تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

وثانيا بيان الفارق بين مسئلة الحجية وما نحن فيه ، فان الحجية من قبيل الاحكام اللاحقة للشىء باعتبار اللحاظ الذهنى ، وما نحن فيه تكليف خارجى صادر من المولى باعث على ايجاد متعلقه خارجا ، وقد عرفت ان الذهن اوسع ساحة من الخارج فيجوز فى الملحوظ الذهنى ان يعرى عن الخصوصيات المشخصة له ، بخلافه فى الموجود الخارجى فإن عرائه عن الخصوصيات والمشخصات الخارجية مستحيل بالضرورة.

فتلخص من جميع ما ذكرناه ان الاقوال المذكورة فى الواجب التخييرى كلها على غير المنهج الصواب ، الا ما سمعته منافى سابق الكلام من ان مآل الوجوب التخييرى الى التكليف الناقص.

«الترتب فيما اذا كان الامران مضيقين»

ولنعد الى مفروض البحث ومورد النزاع فنقول : مستعينا بالله بالله تعالى توضيحا لما قدمناه وتشييدا لما بيناه لا بأس بتعلق تكليفين ناقضين بضدين اللذين لهما ثالث نحو القيام والقعود لجواز الخلو عنهما بالتلبس بالنوم ، فانه يجوز الامر بهما بالنحو الذى عرفته من التعليق على عدم الآخر ، فيراد القيام اذا لم يتشاغل بالقعود وكذلك القعود انما يراد فى ظرف عدم التشاغل بالقيام ، ولا نجد فى العقل ما يمنع عن ذلك الا ما يتخيل من امتناع التكليف بالضدين ، وهو خيال فاسد جدا ، لان المحذور فى التكليف بالضدين ليس إلّا عدم مطلوبية الجمع بينهما فى مقام الامتثال ولا يلزم ذلك فيما اذا كان التكليف تكليفا ناقصا قد علق مطلوبية كل منهما على فرض عدم اتيان الآخر ، او يتخيل ان التكليف بالضدين مآله الى الامر بالشىء والنهى عنه و

٢٨١

هو محال.

ويدفعه : ان ذلك انما يتأتى فى الامر المطلق الحافظ لوجود المأمور به من جميع الوجوه والانحاء ، ضرورة ان مطلوبية الشىء بقول مطلق يضاده مطلوبية ضده فلو تعلق طلب آخر بإيجاد ضده كان مفاده بمقتضى الدلالة الالتزامية النهى عن ايجاد ذلك الشىء الذى كان مطلوبا او لا ، ولا يجىء هذا المحذور فى التكليف الناقص ومنشؤه سقوط الدلالة الالتزامية بالنسبة الى ضده العديل له فى المطلوبية ففى فرض المثال المتقدم اذا كان حاصل التكليف انى اطلب القيام اذا لم تقعد ، واطلب القعود اذا لم تقم ، لم يكن بأس بمثل هذا التكليف ويكون مفاده النهى عن التلبس بالنوم.

نعم لو كان الضدان ضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون بناء على عدم خلو الانسان من الاكوان امتنع التكليف بهما تكليفا تاما وناقصا ، اما التكليف التام فواضح ، واما التكليف الناقص فلانه مع فرض عدم تلبسه بأحد الضدين يكون تلبسه بالضد الآخر ضروريا يمتنع تخلفه عنه ، فلا يجوز التكليف به حينئذ وإلّا لكان ذلك تحصيلا للحاصل ، فإن حال هذين الضدين حال النقيضين يمتنع خلو المكلف عنهما فمع فرض عدم التلبس بأحدهما يكون تلبسه بالآخر ضروريا واجب الوجود بالغير لا يسوغ معه التكليف به.

هذا كله الكلام فى الضدين المتساويين فى المزية والاهتمام ، اما اذا كان احدهما اهم من الآخر نحو الازالة بالنسبة الى الصلاة حيث ان ازالة النجاسة عن المسجد اهم فى نظر الشارع من الصلاة فى سعة الوقت فلا ينبغى الارتياب فى لزوم مراعاة الاهم منهما ، اذ التكليف بالاهم لا بد وان يكون مطلقا طاردا لكل ما يضاد الازالة حتى الضد الصلاتى ، فيكون العدول عنها الى التلبس بالصلاة عصيانا

٢٨٢

معاقبا عليه ، إلّا انه لا ينافى ذلك تعلق الامر بالصلاة فى حال ترك الازالة ، اذ المانع عن تعلق التكليف بالضدين لم يكن الا استلزامه الجمع بين الضدين الممتنع صدوره من المأمور ، وهو غير لازم فى مثل هذا النحو من التكليف بالصلاة المعلق مطلوبيتها على عدم فعل الازالة ، وإلّا استلزمه الامر بالشىء والنهى عنه الممتنع صدوره من الامر وهو كذلك غير لازم فى المقام بعد ان كان التكليف بأحدهما مشروطا بانتفاء الآخر ، وانما يلزم هذا المحذور لو كان الامر بالصلاة كالامر بالازالة اريد منه المحافظة على الصلاة بقول مطلق ، لكنه ليس كذلك بل مفاده الطلب الناقص لا اقتضاء فيه للاتيان بالصلاة ، الا حيث لم يؤت بالازالة وهذا النحو من التكليف لا ضير فى اجتماعه مع الامر التام المطلق المتعلق بالمأمور به من احد الضدين ، فيكون ترك الصلاة منهيا عنه من وجه وغير منهى عنه من وجه آخر ، فان كان تركها ناشيا من ضحك او اكل وامثال ذلك مما يضاد الصلاة غير الازالة كان ذلك الترك منهيا عنه ، وان كان ناشيا عن فعل الازالة لم يكن منهيا عنه وهذا معنى الطلب الناقص.

