تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

انهم لم يقصدوا فيها الا امتثال الامر الغيرى من غير ان يجعل ذلك وسيلة الى ما هو المقدمة ، ولا اتخذ فى مقاصدهم عنوانا مشيرا الى المقدمة ولا الى المحبوب النفسى ، فلا مناص بمقتضى جوابه قده الا من الالتزام ببطلان عبادتهم وهذا مما لا يكاد يلتزم به من هو دونه فضلا عنه قده ومن ذلك يظهر ما فى الجواب الثانى المنقول عن غيره و «ملخصه ان الحركات الخاصة ، ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها من العنوان الذى يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلا بد فى اتيانها بذاك العنوان من قصد امرها ، لكونه لا يدعو إلّا الى ما هو الموقوف عليه فيكون عنوانا اجماليا ومرآة لها فإتيان الطهارات عبادة واطاعة لامرها ، ليس لاجل ان امرها المقدمى يقضى بالاتيان كذلك بل انما كان لاجل احراز نفس العنوان الذى يكون بذلك العنوان موقوفا عليها.»

واجاب عنه الماتن قده بوجهين احدهما : «ان ذلك لا يقتضى الاتيان بها كذلك لامكان الاشارة الى عناوينها التى تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ولو بقصد امرها وصفا لا غاية وداعيا ، بل كان الداعى الى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر.»

وثانيهما : على تقدير تسليم انحصار الاتيان بها محصلة لما هو المقصود منها على اتيانها بنحو الداعوية عن الامر الغيرى ، إلّا ان ذلك «غير واف بدفع الاشكال بترتب المثوبة عليها كما لا يخفى.» لان الامر الغيرى لا يترتب على موافقته ثواب حسب الفرض فكيف يكون داعويته مصححة للتقرب بالعمل المأمور به.

ويرد على جوابه الثانى بأنه فيما يكون عباديته قائمة بذاته كالخضوع ، فانه لا يفتقر فى عباديته قصد جهته المحسنة له سوى

٢٤١

تحقق عنوان الخضوع ، فاذا اتى بالشىء عن داعى الامر الغير وتحقق به العنوان الذاتى المحقق لعبادية الشىء ، كفى ذلك فى ترتب المثوبة عليه بلا حاجة الى قصد الجهة المحسنة له اجمالا ولا تفضيلا ، فلا يرد اشكال حينئذ كما هو ظاهر.

واجيب : عن اصل الاشكال بما حاصله ان الغرض المقصود من الصلاة كما يتوقف على فعل الصلاة واتيانها بداعى الامر النفسى كذلك هو يتوقف على اتيان الطهارة بداعى امرها الغيرى.

وهذا الجواب بحسب نظرى القاصر لا مساس له بالاشكال ، لابتناء الاشكال على عدم صلاحية الامر الغيرى للمقربية فى العمل وانه لا يتحقق به عباديته ، فكيف ينوى به التقرب وظاهر ان هذا المحذور لا يندفع بما ذكر فى هذا الجواب ، من افتقار الغرض فى ترتبه على الصلاة الى اتيانها نفسها بقصد امرها النفسى واتيان مقدماتها بقصد امرها الغيرى فتأمل جيدا.

«فى ان الواجب مطلق المقدمة او ما قصد بها التوصل او خصوص الموصلة»

«الامر الرابع لا شبهة فى ان وجوب المقدمة بناء على الملازمة يتبع فى الاطلاق والاشتراط وجوب ذى المقدمة.» وقد يتوهم من كلام صاحب المعالم طاب ثراه خلافه ، حيث انه اعتبر فى وجوب المقدمة ارادتها فلا يجب عنده الا بعد تحقق الارادة من المريد. (١)

ويدفعه ان الارادة اذا تحققت كانت هى الباعثة لتحقق المراد ،

__________________

(١) ـ المعالم الدين فى الاصول : ٧٤ قال قده فى بحث الضد : وايضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها ، انما ينهض دليلا على الوجوب فى حالكون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من اعطاها حق النظر.

٢٤٢

ولزم من ذلك لغوية الايجاب من الحكيم ، لان الغرض من انشاء الوجوب ليس إلّا احداث الداعى الى حصول المراد وبعد انقداح الارادة يتحقق الداعى الى حصوله بها فيلغو إيجابه بعدها.

بل قد يقال باستحالة تخلف المراد بعدها ، فيكون المراد لازم الحصول حينئذ ممتنع التخلف فيخرج بذلك عن صلاحيته لتعلق التكليف به كما هو واضح ، فاشتراط وجوبها بالارادة فى غاية السقوط ولا بد من ارتكاب التأويل فى كلام المعالم لو كانت عبارته ظاهرة فى ذلك ، ولا يبعد تنزيلها على ان الارادة من قيود الواجب كما ربما يغرى ذلك الى شيخنا الانصارى طاب ثراه.

وكيف كان فقد وقع الخلاف بينهم فى ان الواجب ذات المقدمة او مع قصد الايصال الى ذيها سواء ترتب عليها ذوها ام لا او مع قيد الايصال سواء قصد بها الايصال ام لا؟ اقوال اقربها لدى النظر هو القول الاول اما عدم اعتبار قصد التوصل فلقضاء الوجدان به ، ألا ترى فى الخطابات العرفية لو قال المولى لعبده جئنى بالماء ومعلوم ان ليس قصده فى امره هذا الا الغيرية والتوصل الى استراحة النفس ، فلو جاء العبد بالماء وقصد به امتثال ارادته والانقياد لامره ذلك كان ممدوحا لدى العقلاء وعد عندهم ممتثلا لامر مولاه ، فدل ذلك على ان قصد التوصل ليس معتبرا فى الواجب المقدمى وجودا ولا امتثالا.

