تحرير الأصول - ج ١

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني

تحرير الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ مرتضى النجفي المظاهري الإصبهاني


المحقق: حمزة حمزوي
الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

صورتى التخلية بالخاء المعجمة وكما تكون الطبيعة بهذا الاعتبار الا حيز مطلوبة ، فكذلك ما انيط به الطلب من شرط الاستطاعة مثلا فى الحج لم يكن ملحوظا الا بهذا النحو من اللحاظ وليس الشرط الا طبيعة الاستطاعة الملحوظ بانها عين ما بإزائها من الاستطاعة الخارجية.

وبهذا يتضح لك اندفاع الاشكال المتوهم ايراده على القول بتعلق الامر بالطبيعة ، من ان الامر بالشىء تابع لاشتمال ذلك الشىء على المصلحة الغير المزاحمة بالمانع ، وما هو مشتمل على المصلحة ليس إلّا الوجود الخارجى دون المتصور فلا يصح تعلق التكليف بالطبيعة المتصورة.

توضيح الاندفاع ان الاتحاد المفروض حصوله بين الطبيعة مع مرئيها من الخارجيات ، يقتضى سراية وصف كل منهما الى الآخر ، فالمصلحة وان كانت قائمة بالخارجيات ، إلّا انه يوصف بها الطبيعة الحاكية لها بواسطة ما بينهما من الاتحاد المرائي كما ان الحكم وان كان متعلقة الطبيعة ، إلّا انه يسرى الى الخارجيات ، فيوصف الموجود الخارجى بعد وجوده بالواجبية لما بينهما من الاتحاد ، هذا حال الطبيعة اذا تعلق بها الحكم.

وكذا اذا وقعت شرطا له كالاستطاعة فان الاستطاعة ليست بوجودها الخارجى شرطا ، بل بوجودها الذهنى متحدة مع الاستطاعة الخارجية ، فإن الحاكم يرى الاستطاعة فى ظرف وجودها مؤثرة فى اتصاف الحج بالمصلحة فيحكم بوجوب الحج عند حصول الاستطاعة ، فمثل هذه الاستطاعة الحاصلة عنده وكانت مسوغة لحكمه بوجوب الحج ليست هى إلّا الطبيعة بما هى حاكية عما يتحقق فى الخارج من الاستطاعة ، ولا ريب فى حصول هذه الطبيعة عنده وملحوظة لديه ،

٢٢١

واذا كانت ملحوظة عنده وحاضرة لديه فقد حصل الشرط وصح تعلق الارادة والحكم فعلا بلا حاجة الى انتظار حصول الاستطاعة الخارجية.

هذا حاصل ما استفيد من كلام شيخنا الاستاذ دام ظله من بيانه الذى بينه فى هذه المقدمة الثانية.

اقول : ليت شعرى اذا كان الشرط هو الاستطاعة بما هى مرات لما فى الخارج وكانت الاستطاعة بحسب الخارج متوقعة الحصول فتكون الاستطاعة الذهنية بمنزلة الاستطاعة الخارجية لا يكون لها اثر ولا تأثير فى الحكم الا تقديريا ، فيكون للحاكم علم بأنه يحكم على تقدير حصول الاستطاعة ولا فعلية له حين التصور ولحاظ الشرط كما هو حاصل ما افاده مد ظله ثانيا فى بيانه الآخر حيث قال : ان القضية الشرطية اذا كان مشتملة على مقدم وتال نحو القضية فى قولك : اذا كان الشمس طالعة كان النهار موجودا ، فهناك ملازمة بين المقدم والتالى ولازم هو وجود النهار وملزوم هو طلوع الشمس ، ويختلف تعلق العلم فى اطراف هذه القضية فإن تعلق بالملازمة كان العلم كمعلومه غير معلقين بشىء وان تعلق بالتالى المنوط حصوله بحصول المقدم كان العلم فعلى الحصول قد تعلق بما هو منوط بحصول المقدم ، إلّا ان هذا الفرض يستحيل تحققه الا فى صورة يعلم بحصول المقدم ، اما مع العلم بعدم حصوله فلا يمكن تحقق العلم بوجود التالى المنوط بحصول الشرط ، لان الإناطة انما هى على واقع الشرط لا على فرضه ، ومع العلم بعدم تحقق الشرط لا يكون الشرط الا فرضيا لا واقعيا ، وظاهر ان الشرط ليس إلّا الواقعى دون الفرضى ، فاذا علم بانتفائه واقعا فقد علم بانتفاء الجزاء كذلك ، وان تعلق علم منوط بحصول الشرط بوجود التالى ، كان العلم منوطا بخلاف معلومه وهذا

٢٢٢

النحو يمكن فرضه فى صورتى العلم بتحقق الملزوم والعلم بعدم تحققه ، فإن علم بوجود الملزوم صح الاخبار بنحو الجملة الحملية بوجود النهار كما انه يصح تشكيل القضية بنحو الجملة الشرطية بنحو اناطة العلم بالشرط ، وهذا بخلافه على فرض العلم بانتفاء الملزوم فانه لا يجوز فى القضية إلّا بنحو الشرطية دون الحملية.