ان قلت : كيف يكون النهى متعلقا بترك دون ترك وليس ترك الصلاة الا نقيض لوجود الصلاة وليس للشىء الا نقيض واحد وعدم فارد ، فإن كانت الصلاة مطلوبة كان تركها مبغوضا ومنهيا عنه ولا يكون مرخصا فيه ، واذا كان تركها منهيا عنه امتنع معه ورود الامر بالازالة المضادة للصلاة.

قلت : عدم الصلاة ونقيضها كما ذكرت لا تعدد فيه ، وانما المتعدد فى المقام اضافة العدم الى جهاته فتارة عدم الصلاة يتحقق من ناحية التشاغل بالازالة واخرى من ناحية التشاغل بالاكل وسائر المنافيات للصلاة ، فالمبغوض والمنهى عنه هو تركها من الوجه الثانى دون

٢٨٣

الاول المضاد مع فعل الازالة ، فهو نظير البيت المتقوم بأربعة جدران ينعدم بانعدام واحد منها ، فعدمه من ناحية انعدام جدار الشرق اذا لم يكن مبغوضا جاز الترخيص فى ترك حفظه من تلك الناحية ، فلو امر بتعمير الدار كان معناه الامر بإتمام عمارتها لا تمام عمارتها ، ويكون محصل الامر انه اذا تعمر الجدار الشرقى وجب تعمير بقية الجدران ، واما اذا لم يعتمر لم يجب عليك تكلف التعمير اصلا ، ولا بأس لك فى ترك بنائها فيكون على هذا جانب من الدار تحت الرخصة واختيار العبد فى تعميره وعدم تعميره ، وهو الجانب الشرقى منه ، كما كان عدم الصلاة من ناحية فعل الازالة تحت الرخصة فيجوز للعبد ان لا يأتى بالصلاة ولا يستعمرها من ناحية ترك الازالة ، بل يشتغل بالازالة ويترك الصلاة ، وفى المثال يجوز له ترك تعمير الدار من ناحية الجانب الشرقى ، فيترك التشاغل بتعمير ذلك الجانب لكى يسقط عنه التكليف بإلحاق بقية الجدران ، واذا جاز ان يكون عدم الشىء من وجه تحت الرخصة ، فليجز ان يكون مطلوبا من ناحية الامر بالضد الاهم ، اذ لا مانع منه بمقتضى العقل والبديهة كما هو اوضح من ان يخفى ، فتأمل فى المقام فانه دقيق وو بذلك حقيق.

وببيان آخر ان المحالية ليست إلّا من جهة التكليف بما لا يطاق ، وهو انما يكون حيث يتنجز على المكلف التكليفان المتعلقان بالضدين معا ، وذلك انما يتأتى لو كان كل تكليف يقتضى حفظ متعلقه بقول مطلق ، فانه حينئذ يجىء التدافع بين امتثال التكليفين ، لظهور ان موافقة التكليف المتعلق بأحدهما يمانع موافقة التكليف المتعلق بالآخر ، واما اذا كان احد التكليفين مشروطا باتّفاق عدم موافقة التكليف الآخر ، لم يكن فيه بأس كما فى فرض مثال الصلاة ، فإن تعلق

٢٨٤

التكليف بها منوط بعدم موافقة التكليف بالازالة ولا ضير فيه اذ التكليف بالازالة لا يدافع التكليف الصلاتى ، بل مقتضاه ارتفاع موضوع التكليف الصلاتى فانه لو وافق التكليف المتعلق بالازالة لم يتوجه اليه التكليف المتعلق بالصلاة حتى يلزم موافقته ويجىء محذور المحال فلا تدافع بين الاطاعة فى كل من التكليفين.

نعم اذا جاء بالصلاة وترك الازالة توجه اليه تكليفان احدهما مطلق بلسان ازل والآخر مشروط بلسان ان لم تزل فصل ولا تنافى بينهما.

والقول بأن المشروط بعد حصول شرطه يكون مطلقا ، فيكون ثمة تكليفان مطلقان توجها الى المكلف ويمتنع امتثالهما معا اذا كانا متعلقين بالضدين.

مدفوع بأن التكليف بالصلاة دائما ابدا مشروط باتّفاق مخالفة الامر بالازالة فهو تكليف مشروط حدوثا وبقاء ، فلو عدل عن الصلاة مع سعة الوقت لامتثال الامر بالازالة جاز له ذلك وارتفع عنه التكليف بالصلاة ، لا ان التكليف بالصلاة يبقى عليه ويتدافع مع التكليف بالازالة. هذا احسن ما قيل او يمكن ان يقال فى تصحيح القول بالترتب.