وينقدح لك الاشكال فيما ذكره الماتن قده فى قوله «نعم انما اعتبر ذلك فى الامتثال» لما عرفت من ان الامتثال بالمقدمة لا يفتقر فى تحققه الى قصد التوصل الى الواجب ، كما انها لا تفتقر فى وقوعها على صفة الواجبية الى ذلك ايضا.

لا يقال : فرق بين ما ذكرت من المثال العرفى ، وما نحن فيه ، اذ الواقع فى المثال بروز الطلب فيه بصورة الواجب النفسى ، وان

٢٤٣

كان هو فى نفس الامر والواقع غيريا ، وهذا بخلاف المقام لكون الواجب فيه مقدميا ظاهرا وواقعا.

لانه يقال : لا عبرة بمقام الاظهار وبروز الارادة الا لكون ابرازها طريقا عاديا لبيان واقع الارادة من غير ان يكون لمقام ابرازها موضوعية فى ترتب المثوبة والعقوبة ، لظهور ان المثوبات والعقوبات تابعان لواقع الارادة لا لمقام اظهارها ، وهذا لا ينافى ما تقدم فى المبحث السابق من النفسية والغيرية مدار الابراز ومرتبة التحميل ، لان ذلك لم يكن إلّا بملاحظة ما جرى عليه اصطلاح القوم فى تقسيمهم الواجبات الى نفسية وغيرية فالواجب النفسى فى الاصطلاح ما برزت فيه الارادة لا بنحو التوصل الى واجب آخر وبعكسه الواجب الغيرى ، وكلامنا هنا فى تعرف حال الثواب والعقاب بحسب نفس الامر والواقع وظاهر انهما يدوران مدار موافقة الارادة وعدمها لا مدار كيفية الارادة نفسية وغيرية بشهادة تساوى الحال بحسب انظار العقلاء فى ترتب المثوبة على الارادات الغيرية كترتبها على ارادات النفسية ، كما انه لا يتفاوت الحال عندهم فى ذلك بالنسبة الى صدق الامتثال وحسن الانقياد هذا كله فى غير المقدمة المحرمة.

واما المقدمة المحرمة فان لم تكن منحصرة بقيت على حرمتها ولم يتصف بصفة الوجوب ، لانه لما كانت المقدمة المحرمة تشترك مع المقدمة المباحة فى مناط المقدمية علم ان الواجب هو الجامع المشترك فيما بينهما ، ولزم بحكم العقل صرف الوجوب فى الجامع الى فرده المباح دون المحرم ، وان كانت منحصرة كما لو انحصر انقاذ

الغريق او اطفاء الحريق بالتصرف فى ملك الغير وجب مراعات الاهم من مصلحتى الوجوب والتحريم ، فان كانت مصلحة الوجوب اهم كانت المقدمة واجبة ، وان كانت مصلحة التحريم اهم بقيت

٢٤٤

المقدمة على ما هى عليها من التحريم وسقط الوجوب عن ذى المقدمة لتعذر امتثاله.

ولبعض الاعلام هنا تفصيل فى المقدمة المحرمة المنحصرة ، فذهب الى وجوبها بقصد الايصال خاصة فلو لم يقصد بها الايصال كانت باقية على حكمها السابق من الحرمة ، مع كونه قائلا بوجوب المقدمة بذاتها اى مطلقا فى غير المقدمة المحرمة.

ولعل نظره فى ذلك الى ان الاذن فى المبغوض من جهة المزاحمة ، انما هو من الضرورة التى تتقدر بقدرها ، وحيث تدفع الضرورة بالاذن فى الغصب المقصود به الانقاذ او الاطفاء ، فلا وجه للاذن فى قسم آخر وهو الغصب الغير المقصود به ذلك.

وفيه ان قدر الضرورة فى المقدمة المحرمة تعم صورتى قصد التوصل وعدمه لان ملاك المقدمية اذا كان قائما بذات المقدمة ، وفرض مغلوبية مصلحة التحريم فيها بالاضافة الى مصلحة الوجوب سقط اعتبار الحرمة فى المقدمة بالمرة وتمحضت لصفة الوجوب «فيقع الفعل المقدمى على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات التوصلية لا على حكمه السابق الثابت له لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلى المنجز عليه فيقع الدخول فى ملك الغير واجبا اذا كان مقدمة لانقاذ غريق او اطفاء حريق واجب فعلى لا حراما وان لم يلتفت الى التوقف والمقدمية.»

ان قلت : لا ريب فى ان المقدمة المحرمة يتصور وقوعها فى الخارج على نحوين بقصد الايصال وبغير قصد الايصال ، والاثر يستند الى الجامع المشترك بين ما قصد فيها الايصال وما لم يقصد فيها ذلك كما فى الجامع المشترك بين المقدمة الحرامة والمباحة على ما تقرر آنفا. وقد عرفت فيما سبق ان العقل فى مثل ذلك يحكم

٢٤٥

بصرف الوجوب المقدمى الى ناحية المقدمة المباحة ، وهنا ايضا كذلك فان العقل يصرف الوجوب المقدمى الى صورة اتيان المقدمة المحرمة بقصد الايصال لا بغير قصده.

