فى دلالة الامر الادائى على وجوب القضاء فى خارج الوقت وعدم الدلالة عليه ، ويبتنى النزاع فى ذلك على ان المستفاد من الامر بالشىء فى وقت هل هو تعدد المطلوب على ان يكون الشىء فى نفسه مطلوبا ويكون خصوصية الوقت مطلوبا آخر يلزمه مراعاته مهما امكن ، فان فات بقى التكليف بالشىء فى نفسه على حاله يجب امتثاله والخروج عن عهدته فى خارج الوقت ، او ان المستفاد منه مطلوب واحد يبقى مع بقاء الوقت بفواته وهذا هو المختار.

ثم انه اذا قام دليل على القضاء فهل يكون له الدلالة على تعدد المطلوب او لا؟ فيه خلاف وتظهر الثمرة فيمن يفوت كثيرا من الصلوات اليومية ولم يعلم كميتها ، وذلك فى بعض الصور المتصورة فى هذا الفرض ، فان هذا الفرض يمكن فرضه بفروض اربعة ، لان الجاهل بمقدار الفوائت تارة يكون منشأ جهله الجهل بزمان البلوغ ، واخرى يكون منشأ الجهل الجهل بالمقدار الفائت وان علم تاريخ زمان بلوغه وعلى كلا التقديرين اما ان يكون تمام شكه قد حدث من هذا الحين واما ان يكون شكه فى هذا الحين مسبوقا بشك فى الوقت وغفل عنه

__________________

(١) ـ الوسائل ج ٣ ابواب احكام المساجد باب : ٣ حديث : ٦.

٣١٨

فلم يراعه فى وقته حتى مضى عليه برهة من الزمان على هذا المنوال لا زال يشك فى الوقت ويغفل عن مراعاة شكه فى ذلك الحين. فهذه صور اربعة :

الصورة الاولى ان يعلم تاريخ بلوغه ويشك فى كمية الفائت ويكون شكه مسبوقا بشك آخر فى الوقت.

الصورة الثانية بعينها الصورة الاولى إلّا ان شكه بتمامه يكون حادثا فى خارج الوقت. الصورة الثالثة ان يجهل تاريخ بلوغه ويكون شكه مسبوقا بشك آخر. الصورة الرابعة بعينها الصورة الثالثة إلّا ان شكه بتمامه يكون حادثا فى خارج الوقت.

اما الصورة الاولى : فحكمها يختلف على القولين فان قلنا بتعدد المطلوب لزمه الاحتياط فيما يشك فى فواته ، لان التكليف به محرز ، والخروج عن عهدته غير معلوم ، وليس له التمسك بما دل على عدم الاعتداد بالشك بعد خروج الوقت ، لانصرافه الى ما يكون الشك بتمامه حادثا بعد خروج الوقت وليس الشك فى هذه الصورة من ذلك القبيل ، وان قلنا بوحدة المطلوب لم يجب عليه القضاء لانه يشك فى التكليف بالقضاء والاصل فيه البراءة كما لا يخفى.

واما بقية الصور فالحكم فيه البراءة عن القضاء على كلا القولين ، وذلك اما فى الصورة الثانية فلانه من الشك بعد خروج الوقت فيعمه الدليل الدال على عدم الاعتداد به ، واما فى الصورة الثالثة فلانه يشك فى تكليفه بأزيد مما يعمله من قدر الفوائت ، فلا يلزمه الاقضاء ما تيقن فواته ، واما فى الصورة الرابعة فلانه من الشك بعد خروج الوقت الملغى بحكم الشارع هذا ، ولكن لم اجد من فصل بين هذه الصورة فى الحكم بالبراءة عن قضاء ما يحتمل فواته ، فمن قال فيها بالبراءة قال بها مطلقا فى جميع الصور فمن اجل ذلك

٣١٩

تصدى شيخنا الاستاذ دام ظله العالى لتطبيق القول باطلاق البراءة على مقتضى القواعد ، قال : فيما افاده فى مجلس البحث انه بناء على تعدد المطلوب المدلول عليه بدليل القضاء لا يندرج الفرد القضائى من الصلاة تحت المأمور به فى الوقت الا حيث يكون الصلاة فى خارج الوقت من الافراد العرضية للمأمور به ، فلو كانت فرديتها للمأمور به منوطة بالعصيان او فوات المأمور به ، لم تكن الصلاة فى خارج الوقت من افراد المأمور به ويستحيل اندراجه فى الحكم المتعلق بالمأمور به فإن ورد تكليف بالقضاء كان تكليفا مستقلا متعلقا بالصلاة ولا يكون ذلك التكليف القضائى دالا على تعدد المطلوب فى الاوامر الادائى ، وحينئذ اذا شك فى مقدار الفائت من حين زمان البلوغ الى زمان الشك كان مآل الشك فى ذلك الى الشك فى التكليف بالقضاء ، والمرجع فيه البراءة فلحقت هذه الصورة بغيرها من الصور البقية فى الحكم بالبراءة واتجه بذلك اطلاق القول بالبراءة.

اقول : فرض الكلام فيما اذا استكشفنا من دليل القضاء تعدد المطلوب فى الامر الادائى ، غاية ما فى الباب ان ما يترتب على عصيان الامر الادائى ، يستحيل ان يكون مشمولا للامر المتعلق بالطبيعة الصلاتية كما هو المفروض من انحلال الامر الادائى الى امر بطبيعة الصلاة وامر آخر بخصوصية اعتبار الوقت ، فلا يكون فى ترتب القضاء على عصيان الامر الادائى دلالة على لزوم خروجه عن حيز الامر الاول بتمام حيثياته حتى الحيثية التى تعلق الامر فيها بالطبيعة الصلاتية فالفرق بين الصورة الاولى وبقية الصور على ما سمعته اولا جيد متين ، واطلاق كلامهم بالبراءة لا بد وان ينزل على غير هذه الصورة او يبتنى قولهم بالبراءة فيها على القول بعدم استفادة التعدد المطلوب من دليل القضاء فتأمل.

٣٢٠