«نقل دليل المحقق الفشاركى فى الترتب»

واحتج له بوجه آخر مرحوم السيد السند محمد الفشاركى استاذ شيخنا العلامة ، وهو ان الامر بالازالة يستتبع حكم العقل بوجوب الموافقة فإذا تحققت المخالفة بالعصيان كانت تلك المخالفة مسببة عن داعى الشهوة النفسانية وهى فى رتبة حكم العقل بالموافقة ، كل منهما يقتضى خلاف ما تقتضيه الآخر ، فكان داعى الشهوة فى عرض

٢٨٥

داعى العقل ، العقل يدعو الى الطاعة والشهوة تدعو الى ارتكاب المعصية فكانا فى عرض واحد فإذا رتب الشارع الامر بالصلاة على ما تقضيه الشهوة من المعصية فى ترك الازالة ، كان ذلك الامر بالصلاة فى رتبة متأخرة عن الامر بالازالة ، واذا اختلفت الرتبة ارتفع المحذور المتوهم فى تعلق الامرين بالمتضادين من تأتى المطاردة بين مقتضى الامرين.

وان شئت قلت : ان الامر بالازالة ارادة تشريعية من الشارع تعلقت بإيجاد الازالة ، فهى على سمة العلة بالنسبة الى تحقق الازالة ، اذ الارادات التشريعية كالارادات التكوينية متقدمة على مراداتها بالعلية ، وان اختلفا من حيث كون الارادة التشريعية تحسب مقتضيات لا تؤثر فى المراد الا بعد انتفاء المانع ، بخلاف الارادات التكوينية فانها علل تامة فى حصول المراد كما قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) وحيث كان الامر بالازالة المعبر عنه بالارادة التشريعية فى رتبة العلة والعلة انما يكون لها التأثير ما دامت هى فى رتبتها المتقدمة على معلولها ، واما فى رتبة المعلول فتنعزل عن التأثير ، اذ رتبة المعلول صقع وجود الاثر دون التأثير ، ولا ريب ان نقيض المعلول فى رتبة المعلول ، فاذا كان وجود الازالة معلول الارادة التشريعية كان ذلك الوجود فى رتبة متأخرة عن الارادة ونقيضه الذى هو عدم الازالة فى رتبة وجود الازالة نفسها ، لا فى رتبة عدم الارادة التشريعية ، فاذا ورد من الشارع الحكيم امر بالصلاة مشروطا بعدم الازالة كان ذلك الامر الصلاتى متأخرا عن امر الازالة برتبتين ، فاختلفت الرتبة فيما بين الامرين ولم تحصل المطاردة فيما

__________________

(١) ـ يس : ٨٢.

٢٨٦

بينهما.

ويفترق هذا التقريب عما سبق من تقريب رفع الاشكال بما سمعت من ان التكليف بالمهم تكليف ناقص ، فى انه على التقريب السابق لا يفتقر التخلص عن الشبهة والاشكال بالالتزام بتعدد الرتبة فى الامرين بل تندفع الشبهة حتى مع فرض كونهما فى عرض واحد ورتبة فاردة ، إلّا ان النقصان من احدهما او كليهما كاف فى دفع الاشكال ، بخلافه على هذا التقريب فانه مبنى على اختلاف الرتبة فيما بينهما هذا.

ولكن الانصاف ان التقريب الاخير باختلاف الرتبة لا يجدى فى التخلص عن وصمة الاشكال ، اذ العقل لم ينعزل عن حكمه باللابدية فى الامتثال فى حال الانقياد الى دعوة النفس ، وان كان منعزلا عن التأثير فى التحريك ، اذ الشهوة النفسانية ليست جابرة للعبد حتى يتحقق العجز لديه ما دام بصدد الانقياد اليها فى مخالفة الامر ، ومتى لم يتحقق العجز لم ينقطع حكم العقل بالزامه بالموافقة للامر بالازالة ، فاذا كان حكمه بعد باقيا فى حال ترك الازالة عن داعى الشهوة ، كيف يجوز معه ان يحكم ثانيا بلزوم الطاعة فى موافقة الامر بالصلاة.

فانحصر مدفع الاشكال بالتقريب الاول الذى اسسه شيخنا الاستاذ دام ظله على رءوس العباد وهو العمدة فى الحجة على جواز الترتب.

هذا كله اذا كان الامر الثانى قد ورد قبل سقوط الامر الاول ، اما اذا ورد بعده فلا اشكال فى جوازه ، فلو امر بالصوم فى يوم الخميس واذا عصى فلم يصم يوم الخميس جازان يؤمر بالكفارة فى يوم الجمعة ولا محذور فيه ، اذ ليس فى هذا الفرض اجتماع امرين فى زمان واحد ، بل الامر الثانى ورد فى زمان سقوط الامر الاول ، واما اذا فرض

٢٨٧

ان العبد عاجز عن صيام يومين فلا ريب فى عدم جواز امره بصيامهما معا بالامر المطلق فلا يجوز ان يؤمر بصوم يوم الخميس والجمعة اذ لم يكن قادرا على صيامهما ، هذا اذا كان الامر بصيامهما مطلقا اما اذا كان الثانى منهما مشروطا بشرط يعلم تحققه ، نحو ان يقول المولى صم يوم الخميس وان جاءك زيد يوم الجمعة فصم يوم السبب ، وكان المولى يعلم بمجيء زيد فى يوم الجمعة مع فرض عجز العبد عن ان يصوم اليومين ، ففى مثل هذا الفرض ينبغى الالتزام بعدم جواز الامر بصيام اليومين كما بنى عليه القوم ، وليس محاليته الا من جهة توافق الرتبة بين الامرين لتحقق الاختلاف الزمانى بين الصومين حسب الفرض.