قلت : ليس المقام من قبيل ما سبق اذ المقام من باب الاقل والاكثر ، فإن المقدمة المقصود بها الايصال اعتبر فيها حيثية الايصال وهو امر زائد على ذات المقدمة وكلما يكون من هذا الباب فالوجوب انما يترشح من ذى المقدمة الى ذات الحصة لا الى الجامع حتى يتجه فيه دعوى حكم العقل بصرف الوجوب الى خصوص المقدمة المقصود فيها الايصال كما قلناه فى الجامع المشترك بين المقدمتين المباحة والمحرمة.

«واما عدم اعتبار ترتب ذى المقدمة عليها فى وقوعها على صفة الوجوب» فلان الترتب صفة منتزعة من حصول ذى المقدمة من بعد مقدمته ، ولا ريب ان ذلك متأخر طبعا عن حصول ذى المقدمة فهو متأخر عن المقدمة ايضا كذلك ، لان ذا المقدمة غاية للمقدمة فهو متأخر عنها ومقتضى ذلك ان يكون المتأخر عن ذى المقدمة المتأخر عن المقدمة ، متأخرا عن المقدمة ايضا ، واذا كانت هذه الصفة متأخرة عن الغاية رتبة يستحيل اعتبارها فى المقدمة المغياة بذى المقدمة ، لان رتبة المغيى سابقة على رتبة الغاية وما يترتب عليها ، ويمتنع اعتبار المتأخر رتبة فيما هو مقدم عليه فى الرتبة.

هذا اذا كانت صفة الترتب معتبرة فى الواجب كما هو صريح كلام صاحب الفصول قده على ما حكى عنه (١) واما لو اريد اعتبارها فى الوجوب كما توهم ذلك من كلام المعالم قده (٢) فى قصد التوصل

__________________

(١) ـ الفصول فى الاصول : ٨١.

(٢) ـ المعالم الدين فى الاصول : ٧٣.

٢٤٦

فذلك اوضح فسادا عن الاول من وجهين :

احدهما : ان اعتبار الترتب فى حكم الوجوب معناه انه عند ترتب ذى المقدمة على مقدمته تجب المقدمة ولا ريب انه عند ترتب ذى المقدمة يسقط الوجوب عن ذى المقدمة لاصالة تحصيل الحاصل فلا معنى للبعث نحو مقدمته.

ثانيها : ان ايجاب المقدمة لا يكون إلّا حيث يتمكن العبد من مخالفته عصيانا ، وظاهر ان المقام ليس من ذلك القبيل ، لان مخالفته انما تتحقق بعدم اتيانه بالمقدمة ، ومن المعلوم انه مع عدم فعله المقدمة لم يتحقق الترتب الذى هو شرط الوجوب حسب الفرض واذا لم يحصل شرط الوجوب لم تكن المقدمة واجبة ، واذا لم تكن واجبة لم يكن فى تركها عصيان.

فتحصل من جميع ما سبق ان قيد الايصال او قصد الايصال لم يؤخذ فى المقدمة ، وانما هى معراة عن القيدين كما لا يخفى.

لكن ذلك لا يستدعى اطلاقا فيها ، لما عرفت منا غير مرة ان موضوع الحكم لا يكاد يكون له سعة اطلاق يشمل حال نقيض الحكم ، وفى المقام لما كان المترشح الى المقدمة من ذيها ليس إلّا ارادة ضمنية مقتضية لحفظ وجود ذى المقدمة من قبل المحافظة على وجود المقومة فى حال يتحقق به وجود ذى المقدمة وهو لا يكون إلّا فى ظرف تعلق الارادة بحفظ وجود ذيها من جميع الوجوه الساد لجميع انحاء انعدامه.

وبعبارة اخرى لم تتعلق الارادة بالمقدمة الا تبعا لارادة ذيها ، وانما تعلقت الارادة بذيها من جهة مراعاة حفظ وجوده الساد لجميع انحاء عدمه ، فكانت المقدمة متعلقة للارادة من جهة ان من وجودها ينسد باب من ابواب انعدام ذيها ، فإرادة ذى المقدمة ومطلوبية

٢٤٧

وجوده على الوجه الاتم ، اقتضت تعلق ارادة بالمقدمة على نحو انبساط الارادة المتعلقة بالكل على كل واحد من اجزائه ، فكل ارادة اذا قيست الى كل جزء كانت ارادة ضمنية. وهنا ايضا كذلك اذ الارادة الباعثة لوجود ذى المقدمة اقتضت ارادة تبعية لما يتحقق به ذلك الوجود ، وتلك الارادة لا تكون الا فى ظرف حصول الارادة لباقى المقدمات التى يتحصل بها ذو المقدمة ، فهى ارادة ضمنية ويستحيل الاطلاق فى موضوعها على وجه يشمل حال عدمها كما انه يستحيل تقييده بقيد الانضمام ، لان الانضمام اعتبار منتزع من وحدة الارادة المتعلقة بالمتكثرات فهو متأخر طبعا عن الارادة وما هو متأخر طبعا عنها يستحيل اعتباره فى موضوعها ومتعلقها كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك انه لا تقييد ولا اطلاق فى المقدمة بل هى حصة تكون تواما مع ترتب ذى المقدمة عليها ، فمع عدم ترتبه عليها لا تكون مطلوبة لقصور فى حكمها ، لا لتقييدها بقيد الترتب كما زعمه صاحب الفصول قده فافهم واغتنم.