هذا حاصل تصوير تعلق العلم بأطراف القضية ولما كانت الارادة تابعة للعلم بالمصلحة لا لواقع المصلحة كان كيفية تعلقها بالمراد على نحو العلم ، ففى مورد العلم بتحقق الملزوم ، كانت الارادة متعلقه باللازم بنحوين كالعلم على جهة التعليق وعدمه ، وهذا بخلاف ما لو علم بانتفائه فانها لا تتعلق الارادة باللازم إلّا بنحو التعليق ، ويكون متعلقها الذات المعراة عن التعليق وان لم يكن لها اطلاق يستمل حالة التجرد عن التعليق فى الارادة.

فتحصل ان العلم اذا تعلق بمدلول الشرطية يكون على نحوين معلق وغير معلق ، والثانى فى صورة تعلقه بالملازمة او تعلقه بالتالى فى ظرف القطع بتحقق الملزوم ، والاول يمكن فرضه فى صورة القطع بالملزوم ايضا ويتعين فرضه فى صورة القطع بعدم تحققه ، هذا حال العلم باعتبار تعلقه بالمعلوم ، وعلى حذوه الارادة بل ومباديها من الاشتياق والرغبة والميل ايضا كذلك فانها تابعة للعلم بالمصلحة لا للمصلحة نفسها كما هو ظاهر ، فيجرى فى الارادة ومباديها التعليق وعدمه كما كان يجرى فى العلم نفسه طابق النعل بالنعل والقذة بالقذة.

٢٢٣

«المختار فى واجب المشروط»

واذ قد تحققت ما ذكرناه من المقدمتين فنقول : ان الواجب المشروط ما يكون مقدمته مقدمة احتياج يكون مفادها التأثير فى صيرورة الشىء ذا مصلحة ، ومثل هذه المقدمة تكون خارجة عن حيز الارادة والاشتياق كما مرت الاشارة اليه آنفا ، إلّا اذا كان فى البين مطلوب آخر يتوصل بالمقدمة اليه ، وهو ليس إلّا من باب الاتفاق لا دائميا ، ولكن الاصحاب لما بنوا على اتحاد الدخل وان تأثير المقدمات طرا ، انما هو فى ترتب المحتاج اليه ، اشكل عليهم الحال فى المقدمات الغير المقدورة اذ هى وان خرجت عن حيز الارادة بواسطة عدم القدرة إلّا انه تبقى داخلة فى حيز الاشتياق وساير مباديها ، لعدم منافاتها لفرض الخروج عن القدرة ، ومن البديهى بطلان اللازم لما نجده فى مقدمات الواجب المشروط انها ليست متعلقة للارادة بمباديها كما يساعده ظاهر القضية الشرطية ، كما ان ظاهرها ايضا ان موضوع الحكم ومتعلق الارادة هو الموضوع نفسه ، وبناء على مقالة القوم يكون المتعلق فى الارادة هو الموضوع مع صفة التقييد ، وفى مباديها مع القيد ايضا لما سمعت ان عدم القدرة فى القيد انما يقتضى خروج القيد وحده عن متعلق الارادة ويبقى التقييد داخلا فى متعلقها كما انه يبقى القيد والتقييد داخلين فى متعلق المبادى لعدم مانعية الغير المقدورية ، فى تعلق مبادى الارادة به.

والسر فى لزوم ذلك على القوم ان اعتبار وحدة الدخل فى القيود يقتضى صيرورتها دخيلة فى ترتب المحتاج اليه فتكون من قيود

٢٢٤

الموضوع الذى هو متعلق الحكم بمباديه ، ولا يجوز ان تكون عندهم دخيلة فى الاتصاف بالصلاح ، لان ذلك مؤد الى القول بانتفاء الواجب المطلق وانكاره رأسا ، ولم يظهر فيهم من يقول بذلك ، اذ هم ما بين ناف للواجب المشروط وما بين ناف للواجب المعلق ، واما الواجب المنجز الذى هو قسم من اقسام الواجب المطلق فلم ينكره منهم احد.

وبالجملة فهذا اشكال آخر يلزم القوم على مبناهم ونحن فى فسحة منه بعد ما بنينا عليه من اختلاف القيود فى الدخل بواسطة رجوع بعضها الى الاتصاف وبعضها الآخر الى وجود المتصف.

«فى وجوب تحصيل المقدمات المفوتة»

ومن نتائج قولنا ومختارنا وجوب تحصيل المقدمات المفوتة ، والواجبات المشروطة اذا كانت تلك المقدمات متقدمة على شرط الوجوب ، لان الارادة المنوطة بحصوله المعلق عليه متحققة وهى تقضى بوجوب تحصيل المقدمات المطلقة بالاضافة الى هذا الواجب المشروط ، اذ العقل انما يمنع من سراية الوجوب الى المقدمات الوجوبية فى الواجب المشروط دون ما يكون مقدمة من مقدمات وجوده ، فمن علم بحصول الاستطاعة فيما بعد وكان حجة يتوقف على تحصيل مقدمة من قبل حصول الاستطاعة ، وجب تحصيلها من قبل تحقق الاستطاعة.