فيظهر من التسالم على الجواز فى المثال الاول وعدمه فى المثال الثانى ان مدار الجواز والعدم على اتحاد الرتبة واختلافها ، فإذا كان الامران فى رتبة واحدة يستحيل التكليف بالضدين معا ، واذا كانا فى رتبتين جاز وما نحن فيه الثانى ، فليبن على جوازه كما بنى على جوازه فى المثال الاول.

ومن هذا كله ظهر لك الحال كمال الظهور فيما ذكره الماتن قده من انه «يكفى الطرد من طرف الامر بالاهم فانه على هذا الحال يكون طارد الطلب الضد.»

توضيح ما فيه ان الامر يستحيل ان يكون له سعة اطلاق يعم حالة عصيانه لما عرفت من ان الامر علة لتحقق المأمور به والعلة ليست فى رتبة المعلول ، وكما لا تكون فى رتبة المعلول لا تكون فى رتبة نقيضه ، لاتحاد النقيضين فى الرتبة فلا يكون رتبة المخالفة والعصيان بترك الازالة من جملة مراتب الامر بالازالة ، بل رتبة عدم الازالة متأخرة عن رتبة الامر بها ، وقد كان الامر بالمهم الذى هو الصلاة

٢٨٨

منوطا بالعصيان فى ترك الازالة حسب الفرض ، فكيف يتوافق الامر بالازالة مع الامر بالصلاة فى الرتبة حتى يجىء التطارد بينهما هذا.

ويمكن الذب عن ذلك بما قدمناه من ان العقل الحاكم باللابدية فى امتثال الامر بالاهم بعد باق على حكمه حال العصيان بالمخالفة ، لان متابعة الشهوة وهوى النفس فى ترك الازالة ليست جابرة للعبد فى عصيانه بترك الازالة ، فيبقى العقل حال العصيان على حكمه باللابدية فى الموافقة ، ويكون حكمه بذلك فعليا واذا حكم بذلك بالحكم الفعلى يستحل حكمه ثانيا بلابدية امتثال الامر بالصلاة ، لمحذور التضاد.

وخلاصة الكلام ان العمدة فى الاحتجاج للقول بالترتب ما مرت الاشارة اليه آنفا من قصور الامر بالصلاة عن اقتضائه للمحافظة على وجودها بقول مطلق الطارد لجميع الاضداد حتى الازالة ، بل قد رخص فى تركها عند الاتيان بالازالة وكفى بذلك رافعا لاستحالة الامر بالضدين ، هذا تمام الكلام فيما اذا كان الامران المتعلقان بالاهم والمهم مضيقين.

«الترتب فيما اذا كان الامران موسعين»

واما اذا كانا موسعين فهل يجوز بقاء الامرين على ما هما عليه من الاطلاق ، او لا بد من التصرف فى احدهما فيما اذا كان احدهما اهم ، وفيهما اذا كانا متساويين فى المصلحة واشتركا من حيث لزوم المراعاة؟

التحقيق يقتضى الثانى لان التوسعة انما تقتضى بالتخيير فى افراد الجامع المأمور به فى مجموع الوقت ، فمن امر بصلاة الظهرين مثلا من اول الزوال الى الغروب كان له ترك الجامع فى ضمن الشخص

٢٨٩

الاول المأتى به فى الجزء الاول من الوقت والعدول الى الفرد الآخر فى الجزء الثانى من الوقت ، فيجوز له ترك الصلاة فى الجزء الاول من الوقت اذا كان يأتى بها فى الجزء الثانى من الوقت ، فالطلب من ناحية ترك الفرد الاول واتيان الفرد الثانى ناقص لا يقتضى المحافظة على وجود متعلقه على الاطلاق.

نعم هو من ناحية التلبس بغير هذه الصلاة اليومية باق على اطلاقه ، فلو اتفقت له صلاة آيات موسع وقتها فى وقت صلاة اليومية ، كان التكليف بصلاة اليومية بإطلاقه مانعا عن التشاغل بصلاة الآيات ، وهكذا الحال فى صلاة الآيات فان مقتضى اطلاق التكليف بها ان لا يسوغ للمكلف العدول عنها الى صلاة اليومية ، وان جاز ترك امتثال فرد منها فى الوقت الاول اذا كان يأتى بفرد منها فى الوقت الثانى ، اذ لا مزاحمة بين افراد كل من الصلاتين وانما المزاحمة بين كل من الصلاتين اليومية والآيات الموسع وقتهما ، فان التكليف بكل منهما بمقتضى اطلاقه يدافع التكليف بالآخر ، فيجىء التنافى من مقتضى الاطلاقين ، فلا بد من رفع اليد عن كل من الاطلاقين بالنسبة الى كل من الصلاتين كما رفع عن كل منهما بالنسبة الى كل من افرادهما الطولية ونتيجة ذلك تخيير فى تخيير ، فللمكلف ترك صلاة اليومية فى الجزء الاول من وجهين ، اما بداعى اتيان تلك الصلاة فى الجزء الثانى من الوقت ، او بداعى اختيار صلاة الآيات وهكذا الحال فى صلاة الآيات.