فإن قلت : اطلاق الارادة المتعلقة بالمقدمة تابع لاطلاق الغرض المقصود منها ، وظاهر انه «ليس الغرض من المقدمة الا حصول ما لولاه لما امكن حصول ذى المقدمة ، ضرورة انه لا يكاد يكون الغرض الا ما يترتب عليه من فائدته واثره ولا يترتب على المقدمة الا ذلك ولا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه اصلا وانه لا محالة يترتب عليها.»

وببيان آخر أن انعدام ذى المقدمة يتحقق بانعدام كل واحد من مقدماته ، ففى التحليل يكون انعدام واحد من المقدمات علة تامة لانعدام ذى المقدمة ، فاذا اريد ايجاد ذى المقدمة فلا بد من سد هذه الاعدام وتبديلها بالوجودات ، فيكون كل وجود من واحد من المقدمات

٢٤٨

فيه اقتضاء لوجود ذى المقدمة ، فاذا اريد ايجاد ذى المقدمة لا بد ان يبدأ اولا بايجاد واحد فواحد من مقدماته فأى مقدمة اذا اوجدها فقد سد بابا من ابواب انعدام ذى المقدمة من ناحية تلك المقدمة التى اوجدها ، وهذا الانسداد من ناحية عدم هذه المقدمة التى اوجدها هو الغرض المقصود من ايجاد هذه المقدمة ، ومن المعلوم ان هذا الغرض لا ينحصر امره بصورة انسداد بقية الابواب من ناحية بقية المقدمات ، كما انه يستحيل ان يكون انسداد باب انعدامه من ناحية غير هذه المقدمة غرضا لما اوجده من المقدمة ، بل ليس الغرض المترتب على ما اوجده من المقدمة الاسد باب انعدام ذى المقدمة من ناحية هذه المقدمة ، واذا كان هذا هو الغرض المقصود من ايجاد هذه المقدمة ، وكان ذلك يعم صورتى تحقق بقية المقدمات وعدم تحققها كانت المقدمة مطلوبة بحسب ما لها من الغرض سعة واطلاقا ، ومقتضى ذلك ان تكون مطلوبة مطلقا ترتب عليها ذو المقدمة ام لم يترتب.

قلت : الغرض المقصود وان لم يكن مختصا بصورة الترتب بل يعم كلتا صورتى الترتب وعدمه ، إلّا ان الغرض لم يكن على اطلاقه تحت الطلب ، والارادة ، بل المطلوب منها ما كان يترتب عليها ذو المقدمة ، وذلك لا يكون إلّا فى فرض اصطحاب المقدمة المأتى بها لبقية المقدمات.

والسر فى ذلك هو ان المقدمات ليست مستقلة بالارادة وانما يتعلق بها الارادة والطلب بملاحظة تعلق الارادة بذى المقدمة ، ولا ريب ان ارادة ذى المقدمة لم تكن الا لحفظ وجوده بالنحو التام المستتبع لارادة المقدمات كلها بنحو الاجتماع لكى يتحقق بذلك الوجود المطلق المقصود من تعلق الارادة بذى المقدمة وظاهر ان

٢٤٩

مثل هذه الارادة اذا تعلقت بالمقدمات كانت ملازمة لترتب ذى المقدمة عليها ، ضرورة ان كل مقدمة تحت ارادة ضمنية منبعثة عن تعلق الارادة بايجاد ذى المقدمة.

وربما يستدل للقول بإطلاق الارادة فى المقدمة من غير فرق بين صورتى الترتب وعدمه «بأنه لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب عليها بحيث لا يبقى فى البين الا طلبه وايجابه ، كما اذا لم يكن هذه بمقدمة او كانت حاصلة من الاول قبل ايجابه ، مع ان الطلب لا يكاد يسقط إلّا بالموافقة او العصيان والمخالفة ، او بارتفاع موضوع التكليف كما فى سقوط الامر بالكفن او الدفن بسبب غرق الميت احيانا او حرقه ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة.»

والجواب عنه ان المراد بسقوط الطلب ان كان هو سقوطه عن مرتبة الفعلية بإتيان ذات المقدمة من غير ترتب ، فلا نسلم سقوطه كذلك ما لم يترتب عليها ذو المقدمة قطعا ، لما عرفت من ان تعلق الطلب بالمقدمات من شئون تعلقه بذى المقدمة ، وليس هو طلبا استقلاليا بل هو نظير الطلب المتعلق بأجزاء المركب ضمنى ينوط سقوطه عن مرتبة الفعلية بإلحاق بقية الاجزاء واستكمال تمام المركب ، وان كان هو سقوطه عن مرتبة البعث والتحريك فذلك مسلم لاستحالة البعث والتحريك نحو الحاصل فانه من تحصيل الحاصل ، إلّا انه من المعلوم ان عدم صلاحية الامر للتحريك لا يدل على ان المأمور به هو المقدمة على جهة الاطلاق لجواز ان يكون ذلك من قبيل اجزاء المركب الذى لا يبقى معه الامر محركا عند تحقق بعض اجزائه الا مع الحاق بقية الاجزاء وضمها مع ما اتى به من الاجزاء من دون ان يسقط

٢٥٠

بذلك عن مرتبة الفعلية ، ولعمرى هذا واضح لا سترة عليه اصلا كما لا يكاد يخفى.