ولا يرد ما قيل ان الوجوب لا يترشح الى المقدمة الا بعد تحققه وحصوله ، وهو لا يحصل إلّا بعد حصول الاستطاعة فكيف يترشح الى المقدمة السابقة على حصول الاستطاعة وجوب من قبل الوجوب الذى هو مترتب على الاستطاعة.

٢٢٥

لان ذلك انما يرد على فرض توقف الوجوب على الاستطاعة الخارجية ، وليس كذلك بل هو معلق على فرض الاستطاعة بنحو المرات والطريقية الى ما يتحقق فى الخارج من الاستطاعة ، فالحاكم اذا علم انطباق هذه الصورة المرئية فى نظره على ما فى الخارج بأن علم ان الاستطاعة تتحقق فى الخارج ، كان له انشاء حكمه بنحوين بنحو التعليق المعبر عنه بالجملة الشرطية نحو ان استطعت فحج وبدون التعليق نحو حج ، ولا ريب ان مثل هذا الحكم سابق على حصول الاستطاعة الخارجية وهو مستتبع لترشح الوجوب الى مقدمات الوجود السابقة على الاستطاعة.

نعم اذا علم بعدم تحقق الاستطاعة فلا وجه لسراية الوجوب الى مثل تلك المقدمات ، لان مطلوبيتها توصلية ، لحصول المطلوب النفسى ، وبعد العلم بعدم حصوله يرتفع الطلب الغيرى عن المقدمات بالبديهة والضرورة.

نعم لو كان الشرط الفرضى قد اعتبر موضوعا للحكم المترتب عليه لا آليا وطريقا الى ما بازائه فى الخارج ، اتجه البناء على لزوم تحصيل المقدمات مطلقا حتى مع العلم بعدم تحققه فى الخارج ، لان الشرط فى الحقيقة لم يعتبر الا فرضه لا واقعيته وقد حصل فرضه فيترتب الحكم عليه ويجب تحصيل الواجب بمقدماته نحو ان كنت مولاك فافعل كذا بناء على ان المقصود منه افرضنى مولاك وافعل كذا ، ولا بأس بذكر المثال الذى مثل به الاستاذ دام ظله وان كان عجميا «اگر عقلت منم بگذر از اين كار».

وكيف كان فقد ظهر لك ان فعليه الارادة هى الباعثة على ترشح الوجوب للمقدمات الوجودية سواء كانت تلك المقدمات سابقة على شرط الوجوب او متأخرة عنه ، غاية ما فى الباب ان اعتبار الشرط

٢٢٦

ان كان فرضيا من دون لحاظة آلة لما فى الخارج وجب تحصيل مقدماته مطلقا ، وان كان آلة ومرآة لما فى الخارج كان اللازم تحصيل مقدماته فى صورة العلم بتحقق الشرط.

«التهافت فى كلام بعض المعاصرين»

ومن الغريب ما وقع من فضلاء العصر من انكاره الواجب المعلق ومع ذلك قال بما قلناه وذهبنا اليه ، من امكان تحقق الارادة المنوطة بالشرط لعدم خلوه عن التهافت ، لان الارادة ان امكن فعليتها مع كونها منوطة بشىء ولم يكن يعتبر مقارنتها مع العمل ، فلا مجال معه لانكار الواجب المعلق ، وان كان يعتبر مقارنتها مع العمل وكان يستحيل اناطتها بشىء مع كونها فعلية ، فلا مجال لاختياره فعلية الارادة فى الواجب المشروط ، وان شئت مزيد اطلاع على مرامه فراجع درره الفوائد. (١)

وبالجملة فقد انقدح ان من نتائج المختار الذى اخترناه فى الواجب المشروط ، عدم ورود الاشكال علينا فى المقدمات المفوتة الواجب تحصيلها قبل حصول شرط الاستطاعة.

__________________

(١) ـ درر الفوائد : ج ١ ص ٧٥.

٢٢٧

«فى عدم لزوم تأسيس الواجب المعلق على مسلكنا فى المشروط»

ومن نتائجه ايضا عدم الالتجاء الى تأسيس الواجب المعلق الذى اسسه من اسسه تخلصا مما يلزمه من الاشكال بالنسبة الى بعض الموارد التى قد تسالموا على وجوب تحصيل مقدمته السابقة على زمان الوجوب كالغسل فى الليل مقدمة للصيام فى الغد ، مع ان زمان الوجوب والواجب فى النهار لا فى الليل ، فأشكل عليهم الحال حيث ان الغسل مقدمة سابقة على الصيام فى النهار ولا يجب الصيام الا فى زمانه ، فكيف تجب مقدمته السابقة على زمان الوجوب فالتجئوا الى تأسيس الواجب التعليقى وفسروه بما اختلف فيه زمانا الوجوب والواجب وهو فى المثال يكون زمان الوجوب فى الليل وزمان الواجب فى النهار فاختلف بذلك الزمانان فصححوا بذلك اتصاف الغسل بالوجوب.

هذا وقد ظهر لك من البيان المزبور انا فى غنية عن ارتكاب مثل هذا الالتزام ، لما عرفت من ان الواجب المشروط يسرى وجوبه الى غير شرط الوجوبى من سائر مقدماته الوجودية.