ثم ان هذا الذى ذكرناه فى الامرين الموسعين لا يتفاوت الحال فيه بين ان يساوى المطلوب فيهما فى المزية والفائدة ، او كان احدهما اهم من الآخر ، اذ الاهمية لا اعتداد بها فى المقام ولا تقتضى لزوم مراعاة جانب الاهم ، لوضوح ان مراعاة الاهم انما يلزم اعتبارها

٢٩٠

مقدمة على المهم اذا كان يفوت الاهم مع مراعاة المهم ، ولا يلزم ذلك فى الموسعين اذ المكلف فى فسحة من الوقت ، اذ يمكنه الجمع بين مراعاة الامرين لو ترك الاهم فى اول الوقت واشتغل بالمهم ثم اتى بالاهم فى الجزء الثانى من الوقت. هذا اذا كان وقت المأمور به فى كل من الامرين موسعا.

«الترتب فيما اذا كان احد الامرين مضيقا والآخر موسعا»

اما اذا كان احدهما مضيقا والآخر موسعا فلا ريب فى لزوم مراعاة المضيق مقدما على الواجب الموسع ، فان عصى ولم يؤت بالمضيق فى وقته بنى على الخلاف المتقدم ، فان قلنا بالترتب تعلق امر بالموسع فى زمان المضيق وإلّا كان ذلك الفرد المزاحم للمضيق فى وقته خارجا عن حيز الطلب ولا يكون مأمورا به ، وهل يجوز الاتيان به بداعى الامر بعد البناء على خروجه عن حيز الطلب والامر؟ قال الماتن قده «يمكن ان يقال انه حيث كان الامر بها على حاله وان صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من افرادها من تحتها امكن ان يؤتى بما زوحم منها بداعى ذاك الامر فانه وان كان خارجا عن تحتها بما هى مأمور بها ، إلّا انه لما كان وافيا بغرضها كالباقى تحتها كان عقلا مثله فى الاتيان به فى مقام الامتثال والاتيان به بداعى ذلك الامر بلا تفاوت فى نظره بينهما اصلا ، ودعوى ان الامر لا يكاد يدعو الا الى ما هو من افراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالاهم وان كان من افراد الطبيعة لكنه ليس من افرادها بما هى مأمور بها ، فاسدة فانه انما يوجب ذلك اذا كان خروجه عنها بما هى كذلك تخصيصا لا مزاحمة فانه معها وان كان لا يعمها الطبيعة المأمور بها ، إلّا انه ليس لقصور فيه ، بل لعدم

٢٩١

امكان تعلق الامر بما يعمه عقلا ، وعلى كل حال فالعقل لا يرى تفاوتا فى مقام الامتثال واطاعة الامر بها بين هذا الفرد وسائر الافراد اصلا ، هذا على القول بكون الاوامر متعلقه بالطبائع واما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك وان كان جريانه عليه اخفى كما لا يخفى فتامل.»

انتهى كلامه رفع مقامه.

ولعل التأمل فى آخر كلامه ناظر الى ان المعتبر من الداعوية فى اوامر العبادات ان يكون الامر داعيا فاعليا وباعثا محركيا نحو العمل ، وهذا انما يكون اذا تعلق الامر بما يؤتى به من العمل ، فأما اذا لم يتعلق به بل كان متحد المناط مع بقية الافراد الواقعة فى حيز الامر لم يكن لذلك الامر المتعلق ببقية الافراد صلاحية الداعوية للفرد الغير المتعلق به.

نعم لو كان المعتبر فى داعوية الامر المتعلق بالعبادات بمعنى العلة الغائية ، اتجه كلامه قده فان الفرد المزاحم بالمضيق وان لم يتعلق به الامر وكان خارجا عن حيز الطلب إلّا انه من الممكن ان يؤتى به لغاية سقوط الامر عن بقية الافراد ، إلّا ان هذا المعنى لم يعتبر فى داعوية الاوامر المتعلقة بالعبادات ، لظهور ان هذا المعنى قد يتفق مع العصيان كما فى فرض المقام وهذا لا يجوز ان يكون غرضا فى الاوامر العبادية فتأمل جيدا.

٢٩٢

«فى الامر مع العلم بانتفاء شرطه»

«فصل» هل الامر بالشىء مع علم الامر بانتفاء شرطه جائز او لا؟ فيه خلاف وينبغى ان يعلم اولا ان محل الكلام ليس فى شرط الامر ضرورة اول النزاع فيه حينئذ الى ان المعلول هل يتحقق من دون علته او لا؟ وهذا مما لا يكاد يتفوه بجوازه ذو فطنة وشعور كما انه ليس الكلام ومحل النزاع بينهم فى شرط المأمور به الذى لم تنتف القدرة بانتفائه كما فى الطهارة فإن التكليف بالصلاة حال انتفائها مما لا يكاد يشك فى جوازه ذو مسكة.

نعم يمكن ان يقع النزاع بينهم فى انتفاء شرط المأمور به اذا انتفت القدرة بانتفائه ، ويبتنى النزاع فيه على ان الطلب هل هو عين الارادة او غيرها ، فإن كان عينها لم يجز وان غيرها جاز وقد تقدم الكلام فيه مفصلا فى بابه وذكرنا ثمة ما اريد من الطلب عند اهل القول بالمغايرة ، وبينا هناك ما فى توجيه الماتن قده مقالة القوم القائلين بالمغايرة حيث وجه كلامهم ثمة بأن الطلب عندهم هو الانشاء القولى وهو غير الارادة النفسانية ، واما القائل بالاتحاد فقد اراد من الطلب فى كلامه هو الارادة النفسانية ، فرجع النزاع بين الفريقين لفظيا.