«حول الثمرة فى المسألة على القولين»

ثم ان الثمرة تظهر فيما لو اذن المالك لمن يتوضأ بمائه ومن حوضه ان لا يتوضأ به الا وان يصلى بذلك الوضوء ، فعلى القول المختار لو توضأ ولم يصل كان وضوئه باطلا لانه منهى عن هذا الوضوء الذى لم يستعقبه صلاة ، بخلافه على القول بإطلاق الوجوب المقدمى فان وضوئه ذلك صحيح على الاطلاق سواء تعقبه صلاة بذلك الوضوء ام لا.

وكذا تظهر الثمرة فيمن سلك الارض المغصوبة بلا داعى الانقاذ ولا ترتب عليه ذلك من بعد سلوكه فانه على المختار يكون سلوكه ذلك محرما ومعاقبا عليه ، بخلافه على القول الآخر هذا.

ولمانع ان يمنع الثمرة فى ذلك لان اطلاق المقدمية ليس علة تامة للاتصاف بالوجوب حتى يكون ذلك قاضيا بوجوب المقدمة على اطلاقها سواء ترتب عليها ذو المقدمة او لم يترتب عليها كما هو مقتضى ما ذكر فى بيان الثمرة بل هو مقتض لا يؤثر إلّا حيث لا يكون فى المحل مانع التحريم كما هو متحقق فى المقدمة المحرمة فينحصر الوجوب فيها حينئذ بتقدير الترتب خاصة على كلا القولين ، وينتفى بذلك الثمرة بينهما فالاولى بناء الثرة بينهما على العلية التامة إلّا ان القول بالعلية التامة مما لم يذهب اليه احد ممن اعلم ، فالخلاف فى اعتبار الترتب وعدمه فى المقدمة على هذا يكون عديم الثمرة ، لابتناء اثر الفرق فيما بين القولين على مبنى غير صحيح عند الفريقين.

٢٥١

بل ربما يدعى فى المثالين استحالة صدور النهى من المالك على سبيل الحقيقة لاوله الى طلب الشىء بعد وجوده وهذا محال بالبديهة لانه من تحصيل الحاصل.

وبيان ذلك ان قصر الرخصة فى التوضى فى مثال الوضوء وسلوك الارض فى مثال الارض المغصوبة بصورة ترتب ذى المقدمة على مقدمته ، معناه انحصار مورد الاذن فيهما بفرض ترتب ذى المقدمة على المقدمة ، ولازمه انحصار ترشح الوجوب من ذى المقدمة الى المقدمة بخصوص المقدمة التى يترتب عليها ذو المقدمة ، فلا يجب الوضوء حينئذ إلّا اذا كان يؤتى بالصلاة من بعده ، وكذلك الحال فى سلوك الارض المغصوبة فانه لا يترشح الوجوب من الانقاذ الواجب الا الى السلوك الذى يترتب عليه الانقاذ ، واما ما عدى ذلك من صورتى الوضوء الغير المستعقب للصلاة ، وسلوك الارض الغير المترتب عليه الانقاذ فهما باقيان تحت المنع والحرمة ، وحينئذ نقول وجوب الوضوء فى فرض المثال يتوقف على المكنة والاقتدار عليه ، ولا يقتدر عليه إلّا اذا لم يكن ممنوعا عنه قبل المالك ، لان العذر الشرعى كالعذر العقلى مانع عن تعلق التكليف بالممنوع عنه ، ولا يكون الوضوء جائزا غير ممنوع عنه ، إلّا اذا تعقبه الصلاة بمقتضى قصر الرخصة والاذن فى الوضوء بذلك ، وظاهر ان فرض ترتب الصلاة ووقوعها فى الخارج موقوف على الوضوء لكونه مقدمة وشرطا فى الصلاة ، فصار وجوب الوضوء يتوقف على وجوده بوسائط وهذا هو المحال المدعى لزومه فى المثال ، لظهور توقف وجوب الوضوء على التمكن منه ، والتمكن من الوضوء يتوقف على جوازه ، وجوازه يتوقف على ترتب الصلاة عليه ، وترتب الصلاة عليه يتوقف على الوضوء نفسه لانه شرط فى الصلاة ، وحينئذ يكون المتحصل من ذلك انه اذا وجد

٢٥٢

الوضوء وجب ، وبطلان هذا اوضح من ان يخفى على ذى مسكة هذا.

ولكن الانصاف عدم ورود هذا المحذور من الاشكال على ما ذكر من المثال بناء على المقدمة الموصلة ، لمنع توقف الاقتدار على الوضوء ، على جوازه ، بل على العلم بجوازه ، وفرق بين الجواز الواقعى والعلم به فربما لا يكون الشىء جائزا فى الواقع ، ومع ذلك لو اتى به باعتقاد جوازه كان العمل صحيحا ، كما هو كذلك فى فرض الوضوء ضرورة ان صحته وعدم صحته يدور ان فى المثال على العلم برخصة المالك واذنه فى التوضى من مائه وعدم العلم بذلك ، فاذا علم المتوضى بأنه يوقع الصلاة ويأتى بها من بعد الوضوء كفى ذلك فى صحة وضوئه ، لعدم اخلاله بالقربة سواء ترتب عليه اتيان الصلاة او لم يترتب عليه ذلك ، واذا صح منه الوضوء بطل القول بتوقف الاقتدار عليه بعدم المانع عنه ، واذا بطلت هذه المقدمة المذكورة فى تقريب الاشكال ، يندفع الاشكال بحذافيره ، اذ لم ينته الامر فى فرض المثال الى توقف وجوب الوضوء على وجود الوضوء حتى يكون ذلك من تحصيل الحاصل.