ان قلت : ان الطهارة المائية من المقدمات الوجودية ، ولا ريب فى انه اذا علم المكلف قبل الوقت عدم تمكنه من تحصيل الماء بعد الوقت لم يجب الوضوء عليه قبل الوقت ، فلو كان يجب تحصيل المقدمات المفوتة لوجب تحصيل مثل هذه الطهارة المائية قبل الوقت ، والمفروض خلافه كما هو المتسالم بينهم.

قلت : منشأ ذلك قوله «ع» اذا دخل الوقت وجب الصلاة

٢٢٨

والطهور (١) الظاهر فى ان زمان ابتداء وجوب الطهارة من بعد دخول الوقت ، فهو نص ورد على خلاف القاعدة يجب التعبد به.

فان قلت : مقتضى ذلك عدم اتصاف الطهارة المأتى بها قبل الوقت بالمقدمية فلا يجتزى بها ، لاستباحة الدخول فى الصلاة من غير فرق بين اتيانه بها بقصد التوصل بها الى ما يأتى به من الصلاة فى الوقت ، وبين اتيانه بها لغاية اخرى غير الصلاة مما تكون مشروطة بالطهارة كمس كتابة القرآن مثلا ، مع انه مما لم يلتزم به احد من الاصحاب.

لا يقال : لم يدل الخبر الا على زمان الوجوب من بعد دخول الوقت لا ان ابتداء المقدمية من ذلك الحين.

لانا نقول : لا بد وان يكون زمان ابتداء المقدمية من ذلك الحين ايضا ، اذ لو اكتفى فى تحقق المقدمية بمطلق الطهارة ولو كانت مأتيا بها قبل الوقت ، لسرى الوجوب اليها من ذى المقدمة ، لما عرفت من ان وجوب كل مشروط فعلى غير منوط بتحقق الشرط خارجا ، بل بتحققه ذهنا مفروض الوجود خارجا على نحو المرآتية لما فى الخارج وهو حاصل بهذا المعنى لدى الحاكم قبل زمان تحقق الشرط فى عالم الخارج ، واذا كان الوجوب حاصلا ومتحققا من حين الانشاء وفرض ان الطهارة مقدمة وجودية بالنسبة الى الصلاة ، فلا بد حينئذ بحكم العقل من ترشح الوجوب اليها من ذى المقدمة ولو كانت قبل الوقت ، ومن المعلوم بالنص والفتوى ان الوضوء غير واجب قبل دخول الوقت ، ومن ثم جاز تفويته قبل دخول الوقت اذا علم المكلف انه لم يتمكن من الوضوء من بعد دخول الوقت ، وذلك لا يكون إلّا حيث

__________________

(١) ـ الوسائل ج ١ ابواب الوضوء باب ٤ : ٢٦١.

٢٢٩

يكون ابتداء المقدمية من بعد دخول الوقت ايضا.

قلت : نعم هو كما ذكرت لا مقدمية للصلاة فى مثل تلك الوضوءات المأتى بها قبل الوقت لاجل غاية اخرى غير الصلاة ، بل المقدمة فيه هو الطهارة الباقية من بعد دخول الوقت ، اى ما يبقى من تلك الطهارة الى ما بعد الوقت هو المقدمة لا الطهارة من حين حصولها ، بل المقدمية للصلاة قائمة فى بقية الطهارة المقارنة لزمان الصلاة.

ولا يتوهم انه يلزم على ذلك حفظ الطهارة بعد حصولها قبل الوقت. اذ ذلك انما يلزم لو كانت مقدمية ما يبقى من الطهارة من بعد الوقت معتبرة على جهة الاطلاق وليس كذلك ، بل هى مقدمة على تقدير تحققها فيه من باب الاتفاق ، بقرينة ما تسالموا عليه من جواز تفويت الطهارة المائية قبل الوقت ، فان مثل ذلك انما يكون على تقدير ان تكون المقدمية فيما يبقى من الطهارة ، انما هو اذا لم يكن متحققا بداعى الامر الصلاتى بل بداعى آخر غيره.

وبالجملة اذا لوحظ الاجماع المتسالم عليه على ما حكى شيخنا العلامة مد ظله من جواز تفويت الطهارة المائية قبل الوقت ، مع قوله «ع» لا صلاة إلّا بطهور (١) يثبت ان للصلاة مقدمتين طهارة حادثة بعد الوقت ، وطهارة باقية من الوضوء الحاصل قبل الوقت واما الطهارة المتحصلة من الوضوء المأتى به قبل الوقت ، لم تكن مقدمة لها شرعا فلا تكون متصفة بالوجوب من قبل الصلاة ، ولا يلزم المحافظة عليها ولا تحصيلها قبل دخول الوقت.

ويمكن ان يقال : ان المفهوم من قوله «ع» اذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ، هو انتفاء المقدمية عن الطهارة اذا اتى بها قبل

__________________

(١) ـ الوسائل ج ١ ابواب الوضوءات ٤ : ٢٦١.

٢٣٠

الوقت فى الجملة ، والمتيقن منه انتفائها لو اتى بها بداع الامر الصلاتى اما اذا اتى بها بداع غيره كانت مقدمة بمقتضى اطلاق قوله «ع» لا صلاة إلّا بطهور.