لكنك قد عرفت ثمة ان هذا توجيه فى كلامهم بما لا يرتضون به ، اذ الطلب عند القائلين بالمغايرة يرونه واجب الامتثال بحكم العقل ، ويجوز تعلقه بالمحال ، وظاهر ان الطلب ان كان بمعنى الانشاء ليس بواجب الامتثال فكونه موضوعا لهذين الحكمين دليل على ان المراد به عندهم معنى يغاير الانشاء القولى وقد تقدم توضيحه فى محله فلا

٢٩٣

نطيل بالاعادة.

واما ما ذكره الماتن قده هنا فى قوله : «لو كان المراد من لفظ الامر ببعض مراتبه ومن ضميره الراجع اليه بعض مراتبه الأخر ، بأن يكون النزاع فى ان امر الامر يجوز انشاء مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليته ، وبعبارة اخرى كان النزاع فى جواز انشائه مع العلم بعدم بلوغه الى المرتبة الفعلية لعدم شرطه لكان جائزا.»

فهو خلاف الظاهر والمسألة بعد وضوحها عندنا بالقول بعدم الجواز مستغنية عن اطالة الكلام فيها ازيد من هذا المقدار.

«فى ان الحكم متعلق بالطبائع»

«فصل الحق ان الاوامر والنواهى تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد.» كما هو مقتضى ظاهر الهيئة الامرية فى مثل اقم الصلاة وصم وحج وامثال ذلك من الموارد التكليفية ، اذ هى تشتمل على هيئة دالة على البعث فى الاوامر وعلى الزجر فى النواهى وعلى مادة موضوعة للطبيعة ، فاعتبار الخصوصية الفردية امر زائد على مفاد اللفظ محتاج الى قرينة ، واقصى ما يتمسك به القائل بالتعلق بالافراد دعواه استحالة امتثال الطبيعة لتعذر ايجادها فى الخارج ، فيكون ذلك قرنية عقلية على تعلق الاوامر والنواهى بالافراد وهى دعوى فاسدة جدا ، لاتحاد الطبيعة مع الفرد فى الخارج ، اذ الفرد الخارجى يحتوى على الطبيعة والخصوصية فاذا جيء بالفرد جيء بالطبيعة المطلوبة وزيادة الخصوصية فحصل الامتثال.

ومما يشهد لخروج الخصوصيات الفردية عن متعلق الاوامر ، مراجعة الوجدان ، فانه اعظم شاهد وبرهان فى عدم تعلق غرضه

٢٩٤

بالخصوصية الفردية ، فأنظر الى من اراد الماء ليشر به ويرفع به عطشه لم يتعلق له غرض بخصوصية ماء دون ماء اذا كانت المياه كلها مشتركة فى تحصيل غرضه ، ولعمرى هذا اوضح من ان يكون مورد النزاع بين الاعلام.

وقد انقدح مما قررناه ان الفرد ليس خارجا عن متعلق الامر بتمام مراتب وجوده ، بل انما خرج عنه باعتبار ما له من الخصوصية دون ما له من حصة الطبيعة المنضمة الى تلك الخصوصية ، فان لكل فرد من افراد الطبيعة حصة من الطبيعة فتشترك الافراد كلها فى وجود الطبيعة بما لها من الحصص المتقومة بها الافراد منضمة مع الخصوصيات المتباينة بالذات ، وان اشتركت فى جامع عرضى واحد مثل الشىء ، وهذا هو الفارق بين الخصوصيات والحصص الفردية ، فإن الخصوصيات قد عرفت انها متباينة الذات لا يمكن اعتبارها مندرجة فى جامع ذاتى منتزع من حدودها الشخصية ، بخلاف الحصص فانها تشترك فى جامع ذاتى يحتوى على حدودها الذاتية التى هى الجنس والفصل.

وكان شيخنا الاستاذ دام ظله يقول : ان اختلاف الحصص ليس إلّا بالمرتبة وان العقل اذا لاحظ الفرد انتزع منه امورا ثلث طبيعة ، وحصة منها ، وخصوصية زائدة عليها ، وهذه الامور فى نظر العقل ولحاظه محدودة ممتاز بعضها من بعض إلّا انها فى عالم الخارج متحدة مع الفرد بوجود واحد ، فاذا تعلق الامر بالطبيعة فإن اعتبرت الطبيعة سارية فى تمام الافراد لا محالة يسرى الحكم الى تلك الحصص الفردية المنبسطة على تمام الافراد ولا نزاع فيه من احد ، اذا الطبيعة على هذا المنوال كالعام المستوعب تمام افراده وان افترقت عنه من وجه سراية الحكم الى الخصوصية ايضا فى العام دونها.

ويظهر اثر الفرق بين سراية الحكم الى الخصوصية وعدم

٢٩٥

سرايته اليها فيمن قصد امتثال الامر بخصوصية الفرد فانه فى العام يكون ممتثلا مطيعا ، وفى المطلق يكون مشرعا عاصيا ، وكيف كان فلا ريب فى سراية الحكم الى الحصة الفردية مع اعتبار الطبيعة سارية فى تمام الافراد.