نعم انما يتجه الاشكال لو بنى توقف الاقتدار على الوضوء على الجواز الواقعى وعدم المنع عنه كذلك ، وهو فى حيز المنع ، فالاولى قصر الاشكال فى المثال على ما تقدم من ابتناء الفرق بين القولين فى الثمرة على القول بعلية الاطلاق فى المقدمية للحكم بالوجوب وهو مما لم يقل به احد من الفريقين ، وذلك يستلزم انتفاء الثمرة فيما بينهما كما لا يخفى.

ويمكن ان يقال : بظهور الثمرة بينهما فى انه على القول بالمقدمة الموصلة لو سلك الارض المغصوبة بغير داعى الانقاذ ، كان عاصيا فى المقدمة وذيها ، ان لم ينقذ الغريق ، ومتجريا فيهما ان

٢٥٣

انقذه من بعد سلوكه الارض بغير داعى الانقاذ ، واما على القول الآخر فليس عليه الا حرمة التجرى فى ذى المقدمة ان اتى به وإلّا كان عاصيا فيه حسب.

ونقل عن صاحب الفصول قده انه قال : بظهور الثمرة بين القولين فى مسئلة الضد فانه على القول بالمقدمة الموصلة تصح الصلاة لو ترك الازالة واتى بالصلاة ، اذ المقدمة المأمور بها للتوصل الى الازالة بناء على ذلك القول ليست هى إلّا ترك الصلاة التى يتوصل به الى الازالة ، وظاهر ان مريد الصلاة لا يتوصل بتركها الى الازالة فلا تكون مثل هذه الصلاة مما امر بتركها حتى تكون محرمة بناء على حرمة الضد ، بخلافه على القول الآخر فان الصلاة بما هى صلاة ضد لتركها الذى هو مقدمة للازالة ، فيجب الترك على الاطلاق ومقتضاه حرمة الصلاة وبطلانها ، لانها نقيض او ضد للمأمور به ، والامر بالشىء يقتضى النهى عن ضده العام. (١)

واجيب عن الفصول بعدم الفرق بين القولين فى اقتضاء الامر بترك الصلاة مقدمة للازالة ، حرمة الصلاة حتى على القول بالمقدمة الموصلة ، لان ارتفاع ترك الصلاة المتوصل به الى الازالة يتحقق تارة بفعل الصلاة واخرى بتركها بغير الايصال فيكون اتيان الصلاة من احد مصداقى النقيض للمقدمة الموصلة ، فتكون الصلاة حينئذ محرمة لانطباق عنوان المحرم عليها لو بنى على المقدمية المطلقة.

«غاية الامر ان ما هو النقيض فى مطلق الترك ، انما ينحصر مصداقه فى الفعل فقط واما النقيض للترك الخاص فله فردان وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده كما لا يخفى.»

__________________

(١) ـ الفصول فى الاصول : ٨١.

٢٥٤

وتنظر الماتن قده فى هذا الجواب قائلا بالفرق بين المبنيين بأنه على القول بالمقدمة الموصلة لا يكون الفعل الا من المقارنات الاتفاقية لما هو النقيض للمقدمة ، ولا يتسرى الحكم من احد المتلازمين الى الآخر فضلا عما يقارنه اتفاقا ، وهذا بخلافه على القول بالمقدمة المطلقة فإن الفعل بنفسه يعد معاندا للترك المطلق ومنافيا له لا ملازما لمعانده ومنافيه ، «فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما لكنه متحد معه عينا وخارجا ، واذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا.»

وقد يتراءى فى بادئ النظر ان هذه الدعوى منه قده فى بيان الفرق مصادرة لكونها دعوى عارية عن الشاهد.

ويمكن الاستشهاد للفرق بأنه على المقدمة الموصلة يكون الواجب مقيدا ولا ريب ان ترك المقيد يتحقق بأمرين ، ولا يجوز ان يكون الامر ان بأنفسها نقيضين لذلك الواجب المقيد اذ الواحد لا يناقضه الا شىء واحد لا اشياء ، فلا بد حينئذ من التزام جامع فى البين يكون ذلك هو النقيض ، ولما كان ذلك الجامع يستحيل كونه جامعا بين الوجود والعدم امتنع اعتباره جامعا بين وجود الصلاة وتركها الغير الموصل ، فلا بد من انطباق الجامع فى طرف الوجود على امر يكون ملازما لوجود الصلاة ، فيكون ذلك الامر هو المبغوض ويكون وجود الصلاة مقارنا له ولا يتسرى اليه المبغوضية جزما.

وهذا بخلافه على القول بالمقدمة المطلقة ، لظهور ان نقيض العدم المطلق هو الوجود المطلق فاذا كان العدم على اطلاقه محبوبا كان الوجود مبغوضا للمولى ، فأمتنع التقرب به اليه ومقتضاه حينئذ هو البطلان كما هو ظاهر.