اللهم إلّا ان يمنع الاطلاق فى ظاهر القضية وليس ببعيد اذ لا يستفاد منها الا توقف الصلاة على الطهارة اما ان المتوقف عليه من الطهارة هل هو الطهارة على جميع التقادير التى يفرض تحققها فيه من كونها قبل الوقت وبعده ، او خصوص ما اذا وقعت بعد الوقت خاصة دون ما قبله؟ فهو مما لا يدل عليه ظاهر الحصر كما لا يخفى ، اذ لا عموم فى طرف الايجاب ولا اطلاق ، الا حيث يجوز وروده لبيان التعميم وهو غير معلوم من حال المتكلم لا يدل عليه ظاهر كلامه.

والحاصل ان نتيجة المختار وفائدته تظهر فى المقدمات المفوتة فى غير الطهارة فانه على مختارنا يجب تحصيلها واما على مختار القوم فيشكل ذلك بعد كون بنائهم على تعليق الحكم فى الشرطية على واقع الشرط وتحققه فى مرحلة الخارج ، لاداء ذلك الى جواز التفويت فى غير ما قام الدليل الخاص على جوازه نحو الطهارة كما عرفت بما لا مزيد عليه والمفروض انهم لا يلتزمون بجواز تفويتها ، ومن ثم تخلص بعضهم عن ذلك بتأسيسه الواجب المعلق فقال : لما كان زمان الوجوب سابقا على زمان الواجب اقتضى ذلك صحة اتصاف المقدمات السابقة على زمان الواجب بالواجبية ، وتخلص بتأسيسه الواجب النفسى التهيئي ، فذهب الى ان المقدمة السابقة واجبة بالوجوب النفسى التهيئي ، فقسم الواجب الى غيرى وهو الذى تكون الارادة فيه بمبدئها غيرية ، والى نفسى غير تهيئى وهو الذى تكون الارادة فيه بمبدئها نفسية ، والى نفسى تهيئى وهو الذى تكون الارادة فيه نفسية ومباديها غيرية.

٢٣١

ويرد على الاخير بأن الارادة ان اعتبرت مقارنة للعمل فقد خرجت المقدمات بأجمعها عن حيز الارادة ما كان منها قبل الوقت او بعده وانحصر الواجب فى الواجب النفسى الغير التهيئي ، وان لم يعتبر مقارنتها له كانت المقدمات بأجمعها متصفة بالوجوب الغيرى من دون تفصيل فيها بين ما كان منها قبل الوقت او بعده هذا.

«فى عدم مرجعية البراءة فى مورد الشك على مسلكنا»

وبقى فى المقام شىء وهو انك بعد ما عرفت الفرق فى الواجب المشروط بين مسلكنا ومسلك القوم وظهر لك ان فعلية الوجوب فى الواجب المشروط على مختارنا لا ينوط بالوجود الخارجى ، بخلافه على اختيار القوم فلو شك فى واجب انه من قبيل المشروط او المطلق فبناء على مسلكنا يجب تحصيل مقدمته الوجودية قبل تحقق شرطه الوجوبى لتنجز الوجوب بناء عليه ، فيترشح ذلك الى مقدمته الوجودية سواء كان من قسم الواجب المطلق او المشروط.

واما على مختار القوم فالمرجع فيه اصالة البراءة للشك فى اطلاق الوجوب ، فلعله من قسم المشروط فبناء على مذهبهم لا يتنجز وجوبه الا بعد حصول شرطه خارجا ، وهو بعد غير متحقق فيشك فى مقدمته الوجودية انها هل هى لازمة التحصيل على ان تكون مقدمة للواجب المطلق او غير لازمة التحصيل اذا كان مقدمة للواجب المشروط؟ وما كان هذا شأنه يرجع فيه الى البراءة ، لكن ذلك ينبغى فرضه فى مورد لم يتحقق الشرط خارجا اما اذا كان متحققا فلا ينبغى الاشكال فى وجوب تلك المقدمة على كلا المسلكين ، لتنجز الوجوب على اى تقدير ، مطلقا كان الواجب او مشروطا ، بنى على اناطة

٢٣٢

الوجوب فى المشروط على الوجود الخارجى للشرط ، او لم يبن على ذلك ، ومن هذا يظهر لك الحال فيما لو شك فى الواجب وتردد امره بين ان يكون منجزا او معلقا او مشروطا ، فانه على فرض تحقق الشرط المحتمل اعتباره شرطا فى الوجوب لا ينبغى الارتياب فى لزوم تحصيل مقدمته ، لتنجز الوجوب فيه على جميع التقادير ، واما مع فرض عدم تحققه كان المرجع فيه البراءة على مختار القوم ، لاحتمال كونه من قبيل المشروط الذى لم يتحقق شرطه خارجا ومقتضى ذلك عدم تنجز وجوبه ، واما على مختارنا فقد عرفت ان حاله كما لو فرض تحقق المحتمل شرطيته فانه يجب تحصيل مقدمته.