واما اذا لم تعتبر كذلك بل اخذت لا بشرط بوجه الاطلاق على وجه يكتفى فى امتثالها باول الوجود فهل يسرى الحكم الى الحصة الفردية او لا؟ فيه خلاف قيل بعدم السراية نظرا الى ان المأتى به فى مقام الامتثال وجود محقق للطبيعة المأمور بها واذا تحققت الطبيعة المأمور بها سقط الامر ولم يبق ثمة مجال السراية الحكم الى الحصة الفردية.

هذا اذا اتى بالفرد واما اذا لم يؤت به كان بعد على اختيار العبد يجوز له اختياره فيكون هو المنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ، ويجوز له اختيار غيره من الافراد فلا يكون ذلك الفرد مورد انطباق الطبيعة المأمور بها بل انما هى منطبقة على غيره فكل فرد اذا اعتبر فى نفسه ، لا تراه يلزم انطباق الطبيعة عليه ، بل يحتمل فيه ذلك ومن المعلوم ان الفرد ما لم يحرز فيه انه اول الوجود ، لا يتجه البناء فيه على سراية الحكم اليه بل يبقى الحكم واقفا على الطبيعة لا يتعداها الى فردها اصلا لا باعتبار ما له من الحصة ولا باعتبار الخصوصية.

نعم يكون الفرد مقدمة لسقوط الحكم عن الطبيعة ولا يكون هو مورد امتثاله ، ولعل نظر المحق القمى قده الى هذا المعنى من المقدمية لا الى ما تعطيه ظاهر عبارته من كون الفرد مقدمة للطبيعة (١) لكمال ضعف هذا المعنى الظاهرى على وجه لا يليق بالجاهل فضلا عن الفاضل ،

__________________

(١) ـ قوانين الاصول : ٩١.

٢٩٦

ضرورة ان المقدمية تستدعى المغايرة الحدية بين المقدمة وذيها ولا مغايرة بين الفرد وكلية كما هو اوضح من ان يخفى فتأمل فى المقام فانه من مزال الاقدام ثم ان هذا الوجه من الدليل الذى اقيم على عدم سراية الحكم من الطبيعة الى فردها ، ان تم صلح ان يكون وجها ودليلا للقول بجواز اجتماع الامر والنهى ، لتعدد الطبيعة المأمور بها والمنهى عنها حسب الفرض والفرد الذى هو مجمع الطبيعتين يمتنع سراية الحكم اليه من الطبعتين بمقتضى هذا الدليل فلم يلزم بناء على هذا محذور المحالية من اجتماع الحكمين المتضادين فى محل واحد كما سيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى فى محله فأنتظر له. والجواب عن الحجة والدليل يتضح بعد تمهيد مقدمتين :

إحداهما ان الماهية فى مقام الحكم لم تلحظ امرا فى قبال الافراد الخارجية ، بل متحدة معها اتحاد المرآة ، مع المرئى على وجه ترى الماهية والافراد خارجية ، وان كان يقطع بعدم تحققها فى الخارج فلو قيل : شريك البارى ممتنع لم يكن الحكم بالامتناع معلقا على الماهية بما هى ماهية ، بل بملاحظة اتحادها مع الافراد الخارجية الزعمية التى يحسب الناظر بنظره الآلي العبورى انها خارجية حقيقة وان كان له جزم يقينى بعدم تحقق ما بازاء هذه الصور الملحوظة ، ولا ريب فى ان الطبيعة فى ذلك اللحاظ الآلي لا ترى فى حيال الخارج بل عينه واذا كانت بهذا النحو واقعة فى حيز الحكم فكل ما يتوجه اليها من الحكم يكون متوجها الى ما تتحد هى معه من الافراد ، ومعلوم ان اتحادها مع الحصة الفردية دون الخصوصية ، فيتمحض سراية الحكم الى الحصة خاصة دون الخصوصية.

ثانيهما : ان لنا فى مقام لحاظ الافراد نحوين من اللحاظ ، تارة تلحظ مقرونة بعضها مع بعض ولا ريب انه مع هذا اللحاظ لا يجوز ان

٢٩٧

يكون واحد من الافراد مورد انطباق الطبيعة المأمور بها بالامر الذى يكتفى فى امتثاله بأول الوجود ، واخرى تلحظ منفردا بعضها عن بعض بحيث يلحظ هذا الفرد فى حال عدم الفرد الآخر ، وهكذا الفرد الآخر يلحظ فى حال عدم ذاك الفرد ، ولا ريب ان كل فرد بهذا اللحاظ ، يكون مورد انطباق الطبيعة المأمور بها بذاك النحو من الامر ، ولا مانع حينئذ من سراية الامر اليها على هذا الوجه ، فيكون كل فرد مطلوبا اذا لم يكن مسبوقا بفرد آخر ، واما اذا كان مسبوقا فلا يكون هو المطلوب بل المطلوب الفرد السابق.

واذا تمهدت لك هاتان المقدمتان اتضح لك الجواب ، فان شبهة المانع كانت هى تخيل السراية الى الافراد الخارجية الثابتة فى الخارج حقيقة ، وليس كذلك بل الى الافراد الخارجية الزعمية التى ترى محققة الوجود فى الخارج ، وقد لا يتفق لها تحقق فيه الى الابد كما فى الكفار والعصاة.