هذا غاية ما يمكن ان يوجه به الفرق المدعى فى كلام الماتن إلّا

٢٥٥

انه مع ذلك لا يخلو عن اشكال لامكان الخدشة فيه بأن هذا الوجه من الفرق انما يتم لو كان معروض الوجوب بناء على المقدمة الموصلة امرا واحدا ، إلّا أنّك قد عرفت منافى بعض المباحث المتقدمة ان ما كان متصفا بالوجوب فى المقيدات والمركبات ليس إلّا المتكثرات وانما جاءت الوحدة من قبل الحكم وحينئذ يكون نقيض كل واحد من تلك المتكثرات شيئا غير نقيض الآخر ، فلم يختلف طرفا التناقض وحدة وكثرة ، بل كان كل منهما على وصف التكثر ، فنقيض ترك الصلاة ايجادها كما ان نقيض قيد الايصال عدم الايصال ، ومقتضى الملازمة بين محبوبية الشىء ومبغوضية نقيضه هو صيرورة الوجود وعدم الايصال كليهما مبغوضين ، إلّا انه لمكان ضمنية الوجوب فى جانب الترك المقدمى كان المبغوض من النقيض منطبقا على اول الوجود منه وهو يتحقق بإيجاد الصلاة ، لكونه مقدما فى الرتبة على نقيض القيد ، كما ان المقيد الذى هو الترك كان مقدما فى الرتبة على قيده الذى هو الايصال.

وبالجملة انحصار المبغوضية فى طرف النقيض بخصوص الترك ليس من جهة انحصار النقيض فى وجود الصلاة ، بل انما ذلك من جهة انحصار انطباق المبغوض من النقيض على ما يتحقق فى اول الوجود ، ولا يكون ذلك الذى هو اول الوجود فى مورد البحث الا نفس اتيان الصلاة ، لا عدم الايصال الذى هو نقيض قيد الايصال المعتبر فى الترك المقدمى.

فتلخص مما قررناه ان كلام الفصول قده فيما ذكره من الثمرة غير جيد ، وان ما اورد عليه من عدم الفرق بين القولين وارد عليه ، وان انتصار الماتن قده له بما ذكره من وجه الفرق غير متجه ، ولعله الى ما ذكرناه نظر الماتن فى قوله «فتدبر جيدا» ولكنه بعيد لان لفظة

٢٥٦

جيدا مانع عن جعل ما سمعت منا وجها للتدبر كما لا يخفى.

«فى الاصلى والتبعى»

«ومنها تقسيمه الى الاصلى والتبعى» والملحوظ فى هذا التقسيم هو مرحلة التحميل وابراز الارادة لا ذات الارادة نفسها لانها دائما ابدا تبعية لكون التقسيم ناظرا الى الواجب الغيرى خاصة لا مطلق الواجب نفسيا كان او غيريا.

على ان يكون الواجب النفسى من قسم الاصلى والواجب الغيرى من قسم التبعى ، وإلّا لكان ذلك اصطلاحا آخر فى تسمية الواجب النفسى اصليا والغيرى تبعيا ولم يكن يناسب جعله تقسيما مستقلا برأسه فى قبال التقسيم الى النفسى والغيرى ، كما انه ليس الملحوظ فى هذا التقسيم كيفية لحاظ الموضوع بنحو الاصالة والتعبية حتى يكون الحكم بالاصلى والتبعى دائرا مدار كيفية النظر الى موضوعه ، فإن كان اصليا كان الحكم مثله اصليا ، وان كان تبعيا كان الحكم كذلك ، لما تجد من الاختلاف فيما بين لحاظ الموضوع وحكمه ، فربما يلحظ الموضوع بالاصالة ومع ذلك يكون حكمه تبعيا كما فى مقدمات الواجب فان المولى قد يلحظ مقدمات مطلوبة إلّا انه يخص حكمه فى مرحلة التحميل بذات الواجب النفسى المطلوب دون مقدماته فان المقدمات حينئذ تكون محكومة بالوجوب تبعا لذى المقدمة ومع ذلك كانت ملحوظة للحاكم بالاصالة والنظر الاستقلالى ، وقد ينعكس الحال فيكون الموضوع ملحوظا بالتبع ومع ذلك يكون حكمه اصليا كما فى المتلازمات فان الحاكم عند تصوره احد المتلازمين يلتفت الى ملازمه تبعا إلّا انه فى مرحلة التحميل ومقام التكليف يحكم

٢٥٧

بالاستقلال على كل منهما بحكم مستقل فيكون الحاكم على هذا اصليا وموضوعه ملحوظا بالتبع.

فاتضح مما ذكرناه ان مدار الاصلية والتبعية ليس على لب الارادة ولا على تبعية الموضوع فى عالم اللحاظ ، بل المدار فى ذلك باعتبار مرحلة التحميل وابراز الارادة ، فان ابرز المولى خطابه المتضمن للتكليف بنحو الاستقلال كان ذلك التكليف اصليا وإلّا كان تبعيا.

ويجرى التقسيم بكلا قسميه فى الواجبات الغيرية والنفسية فان الواجبات الغيرية كما يجوز استقلالها بالخطاب ، فتكون واجبة بالاصالة ، وعدمه فتكون واجبة بالتبع ، كذلك الواجبات النفسية يجوز استقلالها بالخطاب كما هو كذلك فى غالب الواجبات النفسية ، ويجوز تبعيتها فى الخطاب والحكم كما فى المتلازمات اذا قصر الحاكم خطابه على احد المتلازمين ، فإن الحكم فى الملازم الآخر لا يكون إلّا تبعيا لا اصليا بناء على جواز الحكم على المتلازمين بحكمين ، فانقدح بذلك ان فرض التبعية فى الواجبات النفسية لا يكون إلّا فى المتلازمات دون غيرها.