«فى النفسى والغيرى»

«ومنها تقسيمه الى» الواجب «النفسى والغيرى» وعرف الواجب بما كان ايجابه لنفسه لا للتوصل به الى غيره ، والغيرى بالعكس من ذلك ومعنى الوجوب هو اللزوم وللابدية وهو مأخوذ من الوجوب فى التكوينيات فى قبال الامتناع فيها ، فكانه لما كان الشىء اذا حصلت علته التامة وجب وجوده فى الخارج تكوينا فكان لازم الوجود ، فكذلك اذا وجد مقتضيه فانه بمنزلة ما لو وجدت علته التامة ادعاء لا حقيقة فعند ورود الامر الشرعى يكون الشىء قد وجد مقتضيه وبقى تحققه مفتقرا الى ضم اختيار العبد الطاعة والامتثال ، إلّا انه لمكان حكم العقل بوجوب الموافقة والانقياد لامر المولى كان ذلك الشىء بمنزلة الشىء الذى تمت اجزاء علته ادعاء وتنزيلا وسمى بذلك واجبا شرعا.

فظهر من هذا ان الوجوب منتزع عن مرتبة اظهار الارادة لا عن نفس الارادة ، لظهور ان العقل لا يحكم بوجوب الامتثال والاطاعة الا

٢٣٣

من بروز الارادة للعبد وانكشافها لديه بالبيان النقلى او العقلى ، فان ظهرت بنحو التوصل الى واجب آخر كان ذلك الوجوب وجوبا غيريا ، وإلّا كان الوجوب نفسيا.

«وهم ودفع»

ومن هذا البيان ظهر لك اندفاع الاشكال عن تعريف الواجب النفسى بأنه لا ينطبق على جل الواجبات النفسية المعهودة فى شرعنا مما اصطلح القوم عليها بأنها واجبات نفسية كالصلاة والصيام وغيرهما ، بل وجل الواجبات العرفية الصادرة من الموالى الى عبيدهم نحو اسقنى او اشتر اللحم او غير ذلك مما يكون الغرض من الامر به التوصل الى فائدة اخرى وغرض آخر مترتب على حصول المطلوب فى الخارج ، فان الواجب فى امثال ذلك مما قصد به التوصل الى شىء آخر يكون ذلك هو المطلوب حقيقتا ، ففى الشرعيات يكون ذلك المطلوب الحقيقى هو المعرفة كما يقضى به الآية الشريفة : وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون (١) اى ليعرفون كما ورد فى التفسير (٢).

وفى العرفيات يكون ذلك المطلوب هو استراحة النفس ، فلم يبق حينئذ مما يكون ينطبق عليه تعريف الواجب النفسى الا ما يكون بصورة التكليف بالمعرفة نفسها فى التكاليف الشرعية او باستراحة النفس فى التكاليف العرفية وهذا اقل قليل.

توضيح الاندفاع ان الواجب النفسى هو ما لا يكون ابراز الطلب

__________________

(١) ـ الذاريات : ٥٦.

(٢) ـ تفسير الصافى : ج ٥ ص : ٧٥.

٢٣٤

فيه بنحو التوصل الى واجب آخر غيره وهذه الامثلة المذكورة كلها من هذا الباب ، لان المترتب عليها ليس إلّا من قبيل الفائدة والغاية المترتبة على الشىء من دون ان تكون هى متعلقة للطلب والوجوب ، ومجرد كونها مطلوبة ومرادة لبا لا يقتضى ان يكون «الواجب» من اجلها بحسب الواقع «وفى» نفس الامر و «الحقيقة واجبا غيريا» كما بنى عليه الماتن قده وعلله بأنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما «لما دعى الى ايجاب ذى الفائدة ،» وكأنه نظر الى ان مناط الغيرية بمطلوبية الشىء توصلا الى وجود شىء آخر سواء كان ذلك الشىء الآخر واجبا او فائدة فمن ثم اشكل الحال عليه فى امثال تلك الواجبات.

لكن ذلك خلاف التحقيق لما عرفت من ان الوجوب النفسى والغيرى ينتزعان عن مرتبة التحميل وابراز الارادة وهذا غير جار فيما مر من الواجبات المزبورة ، اذ لم يقصد بها الا التوصل الى وجود آخر هى الفائدة لا واجب آخر ، وفرق بينهما فحينئذ تخرج عن تعريف الواجب الغيرى وتندرج فى تعريف الواجب النفسى ويصح التقسيم والتعريف ولا يرد عليهما محذور ولا اشكال اصلا كما هو اوضح من ان يخفى.

وقد يجاب عن ذلك بما فى المتن من ان تلك الواجبات انما وجبت نفسا لطرو عنوان حسن عليها زائدا على ما فيها من المقدمية للغير ، بخلاف غيرها من الواجبات الغيرية فانها متمحضة للغيرية والمقدمية.

ويرد عليه اولا بما نجده فى العرفيات من قولهم : اسقنى الذى لم يكن فيه مصلحة سوى التوصل الى رفع العطش واستراحة النفس ومع ذلك يعد عندهم من الواجبات النفسية ومن ثم كان يعاقب على مخالفتها.