وقد انقدح لك بذلك امكان تعقل انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد قبل ايجاده ، فيكون كل فرد ملونا بلون الحكم فى حال دون حال ، ويمنع من تركه فى حال دون حال ، لانه لا يجوز تركه فى حال ترك بقية الافراد ويجوز تركه اذا اتى بأحد من بقية الافراد ، فيكون الفرد على هذا واجبا تخييريا شرعيا يطلب فعله ويمنع عن بعض انحاء تروكه ، هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالطبيعة وافرادها. وقد عرفت ان التحقيق حسب ، ما يساعد عليه النظر الدقيق تعلق الحكم بالطبيعة دون الافراد ، وان سرى الحكم من الطبيعة الى الحصة الفردية.

ويبقى الكلام فى شىء آخر هو مورد نزاع آخر بين القوم وهو ان الحكم يتعلق بالطبيعة او بوجودها؟

وقد يتراءى فى بدو النظر ان هذا النزاع بعينه النزاع السابق ،

٢٩٨

لكنه غيره ويباينه ، وذلك لان النزاع السابق كان مآله الى ملاحظة الطبيعة مع فردها الخارجى الزعمى ، وهذا النزاع مآله الى ملاحظة الطبيعة مع فردها الخارجى الحقيقى ، فمن قال هناك بتعلق الامر بالطبيعة يتأتى فى حقه الخلاف هنا ، اذ له القوم بعبورية الطلب الى الخارجى الحقيقى ، وله منع ذلك كما ان من يقول هناك بتعلق الاوامر بالافراد يتأتى فى حقه الخلاف هنا ، اذ له القول بعبور الطلب من الصورية الفردية الى الخارج الحقيقى ، وله منع ذلك.

ومن هذا البيان يظهر لك مورد البحث فى المقام ، وكيفية البحث فان مورد البحث ليس هو فى تعلق الطلب بالماهية فى قبال الوجود ، اذ هى بهذا الوجه ليست إلّا هى لا يجوز ان تكون مطلوبة ، كما انه ليس موردها الوجود الخارجى الحقيقى ، لاستحالة البعث نحو الشىء بعد وجوده ، بل البحث بينهم قد وقع فى الماهية بلحاظ ترى عين الايجاد الذى هو المعنى المصدرى دون الوجود الذى هو يساوق معنى اسم المصدر ، فاذا رؤى الشىء بنحو يخرج من كتم العدم الى الوجود ، كانت الماهية منظور اليها تبعا والطلب يتعلق بالماهية الملحوظة بهذا اللحاظ فيقع بينهم فى ان الطلب بعد ما تعلق بالماهية الخارجية بحسب النظر واللحاظ فهل يقف عليها او يعبر منها الى الخارج الحقيقى الذى هو بإزاء الماهية التى يراها خارجية ، التحقيق يقتضى المصير الى القول الاول من وجهين :

احدهما : ان الطلب من الكيفيات النفسانية قائم بالنفس وله تعلق بالمطلوب ، فهو يفتقر الى طرفين ولا يتقوم بنفسه ، ونحن نجد الطالب ربما يطلب الشىء ولم يحصل مطلوبه فى الخارج ، فلو كان للوجود الخارجى الحقيقى دخالة فى متعلق الطلب ، لاستحال تحقق الطلب بلا موافقة المطلوب لما فى الخارج والفرض تحقق الطلب

٢٩٩

قطعا ، فوجوده وتحققه دليل جزمى على عدم تقوم شىء من طرفى الطلب بالوجود الخارجى الحقيقى.

وبعبارة اخرى لو كان الطلب يعبر من الصورة الذهنية الى الخارجيات ، لكان يلزم موافقة الطلب دائما ابدا وامتنعت المعصية ، والتالى باطل بالبديهة فالمقدم مثله ، فكان حال الطلب حال القطع حيث ان القطع يتعلق بالصورة الخارجية التى يراها القاطع موافقة للواقع ويحسبها موجودة فى الخارج على وجه لا يلتفت الى خطائه فى قطعه هذا جهلا مركبا ، فلو كان يعبر قطعه من الصورة الملحوظة فى نظره الى الواقع الحقيقى ، لكان يلزم المطابقة فى قطعه دائما ابدا وليس كذلك كما هو اظهر من ان يخفى. فيستشهد بذلك على ان القطع فى تعلقه بالصورة واقف عليها لا يعبر الى الخارج الحقيقى ، ومثله الطلب على هذا المنوال غير ان القاطع لا يحتمل الخطاء فى قطعه ، والطالب يحتمل المخالفة فى تحصيل مطلوبه وعدم الوصول الى مرامه ومقصوده.

ثانيها : ان للوجود الخارجى المنظور اليه فى عالم التصور نحوين من اللحاظ ، اذ هو باعتبار اخذه فى متعلق الارادة يلحظ فى رتبة سابقة عليها فيقول : اريد الصلاة ، وباعتبار وقوعه معلول الارادة يلحظ فى رتبة لاحقة عن الارادة فيوجدها ويقول : صليت ، وان شئت هكذا نقول اردت الصلاة فصليت ، فأنك ترى للصلاة فى عالم اللحاظ صورتين إحداهما قبل الفاء والاخرى بعدها وليس بإزاء الصورة الاولى شىء فى الخارج حتى يمكن عبور الطلب اليه ، وما له ما بإزاء فى الخارج انما هو الصورة الثانية وهى فى رتبة المعلول للارادة لا يجوز ان يكون ما بإزائها مأخوذا فى موضوع الارادة وهو ظاهر لا اظن ان يخفى.

٣٠٠