ثم ليعلم ان غرض المقصود من ذكر هذا التقسيم فى كلمات القوم هو بيان حال المقدمات الغير الملتفت اليها فى نظر الحاكم ، فانه ربما يستشكل فى ترشح الوجوب عليها من ذى المقدمة اذ الحكم على الشىء بالوجوب يتوقف على الالتفات الى ذلك الشىء فما لم يلتفت اليه كيف يجوز الحكم عليه بأنه واجب ، فأرادوا بذكر هذا النحو من التقسيم دفع هذا التوهم والتنبيه على ان لنا فى الواجبات ما لا يجب الالتفات اليه فى مقام الحكم عليه بالوجوب وهو الواجب التبعى ، فلا منافات بين الحكم بوجوب المقدمة وعدم الالتفات اليها ، لظهور

٢٥٨

ان الالتفات الى الملازمة فى نظر الحاكم كاف فى ايجاب المقدمة بحسب الارتكاز وان لم يكن ملتفتا اليها ، بل ولو كان قاطعا بعدم توقف الواجب النفسى عليها اشتباها وخطاء ،

«فى بيان ثمرة المسألة»

«تذنيب :» فى بيان ثمرة المسألة ومعلوم ان ثمرة المسألة الاصولية لا بد وان تكون واقعة فى طريق الاستنباط صغرى او كبرى ، فاذا بنى على وجوب المقدمة تنقح عندنا قياس مؤتلف من صغرى هى ان الوضوء مثلا مقدمة للصلاة الواجبة ، وكبرى هى ان كل مقدمة الواجب واجبة ، فينتج من ذلك الوضوء واجب ، وغير خفى على الخبير ان المقصود من الواجب المترشح الى المقدمة ليس هو الوجوب العقلى الذى هو بمعنى اللابدية ، لان ذلك مما يحكم به العقل بديهة فيمتنع ان يكون محط الانظار والخلاف بين الاعلام ، بل ليس هو إلّا بمعنى الوجوب الشرعى ، فيستنتج حينئذ من القياس المؤلف من المسألة الاصولية وغيرها حكم فرعى هو ان الوضوء واجب شرعا فاذا وجب شرعا صح التقرب به بناء على المختار من جواز التقرب بالواجبات الغيرية ، وكان مورد استحقاق المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته ، وتحقق بمثل هذا الوجوب عبادية الطهارات الثلث وصلح البعث نحو المقدمة بمثل ذلك الوجوب لمن لم يعلم بالمقدمية ، او علم بها ولم يعلم بوجوب ذى المقدمة فان الطلب الغيرى المتعلق بالمقدمة اصالة او تبعا يصلح للداعوية والبعث نحو المقدمة على هذا الفرض ، واما لو فرض علمه بالمقدمية ووجوب ذى المقدمة ، امتنع اقتضاء مثل ذلك الوجوب تحريكا وبعثا لاتيان المقدمة ، لتحقق الدعوة عليها

٢٥٩

بحكم العقل من باب الابدية ، إلّا انه مع ذلك لا يلغو الايجاب فيها اصالة او تبعا لانه يزداد به التوسعة فى كيفية التقرب والامتثال ، لظهور انه مع ايجاب المقدمة بالوجوب الشرعى ، يتمكن العبد فى مقام الاطاعة والامتثال ان ينوى التقرب الى الله تعالى فى اتيانه بالمقدمة بموافقته لارادة الشارع الغيرية المتعلقة بالمقدمة علاوة على تقربه فيها بنية التوصل ، فلا يخلو تعلق التكليف بها حينئذ عن فائدة وهى التوسعة فى كيفية الاطاعة فى المقدمات المباحة بالذات الواجبة بالعرض ، بل وفى محرماتها ايضا منحصرة كانت او غير منحصرة ، اذ على فرض تنجز الوجوب وفعليته فى ذى المقدمة لو بنى على وجوب المقدمة ترشح الوجوب الى المقدمة بخصوصيتها ان كانت منحصرة ، والى الجامع المشترك بينها وبين المقدمة المباحة ان لم يكن منحصرة ، فانه كما يجوز له التقرب فى المقدمة انقياد ـ الحكم العقل باللابدية توصلا الى ذى المقدمة كذلك يجوز له التقرب فيها انقياد الحكم الشرع بوجوبها غيريا ، إلّا ان تحقق الاطاعة والامتثال فى غير صورة الانحصار يبتنى على القول بجواز اجتماع الامر والنهى ، وإلّا فلو بنى على الامتناع وعدم جواز الاجتماع انحصر الوجوب فى المقدمة المباحة خاصة.

واما بناء على الجواز فالوجوب يترشح الى الجامع المشترك بين المقدمتين مباحة ومحرمة فيكون ذلك بالنسبة الى المقدمة المحرمة من قبيل الصلاة فى الدار المغصوبة ، فان الصلاة بخصوصيتها فى المكان الغصبى محرمة ، وهى بجامعها الصلاتى تكون واجبة فينوى بها التقرب باعتبار جامعها المشترك بين المحرم من افرادها وغيره ، كما هنا فإن المقدمة المحرمة باعتبار ما لها من الخصوصية الغصبية مثلا محرمة ، وهى باعتبار ما لها من الجامع القائم بها المشترك

٢٦٠