وثانيا بالاوامر الشرعية المتعلقة بالعبادات النفسية كالصلاة والصيام ونحوهما ، فانه على مختاره قده فى قصد القربة لا بد وان

٢٣٥

تكون معتبرة فى الغرض لا فى المأمور به ، ولا ريب ان اعتبارها فى الغرض يقضى بكون الصلاة بصورتها مطلوبة للتوصل الى حصول ذلك الغرض ، فيكون فيها جهة توصلية الى غرض يفتقر تحققه الى ضم نية التقرب الى العمل ، فلو كان مع ما فيها من المقدمية قد اشتملت على جهة محسنة اقتضت مطلوبيتها نفسا ، ولكان يلزم على تقدير المخالفة ان يترتب على ترك الصلاة عقوبتان احدهما : على تفويت الغرض الاصلى اللازم تحصيله والاخرى : على ترك صورة الصلاة

المشتملة على الجهة المحسنة ، وهذا واضح البطلان ، لوضوح استلزام المخالفة فيها عقوبة واحدة ليس إلّا.

نعم لو بنى على اعتبار القربة فى المأمور به ، اندفع عنه هذا الاعتراض اذ لا يكون ثمة جهة موجبة للعقوبة الا مخالفة المأمور به المتضمن للقربة ، لاشتماله على جهة محسنة توجب العقوبة على تفويتها ، واما الفائدة المترتبة عليه فلا دليل يدل على استحقاق العقوبة على تفويتها ، لان الفوائد لا تستتبع العقوبة على تفويتها إلّا اذا كانت لازمة التحصيل ، ولا يعلم كونها لازمة التحصيل إلّا اذا كان للقربة دخالة فى حصولها فانه لما كانت القربة لازمة التحصيل قطعا وفرض اعتبارها فى الغرض كان ذلك الغرض فائدة لازمة التحصيل لاعتبار ما هو لازم التحصيل فيه ، اما اذا لم تعتبر فيه فجاز ان تكون تلك الغاية من الفوائد المترتبة على الشىء الغير اللازمة التحصيل ، لا من الاغراض الواجب تحصيلها ، واذا لم يكن يعلم حال تلك الفائدة انها لازمة التحصيل او غير لازمته ، وشك فى ذلك لم يجب مراعاتها ولا يستحق العقوبة على تفويتها.

٢٣٦

«فى ترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الوجوبات الغيرية ومخالفتها»

ثم ان الغرض الاقصى من هذا التقسيم التعرض الى الثمرة المترتبة على القول بوجوب المقدمة وعدم وجوبها فمن قال بوجوب المقدمة قال باستحقاق العقوبة على تركها ، ومن لم يقل بوجوبها لم يقل باستحقاق العقوبة على تركها.

وقيل : لا ملازمة بين القول بوجوبها والقول باستحقاق العقوبة على تركها ، لاختصاص الاستحقاق فى مخالفة الواجبات النفسية دون الغيرية ، وهذا غير مرضى عندنا لان مناط الاستحقاق فى العقوبات والمثوبات على الطغيان والانقياد كما تقرر ذلك فى بحث التجرى ولا ريب فى حصول الطغيان من حين ترك المقدمة.

ان قلت : اذا كان ترك المقدمة موجبا لاستحقاق العقوبة لزم من ذلك تعدد العقوبة فى ترك الواجب الواحد النفسى ، اذا كان ذا مقدمات شتى وبطلان اللازم اظهر من ان يخفى.

قلت : وحدة العقوبة وتعددها تابع لوحدة الغرض المقصود وتعدده ، واذا كان الواجب النفسى واحدا ذا مقدمات لم يكن ثمة الا غرض واحد مترتب على ذلك الواجب النفسى وان تعددت مقدماته فلا يكون تركها مستتبعا الا لعقوبة واحدة لا ازيد.

فان قلت : اذا كان وحدة العقوبة تابع لوحدة الغرض ، لزم منه وحدة العقوبة على من لم يأت بشىء من الواجبات الشريعة بالمرة ، لانها كلها متحدة فى الغرض وهى المعرفة بمقتضى الآية الشريفة المزبورة المفسرة بالمعرفة.

٢٣٧

قلت : ليس فى الآية الشريفة دلالة على اشتراك العبادات فى غرض وحدانى هى المعرفة ، اذ لم تجعل المعرفة غرضا باعثا للامر بالعبادات ، بل جعلت غرضا باعثا لخلق الانس والجن وهو امر آخر غير امرهم بالعبادات.

ولئن سلم انها غاية وغرض للاوامر العبادية ، لكن لا نسلم دلالة الآية الشريفة الا على ان المعرفة فى الجملة غرض باعث على التكليف بالعبادات ، وحينئذ فمن الجائز ان يكون كل مرتبة من المعرفة غرضا باعثا على كل واحد من تلك التكاليف فيكون الغرض من التكليف بالوضوء مثلا مرتبة من المعرفة غير المرتبة التى هى غرض من التكليف بالصلاة ، وحينئذ يكون للعبادات اغراض عديدة تشترك فى جامع المعرفة او تكميل النفس او غير ذلك ، فلو فرض ترك العبادات بأجمعها كانت هناك عقوبات متعددة بحسب تعدد ما ترك من العبادات.

والحاصل ان الوجدان شاهد صدق على دوران العقوبة وجودا وعدما مدار تحصيل الغرض وعدم تحصيله ، كما ان وحدتها وتعددها دائر ان مدار وحدة الغرض وتعدده ، فأنظر الى العبد اذا امر بإتيان الماء وكان يعلم بتضرر المولى لو شرب من ذلك الماء لكونه مسموما ، لم يجز له الاتيان بذلك الماء ولو جاء به استحق العقوبة بذلك ، وان كان مأمورا بسقى المولى من ذلك الماء من باب الخطاء والاشتباه بتخيل المولى ان ذلك الماء يرفع عطشه.

وكذا اذا اتفق غفلة المولى عن اضطرام النار وكان ولده فى معرض الاحتراق فيها ، فانه يجب على العبد حفظ ولد المولى عن الاحتراق وان لم يكن مأمورا ومخاطبا بحفظه عنها ، فان مثل هذا مما يدل على اناطة الثواب والعقاب بموافقة الغرض ومخالفته لا بموافقة الارادة وعدم موافقتها ، إلّا اذا كان تحقق الارادة من المولى ملازما

٢٣٨

لحصول الغرض كما فى ارادة الشارع ، واما فى ارادة غيره فهو ان احتمل فيه الخطاء والاشتباه إلّا ان الارادة قد جعلت فى انظار العقلاء طريقا الى الغرض فيجب اتباعها ولا يعذر العبد فى مخالفتها اذا اتفق مصادفتها للواقع ، ومن ثم تراهم يذمون العبد فى مخالفتها عند احتماله خطاء مولاه ولا يقبلون منه الاعتذار باحتماله خطاء الطريق وعدم مصادفة الطريق للواقع.

وبهذا ربما يندفع الاشكال فى الاوامر العرفية ، بأن مدار المثوبة والعقوبة اذا كان على تحصيل الغرض وعدم تحصيله فلا بد للعبد من تعرف الحال عنده فى وجوب اتباع امر مولاه ، فلربما لا يكون امتثاله محصلا لغرضه ، ولا طريق له الى معرفة ذلك الا من طريق الارادة الدالة من طريق الإنّ.

على لو لم يكن المأمور به محصلا لغرضه لما امره به ، اذ لا يصدر الامر بالشىء من العاقل إلّا اذا كان ذلك الشىء محصلا لغرضه ، وحينئذ فيستظهر المستشكل ويقول : لا دلالة فى الامر والارادة الا على ان الامر معتقد لحصول غرضه بما يأمره به ، ولا طريقية لاعتقاد القاطع الا للقاطع نفسه دون غيره ، فلا حجية فى قطع المولى للعبد المأمور ، ولا ينسد به احتمال الخطاء فى اعتقاد مولاه ، واذا لم ينسد عند العبد باب احتمال الخطاء بدليل عقلى ولا نقلى ، لم يحسن للمولى مؤاخذة عبده لو خالف امره ولم يوافقه فيما امره به هذا.

ولكنك قد عرفت آنفا ان سلوك الطريق الى تعرف الغرض المقصود فى الاوامر العرفية ينحصر عند العقلاء فى اتباع ارادة المولى ولعله لغلبة المطابقة للواقع ، فالارادة طريق عقلائى لترتب الغرض المقصود على موافقتها فهى كالظواهر طريق عقلائى لاستكشاف المتكلمين يجب اتباعها ما لم يردع عنه الشارع فاذا

٢٣٩

خالف العبد ولم يسلك الطريق واتفق مصادفته للواقع لم يكن معذورا فى المخالفة كما لا يخفى.

ثم انك بعد ما عرفت منا اختيار ترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الوجوبات الغيرية ومخالفتها ، ظهر لك اندفاع الاشكال المذكور فى عبادية الطهارات الثلث ، حيث انه قد استشكل فى عباديتها باعتبار افتقارها الى نية التقرب ولا قربية فى امتثال الاوامر الغيرية ، بناء على عدم ترتب المثوبة والعقوبة على موافقتها ومخالفتها.

وقد عرفت منا فساد المبنى بما لا مزيد عليه وان المختار عندنا مساواة الواجبات الغيرية مع الواجبات النفسية ، لحصول الانقياد والتسليم فى موافقتها والتجرى والطغيان فى مخالفتها كما فى الواجبات النفسية من غير فرق فى ذلك بينهما اصلا ، وهذا هو المناط والمدار فى ترتب المثوبة والعقوبة على التكاليف نفسيها وغيريها.

وقد اجيب عن الاشكال بغير ما ذكرناه بعد الالتزام باختصاص الثواب والعذاب ، بموافقة الواجبات النفسية ومخالفتها ، فمن ذلك ما اجاب به الماتن قده بقوله : «ان المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغايتها انما تكون متوقفة على احدى هذه العبادات فلا بد ان يؤتى بها عبادة ، وإلّا فلم يؤت بما هو مقدمة لها ، فقصد القربة فيها انما هو لاجل كونها فى نفسها امورا عبادية ومستحبات نفسية ، لا لكونها مطلوبات غيرية والاكتفاء بقصد امرها الغيرى فانما هو لاجل انه لا يدعو إلّا الى ما هو كذلك فى نفسه ، حيث انه لا يدعو إلّا الى ما هو المقدمة فافهم.»

ولعل قوله فأفهم اشارة الى مناقشة يمكن ايرادها على كلامه هذا ، وهى ان الواقع فيما يأتى به عامة المتشرعة من الطهارات الثلث

٢٤٠